الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وثار الوغى والسيف قد قارع القنا
…
وغطى الفريقين الغبار المكدر
فولى على أعقابه كل ظالم
…
وفي سهل داريا الأعادي تقهقروا
وكم من سراياهم ترامت جماجم
…
كأوراق أشجار على الأرض تنثر
وكان والي دمشق القديم قد جمع أمواله فبلغت كما قيل اثني عشر صندوقاً من الذهب وعشرة أحمال من الفضة، فتعرض بعض الجند لجماعته أثناء خروجهم ليلاً من السراي، فأفلت هو ووقع المال في أيدي الجند والعامة، فتقاسموه واغتنى أناس من هذه الغارة على أموال الوالي التي سببت نكبته، وجمعها من أموال الدولة ودماء الأمة، وتوجه يوسف باشا كنج إلى مصر فتوسط له محمد علي الكبير بالعفو ثم بعثت الدولة بعض رجالها فضبطوا ما خلفه الوالي السابق من الأموال في دمشق بعد أن نهب ما نهب، فكانت نحو ثمانية آلاف كيس من صافي الصابون وبعض أشياء كان يتجر بها.
سليمان باشا وأمراء راشيا وكوائن حلب:
وعدَّ مشاقة من حسنات سليمان باشا ضمه إقليم البلان إلى ولاية دمشق بعد أن كان مستقلاً تحت لواء أمراء راشيا الشهابيين قال وذلك لأن حكام ذلك الإقليم مستبدون، وكانت الأهالي تقاسي عذاباً وجوراً لا يطاقان، والأمراء يدفعون عن الإقليم مالاًً معلوماً لحفظ استقلالهم به وبراشيا معاً، والحكومة مشطورة مع الأهالي إلى شطرين حزب يناصر الأمير فندي وآخر الأمير منصوراً، وكان كل واحد منهما يراقب الآخر ويترصد الفرص ليفتك به، فيحتاج كل منهما بالطبع إلى عصابة ومال وحاشية. وقد أثنى مشاقة على سليمان باشا وقال: إنه خدم الدولة والرعية خمسة عشر عاماً بالعدل والأمانة، وكان الأسف عليه عاماً حتى شعرت الدولة بفقده 1819 م وقال: لما سلبت بلاد بشارة من أيدي مشايخها كثرت التعديات واضطرت حكومة صيدا إلى وضع عساكر كثيرة، فلما جاء سليمان باشا الكرجي والياً على عكا اقتصر على مائتي جندي من المشاة وخمسمائة فارس وأربعمائة خيال من الهوارة يتبعهم مشاة ضبطية في باب السراي وجماعة
المدفعيين على أسوار المدينة وأقام في كل بلدة من المدفعيين والضابطة كفايتها.
وسليمان باشا من مماليك الجزار اشترك مع سليم باشا في حرب الجزار، ولما أفسد الجزار هذا العسكر على باب عكا هرب سليم باشا وسليمان باشا، إلا أن هذا عاد إلى مولاه تائباً فوجه عليه متسلمية صيدا. وكان سليمان باشا هذا لا يسمع وشاية ويحمي من يعينهم من جماعته ولا يسمع فيهم كلاماً، وإذا عين أحدهم لا يرفعه مهما وقعت عليه من الشكاوي، وإذا توفي أحد خدامه مسلماً كان أو مسيحياً يضع ولده مكانه إن كان له ولد ويجري عليه رزقه وإن كان لا ولد له يدرَ راتباً على عياله، وكان يعطي كل واحد من خدام بابه على حسب حاله من القرش إلى العشرة قروش كل يوم، وهذا لأكبر ما يكون من أرباب الوظائف. قال العورا مدون وقائعه: وكان عنده لما مات 22 دعبولة في كل دعبولة ألف كيس ريال فرنسا كل ريال بأربعة قروش عدا ما كان تحت صرافه حاييم وأخيه موسى وهو يربو على اثني عشر ألف كيس وعدا الديون التي للخزينة على تجار عكا وبيروت وما عند حريمه من الجواهر والتحف وخلا ما عنده من الغلات والكراع.
هذا الرجل الذي خلف هذه الثروة وما ذلك بالأمر المستنكر على ولاة عصره، كان يتبجح بكلام العادلين والمصلحين مع أفراد من حاشيته ومن يغشون مجلسه، ليدل على حبه لإحقاق الحق وزهده في حطام الدنيا. شنشنة معروفة في بعض من يتولون الأمر يبرئون أنفسهم من حب الدنيا وهم سراق منظمون، ويستحلون في السر كل كبيرة وفي جهرهم أعفة أتقياء. هذا الرجل قال لوكيله وصرافه حاييم وكاتبه حنا العورا يوم استولى على دمشق وخلصها من يوسف كنج باشا: أنا قضيت حياة رأيت فيها الحلو والمر، فإذا أردتم أن تخدموني بالصداقة فأنا أشترط عليكم أن لا تظلموا أحداً، فلا أريد الظلم ولا أذية أحد ولا خراب بيت أحد. ولا عيني بمال أحد، وأريد ما أمكن سد باب الظلم، وليس لي حاجة في غير لقمة خبز
طيبة وحصان مليح وجوبق دخان والكسوة الاعتيادية وامرأة واحدة ولست آذن ولا أرخص لأحد منكم أن يجمع لي مال عباد الله بالظلم ولا بالخطف، ولا بالحيلة ولا بوجه من الوجوه، ولا أريد إلا أخذ الأموال المرتبة بأمر السلطان فقط ولا
أشكر من يسعى لي بجلب الأموال من غير حلها بل أغضب عليه، وهاأنذا أشهد الله وملائكته ورسوله عليّ وعليكم بهذا جميعه، وأنا بريء الذمة من كل ما تفعلونه في هذه الدنيا وفي الآخرة، فهل تقبلون بشرطي هذا كي أسلمكم زمام أموري وأريح فكري، فأجابوه: نعم قبلنا وسمعنا وأطعنا فحينئذ قال لهم: وأنا سلمتكم مصلحتي بتمامها تصرفوا بها بحسب صداقتكم، وقد توكلت على الله وهو نعم الوكيل. كلام أشبه بكلام عمر بن عبد العزيز لأناس من حاشيته من زهاد التابعين وتابعي التابعين!
