الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذللت، عاملت الحكومة العشيرة الظافرة نفس تلك المعاملة دواليك، حسبما تقتضي سياسة التفرقة والأحوال. ولا أدري إلى أي عصر تمتد سلسلة هذه الروايات المحزنة التي نرجو من الله أن يحسم أسبابها بأيدي المصلحين. والتبسط في شرحها لا يجدي أو لا ينتج إلا أن الشرقيين هم السبب الأعظم في بلاء أنفسهم وحجة الله فيه على المتسمين بسمات الدين، وتلك حزازة في نفوس المصلحين. والذي أراه أن قدم الحكومة التركية لم ترسخ في جبال العلويين حق الرسوخ وخاصة في مقاطعة الكلبية، وكانت الحكومة إذا أُحرجت جردت العساكر فنهبت وسلبت وحرقت وفتكت، فإذا رجعت العساكر، عادت العشائر إلى ما كانت عليه، يضبط الحاكم الحازم جماحهم، ومتى بُدل بحاكم ضعيف الإدارة أو مرتش، عم البلاء من الرؤساء الفسدة والأشقياء الجهلة. لما حكم إبراهيم باشا المصري قطع دابر أهل الفساد، وضرب الأمن أطنابه بحيث لم يكن يسمع في عرض البلاد وطولها نهب، ولا قطع سبيل، فرتع الأنام في بحبوحة الأمن مدة حكمه الذي كان مع صرامته نموذج العدل والإنصاف، فلما دالت دولته حصل من اختلال الأحوال ما لا يحصره المقال 1هـ.
فتن درزية وفتن أرمنية:
كان يظن بعد أن خمدت ثائرة الفتن في لبنان وما إليه من جبل اللكام أن الناس يرتاحون من الحملات والغارات إلا ما كان من غزو البادية بعضهم مع بعض فإن ذلك من المتعذر لأنه مرض قديم مستعص نشأ قبل الإسلام بقرون، ولم تقو جميع الحكومات التي تعاقبت على الشام أن تقضي عليه وتستأصله من أصوله، بيد أن القوة التي أحرزها جبل حوران بالدروز الذين هاجروا إليه جعل من الجبل موطن
غارات وغزو، وأصبح هذا الجبل إبرة سفينة الأمن في الشام، وكان يتلبس بهذه الصفة جبل لبنان في القرون الماضية فيتعب سائر الأرجاء الشامية، ويضطر الحكومة أن تتقي شره بإثارة أهل الجوار عليه، وإلقاء الخلاف بين أمرائه ومشايخه.
نشبت فتن في جبل حوران في أعوام مختلفة، وكثيراً ما كان بعض أشقياء
الدروز فيه يطيلون أيدي الاعتداء على سكان حوران والغوطة والمرج وجبل قلمون، فيتحد أشقياء المقرن القبلي منه مع عرب السردية ويغزون في البلقان وما إليها قبائل بني صخر والحويطات والسرحان وقرى حوران الجنوبية، وينضم أشقياء المقرن الشرقي إلى عرب الصفا يغزون تجار بغداد ودير الزور، ويتحد أشقياء المقرن الشمالي مع عرب الحسن ويهاجمون قرى جبل قلمون والنبك وحمص، ويتحد بعضهم مع عرب اللجاة فيسلبون قرى سفوح جبل جوران ويقتلون الموظفين ويمثلون بالعسكر إذا خلو بهم، ولا يدفعون الأموال الأميرية، وبذلك تأيدت شوكة الدروز وخافهم جيرانهم من أهل القرى والبادية، وتخوفت الدولة عاقبة أمرهم للرابطة القوية بين أفرادهم، وهم إذا جاءهم الغريب، والدماء تسيل بينهم كالسيول، لا يلبثون أن يكونوا عليه يداً واحدة ويصدقوا قتال عدوهم المشترك، بما فيهم من شمم وإباء عربي وعند الشدائد تذهب الأحقاد.
