الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ندري إذا كان رأيهم راق لدى ولاة الأمر في الأستانة. وأي أمر جائر أكثر من هذا كأن النزّاع إلى الاستقلال من اليونان كانوا يصدرون عن آراء مسيحيي الشام أو آسيا الصغرى، أو أن هؤلاء يحثونهم على نزع أيديهم من أيدي الدولة، ولو استطاع المسلمون أنفسهم في ذلك الوقت أن يستقلوا عن الدولة لينجوا من خلل إدارتها لما تأخروا عن ذلك ساعة.
وفي سنة 1246 1829 طلب والي عكا من الأمير بشير الشهابي أن يفتح قلعة صانور وكان أهل نابلس عصوا عليه وتحصنوا في قلعة صفد وأعجزوه فلم يقدر عليهم لأن معظم الأهالي انضموا إلى الثائرين، وكانت صانور منذ القرن الماضي تشغل بال رجال الدولة في عكا وصيدا والقدس، فنشبت بينه وبينهم عدة وقائع وبعد حصار ثلاثة أشهر وتخريب عدة قرى، أمر الوزير بهدم القلعة ودكها إلى الأساس ودك مغائرها وهدم آبارها، وسبب هذه الثورة الضريبة التي فرضها والي دمشق على الثائرين، ولما عجز عن جمعها أحيلت إلى عبد الله باشا فتعهد للدولة بدفع ألف كيس وأمر بجمعها من أهل نابلس، وكان من زعماء النابلسيين إذ ذاك أسعد بك طوقان والشيخ القاسم الأحمد، وفشل النابلسيون ولم يبق في القلعة عند تسليمها سوى 367 وكان فيها أكثر من ألف ومائتي نسمة قتل بعضهم وضرب الآخرون وذكر مشاقة أن سبب عصيان نابلس سلخ عبد الله باشا لها بأمر الدولة عن إيالة دمشق، لأن والي دمشق ادعى أن المطلوب منها ستمائة كيس لا تتحصل إلا بسوق حملة تستغرق المبلغ المتحصل منهم، فتعهد عبد الله باشا بأن تضم إليه ويدفع ألفي كيس عنها، وأن عسكر أمير الجبل الذي جاء نجدة لعبد الله باشا كان نحو خمسة آلاف رجل، وأن النابلسيين نزلوا على حكم الأمير بشير الشهابي فعفا
عنهم جميعاً وهدم القلعة وحصل الأموال الأميرية بعد مناوشات طفيفة.
مقتل سليم باشا والي دمشق:
انقضى النصف الأول من هذا القرن أو كاد والقطر نَهْب أيدي الطامعين من الولاة والمتسلمين، يسيئون في الرعية الاستعمال، ويعبثون بما خولتهم
دار الملك من السلطة فيمثلون أعظم مظهر من مظاهر الحكم الاستبدادي الفردي الجاهل. ولم يكن يخطر في بال الدولة أن رعاياها يقوون على الانتقام من أعظم عمالها، وهم الموصوفون في معظم أدوارهم بالطاعة للملوك والزعماء والرضى بما يقتضي به الأقدار، ولو صحت عزيمة المظلومين مرة أو مرات أن يهلكوا من يحاول إهلاكهم وخراب أرضهم وديارهم، لما ساءت الحال، وبلغت الشام ما بلغته من الاختلال، نريد أن نقول أن الرعايا طالت أيديهم فقتلوا والياً عظيماً من ولاة السلطنة. ونعني به سليم باشا الصدر السابق مبيد جيش الإنكشارية.
