الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غدا يحتاج إلى أسباب في النقل أسرع، وسلاح في الفتك أقطع، غدا يحتاج إلى علم وعُدد، أكثر من احتياجه إلى أسماء ضخمة وعَدَد، وأصبحت السياسة والإدارة والحرب علوماً عملية، والدربة والتنظيم رأس كل أمر، والجيوش بنظامها وقيادتها وعددها وذخيرتها وبالفكرة المتشبع بها أفرادها، فكيف تنجح بعد الآن دولة تعد الجهل من مظاهر القوة، وكيف لا تتجلى الفروق بين دولة جمدت ولم تعمل، ودول تحركت ونمت وربت، وبين أُمة فتحت أقطاراً واسعة منذ قرون وبقيت طول حياتها الطويلة تصارع عناصرها ويصارعونها، وهي عنهم غريبة وهم عنها غرباء ولم تتمثلهم ولم تتمثل فيهم كما فعل محمد علي فتمثل في مصر والمصريين.
لماذا تراجعت الدولة العثمانية:
نسب ميشو انحطاط الدولة العثمانية وإخفاقها في حكم الولايات التي افتتحتها إلى عدة أسباب أهمها الجهل والجمود والغرور قال ومن حسن طالع النصرانية أنه لما فترت الهمة في الحروب الصليبية التي يراد بها حماية أُوربا، أخذ الأتراك يضيعون شيئاً من قوتهم العسكرية التي أخضعوا لسلطانها الشعوب النصرانية، فكان العثمانيون بادئ بدء الأمة الوحيدة التي كان لها جيش دائم منظم تحت السلاح، وبه أحرزت الدولة التفوق على الأمم التي تريد إخضاعها لسطوتها. وغدت أُوربا في القرن السادس عشر، ولمعظم ممالكها جيوش يقاومون بها أعداءهم، وسرعان ما انتشر النظام والتربية العسكرية بين شعوب النصرانية.
وأخذت المدفعية والبحرية تزيد كل يوم نظاماً ورقياً في الغرب، على حين كان الأتراك يزهدون في التجارب التي وصلت إليها الجيوش البرية والبحرية، ولا يستفيدون بتاتاً من العلوم التي انتشرت بين أعدائهم وجيرانهم، ويزاد على ذلك ما عبث بكيان الأتراك من الخرافات وقلة التسامح، فحال ذلك دون فتوحهم. كانوا إذا استولوا على ولاية يحاولون أن يحكموها بأنظمتهم، ويغرسوا فيها عاداتهم وعباداتهم، فاقتضى لهم من ثم أن يبدلوا وجه كل شيء ويقضوا على حياة كل شيء في
الأمصار التي ينزلونها، وأن يقضوا على أهلها أو يضعوهم بحيث لا يستطيعون أن يناجزوهم الشر، ويرفعوا رؤوسهم فيهم، ولذلك يلاحظ أن الأتراك استولوا مراراً على المجر، فكانوا يرحلون عنها بعد كل حملة يحملونها عليها، ولم يستطيعوا أن يؤسسوا فيها مستعمرة أو موطناً ثابتاً، وهم في انتصار يتلوه انتصار. والشعب العثماني الذي كفى لاحتلال ولايات مملكة الروم واستعبادها لم يكف لسكنى أقطار أبعد والاحتفاظ بها، وبهذا نجت ألمانيا وإيطاليا من غارات الأتراك، وربما استطاع العثمانيون أن يفتحوا العالم لو قدر لهم أن يُخَلّقوا الأقاليم التي ينزلونها بأخلاقهم ويُنزلوا فيها كثيراً من أبنائهم. قال: من الأسباب الرئيسية التي أضعفت القوة الجندية في الأتراك، الحروب التي كانوا أعلنوها على أوربا وفارس. فقد صدهم جهادهم الفرس عن حملاتهم على النصارى، وجهادهم في النصارى أضر بنجاحهم في حروبهم في آسيا. وكانت طريقة الأتراك في حربهم الفرس والشعوب النصرانية متباينة، فبعد أن قاتلوا زمناً مقاتلة ما وراء النهر والقفقاس، أصبحوا عاجزين عن قتال أوربا، فضعفوا عن قتال الفرس وعن قتال النصارى من أُمم الغرب. وظلوا بعدئذ بين عدوين تقريباً يهمهما زوالهم ويتحمسان بالحماسة الدينية. حمل الأتراك معهم مثل جميع البرابرة الذين أتوا من شمال آسيا نظام حكومة الإقطاعات، وكان أول عمل يأتيه أولئك الشعوب الرحالة
تقسيم الأراضي بوضع بعض القيود والشروط لمقتطعيها، ومن هذا التقسيم نشأ نظام الإقطاعات. والفرق بين الأتراك وسائر البرابرة الذين فتحوا المغرب هو أن استبداد السلاطين المبني على الحسد والغيرة لم يترك مجالاً قط للإقطاعات أن تكون وراثية ليكون بجانبهم طبقة من الأشراف كما هو الحال في الحكومات الأوربية المطلقة، وهكذا لم تكن تشهد في المملكة العثمانية سوى سلطة رئيس مطلق إلى جانبها ديمقراطية عسكرية.
