الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جاء يوم الجمعة في 28 شباط 1919 وهو يوم الشوق التجارية هناك، فكان مسلم يبيع حماراً وقد ساومه عليه أرمني فاختلفا وتصايحا وتشاتما ثم تلاكما فكانت هذه الشرارة التي شعلت النار في الهشيم. وفي سوق الجمعة وما حولها من الأماكن التي يكثر الأرمن فيها حصل التعدي عليهم وفي أقل من ساعة بلغ عدد القتلى 52 والجرحى مئة، قتلوا كلهم وجرحوا بالمدى والخناجر وسواطير اللحم لا بالرصاص. وقد اجتهد الأرمن يومئذ اجتهاداً عظيماً كي يشركوا الحكومة العربية في الجناية عليهم بسبب وجود بعض الجنود والشرطة الأهلية في أماكن التعدي لأنهم لم يصادفوا منهم عوناً. أما عدد قتلى المسلمين الحلبيين فلم يرد ذكره أمامي لكنه بحسب ما سمعت لا يتجاوز العشرة.
وقد أُقيمت 92 دعوى على المتهمين بهذه الحوادث، وآخر ما بلغني أن قد حكم على نحو ثلاثين بالقتل فقتلوا في أوقات مختلفة وصدر الحكم على كثيرين بالسجن. أما الثلاثون عيناً من أعيان حلب فقد قبض عليهم الإنكليز يومئذ بتهمة تحريض الأهالي على ذبح الأرمن، لكن هذه التهمة لم تثبت أمام التمحيص الذي أجرته لجنة من المحققين كنت عضواً فيها. ولهذا لم تقع عليهم محاكمة بتاتاً، لكنهم جُعلوا قيد التوقيف مدة ريثما سكنت الحال، وأذكر أن القائد الإنكليزي لما
أراد أن يسرحهم ألقى عليهم كلاماً ملخصه: إنكم زعماء والزعيم لا يُعذَر على جهله ما يدور بين جماعته. إننا لم نجد عليكم ما يوجب عقاباً قانونياً. لكننا لا نبرئكم من التبعة في وجود أسلحة مع بعض أُناس منتمين إلى زعامتكم، فعليكم كلما علمتم بعد الآن أن تعلمونا بمن يحمل من الأهالي سلاحاً على شخصه أو في بيته، وإلا فنحن نتوخى لكم التحقير حتى لا يبقى في أذهان الناس أثر لاعتقاد الزعامة فيكم وهلم جرًّا.
أعمال الحكومة العربية وحكومة الصهيونيين:
لما جلت الجيوش البريطانية عن المدن الأربع دمشق وحلب وحماة وحمص أخذت الحكومة العربية بإمارة الأمير فيصل بن الحسين تعدّ لها جيشاً من الأهلين، وكانت بريطانيا تؤدي كل شهر لحكومة المدن الأربع مائة وخمسين ألف جنيه
مصري، لتستعين بها على تنظيم شؤونها، وكان يصرف من هذا المبلغ جزء مهم على بث الدعوة وتنظيم العصابات، فأخذت بريطانيا تفكر في قطعها، ولكن الحكومة الوطنية زادت في معدل الجباية والرسوم حتى تسد العجز يوم انقطاع الإعانة الكبرى، ودخل في السياسة الوطنية شبان متحمسون، وأكثرهم من غير أبناء هذه المنطقة الشرقية منطقة المدن الأربع، وأصبحت لهم منزلة عند الأمير يبرمون وينقضون، فأبعدوا عنه كثيراً من رجال الحل والعقد، وأصبح الأمير يعمل هو والشبان، والمستند في ذلك على طائفة من أرباب الفتوة والعوام، وكثرت الأحزاب السياسية في دمشق حتى زادت على ثمانية، وكلها بالطبع تريد استقلال الشام، ومنها ما يدعو إلى استقلال جميع العرب، وكثرت المنازع واشتد التنازع بين أبناء الوطن، وكلهم يريد له الخير ولا يهتدي إلى طريق الصواب. لأن عمال بريطانيا وفرنسا أخذوا يعملون في الشام، وكل منهم يريد الاحتفاظ بحقوق دولته وثبات الأرجحية لها وتوطيد أقدامها.