نصبت الدولة هذا الشيخ والياً على حلب ثم على دمشق سنة 1247، وكان ظاهره شجاعاً مهيباً وباطنه جباناً وقد همّ أن يغتال بعض أعيان المدينة فبدأ بمدينة حماة، وقتل بعضهم فأيقن القوم أن هذا القاتل لا يصعب عليه أن يهلك أناساً في دمشق ليصفوا للدولة الحال بزعمه، فلما جاء عاصمة الشام أراد أن يضع على كل سكرة أي عقار في دمشق مصريتين كما هو الحال في الأستانة فثارت العامة بإشارة الأعيان وكانوا عند المصائب الشديدة تتحد على الأغلب كلمتهم، اتقاء شر عظيم يقعون فيه، وكثيراً ما كانوا يدخلون الأوهام على الولاة؛ لئلا يشتطوا في مطالبهم وتكون المغانم مناصفة بين الأعيان المتغلبة والحاكم المنصوب، فضرب الوالي العامة من أبراج القلعة بالقنابل، حتى إذا ضاق عليه الخناق جاء في بعض رجاله إلى دار قرب باب البريد فتأثره العامة وهدموا على رأسه سقف المخدع وأحرقوه.
وذكر بعضهم أن هذا الوالي تحصن برجاله في جامع مغلق أولاً والسَكمَان بالقلعة،
فبدأ الحريق من باب الهواء وأخذ يمتد، فلما رأى ذلك داخله الوهم لقلة رجاله وكثرة الدماشقة فتحصن بالقلعة، وأخذ يحرق دار الحكومة ليشغل الناس ويفوز بنفسه، وكان الحريق هائلاً خرب كثيراً، ثم اعتمدوا على حصار القلعة وأخذ الوالي يطلق المدافع على البلد، وأقام الناس متاريس حول القلعة ثم في الحارات وحاصروا العسكر المرابط في جامع المعلق، وقتل في هذه المناوشات كثير من الأهالي وجماعة الوالي، وطال المطال وتألب الناس على الوالي حتى إن والي عكا أخذ يقوي أهل دمشق عليه، ولما ضاق به الحصار
خرج إلى بيت القاضي بجانب دار المشورة، فجاء سبعة رجال وكسروا الباب والنافذة عليه وألقوا النار بعد أن أخرجوا من عنده ابن أخيه والكيخية، ثم قطعوا أعناقهما افتراءً وعدواناً كما قال مدون هذه الوقعة إذ ليس لهما ذنب يوجب القتل حتى إن الباشا نفسه افتروا عليه لأنه لم يظهر منه أدنى أذى إليهم غير تمسكه بإتمام الأوامر التي بيده من الأستانة، وربما كان يضمر للأعيان شراً لا نعلمه وأما في الظاهر فليس لهم عذر سوى أنهم افتروا عليه وعلى جماعته على نوع مستغرب مناف للشرائع كلها ثم أخذوه عرياناً إلى القلعة، مع الاثنين خاصة بعد أن داروا برؤوسهم ودفنوهم داخل القلعة وتولى الشربجي الداراني ورشيد نسيب الشوملي أمر البلد، وبات الناس يتوجسون خيفة من رجال الأستانة، ولو كان ما أتوه في حالة راحة الدولة لأرسلت عليهم جنودها يفعلون بالأبرياء والجناة الأفاعيل المنكرة، ولكن الدولة كانت تتوجس خيفة من محمد علي والي مصر وما بلغه من القوة بجنده وبحريته واستعداده، ولها مشاكل في أُوربا تخاف أن تتجزأ قوتها إذا أرادت تأديب الدمشقيين. ولذلك لم تحب أن تناقش الأهالي الحساب ولم تسؤها فجيعتها بشيخ هِمّ قاتل، والقاتل مبشر بالقتل، ومن عادة الدول على الأغلب أن تفتك بعد حين فيمن استعملته آلة للفتك، ولذلك نرى مؤرخي الترك قد نطقوا بلسان الحكومة ولم يحركوا ساكناً كأنهم رأوا
لعمل الدمشقيين مبرراً من حسن نيتهم.
