الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمَا حب الدّيار شغفن قلبِي
تَمَامه:)
وَلَكِن حبّ من سكن الدّيارا هُوَ لقيسٍ مَجْنُون بني عَامر. وَتقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي الشَّاهِد التسعين بعد الْمِائَتَيْنِ.
وَأنْشد بعده وَهُوَ
3 -
(الشَّاهِد الْخَامِس عشر بعد الثلاثمائة)
الْكَامِل
(يسقون من ورد البريص عَلَيْهِم
…
بردى يصفّق بالرّحيق السّلسل)
على أنّه قد يقوم الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَام الْمُضَاف فِي التَّذْكِير لأنّه أَرَادَ: مَاء بردى. وَلَو لم يقم مقَامه فِي التَّذْكِير لوَجَبَ أَن يُقَال تصفّق بِالتَّاءِ للتأنيث لأنّ بردى من صِيغ الْمُؤَنَّث وَهُوَ نهر دمشق.
قَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ: هُوَ من الْبرد سمّي بذلك لبرد مَائه.
وَأوردهُ صَاحب الكشّاف عِنْد قَوْله تَعَالَى: يجْعَلُونَ أَصَابِعهم فِي آذانهم على أَن الْوَاو فِي يجْعَلُونَ ضمير أَصْحَاب الصّيب وَإِن كَانَ محذوفاً لبَقَاء مَعْنَاهُ كَمَا أرجع الشَّاعِر ضمير يصفق إِلَى مَاء بردى مَعَ أنّه غير مَذْكُور وَلِهَذَا ذكّر يصفّق.
قَالَ ابْن الْمُسْتَوْفى: لَو قَالَ قَائِل: إنّه أعَاد الضَّمِير مذكّراً على الْمَعْنى لأنّ بردى نهر لوجد مساغاً.
وروى صَاحب الأغاني:
وَعَلِيهِ لَا شَاهد فِيهِ. والبريص قَالَ أَبُو عبيد البكريّ فِي مُعْجم مَا استعجم وَتَبعهُ الصَّاغَانِي فِي الْعباب: هُوَ بِفَتْح الموحّدة وَآخر صَاد مُهْملَة: مَوضِع بِأَرْض دمشق. وَزَاد الجواليقيّ فِي المعرّبات: وَلَيْسَ بالعربيّ الصَّحِيح وَقد تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب وَأَحْسبهُ روميّ الأَصْل. وَأنْشد هَذَا الْبَيْت.
وَلم أر من أهل اللُّغَة من ضَبطه بالضاد الْمُعْجَمَة.
وَقد اخْتلف شرّاح المفصّل فِي ضَبطه وَمَعْنَاهُ فَقَالَ ابْن يعِيش: هُوَ بالصَّاد الْمُهْملَة نهر يتشعّب من بردى وَهُوَ نهر دمشق كالصّراة من الْفُرَات. وزلدمشق أَنهَار أَرْبَعَة كلّها من بردى.
وَقَالَ المظفريّ: هُوَ بالضاد الْمُعْجَمَة وادٍ فِي ديار الْعَرَب والبريص بالصَّاد الْمُهْملَة: اسْم نهر وَقيل اسْم مَوضِع بِدِمَشْق.
وَقَالَ ابْن الْمُسْتَوْفى: هُوَ بالضاد الْمُهْملَة. قَالَ المفسّرون: هُوَ مَأْخُوذ من البرض أَرَادَ الْموضع)
المبيّض المجصصّ. ويروى بالضاد الْمُعْجَمَة: فعيل من البرص وَهُوَ المَاء الْقَلِيل. وَرِوَايَة الْمُهْملَة أَكثر وأجود. وَقَالُوا: هُوَ اسْم نهر. وكرّر البريص فِي هَذِه القصيدة فَقَالَ:
…
(فعلوت من أَرض البريص عَلَيْهِم
…
حتّى نزلت بمنزلٍِ لم يوغل)
فدلّ على أنّه مَوضِع بِعَيْنِه لَا مَا ذهب إِلَيْهِ من فسّره قبل. قَالَ أَبُو دُرَيْد: والبريص مَوضِع وَقَالَ بَعضهم: هُوَ مَوضِع فِيهِ أنهارٌ كَثِيرَة وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ. وَأنْشد: الوافر
(أهان الْعَام مَا عيّر تمونا
…
شواء المسمنات مَه الخبيض)
(فَمَا لحم الْغُرَاب لنا بزادٍ
…
وَلَا سرطان أَنهَار البريص)
وفاعل يسقون وَهُوَ الْوَاو ضمير عائدٌ على أَوْلَاد جَفْنَة فِي بَيت قبله كَمَا يَأْتِي وَمن مَفْعُوله.
قَالَ العصام فِي حَاشِيَة القَاضِي: وتعديه الْوُرُود بعلى لتضمّنه معنى النُّزُول وإلاّ قالورود المتعدّي بعلى بِمَعْنى الْوُصُول لَا يعدّى بِنَفسِهِ. وَالْبَاء فِي قَوْله بالرحيق للمصاحبة أَي: ممزوجاً بِالْخمرِ الصافية السائغة.
ويصفّق بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول والتصفيق: التَّحْوِيل من إِنَاء إِلَى إِنَاء ليصفّى وَحَقِيقَته التَّحْوِيل من صفق إِلَى صفق أَي: من نَاحيَة إِلَى نَاحيَة. وَالْبَاء فِي بالرحيق مُتَعَلق بِمَحْذُوف أَي: يمزج بالرحيق وَهُوَ الصافي من الْخمر.
وَقَالَ صَاحب الكشّاف فِي المطففين: الرَّحِيق: صفوة الْخمر وَلِهَذَا فسّر بِالشرابِ الْخَالِص الَّذِي لَا غشّ فِيهِ. والسلسال: السهل الانحدار السائغ الشَّرَاب.