شبهوا الأتراك بالرومان. وكانت بداءة هذين الشعبين واحدة، وما أشبه أشياع روملوس بأتباع عثمان. ويتفاوت الشعبان في نظر التاريخ، ذلك لأن العثمانيين ظلوا كما كانوا في الأصل. أما الرومان أيام فتوحهم فلم يزهدوا في معارف من فتحوا ديارهم. ولم يستنكفوا من الأخذ بعاداتهم ومعبوداتهم.
ولم يقتبس الأتراك من الأمم المغلوبة شيئاً، وتشددوا في أن يظلوا على بربريتهم. ولم تتأصل الأرستقراطية الوراثية في جانب الاستبداد المطلق، وربما كان ذلك أحد الأسباب التي قضي بها على الأمة العثمانية أن تبقى في حالة الهمجية. وكل من درسوا سير المجتمعات يدركون أن بالأرستقراطية تتهذب الأخلاق وتثقف عادات الشعوب، وبالطبقة المتوسطة تنتشر المعارف وتبدأ المدنية. إن فقدان طبقة الأشراف أو العالية في الحكومات الشرقية لم يبين لنا سرعة انحلال هذه الحكومات فقط، بل إنه حلّ لنا معنى جمود الفكر الإنساني في هذا الضرب من الحكومات، وكيف لم يتقد قيد غلوة. وما كان في المساواة المطلقة، ومن حكومة تغار من كل ما لا تكون هي منشأه ومصدره شيء من المنافسة والقدوة وحب المجد، وبدون هذه الأسباب يقضى على كل مجتمع أن يبقى في الجهل الأعمى الذي كان عليه لأول أمره، وأن يفقد معظم مزاياه ومصالحه. وبالنظر لزهد الأتراك في العلوم والآداب ظلت أعمال الصناعة والزراعة والملاحة في أيدي
مواليهم وكانوا في الحقيقة أعداءهم، ذلك لأنهم كانوا يشمئزون من كل جديد، ومن كل ما لم يحملوه معهم من آسيا، فاضطروا أن يلجأوا إلى الأجانب في كل ما اخترع ونظم في أوربا، وهكذا لم يكن لهم نقض ولا إبرام في مصادر سعادتهم وقوتهم، وفي متانة جيوشهم وأساطيلهم. ولا يخفى ما أضاعه الأتراك بونائهم عن السير في معارج الرقي العسكري الذي أصاب منه الأوربيون قسطاً موفوراً، ولما كان الشأن في حروبهم لجيوش متحمسة بالتعصب كانت الغلبة لهم، فلما جاء دور العلوم البشرية وما أبرزته عقول الناس من المخترعات والمكتشفات، كان العقل المساعد هو المحد من الشجاعة.
شبه بعضهم جيش الإنكشارية العثمانية بطوائف البرتوريان من الرومان، في حين كان هؤلاء منتخبين، وما جرى على خاطر الأتراك قط أن يختاروا أميرهم سواء في ذلك شعوبهم وجيوشهم. وكانت مصلحة الإنكشارية تقضي أن يلقوا الاضطراب في المملكة لئلا يخلو لها الجو فتستفيد شيئاً من الجديد. أما الأتراك الذين توطنوا في يونان فكانوا يحترمون العادات القديمة أكثر من