وقال مشاقة: لما قتل الدمشقيون سليم باشا اجتمع أعيانهم ورتبوا حكومة مؤقتة وأخذوا يترقبون ورود عسكر الدولة للانتقام منهم، فورد الخبر بخروج عساكر مصر لتأتي الشام فسكن روعهم بعض الشيء، ولما خرجت عساكر مصر صرفت الدولة النظر عما عمله أهالي دمشق وأرسلت والياً عليهم اسمه علي باشا. وأخذت الدولة تؤول عمل أهل دمشق وأصبحت كالمحامية عنهم تختلق لهم الأعذار عما بدر منهم لأن السياسة اضطرتها إلى ذلك. فقد جاء في تاريخ لطفي نقلاً عن جريدة تقويم الوقائع الرسمية أن سليم باشا لم يعمل بحسب الوقت لما جاء دمشق، وقد عين الحاج علي باشا والي قره مان لاستئصال الفتنة التي كان شبوبها يترامى إلى المسامع، بيد أن سليم باشا قتل قبل وصول خلفه، وتبين أن للغرباء يداً في هذه الفتنة، وأن تأديب المشاغبين بسوق قوة على دمشق يضر بأهاليها!
وقال المؤرخ إن سبب عصيان الدمشقيين أن سليم باشا مر بحماة عند شخوصه إلى دمشق وقتل بضعة رجال من عرب عنزة وقيد البرازي في القيود وأتى به معه إلى دمشق فدهش أهلها، وكان اقتراحه وضع ضريبة فأوقد جذوة الفتنة. وذكر أن الأهالي هجموا على السراي أولاً وأغلقوا دكاكينهم وانتشرت الفوضى. وقد كتب السلطان على محضر قدمه بهذا الشأن عاطف بك ابن خليل شقيق سليم باشا قال فيه: قد يتبادر إلى الذهن أن لبعض الأطراف يداً في حادثة دمشق، ومن الجائز أن يكون ذلك بصنع والي صيدا لأن هؤلاء ليسوا على ثقة تامة من دولتنا العلية وهم ينفرون منها على الدوام، وعلى هذا فإن أمور إيالة الشام إذا دخلت في النظام على ما يجب يحدث ذلك ضرراً لهم، وقد عرفوا هذا حق المعرفة، فيجوز أن يكونوا سبب هذه الفتنة لإيصال الحال إلى تلك الصورة.
وقد ظهر من الأوراق الرسمية الأخرى التي نشرها لطفي في تاريخه أن السلطان
ذهب مذهبين في هذه الفتنة فكان يقول في بعض أوامره قبل مقتل سليم باشا القائم بتطبيق قانون رسوم الاحتساب سداً لنفقة الجند: إن أهالي دمشق وحواليها وإن كانت أرضهم مباركة، لا يستنكف أكثرهم عن عار ولا يعرفون الحياء، وظاهر أنهم وسيرون بحول الله وقوته من أسباب التأديب ما يقفون به عند حدهم. وقال في كتاب آخر: إن وقوع هذه الحادثة في دمشق ليست منبعثة من جسارة الأهالي فقط، بل نشأت بلا ريب من إغواء الأطراف وتحريكها. وذكر المؤرخ أن السبب في فتنة سليم باشا تحريك محمد علي والي مصر ليجعل مقدمة لدخوله الشام، وفي رواية أخرى أن والي عكا عبد الله باشا كان هو السبب في ذلك.
وقصارى القول أن سليم باشا مبيد جيش الإنكشارية الذي عجنت طينته بالدماء فقتله أعيان دمشق مخافة أن يبطش بهم كما بطش في حماة، خافوه ووجدوا فرصة للنيل منه لما جاء يطبق قانون الاحتساب، فأثاروا الرأي العام عليه ففعلوا وربما كانوا يريدون الاكتفاء بتهديده ليحملوه على الهرب، ولكن الأمر خرج من أيديهم إلى أيدي العامة فقتلوه غير حاسبين للعاقبة