قَالَ ابْن حَاجِب فِي أَمَالِيهِ: يجوز أَن يكون المُرَاد مدح مَاء بردى وتفضيله على غَيره. وَمعنى يصفّق يمزج يُقَال صفّقته إِذا مزجته. والرَّحِيق: الْخمر. والسلسل: السهل أَي: كَأَنَّهُ ممزوج
وَيجوز أَن يكون المُرَاد مدح هَؤُلَاءِ الْقَوْم بِالْكَرمِ وأنّهم لَا يسقون المَاء إلاّ ممزوجاً بِالْخمرِ لسعتهم وكرمهم وتعظيم من يرد عَلَيْهِم. انْتهى.
وَالظَّاهِر أنّ المُرَاد هُوَ الثَّانِي لَا الأوّل للسياق والسّباق. وَلَيْسَ معنى التصفيق مَا ذكره وَالصَّوَاب مَا ذكره بعض فضلاء الْعَجم فِي شرح أَبْيَات المفصّل من أَنه يصفهم بالجود على من يرد عَلَيْهِم فيسقونه مَاء مصفّى ممزوجاً بِالْخمرِ الصافية السائغة فِي الْحلق.
وَحمل هَذَا الْكَلَام على الْقلب أظهر يُرِيد: يسقون من يرد عَلَيْهِم الرَّحِيق السلسل يصفّق ببردى أَي: بِمَائِهَا. انْتهى.)
وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة لحسّان بن ثَابت الصّحابيّ وَقد تقدّمت تَرْجَمته فيالشاهد الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ مدح بهَا آل جَفْنَة مُلُوك الشَّام. وَهَذِه قِطْعَة مِنْهَا بعد المطلع بِثَلَاثَة أَبْيَات:
(لله درّ عصابةٍ نادمتهم
…
يَوْمًا بجلّق فِي الزَّمَان الأوّل)
(أَوْلَاد جَفْنَة حول قبر أَبِيهِم
…
قبر ابْن مَارِيَة الْكَرِيم الْمفضل)
(يغشون حتّى مَا تهرّ كلابهم
…
لَا يسْأَلُون عَن السّواد الْمقبل)
يسقون من ورد
…
...
…
...
…
. . الْبَيْت
(يسقون درياق الرّحيق وَلم تكن
…
تدعى ولائدهم لنقف الحنظل)
(فَلَبثت أزماناً طوَالًا فيهم
…
ثمّ ادّكرت كأنّني لم أفعل)
إِلَى أَن قَالَ بعد بَيْتَيْنِ:
(وَلَقَد شربت الْخمر فِي حانوتها
…
صهباء صافيةٌ كطعم الفلفل)
…
(يسْعَى عليّ بكأسها متنطّفٌ
…
فيعلّني مِنْهَا وَإِن مِنْهَا وَإِن لم أنهل)
(إنّ الَّتِي ناولتني فرددتها
…
قتلت قتلت فهاتها لم تقتل)
(كلتاهما حلب الْعصير فعاطني
…
بزجاجةٍ أرخاهما للمفصل)
(بزجاجةٍ رقصت بمل فِي قعرها
…
رقص القلوص براكبٍ مستعجل)
الْعِصَابَة: الْجَمَاعَة من النَّاس. وجلّق: بِكَسْر الْجِيم وَاللَّام أَيْضا. قَالَ الجواليقي فِي المعربات: يُرَاد بِهِ دمشق وَقيل مَوضِع بِقرب دمشق وَقيل إِنَّه صُورَة امْرَأَة كَانَ المَاء يخرج من فِيهَا فِي قَرْيَة من قرى دمشق وَهُوَ أعجميّ مُعرب وَقد جَاءَ فِي الشّعْر الفصيح. وَأنْشد هَذَا الْبَيْت.
وَقَوله: أَوْلَاد جَفْنَة الخ بالجرّ بدل من عِصَابَة وَيجوز رَفعه. وجَفْنَة بِفَتْح الْجِيم هُوَ أَبُو مُلُوك الشَّام وَهُوَ جَفْنَة بن عَمْرو مزيقياء بن عَامر بن حَارِثَة بن امْرِئ الْقَيْس بن ثَعْلَبَة بن مازنٍ الغسانيّ.
وَأما جبلة بن الْأَيْهَم فَهُوَ ابْن ماوية لأنّه ابْن الْأَيْهَم بن جبلة بن الْحَارِث الْأَعْرَج. وَأَرَادَ باولاد جَفْنَة أَوْلَاد الْحَارِث الْأَعْرَج بن مَارِيَة وهم: النُّعْمَان وَالْمُنْذر والمنيذر وجبلة وَأَبُو شمر.
وَهَؤُلَاء كلّهم مُلُوك وهم أعمام جبلة بن الْأَيْهَم. كَذَا فِي مُخْتَصر أَنْسَاب الْعَرَب لياقوت الحمويّ.
قَالَ السيّد الجرجانيّ فِي شرح الْمِفْتَاح: ترك تَفْضِيلهمْ احْتِرَازًا عَن تَقْدِيم بَعضهم على بعض.)
ثمَّ قَوْله وَعَن التَّصْرِيح بأسامي الْإِنَاث الدَّاخِلَة فيهم فِيهِ نظر فَإِن ذكر نسَاء الْمُلُوك لَا يعْهَد عِنْد ذكر الْمُلُوك.
وَقَوله: إنّ مَارِيَة
هِيَ أمّ جَفْنَة غير صَوَاب وإنّما هِيَ أم الْحَارِث الْأَعْرَج. ومارية قَالَ جُمْهُور النسّابين: هِيَ مَارِيَة بنت ظَالِم بن وهب بن الْحَارِث بن مُعَاوِيَة بن ثَوْر بن مرتع الكندية.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَابْن السّكيت: هِيَ مَارِيَة بنت أَرقم بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن جَفْنَة فَتكون على هَذَا غسّانية وَهِي أُخْت هِنْد امْرَأَة حجر وَالِد امْرِئ الْقَيْس صَاحب المعلّقة وَلَيْسَت أمه.
