الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أماني الأتراك وخيبتهم وتخريبهم:
كانت حالة الشام تسوء كلما طال أمد الحرب العامة، وقد أتى الجند وبعض ضباطهم وعمال الحكومة من ظلم الناس باسم الجيش والتكاليف الحربية ما ضاقت به الصدور، وغلت مراجل الأحقاد، وكلما دامت الحرب شهراً زاد القوم من الدولة اشمئزازاً وقهراً، ومن يجسر والأحكام العرفية سائدة، وسلطان الفزع الأكبر فاغر فاه، أن يقول كلمة خير، أو يرفع مظلمة أو ينقد معوجاً، فإن التعذيب كان مصير من يجرؤ على ذلك، والسجن والقتل كان يتهدده كما وقع لمئات في دار
الملك ومنهم أصدقاء أنور باشا وشركاؤه في أعماله، قتل بعضهم لأنهم قالوا بطلب الصلح من الحلفاء، وأن الدولة تحاول بحربها الانتحار. قال سفير أميركا: رأيت أنور في حد الأيام وقد اشتدت وطأة الضباط على الفلاحين والتجار فقلت له: إن تلك الأعمال نهب التجار والفلاحين باسم الجيش تفضي بالمملكة إلى الخراب العاجل والدمار الأكيد، ولكنه لم يعبأ بأقوالي ولم يخفق فؤاده ألماً لتلك الأعمال، بل كان يفتخر بأنه أنشأ جيشاً كبيراً مجهزاً من لا شيء. بلغ عدد الجنود التي جمعها أنور نحو مليون ونصف مليون، وبقي نحو مليون أسرة في أنحاء المملكة وليس لهم من يساعدهم على القيام بأعباء الحياة، وقد فتك بهم الجوع فتكاً ذريعاً. أما الحكومة التركية فكانت تدفع لكل جندي في جيشها نحو ربع ريال في الشهر اه. قلنا: إن الدولة جمعت في الشام سبعاً وعشرين قرعة أي من ابن الثامنة عشرة إلى ابن الخامسة والأربعين وكان معدل ما يجمع من كل صنف ثمانية فرّ منهم بحسب الإحصاءات الرسمية إلى آخر الحرب نحو مائة وخمسين ألف جندي وظلّ في الخدمة بين أسير ومريض ومستخدم في خدمة خفيفة ببلده نحو خمسين ألفاً وقتل نحو أربعين ألفاً. ولو أردنا تفصيل ما وقع من الجيش ولأجل الجيش، وأهمه استباحة الأعراض المصونة، والعبث بالمقدسات والمشخصات، لاقتضى لذلك مجلد برأسه، فقد فسدت الخلاق بحيث لا يتأتى أن تصلح إلا بفناء معظم من تلوثوا بتلك اللوثات، وكانت تنضب المواد الحيوية يوماً بعد يوم، وقل الفحم الحجري جداً فأخذ الأتراك يسيرون القطارات بالحطب، يقطعون
الزيتون والكينا من فلسطين، والجوز والمشمش والحور من الغوطة، والسنديان والزان من الصنوبر من لبنان، والزيتون والفستق من حلب، والغضا من الحجاز، واشتد الجوع وعزّ الخبز، وأصبح الغني يغتبط بأنه ينال قوت يومه على أيسر وجه، وذل اعظم عظيم في هذه الديار أمام جمال باشا وأشياعه من الاتحاديين، وصانعه
اكبر البقية الباقية من الأحرار مخافة أن ينالهم من ظلمه ما نال غيرهم، وكان الموت معلقاً بين شفتيه ومن لا يصانعه يذله، وربما قتله أو نفاه من هذه الأرض. وكان يعمل ما يريد ثم يكتب إلى الأستانة بما حصل. ومن أغرب الأحكام أن يجعل القتل في أيدي العرفاء والنقباء من صغار الضباط، فكان لأحدهم إذا قبض على عشرة فارين أن يهلك واحداً منهم بالقرعة! وهكذا تجددت الأحكام القره قوشية، ورخصت الأرواح وبيعت بيع السماح.
قال جمال باشا في مذكراته: ويقيننا أن الفضل في عدم حدوث ثورة في سورية خلال العامين والنصف العام اللذين أعقبا إعلان الشريف حسين استقلال بلاده، إنما يرجع إلى أحكام القتل التي وقعت في نيسان 1916 وبقطع النظر عن ذلك فإن أنور باشا وهو وزير الحربية، وطلعت باشا وهو وزير الداخلية، قد وافقا على تنفيذ أحكام القتل بدون استئذان من المراجع العليا، ثم أرسلتُ إلى الأستانة تقريراً بما أجريته وهناك راجعته محكمة الاستئناف التابعة لوزارة الحربية ثم أرسلته بناء على قرار مجلس الوزراء إلى القصر للتصديق السلطاني، وهكذا أيدت الإرادة السنية الأحكام التي قضى بها الجيش ونفذها وبذا ختمت هذه الرواية اه.
وكلما كانت الأمة ترجو انفراج الأزمة كان أحمد جمال باشا وهو قوي الثقة بنفسه وجيشه يرجو أن تنجلي الحرب عن نصرة دولته، ويؤسس في الشام معاهد لتتريك العرب وتقوية الدعوة التركية الاتحادية في نفوس الأمة ويفتح شوارع في يافا والقدس وبيروت ودمشق ويضع المصورات والخطط والتصميمات لهندسة أمهات مدن الشام على الطريقة الحديثة، وقد نفذت أحكامه على البادية والحاضرة، حتى إن بعض أمراء العرب كانوا عيوناً له يقبضون إحساناته الكثيرة، ولا يتلكئون عن قبول المعاونات التي يقدمها لهم الإنكليز. ولم يسلم من يد جمال باشا إلا دروز جبل حوران فإنهم خدعوه بوعودهم، ولم يتجندوا