الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عمل الجيش العربي:
في سنة حزيران سنة 1916 أي في السنة الثالثة للحرب العامة لما قام الشريف حسين بن علي أمير مكة المكرمة بثورته على الترك وقتل وأسر حامية مكة من الأتراك ونودي به ملكاً على الحجاز، ثار أبنه الأمير علي في عرب المدينة المنورة الموالين لأبيه على الحامية التركية غداة ثورة مكة فلم يستطيعوا أخذها لأن فخري باشا قائد حاميتها التركي كان حصنها تحصيناً عظيماً فما استطاع العرب أن ينحوا على تلك الحصون مخافة أن يصاب قبر الرسول ومسجده بأذى وقبعت الحامية التركية بما ادخرته من الطعام في داخل حصونها وأجلت الحكومة أكثر أهل المدينة إلى الشام وآسيا الصغرى وعددهم لا يقل عن أربعين ألفاً ولم تترك سوى بضعة آلاف ممن آثروا أن يموتوا في جوار قبر النبي على الجلاء غير مطالبين الجيش المحاصر بخبز ولا إدام. وأخذ عرب الأمير علي يناوشون الحاميات التركية على السكة الحجازية مدة ويخربون بعض خطوطه ويعود العسكر العثماني فيصلح ما خربوه ويستخدمه في الضروريات لتموين الجيش المرابط في المدينة، وأخذ منذ ذاك الحين الأمير فيصل ثالث أنجال الملك حسين
في سرايا من عرب الحجاز بشاطئ ساحل البحر الأحمر متقدماً إلى سمت الشمال وينضم إليه أسرى الجيش التركي من العرب ممن أسروا في ترعة السويس وشبه جزيرة سينا وساحة العراق. ففتح ينبع البحر والوجه وهنا تألف الجيش الشمالي الذي قاده الأمير فيصل، أما شقيقه الأمير عبد الله النجل الثاني فكان في الطائف يحاصرها حتى سقطت، أي أن الأمير علياً كان يشاغل الحامية التركية في المدينة ويفتح رابغ ويجعلها ميناءه، وشقيقه الأمير فيصلاً يحاول الابتعاد عنها للانضمام إلى الجيش البريطاني في شبه جزيرة سينا.
وفي تموز1917 أي بعد أحد عشر شهراً من ثورة صاحب الحجاز على الترك فتحت العقبة بمعاونة الشيخ عودة أبي تايه من مشايخ الحويطات ومن شجعان العرب، وقد أبلى بلاء ليس بعده بلاء في هذه الوقعة وفي أكثر الوقائع
التي اشتبك فيها الجيش العربي مع الجيش التركي، وكان له الفضل بإسقاط الطفيلة وأبي الأسل والكويرة وغيرها من المواقع التي احتلها العرب في أوائل الشام من الجنوب. وقد أسر في فتح العقبة تابوراً تركيا برمته تام الأهبة لم يفلت منه ولا أركان حربه ورجال شوراه الحربي استسلموا كلهم لأبي تايه فعاملهم أرقى معاملة مدنية. وكان لمدافع الأسطول البريطاني من البحر أولاً يد طولى في إخلاء الترك للعقبة وبسقوطها حمى العرب مؤخرة البريطانيين في سينا. وكان الأتراك يأتون من معان إلى بادية سينا يضربون البريطانيين، وباستيلاء العرب على العقبة استطاع الإنكليز أن يستولوا على غزة ثم رفح وبئر السبع، أما الأتراك والألمان فقد دافعوا عن العقبة دفاعاً عظيماً ولكن البريطانيين كانت لهم السلطة على الساحل والعرب يحاربون بأجسادهم وأرواحهم مع صاحب الحجاز وأولاده.
استولى العرب على الطفيلة ووادي موسى وحاولوا الاستيلاء على معان الاقعة على الخط الحديدي فردوا عنها مرتين بخسائر، خصوصاً يوم 22 تموز عندما
هاجموا محطة أم الجرذان الجردونة فكانت خسائرهم عشرين ضابطاً ومائتي جندي واستولوا على أم الجرذان ثم تخلوا عنها. وأرسل الأتراك من الكرك أربع كتائب وسرية من البغالة بغية احتلال الطفيلة وبينا كانت سائرة في وادي موسى بلغ العرب خبرها، فتحصن محافظ الطفيلة الأمير زيد رابع أنجال ملك الحجاز في مائتي جندي نظامي وقوة قليلة من البدو في رؤوس الجبال وأخرج أهل الطفيلة وسلحهم وفرقهم على الجبال التي في أطراف الوادي، وجعل العسكر التركي في شبه حصار وأطلق عليهم النار، فارتبك الجيش الزاحف وجفلت البغال وقتل حامد فخري بك القائد التركي المعروف عند الأتراك بفاتح بكرش فسقط في يد الجيش وانهزم أكثره وسلم الباقي، وأخذ العرب ما يربي على ستمائة أسير تركي وغنموا أربعة مدافع سريعة الطلق ولم يكن معهم سوى مدفعين قديمين. أما الكرك على حصانتها فإن الأتراك أخلوها من أنفسهم.
