الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالمطالبة بتطبيق الأحكام الشرعية بحذافيرها، وإبعاد بعض النواب وإسقاط الوزارة وتعيين الضباط الأميين الخارجين من صفوف الجيش، لا من دكات المدارس، أي اختيار الجهلة على المتعلمين، وبعبارة أفصح إبطال القانون الأساسي لأنه مخالف بزعمهم للإسلام، ومن قواعده الحرية، والحرية ليست من شأن الدين!. وقتل في هذه السبيل أناس من النواب وغيرهم من الدستوريين وعامة الناس في شوارع العاصمة، لأن الجند الثائر كان يطلق النار في الفضاء إرهاباً وترويعاً فيصيب الأبرياء وغيرهم، واغتال الضباط الجهلة كثيراً من الضباط الدارسين.
فلما تجلى هول الموقف للاتحاديين أهاجوا النفوس في الروم ايلي، فقامت بعض ولايتها على ساق وقدم تطلب التطوع في الجندية للدفاع عن الدستور، وهب جند الفيلقين الثاني والثالث في أدرنة وسلانيك وزحفا على الأستانة بقيادة محمود شوكت باشا البغدادي فاستوليا على المواقع الحربية في العاصمة في أسبوع، وقبض على المنتقضين والعصاة من الجند المشاغب، وضربت أعناق بعض المشايخ والمتمشيخين للسياسة لا للدين، ونفوا ألفاً وخمسمائة رجل من رجال السلطان وحاشيته إلى الحجاز واليمن، وخلعوا عبد الحميد بفتوى من شيخ الإسلام أثبت عليه فيها قتل الأنفس البريئة وسجنها وتعذيبها ومخافة الشرع وحرق كتب
الإسلام والإسراف في مال الأمة، وبايعوا باتفاق مجلسي النواب والأعيان لولي عهده رشاد أفندي باسم السلطان محمد الخامس وحملوا السلطان عبد الحميد المخلوع منفياً إلى سلانيك.
عبد الحميد وسياسته وأخلاقه:
وبذلك تخلصت الأمة من عبد الحميد بعد أن حكم فيها ثلث قرن زاد أخلاقها فساداً. تولى لأول أمره زمام السلطنة وكيلاً عن أخيه مراد الرابع، وكتب على نفسه عهداً دفعه لمدحت باشا ثم أرسل على ما قيل من أحرق دار مدحت ليحرق العهد في جملة ما أحرق، واخذ يستميل قلوب أكثر أهالي الأستانة حتى اجتمع الصدران الأعظمان رشدي باشا ومدحت باشا ودعوا ألف
شخص من الكبراء وأرباب المقامات، وقرروا أن جنون السلطان مراد مطبق لا يرجى أن يفيق منه، وأفتى شيخ الإسلام بحل بيعته - وما أسرع مشايخ الإسلام في إصدار فتاواهم لصاحب الوقت أياً كان وما أبطأهم في فتاويهم في المسائل الجوهرية - وبويع لعبد الحميد فما عتّم أن أقصى عن دار ملكه من كانوا السبب الأول في خلع عبد العزيز من العظماء.
وأخذ عبد الحميد يكثر من التضييق على أخيه مراد وعلى سائر أفراد الأسرة السلطانية ولا سيما عهد السلطنة، ويشرد كل من عرف بالإنكار عليه من الوزراء والعظماء، فألقى بذلك الرهبة في نفوس قواد المملكة وساستها، وأصبحت الطبقة التي اختارها تسير على رغبته، وكل من خالفه، ولو في سره، أقصاه وسجنه وعذبه، وكلما مضت سنة على ملكه يزداد مراناً على هذه الأفعال، ويبالغ في الاحتياط لنفسه، وغدا يتولى كل أمر بذاته، ويبعد أرباب الوجدان من رجال الدولة ويستعيض عنهم بأناس ممن يصطنعهم، وما يصطنع إلا من فسدت أخلاقهم من كل جنس على الأغلب، حتى آلت أزمة الدولة في العهد الأخير إلى أيدي طبقة من
أعوانه طغوا وبغوا.
أخذ عبد الحميد يملك الأملاك باسمه على خلاف عادة الملوك والسلاطين، فكان كلما سمع بأن في إقليم كذا أراضي من أملاك الدولة يأخذها بلا ثمن إن كانت من الأملاك الأميرية، أو بثمن طفيف إن كانت للأفراد وعجزوا عن استغلالها، فيضمها إلى أملاكه السنية، وألف عدة شركات وفتح في العاصمة مخازن لبيع البضائع وبعض المعامل، وضارب بالأوراق المالية واتجر بالامتيازات. وهكذا أصبح عبد الحميد تاجراً مزارعاً مضارباً قلما يهتم بشيء من أمر الملك إلا إذا كان تقريراً من جواسيسه الذين كثروا في العاصمة والولايات كثرة ضاقت بالإنفاق عليهم خزانة الأمة، وكلهم أمناؤه إن اخطئوا فلهم الأجر، وإن أصابوا فحدث ما شئت أن تحدث عما ينهال عليهم من إنعامه وإحسانه. ولقد قلّ جداً في عماله من لم يتجسس له، لا سيما بعد أن شاهد الناس أن الترقي في الوظائف لا يتأتى في الأغلب إلا من طريق الجاسوسية المحببة إلى قلب السلطان، وغدا التجسس عند بعض الطبقات من الأمور التي لا تنكر.