وقد تأفف الناس من السياسة التي جرى عليها الأمير فيصل في الاعتماد على الغرباء عن منطقة المدن الأربع ونزع ثقته من الأعيان والمفكرين من دون سبب، فأخذوا ينصحون له سراً بالعدول عن هذه الخطة، وأوفد أعيان الدمشقيين ومفكروهم وفداً يبين له ما يجب السير عليه حرصاً على المصلحة فلم يلتفت إلى كلامهم. وقال في بعض مجالسه: إن أولئك الغرباء الذين يعتمد عليهم قد خدموه أكثر من الدمشقيين وأن هؤلاء لا مأرب لهم إلا المال. على لأن الأيام أثبتت عكس ما قال ولكن السياسة تسود الأبيض وتبيض الأسود. وكانت المنطقة الساحلية أي التي دعيت باسم المنطقة الغربية، قد أقامت لها حاكماً فرنسياً على لبنان لأول عقد الهدنة، وأخذت فرنسا تحتل السواحل وما إليها إلى قلقية، ولم تمض على ذلك مدة حتى بدأت العصابات التركية تسيء إلى الجيش الفرنسي في قلقية وشمالي الشام فقتل من الفريقين مئات. وكانت فلسطين منذ رحل الترك عنها في قبضة الجيش البريطاني فلما مضت السنة الأولى للهدنة أصبحت بريطانيا تفي للإسرائيليين الصهيونيين بما وعدهم به وزيرها بلفور مدة الحرب، إذا عاونوا بريطانيا بأموالهم بأن تجعل لهم من فلسطين وطناً قومياً. فجعلت اللغة العبرية لغة رسمية في فلسطين بمثابة العربية والإنكليزية
وأخذت الوظائف تنتقل من أيدي المسلمين والمسيحيين إلى أيدي الإسرائيليين، وخص الإسرائيليون بالرعاية على ما لم يكن لهم به عهد، فشق ذلك على أهل الوطن، واجتمع المسلمون والنصارى وألفوا جمعية تطالب بريطانيا بالعدول عن هذا الوعد البلفوري، وكثرت الوفود منهم إلى أوربا وإلى مصر مركز القيادة العامة للجيوش البريطانية، فشعرت بريطانيا بصعوبات حقيقية في إدارة فلسطين آب 1921 وحدثت فتنة في يافا والقدس وغيرها من المدن الفلسطينية وتوقفت الأعمال، والقوم لا عمل لهم إلا إرادة بريطانيا على الرجوع عن وعدها لليهود، وقد ملأ أبناء فلسطين من غير اليهود
وهم ثمانية أضعافهم العلم صياحاً وعويلاً ولم ينفس لهم كرب، ولم يدركوا لهم غاية. وهكذا كان من شبح الصهيونيين ما أخاف المسلمين والنصارى فاتحدوا اتحاداً صادقاً وجامعتهم في اتحادهم، وحدة المصلحة على طراز كان فيه شيء من الغرابة.
ولما تركت الحكومة العربية في دمشق وشأنها على أثر انسحاب الجيوش البريطانية إلى الخط الذي عينته معاهدة سايكس بيكو في فلسطين، رأى الأمير فيصل أن يذهب 1 أيلول إلى لندرا وباريز ليفهم ساستهما حقيقة أماني الأمة السورية ويعرف موقفه من معاهدة بريطانيا وفرنسا المنعقدة في 1 أيلول 1919 وخلاصتها تسليم قلقية والمنطقة الغربية من أرض العدو المحتلة أي ساحل سورية إلى الإدارة الفرنسية، فسحبت بموجبها الجيوش البريطانية إلى ما وراء الخط المفروض الذي عين الحدود بين المنطقتين المنوه عنه بمعاهدة سايكس بيكو، أما المنطقة الشرقية وأرض العدو المحتلة أي المنطقة العربية فتبقى الحكومة بدمشق قابضة على زمامها، وتقدم لها الدولة الفرنسية المساعدة الضرورية التي نصت عليها معاهدة سايكس بيكو.
ما استطاع رجال بريطانيا أن ينيلوا الأمير فيصلاً رغائبه، وأحالوه على فرنسا لأن الانتداب في الشام اصبح لها دون سواها، وفي فلسطين تم الانتداب لإنكلترا وكذلك العراق. فبذل الأمير جهده حتى يفهم رجال السياسة في بريطانيا وفرنسا ما هي المسألة السورية، وبعد الجهد العظيم لم ير إلا الاتفاق مع رئيس الوزارة الفرنسية المسيو كليمانسو وتعهد له أن يكون مع فرنسا ويرضى بانتدابها على الشام، واعترفت فرنسا لأهل الشام على اختلاف مذاهبهم بالاستقلال