الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخرى فيقبض بنفسه على عنق الواحدة ويطرحها في النار على وجهها، ويدوس على ظهرها ويضغط على رأسها، حتى يتم شيّها في النار وتهلك فيرفعها ويحضر غيرها، وعلى هذه الصورة الشنعاء أهلك الجزار سبعاً وثلاثين امرأة ولم تنج غير فتاة في الثامنة من عمرها.
كان الجزار يقتل الكبير والصغير من وزراء وأفندية وعلماء وأغواتن ويرضي السلطان بالمال ويداريه فيتغاضى عنه، وكان إذا عامل أحد المغضوب عليهم
بالرفق وعزف عن قتله يجذم أنفه، ثم يصلم أذنه اليمنى ثم يقلع عينه اليمنى ولو كان من خواص خدامه. وكم من بيت خربه بسلب ماله ظلماً، وكم من رجل قتله بعد أن صادره، وكان لا ذمة له ولا ذمام، خدمه رجال من بيوت معروفة فلما بدا له قتلهم وصادرهم واختلق لهم ذنوباً والقاهم في البحر. ولقد أكرمه الأمير يوسف الشهابي حاكم لبنان لما كان الجزار صعلوكاً متشرداً لأول أمره وعاونه لما أصبح والياً، فكانت النتيجة أن شنقه وألقاه ثلاثة أيام معلقاً، ولطالما أخذ النوتية والركاب في مراكب كانت قادمة من مصر قبل مجيء الفرنسيين إليها، وقتل جميع من فيها من أبناء مصر أو الشام وصادر جميع ما يحملون من البضائع.
تفنن الجزار في إهراق الدماء وحكم المؤرخين عليه:
وكان من عادة الجزار بعد أن يصادر المصادرين أن يقتلهم كما فعل سنة 1205 فقبض في دمشق على أولاد عبيد وأخذ منهم ستين ألف قرش ففروا إلى حلب ثم قبض على ثلاثين من أتباعه وسجنهم في القلعة ففدوا أنفسهم بمائتين وخمسين ألف قرش ثم قتلهم ليلاً، وقبض على خازن أمواله وأسبابه ونفاه إلى مصر، وقبض على مفتي عكا وإمامها وعلى رئيس مينائها فقتلهم صبراً. وظلم جميع أكابر دمشق وسلب أموالهم.
وخرج ذات يوم في عكا قبل الشمس إلى باب السراي وأمر بإغلاق أبواب المدينة وقبض على كثيرين من العمال والكتاب والأهالي فسجنهم، وكانوا مائتين وثلاثين إنساناً وقبض على النواب وسجنهم، وكان كلما تقدم إليه
إنسان يكشف رأسه وينظر في وجهه فالذي يقول فيه نيشان يرجعونه إلى السجن، والذي يقول ما فيه نيشان يطلق، ثم أنه أحضر الفعلة أيضاً وصنع بهم كذلك وقبض منهم جملة وأحضر التجار وأرباب الصنائع والحمالين وعلى هذا المنوال عامل الجميع فامتلأت السجون، ومن الغد أحضر المغاربة وأمر أن يخرجوا السجناء كلهم
خارج البلد ويقتلوهم ففعلوا ما أمرهم به؛ قال مدوّن وقائعه: وكان يوماً عصيباً لم تكن تسمع فيه إلاّ صراخ المقتولين ظلماً وعويلهم وأنينهم، وبقي القتلى كالغم مطروحين خارج البلد، ثم أمر أن ينادي المنادي في شوارع عكا ليخرج أهل القتلى لدفن موتاهم، وأشار إلى أن كل امرأة ترفع صوتها تُقتل حالاً، فخرج الناس ودفنوا القتلى. ثم ابتدأ يرسل جنوده يقبضون على الفلاحين ومشايخ القرى وأصحاب المقاطعات فمنهم من يقتله ومنهم من يصم أُذنه ويجدع أنفه ويطلقهم.