ومارية هِيَ الَّتِي تضرب الْمثل بقرطيها فَيُقَال: خُذْهُ وَلَو بقرطيّ مَارِيَة يضْرب للترغيب فِي الشَّيْء وَإِيجَاب الْحِرْص عَلَيْهِ أَي: لَا يقوتنّك على كلّ حَال وَإِن كنت تحْتَاج فِي إحرازه إِلَى بذل النفائس.
قَالَ الزمخشريّ فِي أَمْثَاله: هِيَ أول عَرَبِيَّة تقرّطت وَسَار ذكر قرطيها فِي الْعَرَب وَكَانَا نفيسي الْقيمَة وَقيل إنّهما قوّما بِأَرْبَعِينَ ألف دِينَار وَقيل كَانَ فيهمَا درّتان كبيض الْحمام لم ير مثلهمَا وَقيل هِيَ من الْيمن أَهْدَت قرطيها إِلَى الْبَيْت. انْتهى.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الأعرابيّ: هِيَ ذَات القرطين لدرّتين كأنّهما بيضتا نعَامَة أَو حمامة.
وَأَرَادَ بقوله: حول قبر أَبِيهِم أنّهم مُلُوك ذَوُو حاضرةٍ ومستقرّ لَيْسُوا أَصْحَاب رحْلَة وانتجاع.
سُئِلَ الأصمعيّ بأنّه مَا أَرَادَ حسان بِهِ وَأي مدح لَهُم فِي كَونهم عِنْد قبر أَبِيهِم فَقَالَ: إنّهم مُلُوك حُلُول فِي مَوضِع وَاحِد وهم أهل مدر وَلَيْسوا بِأَهْل عمد. وَقَالَ غَيره: مَعْنَاهُ أنّهم آمنون لَا يبرحون وَلَا يخَافُونَ كَمَا تخَاف الْعَرَب وهم مخصبون لَا ينتجعون
قَالَ السّيد المرتضى فِي أَمَالِيهِ: هَذَا من الِاخْتِصَار الَّذِي لَيْسَ فِيهِ حذف. أَرَادَ أنّهم أعزّاء مقيمون بدار مملكتهم لَا ينتجعون كالأعراب. فاختصر هذاالمبسوط فِي قَوْله: حول قبر أَبِيهِم.
قَالَ: والاختصار غير الْحَذف وقومٌ يظنون أنّهما وَاحِد وَلَيْسَ كَذَلِك لأنّ الْحَذف يتعلّق بالألفاظ: وَهُوَ أَن تَأتي بِلَفْظ يَقْتَضِي غَيره ويتعلّق بِهِ وَلَا يستقلّ بِنَفسِهِ وَيكون فِي الْمَوْجُود دلالةٌ على الْمَحْذُوف فَيقْتَصر عَلَيْهِ طلبا للاختصار. والاختصار يرجع إِلَى الْمعَانِي: وَهُوَ أَن تَأتي بلفظٍ مفيدٍ لمعان كَثِيرَة لَو عبّر عَنْهَا بِغَيْرِهِ لاحتيج إِلَى أَكثر من ذَلِك اللَّفْظ. فَلَا حذف إلاّ وَهُوَ اختصارٌ وَلَيْسَ كلّ اخْتِصَار حذفا. انْتهى كَلَامه.
وأدرج ابْن رَشِيق فِي الْعُمْدَة هَذَا النَّوْع فِي بَاب الْإِشَارَة قَالَ: وَالْإِشَارَة من غرائب الشّعْر)
وملحه وبلاغةٌ عجيبةٌ تدلّ على بعد المرمى وفرط الْقُدْرَة وَلَيْسَ يَأْتِي بهَا إلاّ الشَّاعِر المبرّز والحاذق الماهر وَهِي فِي كلّ نوعٍ من الْكَلَام لمحةٌ دالّةٌ واختصار وتلويج يعرف مُجملا وَمَعْنَاهُ بعيد من ظَاهر لَفظه.
وَقَوله: يغشون حتّى مَا تهرّ كلابهم الخ بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول أَي: يتردّد إِلَيْهِم من غشيه: إِذا جَاءَهُ.
وهرّ الْكَلْب يهرّ من بَاب ضرب هريراً: إِذا صوّت وَهُوَ دون النّباح. يَعْنِي أنّ مَنَازِلهمْ لَا تَخْلُو من الأضياف والفقراء فكلابهم
لَا تهرّ على من يقْصد مَنَازِلهمْ لاعتيادها بِكَثْرَة التردّد إِلَيْهَا من الأضياف وَغَيرهم وَقَوله: لَا يسْأَلُون الخ أَي: هم فِي سَعَة لَا يسْأَلُون كم نزل
بهم من النَّاس وَلَا يهولهم الْجمع الْكثير وَهُوَ السّواد إِذا قصدُوا نحوهم.
وَهَذَا الْبَيْت اسْتشْهد بِهِ سِيبَوَيْهٍ وَابْن هِشَام فِي الْمُغنِي على أنّ حتّى فِيهِ ابتدائية ألأي: حرف يبتدأ بعده الْجُمْلَة اسميّة أَو فعلية.
وَقَالَ أَبُو عليّ فِي التَّذْكِرَة القصرية: اعْلَم أنّ يغشون للْحَال الْمَاضِي أَعنِي أنّه حِكَايَة لما مضى من الْحَال لَوْلَا تقديرك لَهُ بِالْحَال مَا صحّ الرّفْع لأنّ الرّفْع لَا يكون إلاّ وَالْفِعْل وَاقع. ويغشون لَا يكون إلاّ للْحَال أَو للآتي فَلَو قدّرته للآتي لم يصحّ الرّفْع إِذْ لَا يكون الرّفْع إلاّ وَمَا قبله وَاقع من عَادَتهم أنّهم يغشون حتّى لَا تهرّ كلابهم أَي: لَا يزالون يغشون. انْتهى.
