الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التحليل والتعليق
تضمنت الآثار السابقة الإشارة إلى بعض أشراط الساعة، فمن ذلك قربها، وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم في نسمها، وهو أول وقتها، وأنه لم يبق لقيامها إلا قليل القليل، كعين الغدير، شرب صفوها وبقي كدرها، وأنها لا تقوم إلا على شرار الناس الذين لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا، يتهارجون تهارج البهائم في الطريق، يأتي أحدهم المرأة في الطريق، ويتضاحك مع جلسائه، تنتقص العقول، وتعزب الأحلام، ويكثر الهم، وتقع علامات الحق، ويظهر الظلم، وترفع الأمانة، وترفع الرحمة، ويقطع الرحم، وتقطع الصدقة، ويلجم الناس الشح، وتسمع أصوات من السماء تخبر بقربها، ثم الصيحة فتلهو كل والدة عن ولدها، ثم الآيات الست التي ذكرها حذيفة رضي الله عنه قبل وقوعها.
فأما قربها: فلقوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)}
(1)
، وغيرها من الآيات الصريحة، قال صديق حسن خان:"والآيات في ذلك كثيرة. . . والأحاديث في الباب لا تكاد تحصى، ولا يقال: كيف يوصف بالاقتراب ما قد مضى قبل وقوعه ألف ومئتان وأربع وتسعون عاما؟ لأن الأجل إذا مضى أكثره وبقي أقله فهو قريب"،
(2)
، إلا أن الصنعاني رحمه الله
= (8/ 427).
(1)
سورة القمر، الآية (1).
(2)
الإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة (16).
رجح قرب أشراط الساعة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وليس قرب وقوعها، بدليل طول الزمان من وفاته إلى يومنا هذا، بخلاف الأشراط فقد وقع كثير منها بعد وفاته بقليل، بل كان موته من أشراطها
(1)
، والذي يظهر لي واللَّه أعلم أن قرب أشراطها من قربها، ولا تضر هذه المدة الطويلة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه بالنسبة إلى ما سبق كالمهمل.
وكونها لا تقوم إلا على شرار الناس: فقد ثبت في السنة ما يدل على ذلك، لكن ثبت أيضا ما قد يوهم خلافه وهو أن لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين إلى قيام الساعة
(2)
، فكيف تقوم الساعة على شرار الخلق وهؤلاء من خيار الخلق، وقد وفّق العلماء بين هذه النصوص بعدة أوجه؛ فمنهم من حمل لفظ الساعة على ظاهره في كل الأحاديث، وفسّر المراد بقيام الساعة عليهم باختلاف الأماكن والبقاع فتقوم الساعة على شرار الناس في مكان غير المكان الذي تكون فيه الطائفة الظاهرة،
(1)
انظر الإذاعة (15 - 16)، والسنن الواردة في الفتن (4/ 770 - 771)، قال المحقق المباركفوري:"وهذا الوجه الأخير قد يكون له وجه؛ لأن الواقع يشهد له ويؤيده"، قلت: أما من جهة الدليل الشرعي فلم يعلق على ما استدل به الصنعاني وهو حديث لا يصح لأنه مرسل -كما رجح ابن أبي حاتم- من رواية عبد اللَّه ابن زبيب الجندي ذكر في الصحابة ولم يصح، انظر الإصابة (5/ 188)، وأسد الغابة (1/ 609).
(2)
وهو حديث صحيح أخرجه مسلم برقم (170) وغيره، وعقد له أبو عمرو الداني بابا في كتابه الفتن (6/ 739) أورد فيه طرقه.
حيث وردت نصوص تفيد أن الطائفة المنصورة تكون ببيت المقدس، أو بحمل النصوص على الخصوص وإن كان اللفظ لفظ عموم، فالمراد أنها تقوم في الأغلب على شرار الخلق وهذا لا يمنع أن يكون فيهم خيار وهم الطائفة الظاهرة المنصورة
(1)
، وكلا القولين لا يزيلان الإشكال، ولذلك تعقبهما الحافظ ابن حجر بأن قيام الساعة على شرار الخلق فقط أيدته عمومات كثيرة، ولذلك لا يمكن حمل الساعة على معناها الحقيقي في حق الطائفة المنصورة، قال:"الجمع بينه وبين حديث: "لا تزال طائفة" حمل الغاية في حديث: لا تزال طائفة، على وقت هبوب الريح الطيبة، التي تقبض روح كل مؤمن ومسلم، فلا يبقى إلا الشرار، فتهجم الساعة عليهم بغتة"
(2)
، فتبقى هذه الطائفة ظاهرة منصورة إلى أن يأتي أمر اللَّه أو قيام الساعة، والمراد بذلك الريح التي تهب فتأخذ كل مؤمن وذلك بعد نزول عيسى عليه السلام
(3)
، ومقاتلة الدجال وظهور الآيات الكبرى للساعة، فلا يبقى إلا شرار الناس تقوم عليهم، قال ابن حجر: "وجدت في هذا مناظرة لعقبة بن عامر ومحمد بن مسلمة فأخرج الحاكم من رواية عبد الرحمن بن شماسة: أن عبد اللَّه بن عمرو قال: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر من أهل الجاهلية، فقال عقبة بن عامر: عبد اللَّه أعلم
(1)
نقل ابن بطال قول الطبري، وكلاهما نقله ابن حجر في الفتح (13/ 294).
(2)
فتح الباري (13/ 19، 77).
(3)
وقد جاء ذلك مصرحا به كما سيأتي في أثر السكسكي قريبا.
ما يقول، وأما أنا فسمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر اللَّه ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك"، فقال عبد اللَّه: أجل، ويبعث اللَّه ريحا ريحها ريح المسك، ومسها مسُّ الحرير، فلا تترك أحدا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة، فعلى هذا فالمراد بقوله في حديث عقبة:"حتى تأتيهم الساعة" ساعتهم هم، وهي وقت موتهم بهبوب الريح واللَّه أعلم"
(1)
، ووجه إطلاق الساعة على هبوب الريح:"لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه، فهذا الوقت لقربه من القيامة يطلق عليه القيامة"
(2)
.
وليس المراد استقصاء أشراط الساعة وذكر تفاصيلها هنا فإن لذلك كتبا مستقلة، وهي كثيرة جدا سواء منها ما صُنِّف على أنه من الأشراط الصغرى أو الكبرى، قال صديق حسن خان بعدما انتهى من ذكر الأشراط الصغرى:"هذه قطرة من بحار أشراط الساعة ذات الفتن والأهوال، وذرة من وادي علاماتها وأماراتها التي وردت بها الأخبار والآثار والأقوال"، ثم عقد بابا في الفتن العظام والمحن التي تعقبها الساعة وقال:"وهي كثيرة جدا أيضًا"
(3)
.
(1)
فتح الباري (13/ 77)، وانظر: التذكرة للقرطبي (798)، وشرح مسلم للنووي (2/ 132)، لوامع الأنوار (2/ 152 - 153).
(2)
الإشاعة (180)، ومثله النووي في شرح مسلم (2/ 132).
(3)
الإذاعة (94).