ولم يذكر المؤرخون علة استرسال الجزار في قتل الناس على هذه الصورة من غير سبب ولعله أُصيب بمسٍ من الجنون أو أن جنونه أطبق هذه المرة فأزهق الأرواح، وإن امتاز في أدوار حياته بالفك والفتك. وذكر المؤرخون أن الجزار قبيل وفاته أمر أن يغرقوا من كان في سجنه في البحر فنفذ أمره. وفي التاريخ العام أن الجزار أوقد جذوة التعصب بين المسلمين في بيروت وأغراهم بقتل الموارنة حتى يضمن حكمه على بيروت. ولم يكن يُعرف فيما إذا كان الجزار خادماً مخلصاً للسلطان أو عاصياً وقحاً. وكان كثيراً ما تجيئه رسل جاويشية من الأستانة تحمل أبيه بعض الأوامر فيجز رأس القادم ويبعث به إلى ديوان الأستانة، وهناك يغدق الذهب على الوزراء والخصيان ونساء الحرم السلطاني. وكثيراً ما كان يقول وهو في حال السكر للمسيو دي توليس: السلطان كالبنات يعطي نفسه لمن يعطيه أكثر، فإذا حاول أن يقاومني فأنا أرده إلى الصواب بأن أهيج عليه مصر والشام وآسيا الصغرى، وأزحف على الأستانة في جيش القابسز وأكون قادراً مثل لويس الكبير إمبراطور فرنسا.
وقد وصف كشاقة الجزار وصفاً معقولاً قال فيه: إنه كان داهية ذا بأس وحنكة واسعة، سلمت إليه الدولة إدارة شؤون إيالتها وعولت عليه في
إخضاع الشام وضمه تحت جناحها، على طريقة الغدر والخداع وإلقاء الفتن والحروب الأهلية
بين الأمراء والمشايخ الذي كانوا يحكمون الرعية بالجور والعسف ويسومونهم الذل أنواعاً والظلم أشكالاً، وشريعة الرجل منهم إرادته السخيفة، والحاكم يشنق ويقتل ويشوه أخلاق الشعب، وكأن الحال قيضت لهم رجلاً كالجزار ينتقم منهم، وكان هؤلاء العتاة لاهين بالمنازعات العائلية والحروب الأهلية يكرهون العدل ويعشقون الظلم، لا يرحمون ضعيفاً ولا قريباً، ولم تكن معاملة الجزار للأمير يوسف أقسى من معاملة هذا الأمير لأنسبائه وإن ما لحقه من الجزار هو مما يستحقه. وقس على الأمير بقية المشايخ والأمراء الذين كانوا يستبيحون أموال الرعية وأعراضهم في سبيل أهوائهم. قال أن الجزار ظلم ولكنه خدم الدولة والشعب، وعادت خدماته على الدولة بالنفع فأخضع القطر لشوكتها فأطاع، ورد عنها بثباته أمام نابوليون خطراً كان يهددها يوم حصار عكا، وأفاد الرعية بأن أزال عنهم ضغط المشايخ والأمراء المستبدين فكان جوره بالنسبة لجور الأمراء والمشايخ قبله أقل وطأة. ولما جاءهم وضع حداً لظلمهم وزعزع سلطتهم وأرغم أنوفهم وأطلق الفلاح من عقالهم. وعلى الجملة فأنه عمل بما يوافق عصره وينطبق على أبنائه، فبموته سُرِّي عمن كان غضبه يهددهم ويوشك أن يوقع بهم. وقال أن الجزار على قبح أعماله حفظ المساواة بين الرعية مع تفرق مذاهبها، فيحبس علماء المسلمين وقسوس النصارى وحاخامي اليهود وعقال الدروز سوية، وهكذا في إجراء العذابات الجهنمية عليهم لا يفرق بينهم، وأكبر ما يحصى عليهم من الذنوب التوقف عن أداء الأموال التي يطلبها منهم وربما نشأ تلكؤهم من عجزهم.