وَقَوله: يسقون درياق الرّحيق الخ يسقون بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول قَالَ شَارِح الدِّيوَان السكريّ: الدّرياق: خَالص الْخمر وجيّده سبّهه بالدّرياق الشافي. والولائد: جمع وليدة وَهِي الْخَادِم. والنّقف: اسْتِخْرَاج مَا فِي الحنظل. يَقُول: هم ملوكٌ تجتني ولائدهم الحنظل وَلَا تنتقفه.
وَقَوله: يسْعَى على بكأسها الخ المتنطّف: المقرّط والنّطفة بِفَتَحَات: القرط. ويروى: متنطّق وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ منطقةٌ. وعلّة: سقَاهُ سقيا بعد سقِِي. والنّهل هُنَا: الْعَطش.
وَقَالَ السكريّ: يَقُول: يسقينيها على كلّ حالٍ عطشت أَو لم أعطش.
وَقَوله: إنّ الَّتِي ناولتني فرددتها قتلت بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول أَي: مزجت بِالْمَاءِ وَالْجُمْلَة خبر إنّ.
وَقَوله: قتلت هَذَا أَيْضا بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول لكنّه مُسْند إِلَى ضميرالمتكلم وَالْجُمْلَة اعتراضية.
وَقَوله: كلتاهما الخ أَرَادَ كلتا الممزوجة وَالصرْف حلب الْعِنَب فناولتي أشدّهما إرخاء وَهِي الصّرف الَّتِي طلبَهَا مِنْهُ فِي قَوْله لم تقتل. وهاتها بِكَسْر التَّاء أمرٌ من هاتى يهاتي مهاتاة. والْحَلب بِفتْحَتَيْنِ بِمَعْنى المحلوب كالنقص بِمَعْنى المقنوص.)
قَالَ ابْن الشجريّ فِي أَمَالِيهِ: قَالَ أَبُو الْفرج عَليّ بن الْحُسَيْن الْأَصْبَهَانِيّ صَاحب كتاب الأغاني حَدِيثا رَفعه إِلَى أبي ظبْيَان الحمّاني قَالَ:
اجْتمعت جماعةٌ من الحيّ على شرابٍ فتغنّى أحدهم بقول حسّان: إنّ الَّتِي ناولتني فَردَّتهَا الْبَيْت وَقَوله: كلتاهما حلب الْعصير الْبَيْت فَقَالَ رجلٌ مِنْهُم: كَيفَ ذكر واحدةٌ بقوله إنّ الَّتِي ناولتني فرددتها ثمَّ قَالَ كلتاهما فَجَعلهَا اثْنَتَيْنِ قَالَ أَبُو ظبْيَان: فَلم يقل أحدٌ من الْجَمَاعَة جَوَابا فَحلف رجلٌ مِنْهُم بِالطَّلَاق ثَلَاثًا إِن بَات وَلم يسْأَل القَاضِي عبد الله بن الْحسن عَن تَفْسِير
هَذَا الشّعْر قَالَ: فَسقط فِي أَيْدِينَا ليمينه ثمَّ اجْتَمَعنَا على قصد عبيد الله. فحدّثنا بعض أَصْحَابنَا السعديّين قَالَ: فيمّمناه نتخطّى إِلَيْهِ الْأَحْيَاء فصادفناه فِي مسجدٍ يُصَلِّي بَين العشاءين فلمّا سمع حسّناً أوجز فِي صلَاته.
ثمَّ أقبل علينا فَقَالَ: مَا حَاجَتكُمْ فبدر رجلٌ منا كَانَ أحسننا بقيّة فَقَالَ: نَحن أعزّ الله القَاضِي قومٌ نَزَعْنَا إِلَيْك من طَرِيق الْبَصْرَة فِي حَاجَة مهمّة فِيهَا بعض الشَّيْء فَإِن أَذِنت لنا قُلْنَا. فَقَالَ: قُولُوا. فَذكر يَمِين الرجل والشّعر. فَقَالَ: أمّا قَوْله: إنّ الَّتِي ناولتني فإنّه يَعْنِي الْخمر. وَقَوله: قتلت أَرَادَ مزجت بِالْمَاءِ.
وَقَوله: كلتاهما حلب الْعصير يَعْنِي الْخمر ومزاجها فالخمر
عصير الْعِنَب وَالْمَاء عصير السَّحَاب قَالَ الله تَعَالَى: وأنزلنا من المعصرات مَاء تجّاجاً. انصرفوا إِذا شِئْتُم.
وَأَقُول: إنّ هَذَا التَّأْوِيل يمْنَع مِنْهُ ثَلَاثَة أَشْيَاء: أَحدهَا: أنّه قَالَ كلتاهما وكلتا مَوْضُوعَة لمؤنثين وَالْمَاء لمذكر والمذكر أبدا يغلّب على التَّأْنِيث كتغليب الْقَمَر على الشَّمْس فِي قَول الفرزدق:)
لنا قمراها والنّجوم الطّوالع.
أَرَادَ: لنا شمسها وقمرها. وَلَيْسَ للْمَاء اسْم مؤنث فَيحمل على الْمَعْنى كَمَا قَالُوا: أَتَتْهُ كتابي فاحتقرها لأنّ الْكتاب فِي الْمَعْنى صحيفَة.
وَالثَّانِي: أنّه قَالَ: أرخاهما للمفصل وأفعل هَذَا مَوْضُوع لمشتركين فِي معنى
وَأَحَدهمَا يزِيد على الآخر فِي الْوَصْف بِهِ وَالْمَاء لَا يُشَارك فِي إرخاء الْمفصل.