وفي سنة 1226 حدثت فتنة بين الدروز القانطين في الجبل الأعلى من عمل حلب وبين أهالي تلك الأرجاء وجرت بينهم وقائع فاتفق جميع أهل تلك الأطراف فأرسلوا يستشفعون بالأمير بشير فكتب إلى حكام حلب، وأرسل مباشرين لإحضار الدروز من هناك وكانوا أربعمائة بيت وأعطاهم مائة ألف درهم لمعاشهم.
وكثير ما كان يجري الخلاف في دمشق بين آغا القلعة والوالي فيعتصم الآغا وجماعته في القلعة ويشرع بإطلاق الرصاص والبارود والمدافع على جماعة الوالي ويصيب الأهالي من ذلك خطوب جسيمة كما وقع سنة 1227 فأخذ عسكر الوالي يحيط بالقلعة ويطلق من المآذن المجاورة النار عليها والجنود يطلقون النيران، ودام ضرب المدافع والحصار الشديد ليلاً ونهاراً بلا فتور، وقتل أُناس خارج القلعة واحترقت بعض الأماكن، ثم وضع عسكر الوالي سلالم ودخلوا القلعة من سورها وجرت المذبحة بين المحاصرين والمحصورين ونهب عسكر الوالي القلعة، وكان من يذهب قتلاً من الجند على نسبة من يقتل من الرعية. والقلاع آية
البلاء على الرعية ولا ينتفع بها عند الاقتضاء إلا الوالي أو المتغلب انتفاعاً موقتاً.
ومن الولاة الذين ملأوا حلب وأرجاءها ظلماً ابن جبار جلال الدين باشا 1227 كان مثلاً في المصادرات وقتل من يأبى إعطاء المال ولا يكاد يمضي يوم إلا ويقتل إنساناً وقد احتال على ثمانية عشر شخصاً من رؤساء الإنكشارية في حلب وأهلكهم فسكنت الفتن قليلاً وقطع من أوصال الإنكشارية وقبض على القياد بشدته وقلة ذمته في إهراق الدماء وروى في أعلام النبلاء أن
ابن جبار هذا عين اثنين يتجسسان أخبار الناس الذين تجب مصادرتهم فكان يرسل اثنين حاملين بلطة يأتيان بمن يجب مصادرته، فيزج في الحبس ويوضع في رقبته سلسلة لها شوك، ثم يطالب بما قرر عليه وهو جرم أو جرمان، والجرم أربعون كيساً والكيس خمسمائة قرش، فمن لم يدفع الجرم في ثلاثة أيام يخنق ويرمى تجاه باب القلعة، وكلما خنقوا واحداً أطلقوا مدفعاً فكان يعلم عدد المخنوقين في الليلة من عدد المدافع، وكان الوالي إذا أراد النزول إلى السوق أمر فزينت له الأسواق نهاراً فينزل ومعه البلطجية والعساكر عن يمينه وشماله فيدور في الأسواق، ومتى أدار وجهه إلى رجل فغن البلطجية يأتون ويضربون رقبة صاحب ذلك الحانوت، يفعل ذلك بثلاثة أو أربعة أشخاص ثم يعود، ولما تكرر منه هذا العمل الفظيع سأله وجوه البلد عن سبب قتل هؤلاء وما ذنبهم فكان يقول: لا ذنب لهم غير إني أقصد إرهاب الناس. وتعذيبه الناس وأخذهم بالتهم الباطلة من المأثور عنه المشهور به.
وجاء بعده خورشيد باشا وكان يصلي ويصوم لكن أتباعه يفعلون كل كبيرة وهو عنهم ساكت، وحدث أن الأهالي هجموا على دار رئيس دائرته سليمان بك وقتلوه وحملوا سائر أتباعه بما عندهم من أدوات الفحش والخمر إلى القاضي فعد الوالي ذلك نشوزاً على السلطنة من أهل حلب فاستدعى عسكراً فجاءته جملة مستكثرة منهم، فوقعت وقعة بين العسكر والعصاة في محلة قسطل الحرامي 1235 فانكسر
العصاة وهاجم العسكر البلدة وأخذوا يطلقون المدافع على أسوارها فخربوا جانباً منها ودام الحصار 111 يوماً وجرى القتال داخل البلد في الشوارع والأسواق، وكان القتال سجالاً بينهم إلى أن فر العصاة من الأهالي ودخل الولاة فيمن معهم من العسكر واحتلوا البلدة وقتلوا سبعة من كبار العصاة وأرسلوا برؤوسهم إلى الإستانة. وقد قال الأهالي إنهم ثاروا لشدة ما كانوا يلقونه من العنف وما كانوا ينوءون تحته من ضريبة الدور التي ضربت عليهم في سنة قحط وغلاء، وقد قتل بالطبع من الثائرين والأهالي والجند مئات.
تولى دمشق سنة 1232 صالح الكوسج باشا وكان عادلاً حليماً فخماً وراقت الحال في أيامه ولم يحدث إلا نشوز عرب فليحان فأرسل عليهم جنداً