وانضمت إلى الجيش العربي في الوقائع الأخيرة سرية مدفعية فرنسية كما كانت الطيارات الإنكليزية لا تغفل يوماً عن كشف مواقع العدو وتهيئة سبل التقدم لهم، وكانت وقائع البدو مع الترك على الأكثر أشبه بمناوشات عصابات
لا بحروب منظمة. والأمير فيصل ينظر إليه نظر قائد عربي يتلقى الأوامر من المستر اللنبي ولقبه قائد الجيوش الشمالية.
جاء في نشرة وزارة الحربية البريطانية في آب 1917 أن خطة العرب في بداءة نهضتهم خطة حسنة تحوي في مطاويها حذقاً وحزماً ودهاء، فقد خربوا قسماً من السكة الحديدية واستولوا على مراكز الأتراك على جانبي الطريق وكانوا على جانب من البسالة يتغلبون غالباً على جيش أكثر منهم عدداً وعُدداً. وقال ليمان سندرس الألماني: إن العرب من أول شهر أيار إلى التاسع عشر منه خربوا خمسة وعشرين جسراً.
خرب العرب محطة القطرانة وأسروا عدداً من الترك وبعد أسبوع هجموا على الحسا فأخذوا قظاراً كان هناك ودمروا قسماً من العدة والذخيرة ولكن الأتراك أخرجوهم بعدئذ من الحسا فتقهقروا جنوباً وهم يخربون في الجسور والخط. وفي تشرين الثاني 1917 واقعت القوى البريطانية حامية الترك في عَمانّ فسقطت الصلت في أيدي البريطانيين والعرب وعاد الأتراك فهاجموها في آذار 1918 وردوا البريطانيين إلى غربي الأردن. وكانت حال الصلت ومعان وعمان وغيرها تعسة جداً لأن الاستيلاء عليها كان متبادلاً بين الفريقين المتحاربين وأهلها بين نارين خصوصاً نار العثمانيين الذين كانوا يعاقبون الأهلين لدى دعوتهم إلى بلد انهزموا منه بحكم الطبيعة أو القواعد الحربية بما يخرج عن حد المألوف تشفياً وانتقاماً.
لما صدر الأمر بالهجوم العام لضرب الجيش التركي الألماني الضربة القاضية فاوض البريطانيون الأمير فيصلاً أن يجهز حملة تسير من أبي الأسل إلى جسر تل شهاب في حوران لتقطع خط الرجعة على الجيوش التركية فتألفت الحملة من الجيش النظامي يرافقها شرذمة من البدو. ويظهر أن القيادة التركية شعرت بذلك لأن من البدو من كانوا يتجسسون للعرب وعليهم وللترك وعليهم، ومن عادة البدوي أن ينحاز إلى صفوف الغالب وينتقض على المغلوب ولو كان في صفوفه لأن هدفه الوحيد السلب والنهب فأوعز القائد التركي إلى الحامية أن تدافع عن معان بالهجوم على الجيش العربي في الوهيدة لإشغال الحملة عن المسير إلى تل شهاب وسار الألمان مع الأتراك من الشمال على الشوبك والطفيلة
ليلتقوا مع الجيش التركي الذي خرج من الشرق على معان فباغتت الحامية ليلاً على تل سمنة المطلة على معان واستولوا على حصونها، وبضبطها أصبح الجيش العربي في خطر، فبلغ الأمير فيصلاً ذلك بالهاتف من الوهيدة بين معان وأبي الأسل
وتبعد عن كل منهما زهاء ساعتين أو أكثر، وكانت مقر الجيش العربي ومقر الأمير وراءها في أبي الأسل، فاهتم للأمر لتناقص عدد الجيش العربي الذي انضمت أكثريته إلى الحملة المنوه بها، وكانت بارحت قبل هذا الهجوم بيوم المقرّ من جهة الطريق الشرقي البعيد عن الخط الحجازي مسافة يوم تقريباً وهو من جهة الجفر وباير ماءان لأهل البادية فندب الأمير أخاه الأمير زيداً واستعاد حصون تل سمنة، وكان الأتراك ينوون أن يتقدموا منها للاستيلاء على الوهيدة مقر المعسكر العربي، ولو لم يتقدم أحد أبناء العرب ممن كان مع الجيش التركي ويفاوض بالهاتف مركز الجيش العربي وينذره سوء العقبى ويسارع الأمير فيصل بإرسال عبيده وعددهم مائة وخمسون ويسيروا كالبرق الخاطف يقفون أمام الجيش التركي ويشاغلونه ريثما تقدمت فرسان الجيش العربي وتبعها المشاة لولا هذا لما رُد الأتراك عن معان ولهلك الجيش العربي بأسره.