وَالثَّالِث: أنّه قَالَ فِي الْحِكَايَة: فالخمر عصير الْعِنَب وَقَول حسّان حلب الْعصير يمْنَع من هَذَا لأنّه إِذا كَانَ الْعصير الْخمر والحلب هُوَ الْخمر فقد أضيت الْخمر إِلَى نَفسهَا وَالشَّيْء لَا يُضَاف إِلَى نَفسه.
وَالْقَوْل فِي هَذَا عِنْدِي: أَنه أَرَادَ كلتا الخمرين: الصّرْف والممزوجة حلب الْعِنَب فناولني أشدّهما إرخاء للمفصل.
وفرّق اللغويون بَين الْمفصل والمفصل فَقَالُوا: الْمفصل بِكَسْر الْمِيم وَفتح
الصَّاد اللِّسَان وَهُوَ بِفَتْح الْمِيم وَكسر الصَّاد وَاحِد مفاصل الْعِظَام وَهُوَ فِي بَيت حسان يحْتَمل الْوَجْهَيْنِ. انْتهى كَلَام ابْن الشجري.
وَأما حَدِيث حسان بن ثَابت مَعَ جبلة بن الْأَيْهَم وَكَيْفِيَّة إِسْلَام جبلة وارتداده فقد أوردهُ صَاحب الأغاني مفصّلاً وَهَا أَنا أوردهُ مُجملا: روى بِسَنَدِهِ إِلَى يُوسُف بن الْمَاجشون عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ حسّان بن ثَابت: أتيت جبلة بن الْأَيْهَم الغسّاني وقد مدحته فَأذن لي فَجَلَست بَين يَدَيْهِ وَعَن يَمِينه رجلٌ لَهُ ضفيرتان وَعَن يسَاره رجلٌ لَا أعرفهُ فَقَالَ: أتعرف هذَيْن فَقلت: أمّا هَذَا فأعرفه وَهُوَ النَّابِغَة الذبيانيّ وَأما هَذَا فَلَا أعرفهُ. قَالَ: هُوَ عَلْقَمَة بن عَبدة فَإِن شِئْت استشدتهما وَسمعت مِنْهُمَا ثمَّ إِن شِئْت أَن تنشد بعدهمَا أنشدت وَإِن شِئْت أَن تسكت سكتّ. قلت: فَذَاك. فأنشده النَّابِغَة: الطَّوِيل
(كليني لهمّ يَا أُمَيْمَة ناصب
…
وليلٍ أقاسيه بطيء الْكَوَاكِب)
قَالَ: فَذهب نصفي. ثمَّ قَالَ لعلقمة: أنْشد. فَأَنْشد: الطَّوِيل
(طحا بك قلبٌ فِي الحسان طروب
…
بعيد الشّباب عصر حَان مشيب)
فَذهب نصفي الآخر فَقَالَ لي: أَنْت أعلم الْآن إِن شِئْت سكتّ وَإِن شِئْت أنشدت.)
فتشدّدت وأنشدت:
(لله درّ عصابةٍ نادمتها
…
يَوْمًا بجلّق فِي الزّمان الأوّل)
(أَبنَاء جَفْنَة عِنْد قبر أَبِيهِم
…
قبر ابْن مَارِيَة الْجواد الْمفضل)
(يسقون من ورد البريص عَلَيْهِم
…
كأساً تصفّق بالرّحيق السّلسل)
.
(يغشون حتّى مَا تهرّ كلابهم
…
لَا يسْأَلُون عَن السّواد الْمقبل)
(بيض الْوُجُوه كريمةٌ أحسابهم
…
شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل)
فَقَالَ لي: ادن ادن لعمري مَا انت بدونهما. ثمّ أَمر لي بثلثمائة دِينَار وَعشرَة أقمصه لَهَا جيبٌ وَاحِد وَقَالَ: هَذَا لَك عندنَا فِي كلّ عَام.
وَذكر أَبُو عَمْرو الشّيبانيّ هَذِه القصّة لحسّان مَعَ عَمْرو بن الْحَارِث الْأَعْرَج وأتى بالقصّة أتمّ من هَذِه الرِّوَايَة قَالَ أَبُو عَمْرو: قَالَ حسّان بن ثَابت: قدمت على عَمْرو بن الْحَارِث فاعتاض الْوُصُول إِلَيْهِ فَقلت للحاجب بعد مدّة: إِن أَذِنت لي عَلَيْهِ وإلاّ هجوت الْيمن كلّها. ثمَّ انقلبت عَنْكُم فَأذن لي فَدخلت فَوجدت عِنْده النَّابِغَة وعلقمة بن عَبدة فَقَالَ لي: يَا ابْن الفريعة قد عرفت نسبك فِي غسّان فَارْجِع فَإِنِّي باعثٌ إِلَيْك بصلَة سنيّة وَلَا تحْتَاج إِلَى الشّعْر فَإِنِّي أَخَاف عَلَيْك هذَيْن السّبْعين أَن يفضحاك فضيحتك فَضِيحَتِي وَأَنت وَالله لَا تحسن أَن تَقول: الطَّوِيل
(رقاق النّعال طّيبٌ حجراتهم
…
يحيّون بالرّيحان يَوْم السّباسب)
فأبيت وَقلت: لَا بدّ مِنْهُ فَقَالَ: ذَاك إِلَى عمّيك. فَقلت لَهما: بحقّ الْملك إلاّ مَا قدّمتماني عَلَيْكُمَا فَقَالَ: قد فعلنَا. فأنشأت أَقُول:
(أَبنَاء جَفْنَة عِنْد قبر أَبِيهِم
…
قبر ابْن مَارِيَة الْكَرِيم الْمفضل)
الأبيات فَلم يزل عَمْرو بن الْحَارِث يزحل عَن مَجْلِسه سُرُورًا حتّى شاطر الْبَيْت وَهُوَ يَقُول: هَذَا وَأَبِيك الشّعْر لَا مَا يعلّلاني بِهِ مُنْذُ الْيَوْم هَذِه وَالله البتّارة الَّتِي قد بترت المدائح أَحْسَنت يَا ابْن الفريعة هَات لَهُ يَا غُلَام ألف دِينَار مرجوحة. فَأعْطيت ذَلِك ثمَّ قَالَ: لَك عليّ كلّ وَقَالَ أَبُو عَمْرو الشّيبانيّ: لّما أسلم جبلة بن الْأَيْهَم الغسّانيّ وَكَانَ من مُلُوك آل جَفْنَة كتب إلأى عمر يَسْتَأْذِنهُ فِي الْقدوم عَلَيْهِ فَأذن لَهُ فَخرج إِلَيْهِ فِي خمسمائةٍ من أهل بَيته من عكّ وغسّان حَتَّى إِذا كَانَ على مرحلَتَيْنِ كتب إلأى عمر يُعلمهُ بقدومه فسرّ عمر رضوَان الله عَلَيْهِ بذلك)
وَأمر النَّاس باستقباله وَبعث إِلَيْهِ بأنزلٍ وَأمر جبلة مِائَتي رجل من أَصْحَابه فلبسوا الديباج وَالْحَرِير.