رأى الدروز في سنة 1304 وقد ارتاشوا وتأثلوا ونما عددهم أن يستولوا على قرى اللجاة للتحصن بها عند الإيجاب واستثمار ما يمكن استثماره منها فاحتشد نحو خمسمائة فارس منهم بقيادة شبلي وفندي الأطرش، ووصلوا إلى المسمية وهاجموا قلعتها فردوا عنها. وفي سنة 1308 انقسم دروز حوران إلى فرقتين المشايخ والعامة وزادت بينهم العداوة والبغضاء فأدى ذلك إلى حدوث وقائع متعددة ودخل بعض المشايخ إلى قلعة المزرعة فأرسلت عليهم ست كتائب مشاة
وألاي فرسان مع مدافع، وفي أثناء مغادرتهم ثكنة المزرعة تعرض لهم العامة فقابلهم العسكر بالضرب، فانهزم الدروز بعد أن تحملوا خسائر كلية ودخل الجند السويداء وأسرعوا ببناء ثكنة عسكرية. وتعرف هذه الوقعة بوقعة العامة ونال الدروز من الجند في سنة 1311 في طريق المزرعة وحاصروا قلعتها ثلاثة أيام. وفي سنة 1313 هجم الدروز على قرية الحراك وقتلوا أكثر أهلها وهدموا جامعها الحصين ونهبوها مع قرى المليحة الغربية والمليحة الشرقية وحريك ودير السلط وكحيل فأرسلت الدولة عليهم 1314 حملة بقيادة أدهم باشا ولما بلغ أول حدود الجبل تعرض له الدروز فقابلهم العسكر بالمثل، وبعد وقعة القراصة ونجران والسجن وأم العلق دخل العسكر السويداء.
ولو وضعت الإصلاحات الإدارية موضع العمل بجد ونشاط لاستقام الأمر كثيراً، ولقلت الفتن التي تقع بين الرعايا والعمال.
وكانت الحكومة سنة 1315 تتذرع بتطبيق أصول الأعشار بصورة الأمانة على حسابها، فقتل الدروز ضابطاً كبيراً مع ثلاثين جندياً في عرمان، ومدير ناحية صرخد ورفقاءه من الدرك، وأكثر حراس الأعشار في جميع قرى الجبل فأرسلت عليهم الحكومة مفرزة مؤلفة من أربعمائة جندي وفي رواية درزية أربع كتائب قتلوها بالفؤوس والسيوف إلا قليلاً في محل يدعى العيون قرب عَرّمان وغنموا مدفعين وجميع الأسلحة والذخيرة وحاصروا ثكنة السويداء 28 يوماً ريثما وصلت القوة العسكرية بقيادة المشير طاهر باشا مؤلفة من 54 كتيبة، وحدثت بينهم وبين كتيبتين كانتا في آخر القوة حرب دامت ست ساعات وانهزم الدروز في وقعة الشبهة. وخوفاً من وقوع قتل عام رجع العسكر عنهم. وفي هذه المرة قبضت الحكومة على ستمائة رجل منهم مائتان من رؤساء العصابات، ونفتهم من الشام ثم أرجعتهم مكرمين من الأستانة فابتاعوا بالدراهم التي نالوها من إحسان الدولة
سلاحاً في طريقهم ليقاتلوا به عمالها.
وفي سنة 1319 ساقت الدولة على الدروز قوة من الفرسان والمشاة إلى الصفا واللجاة للتنكيل بهم، واسترداد ما سلبوه من المواشي وغيرها. وفي سنة 1321 وقع خصام بين طائفتي الحلبية والمغوشين من الدروز أسفرت عن قتل أكثر من أربعين شخصاً، فأرسلت الحكومة ثلاث كتائب لإجراء التحقيق. وهكذا توالت وقائع الدروز وأكثرها في مقاومتهم للدولة كلما أرادت أن تدخلهم في الطاعة، وتجري عليهم الأحكام التي تجري على جيرانهم من أخذ رسوم الأغنام، وتسجيل الأملاك أو النفوس أو أخذ الأعشار. ولكم جرت وقائع لذلك في قنوات ومفعلة والشوفي والحجلة والكفر ونجران، وكم من وقائع بين المساعيد والعزام وبين بني الأطرش الدروز وبني المقداد السنيين. وبعد جهاد أربعين سنة أصبح الدروز في جبل حوران الأكثرية المطلقة بعد أن كانوا أقلية في أواخر القرن الماضي وزادت نفوسهم ستة أضعاف عما كانوا قبل خمسين سنة.