وقال إن الجزار كان يتأخر عن دفع الأموال الواجب عليه أداؤها للسلطنة ويعتذر عن الدفع بأنه محتاج إلى العساكر لإدخال لبنان في الطاعة، فسئمت الدولة من تعللاته الطويلة وكتبوا له أن المدة طالت ويظهر أنك غير قادر على تمهيده، فلذلك
صممت الدولة على إرسال وزير مقتدر بعساكر كافية لإخضاع لبنان لسطوتها فكان جوابها أنني بعد أيام قليلة إن شاء الله أبشركم بفتحه لأنه ظهر عليهم الضعف عن المقاومة، وقد منعنا وصول الذخائر إليهم من البقاع والسواحل وهم لا يقدرون على العيش بدونها، لأن أراضي الجبل قليلة بالنسبة
لسكانه. وبعد مدة وجيزة بشر الدولة بشارة كاذبة مع الساعي فادعى أنه فتح الجبل وأنه وجد فيه من السكان النصارى مائة وعشرين ألف رجل ومن الدروز ستين ألفاً ومن الشيعة ثلاثين ألفاً ومثلهم من السنة، فأتحفته الدولة بسيف مجوهر ومدحته على همته، وأرسلت إليه بعد مدة أوراق جزية النصارى المعتادة وزادوا عليها مائة وعشرين ألف ورقة برسم نصارى لبنان، فسقط في يد الجزار واستدعى المعلم حاييم فارحي مدير خزانته واستطلعه طلع رأيه في هذه القضية فأجابه يجب الآن دفع هذه القيمة من خزانتك لما عرضته الدولة عن فتح الجبل وعن عدد النصارى فيه. ثم ننظر في هذه الزيادة فدفع ثمن هذه الأوراق. وبعد أشهر أرسل بشارة للدولة بأن نصارى الجبل دخلوا في الإسلام. ولما دخلت السنة الثانية أرسلت الدولة للجزار أوراق جزية لبنان كالسنة الماضية فأرجع الزيادة بقوله: إن نصارى لبنان تقدم العرض عن دخولهم في الإسلام وارتفعت عنهم الجزية شرعاً. قال: وهكذا كانت أمور الدولة في ذاك العهد تجري بلا تحقيق في صحة ما يعرضه عليها مأمورها.
ولما هلك الجزار أرسلت الدولة راغب أفندي الذي صار والياً على حلب بعد ذلك لضبط متروكاته، وكانت قوانين الدولة يومئذ تقضي بأن يؤخذ كل ما يخلفه مستخدموها من أملاك وأموال وعروض، فحررت التركة مع سندات الأموال التي كان يحررها على الأمراء والمشايخ عدا الأموال الأميرية، فحسبت هذه الديون الظالمة من حقوق الدولة، ولما رأوا أنها وافرة وأنه من المتعذر تحصيلها جعلوها
مقسطة على رعايا أُولئك الأمراء والمشايخ على عدة سنين، فكان لبنان يدفع المال مضاعفاً، فالمال الواحد يبلغ أربعمائة كيس وكان يجبى من لبنان مال الجوالي على النصارى ومال فريضة على الدروز، فكان القسط الواجب على اللبنانيين أداؤه من مطلوبات الجزار يبلغ مقدار ستة أموال أميرية وصار الأهالي يدفعون كل سنة مالين. ولم يعلم ما خلف الجزار من الأموال بعد حكم تسع وعشرين سنة ولكن الذي قاله المؤرخون أن أحد رجاله الشيخ طه الكردي أخذ ألف كيس وأرسلت الدولة رجلين من الأستانة للبحث عن موجوده، فما رأوه شيئاً مهماً غير ما كان أرسله إسماعيل باشا للدولة مع القبطان باشي في أول الأمر من مال