وركبوا الْخَيل معقودةً أذنابها وألبسوها قلائد الذَّهَب والفضّة وَلبس جبلة تاجه وَفِيه قرطا مَارِيَة وَهِي جدّته وَدخل الْمَدِينَة فَلم يبْق بهَا بكر وَلَا عانسٌ إلاّ خرجت تنظر إِلَيْهِ وَإِلَى زيّه فَلَمَّا انْتهى إِلَى عمر رحّب بِهِ وألطفه وَأدنى مَجْلِسه ثمَّ أَرَادَ عمر الحجّ فَخرج مَعَه جبلة يَده فهشم أنف الفرازيّ فاستعدى عَلَيْهِ عمر فيعث إلأى جبلة فَأَتَاهُ فَقَالَ: مَا هَذَا قَالَ: نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه تعمّد حلّ إزَارِي لَوْلَا حُرْمَة الْكَعْبَة لضَرَبْت عُنُقه بالسّيف
قَالَ عمر قد أَقرَرت إمّا أَن ترضي الرجل وإمّا أقدته.
قَالَ جبلة: تصنع مَاذَا قَالَ: آمُر بهشم أَنْفك قَالَ: وَكَيف ذَلِك هُوَ سوقة وَأَنا ملك قَالَ: إنّ الْإِسْلَام جمعك وإياه فَلَيْسَ تفضله إلاّ بالتّقى والعافية قَالَ جبلة: قد ظَنَنْت أَنِّي أكون فِي الْإِسْلَام أعزّ منّي فِي الجاهليّة.
قَالَ عمر: دع عَنْك هَذَا فإنّك إِن لم ترض الرجل أقدته مِنْك قَالَ: إِذن أتنصّر قَالَ: إِن تنصّرت ضربت عُنُقك فَلَمَّا رأى جبلة الجدّ من عمر قَالَ: أَنا نَاظر فِي هَذَا لَيْلَتي هَذِه.
وَقد اجْتمع بِبَاب عمر من حيّ هَذَا وحيّ هَذَا خلق كثيرٌ حتّى كَادَت أَن تكون فتْنَة فَلَمَّا أَمْسوا أذن لَهُ عمر بالانصراف حتّى إِذا نَام النَّاس تحمّل جبلة مَعَ جماعته إِلَى الشَّام فَأَصْبَحت مَكَّة مِنْهُم بَلَاقِع. فَلَمَّا انْتهى إِلَى الشَّام تحمّل فِي خمسمائةٍ من قومه حتّى أَتَى القسطنطينيّة فَدخل إِلَى هِرقل فتنصّر هُوَ وَقَومه فسرّ هِرقل بذلك جدّاً وطنّ أنّه فتحٌ من القتوح واقعده حَيْثُ شَاءَ وَجعله من محدّثيه وسمّاره.
ثمَّ إنّ عمر بدا لَهُ أَن يكْتب إِلَى هِرقل يَدعُوهُ إِلَى الْإِسْلَام ووجّه إِلَيْهِ رَسُولا وَهُوَ جثّامة بن مساحق الكنانيّ فَلَمَّا انْتهى إِلَيْهِ أجَاب إِلَى كل شَيْء سوى الْإِسْلَام فَلَمَّا أَرَادَ الرَّسُول الِانْصِرَاف قَالَ لَهُ هِرقل: هَل رَأَيْت ابْن عمّك هَذَا الَّذِي جَاءَنَا رَاغِبًا فِي ديننَا قلت: لَا. قَالَ: فالقه. قَالَ: فتوجّهت إِلَيْهِ فَلَمَّا انْتَهَيْت إِلَى بَابه رَأَيْت من الْبَهْجَة وَالْحسن والستور مَا لم أر مثله بِبَاب هِرقل فَلَمَّا أدخلت عَلَيْهِ إِذا هُوَ فِي بهو عَظِيم وَفِيه من التصاوير مَا لَا أحسن وَصفه وَإِذا هُوَ جَالس على سريرٍ من قَوَارِير قوائمه
أَرْبَعَة أسدٍ من ذهب وَقد أَمر بمجلسه فَاسْتقْبل بِهِ وَجه الشَّمْس فَمَا بَين يَدَيْهِ من آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة تلوح فَمَا رَأَيْت أحسن مِنْهُ فلمّا سلّمت)
عَلَيْهِ ردّ السَّلَام ورحبّ بِي الطفني ولامني على تركي النُّزُول عِنْده ثمَّ أقعدني على سَرِير لم ادر مَا هُوَ فتبينته فَإِذا هُوَ كرسيٌّ من ذهب فانحدرت عَنهُ فَقَالَ: مَالك فَقلت: إِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نهى عَن هَذَا.