ومن ذلك الحين انقلبت حامية معان من طور الدفاع إلى طور الهجوم، وعهد الأمير فيصل بالقيادة العامة في مقر أبي الأسل إلى أخيه الأمير زيد والتحق بالحملة يرافقه قليل من الجند النظامي وحرسه من العبيد وبعض المتطوعة من بدو ومن حضر قاصداً الأزرق ليتخذه مقر القيادة للحملة، وضرب موعداً للنوري بن شعلان أن يلاقيه بالأزرق مع شرذمة من قبيلته كما أوعز إلى عوده أبي تايه أن ينزح مع شرذمة من قبيلته من الجفر إلى الأزرق، ولكن جنده كان قليل العدد والبدو الذين أرادهم على أن يوافوه تخلفوا عنه فأصبح موقفه في خطر، وكان في وسع مائة جندي عثماني لو هموا به أن يأسروه ومن معه، ولكن قذف الرعب في قلوب المحاربين من الترك فظنوا أو هناك جيوشاً جرارة لا قبل لهم بها، وزاد حراجة الموقف تشويشاً أن بعض مشايخ قرى جبل الدروز بعثوا إلى الأمير يحتجون على احتلاله الأزرق بدعوى أن احتلاله يوغر عليهم صدر الحكومة
التركية لأن الأزرق وإن كان مقدمة بادية الشام وغير مملوك لأحد لكنه
يعتبر في نظر الدروز ونظر القبائل الرحل ملحقاً بالدروز، ولم يؤثر هذا الاحتجاج في نفس الأمير فيصل لعلمه أن لا قيمة له بالنسبة إلى زعماء الجبل الموالين له وفي طليعتهم سلطان باشا الأطرش الذي أخلص كل الإخلاص للثورة العربية وعاونها بماله وجاهه، ولعلمه أنهم متجرون بهذا الاحتجاج غير أنه أورث اضطراب الأفكار خشية تجسسهم للأتراك، وبعد خمسة أيام أرسل أحد شيوخ قبيلة بني صخر وهو الوحيد في موالاة الجيش العربي دون بقية شيوخ القبيلة الذين كانوا موالين للحكومة التركية ويقطعون السابلة على كل قافلة تلتحق بالأمير فيصل في أبي الأسل، وجهزه بفئة من المتطوعة لتخريب جسر عمان لقطع المواصلة بين القيادة التركية ومعان. وجاء على الأثر الكولونل لورانس الإنكليزي، ملقن الثورة العربية والمشرف عليها الذي دُعي ملك العرب غير المتوج وأخبره بسقوط نابلس وما وراءها إلى الشمال، وأنه وقع في أسر الجيش البريطاني من الجيش التركي زهاء ستين ألفاً وكان الفضل الأكبر في ذلك لتخريب جسر تل شهاب. وصباح اليوم السادس ورد على الأمير فيصل نجاب يخبره بسقوط معان وأسر حاميتها وسوق رجالها إلى العقبة، وبعد ساعتين جاءه نجلب آخر من عمان يحمل إليه أوراق الحكومة التركية فيها مبرهناً على سقوطها وانجلاء الترك عنها قبل تخريب الجسر. فرأى الأمير فيصل عندئذ نقل المقر إلى بُصْرى عاصمة حوران، مخافة أن يضم الأتراك شملهم في درعا دفاعاً عن دمشق ولم يكد يستقر بها حتى بلغه سقوط درعا بيد الجيش العربي الإنكليزي ومتطوعة الحورانيين، فسار إليها ونظم حكومتها وأخذ منه القلق لأنه كان جرى اتفاق بينه وبين الحلفاء أي بينه وبين البريطانيين أن كل فريق من العرب أو البريطانيين يسبق جيشه إلى فتح مقاطعة أو بلد يكون حق احتلالها وإدارة شؤونها لذلك الفريق إلى أن يبُت في المصير،
وحافظ الجيش الإنكليزي على هذا الوفاق فكان إذا سبق ففتح بلداً أو أسقط حصناً في العمالة التي يريد إعطاءها للعرب يتوقف ريثما يدخل العرب فينسب الفتح إليهم ولا سيما في الشام الداخلية. ولذلك خف السيد نسيب البكري من الأزرق بأمر الأمير فيصل إلى جبل الدروز ولقي صديقه سلطان باشا الأطرش وجيش هذا من الجبل نحو مائتي فارس وذهبوا إلى بصرى وهناك التحق بهم بعض الحورانيين