اشتد ضغط عبد الحميد على المدارس حتى حظر أن يعلم فيها التاريخ
الصحيح وعلوم السياسة والاجتماع، لأنها ترقي العقول وتلقح الأذهان، وأصدر إرادته السرية إلى مديري المعارف في بعض الولايات ومنها الشام أن يوقفوا سير المعارف عبد الحد الذي وصلت إليه، لأن في انتشار المعارف انتشار المفاسد وتمزيق شمل الأمة!! ورأت المطبوعات منه ومن أعوانه الجهلاء من الدنايا ما يكفي لنعتهم أنهم أعداء كل فكر وارتقاء وتجديد، وأصبح ما يطبع تحت السماء العثمانية في الثلثين الأخيرين من حكمه عبارة عن كتب خرافات وذهد وتلفيق أو أماديح كاذبة له ولأرباب المظاهر، وأمور عادية لا ترقي عقلاً ولا تزيل جهلاً، وحاول أن يرفع من دعاء القنوت لفظ ونخلع ونترك من يفجرك لأن فيها لفظ خلع
وقلبه ينخلع من هذه اللفظة، ولأنه رأى مخلوعين قبله، وأن يسقط من صحيح البخاري أحاديث الخلافة وأن تصادر حاشية ابن عابدين لأن فيها باب الخلع. ورفعت من المعاجم كثير من الألفاظ كالعدل والمساواة والاغتيال والقانون الأساسي والجمهورية ومجلس النواب والخلع والديناميت والقنابل، وغيّر بعض الأسماء فلا يقال مراد بل مرآة ولا عبد الحميد بل حامد أو حميد أو حمدي لأن مراد اسم أخيه وعبد الحميد اسمه، وأصبحت الصحف في أيامه أبواقاً تقدسه وتؤلهه على صورة بلغ فيها السخف إلى غاياته.
وكثرت في أيامه مظاهر التكريم الخلابة من أوسمة ورتب، وأخذت تباع في آخر عهده بالمزاد بيع العقار والدار، ولها سماسرة ولها تجار، يغوي بها السلطان من يريد تشريفه، ويرفع بها من يهمه رفعه، وأصبح بعض العقلاء في دار الملك والولايات يتظاهرون بالبلاهة، أو ينقطعون عن الخدمة ويقنعون بالدون من العيش، لأن سلطانهم لا يرضيه منهم إلا أن يكونوا على قدمه في كل ما يذهب إليه. ولقد نصح له بعض سفراء الدول في أواخر عهده بالكفّ من شرور بعض العمال، لأن استرسالهم فيها مما يسقط شأن المملكة ويضر بمستقبلها، فقال لهم: وماذا أعمل مع من ذكرتم وهم يحبونني ويتفانون في خدمتي! أي أنهم في حلّ من عمل ما أرادوا من عسف الأمة ما داموا يظهرون له الحب، ويخدمون أغراضه على ما يحب.
كان عبد الحميد من الحسد بحيث يحسد خصيانه، وأشق ما يبلغه أن يعلم
أن في أحد أطراف مملكته عالماً ينفع الناس بعلمه، فيحتال عليه ليأتي به إلى الأستانة ليدفنه حياً ويجعله إلى الخمول بعد الشهرة، ويخرجه قسراً من عالم النباهة والظهور، فإن لم يستطع ذلك فلا أيسر من التقول عليه للحط من كرامته، ويلذه جداً أن يشهد الشقاق مستحكماً بين حاشيته، ويلقى بينهم العداوة والبغضاء ولذلك
كان بعضهم عيوناً على بعض، ينال الواحد من رفيقه في غيبته وحضرته، حتى يتقربوا من قلب سلطانهم الذي يحب الملق، ويهش للدهان والتزلف. عادة له منذ كان فتىً، فقد ذكر مربيه المستشرق فمبري المجري أنه كان وهو فتىً لم يبلغ الحلم يلقي الشقاق بين أفراد الأسرة المالكة في القصر، وينقل الكلام من أناس إلى آخرين من أهل بيته، ويتجسس عليهم ويكشف سترهم.
أما إسراف السلطان عبد الحميد فإنه كان أقلّ من إسراف عبد العزيز بقليل، ولكن طغمة الجواسيس كانت مع نفقات قصره في الربع الأخير من دوره تستنزف جزءاً مهما من واردات السلطنة التي عرف كيف يستغلها، وكيف يصرفها في شهواته على طريقة مستورة، لم يطلع عليها إلا الخواص من رجاله. فقد ذكر الثقات أن آل عثمان لما أجلتهم جمهورية تركيا من بلادهم في صيف 1342 بأجمعهم كان مع بعض سراري السلطان عبد الحميد عقود من الماس والجوهر عرضوها في مصر للبيع فعجز الأغنياء عن أداء قيمها ثم جعلتها بعض المصارف عندها رهناً عل مال أسلفته، فكم كان يا ترى من أمثال هذه الحلي المدهشة عند نساء آل عثمان، والأمة تهلك وعمالها لا يقبضون رواتبهم. وكلما عقدت قرضاً فكرت في آخر بحيث كانت الدولة تعيش بالقروض في آخر أيامها. وأصبح عبد الحميد في عهده الأخير يملك ألوفاً من المزارع والقرى، ويحمل جانباً من أمواله يضعها في المصارف الأجنبية، يعدها لطارئ يطرأ عليه، فلما سقط لم تنفعه، واستولى عليها الاتحاديون كما استولوا على خزائن قصره يلديز ومجوهراته وأعلاقه وجواريه، ونقضوا كل ما أبرمه، وفصموا عرى ما أحكمه.