فَقَالَ جبلة أَيْضا مثل قولي فِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم حِين ذكرته وصلّى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ: يَا هَذَا إنّك إِذا طهّرت قَلْبك لم يضرّك مَا لبسته وَلَا مَا جَلَست عَلَيْهِ. ثمَّ سَأَلَني عَن النَّاس وألحف فِي السُّؤَال عَن عمر ثمَّ جعل يفكّر حتّى عرفت الْحزن فِي وَجهه فَقلت لَهُ: مَا يمنعك من الرُّجُوع إِلَى قَوْمك وَالْإِسْلَام. فَقَالَ: أبعد الَّذِي قد كَانَ قلت: قد ارتدّ الْأَشْعَث بن قيس عَن الْإِسْلَام زمنعهم الزّكاة
وضربهم بِالسَّيْفِ ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَام.
فتحدّثنا مليّاً ثمَّ أَوْمَأ إِلَى غُلَام على رَأسه فولّى يحضر فَمَا كَانَ إلاّ هينهة حَتَّى أَقبلت الأخونة فوصعت وَجِيء بخوان من ذهب فَوضع أَمَامِي فاستعفيت فَوضع أَمَامِي خوان من خلنج وجامات قَوَارِير وأديرت الْخمر فاستعفيت مِنْهَا فَلَمَّا فَرغْنَا دَعَا بكأس من ذهب فَشرب مِنْهُ خمْسا ثمَّ أَوْمَأ إِلَى غُلَام فولّى يحضر فَمَا شَعرت إلاّ بِعشر جوارٍ يتكسّرن فِي الْحلِيّ وَالْحلَل فَقعدَ خمسٌ عَن يَمِينه وَخمْس عَن شِمَاله ثمَّ سَمِعت وسوسةٍ من ورائي فَإِذا أَنا بعشرٍ أفضل من الأول عليهنّ الوشي والحلي فَقعدَ خمسٌ عَن يَمِينه وَخمْس عَن شِمَاله.
ثمَّ أَقبلت جاريةٌ على رَأسهَا طَائِر أَبيض كَأَنَّهُ لؤلؤة مؤدّب وَفِي يَدهَا الْيُمْنَى جَام فِيهِ مسك وَعَنْبَر قد خلطا وَفِي الْيُسْرَى جَام فِيهِ مَاء
ورد فَأَلْقَت الطَّائِر فِي مَاء الْورْد فتمعّك فِيهِ بَين جناحيه وظهره وبطنه ثمَّ أخرجته فألقته فِي جَام الْمسك والعنبر فتمعّك فيهمَا حَتَّى لم يدع فِيهِ شَيْئا ثمَّ نفّرته فطار فَسقط على رَأس جبلة ثمَّ رَفْرَف ونفض ريشه فَمَا بَقِي عَلَيْهِ شَيْء إلاّ سقط على جبلة ثمَّ قَالَ للجواري: أطربني فخفقن بعيدانهنّ يعنيّن:
(لله درّ عصابةٍ نادمتهم
…
يَوْمًا بجلّق فِي الزّمان الأوّل)
الأبيات فاستهلّ واستبشر وطرب ثمَّ قَالَ: زدنني. فاندفعن يغنّين: الْخَفِيف
(لمن الدّار أقفرن بمعان
…
بَين شاطي اليرموك فالصّمّان)
إِلَى آخر القصيدة.
فَقَالَ: أتعرف هَذِه الْمنَازل قلت: لَا. قَالَ: هَذِه مَنَازلنَا فِي ملكنا بِأَكْنَافِ
دمشق وَهَذَا شعر ابْن الفريعة حسّان بن ثَابت شَاعِر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: أما إنّه مضرور)
الْبَصَر كَبِير السنّ قَالَ: يَا جَارِيَة هَاتِي. فَأَتَتْهُ بِخَمْسِمِائَة دِينَار وَخَمْسَة أَثوَاب ديباج فَقَالَ: ادْفَعْ هَذِه إِلَى حسّان. ثمَّ روادني على مثلهَا فأبيت فَبكى ثمَّ قَالَ لجواريه: أبكينني. فعوضن عيدانهنّ ثمَّ أنشأن يقلن: الطَّوِيل
(تكنّفني فِيهَا لجاجٌ ونخوةٌ
…
وَكنت كمن بَاعَ الصّحيحة بالعور.)
(فيا لَيْت أمّي لم تلدني وليتني
…
رجعت إِلَى القَوْل الَّذِي قَالَه عمر)
…
(وَيَا لَيْتَني أرعى الْمَخَاض بفقرةٍ
…
وَكنت أَسِيرًا فِي ربيعَة أَو مُضر)
(وَيَا لَيْت لي بالشّام أدنى معيشةٍ
…
أجالس قومِي ذَاهِب السّمع والْبَصَر)
ثمَّ بَكَى وبكيت مَعَه حتّى نظرت إِلَى دُمُوعه تجول على لحيته كَأَنَّهَا اللُّؤْلُؤ ثمَّ سلّمت عَلَيْهِ وانصرفت فَلَمَّا قدمت على عمر سَأَلَني عَن هِرقل وَعَن جبلة فقصصت عَلَيْهِ القصّة فَقَالَ: أبعده الله تعجّل فانيةً اشْتَرَاهَا بباقية فَهَل سرّح مَعَك شَيْئا قلت: سرّح إِلَى حسان خَمْسمِائَة دِينَار وَخَمْسَة أَثوَاب ديباج. فَقَالَ: هَاتِهَا.
وَبعث إِلَى حسان فَأقبل يَقُودهُ قائده حتّى دنا فسلّم وَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إنّي لأجد أَرْوَاح آل جَفْنَة فَقَالَ عمر رضي الله عنه: قد نزع الله تَعَالَى لَك مِنْهُ على رغم أَنفه طوأتاك بمعونته.
فَأَخذهَا وَانْصَرف وَهُوَ يَقُول: الْكَامِل
(إنّ ابْن جَفْنَة من بقيّة معشرٍ
…
لم يغذهم آباؤهم باللّوم)
(لم ينسني بالشّام إِذْ هُوَ ربّها
…
كلاّ وَلَا منتصّراً بالرّوم)
(يُعْطي الجزيل وَلَا يرَاهُ عِنْده
…
إلاّ كبعض عطيّة المذموم)
ثمَّ قَالَ للرسول: مَا لَك جبلة قَالَ: قَالَ لي: إِن وجدته حيّاً فادفعها إِلَيْهِ وَإِن وجدته مَيتا فاطرح الثّياب على قَبره وابتع بِهَذِهِ الدَّنَانِير بدناً فانحرها على قَبره.
فَقَالَ حسّان: ليتك وَالله وجدتني مَيتا فَفعلت ذَلِك بِي انْتهى كَلَام الأغاني.
وروى هَذِه الْقِصَّة ابْن عبد ربه فِي العقد على هَذَا النمط وَزَاد فِيهَا عِنْد قَوْله:
قد ارتدّ الْأَشْعَث بن قيس عَن الْإِسْلَام ثمَّ رَجَعَ وَقبل مِنْهُ.
قَالَ جبلة: ذَرْنِي من هَذَا إِن كنت تضمين لي ان يزوّجني عمر بنته ويولّيني بعده الْأَمر رجعت إِلَى الْإِسْلَام. قَالَ: فضمنت لَهُ التَّزْوِيج وَلم أضمن الإمرة.
وَقَالَ فِي آخر الْقِصَّة: فَلَمَّا قدمت على عمر أخْبرته خبر جبلة وَمَا دَعوته إِلَيْهِ من الْإِسْلَام)
وَالشّرط الَّذِي اشترطته فَقَالَ لي عمر: هلاّ ضمنت لَهُ الإمرة أَيْضا فَإِذا أَفَاء الله بِهِ إِلَى الْإِسْلَام قضى عَلَيْهِ بِحكمِهِ عز وجل ّ. قَالَ: ثمَّ جهّزني عمر إِلَى قَيْصر وَأَمرَنِي أَن أضمن لجبلة مَا اشْترط بِهِ. فَلَمَّا قدمت الْقُسْطَنْطِينِيَّة وجدت النَّاس منصوفين من جنَازَته فَعلمت أَن الشّقاء غلب عَلَيْهِ فِي أمّ الْكتاب. انْتهى.
وروى صَاحب الأغاني عَن ابْن الْكَلْبِيّ: أنّ الفزاريّ لما وطئ إِزَار جبلة فلطم الفزاريّ جبلة كَمَا لطمه جبلة وثب عَلَيْهِ غسّان فهشّموا أَنفه وَأتوا بِهِ عمر. ثمَّ ذكر بَاقِي الْخَبَر كَمَا ذكر.
وروى الزّبير بن بكّار: أنّ جبلة قدم على عمر فِي ألفٍ من أهل بَيته فَأسلم وَجرى بَينه وَبَين رجل من أهل الْمَدِينَة كَلَام فسبّ المدنيّ فردّ عَلَيْهِ فَلَطَمَهُ جبلة فَلَطَمَهُ المدنيّ فَوَثَبَ عَلَيْهِ أَصْحَاب جبلة فَقَالَ: دَعوه حتّى أسأَل صَاحبه وَأنْظر مَا عِنْده. فجَاء إِلَى عمر فَأخْبر فَقَالَ: إنّك فعلت بِهِ فعلا فَفعل بك مثله. قَالَ:
أَو لَيْسَ عنْدك من الْأَمر إلاّ مَا أرى قَالَ: لَا فَمَا عنْدك من الْأَمر يَا جبلة قَالَ: من سبّنا ضَرَبْنَاهُ وَمن ضربنا قَتَلْنَاهُ قَالَ: إنّما أنزل الْقُرْآن بِالْقصاصِ فعضب وَخرج بِمن مَعَه وَدخل أَرض الرّوم فتنصّر ثمَّ نَدم فَقَالَ: تنصّرت الْأَشْرَاف من عَار لطمةٍ وَذكر الأبيات الْمَاضِيَة.
ثمَّ روى صَاحب الأغاني بِسَنَدِهِ عَن عبد الله بن مسْعدَة الفزاريّ قَالَ: وجّهني مُعَاوِيَة إِلَى ملك الرّوم فَدخلت عَلَيْهِ وَعِنْده رجل على سَرِير من ذهب فكلّمني بِالْعَرَبِيَّةِ فَقلت: من أَنْت يَا عبد الله قَالَ أَنا رجل غلب الشَّقَاء أَنا جبلة بن الْأَيْهَم الغسّاني إِذا صرت إِلَى منزلي فالقني.
فلمّا انْصَرف أتينه فألقينه على شرابه وَعِنْده فينتان تغّنيانه بِشعر حسّان بن ثَابت فلمّا فرغتا من غنائهما أقبل عليّ فَقَالَ: مَا فعل حسان بن ثَابت قلت: شيخ كَبِير قد عمي فَدَعَا بِأَلف دِينَار فَقَالَ: ادفعها إِلَى حسان. ثمَّ قَالَ: أَتَرَى صَاحبك يَفِي لي إِن خرجت إِلَيْهِ قلت: قل مَا شِئْت أعرضه عَلَيْهِ. قَالَ: يعطيني الثنيّة فإنّها كَانَت مَنَازلنَا وَعشْرين