الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الهمجية، أنزل الفائزون في أعدائهم البلية التي كانوا مهددين بها فيما لو تغلب هؤلاء، وإذا كان الدروز ارتكبوا في هذه الحروب فظائع أكثر بربرية من المعتاد فالسبب فيه تدخل الأتراك وشدة حقنهم على النصارى وقد أثاروه بتهديدهم وعجرفتهم.
وقال قنصل إنكلترا في دمشق على ذاك العهد: لقد بقي من كل ما رتبه المصريون شيء واحد سالما وهو عتق النصارى من رقهم على أن هذا ربما يصير عاملاً جديداً لاستئناف الاضطرابات لضعف الإدارة العثمانية وظلمها، والظلم يدفع إلى المقاومة والضعف يزيد في التمرد، والسكان يؤلفون من طوائف مختلفة المذاهب معادية للسنة ومن طوائف نصرانية متعصبة يعادي بعضها بعضاً، والحكومة عاجزة عن بسط سيطرتها على الجميع ولهذا أمست مضطرة إلى إثارة طائفة عن أُخرى بإيقاد جذوة التحاسد والبغضاء بينها، وبمثل هذه المسائل تتمكن من حفظ بعض السيطرة لنفسها، بيد أنها تخسر ثقة الرعايا بها وتعكر كأس الوئام بين العناصر المختلفة، فتحول دون كل تقدم ونجاح.
مذابح دمشق ورأي الغريب والوطني في تعليلها:
وبعد هذه النصوص المعتبرة لم يبق شك في أن الدولة هي التي وضعت الخطة العوجاء لذبح النصارى ليتيسر لها أن تمتلكهم وتضعف من غلواء المسلمين أيضاً شأنها في معظم أحوالها في كل بلد نزلته. والموارنة كالدروز لا يخلون من المؤاخذة الشديدة، اغتر كل فريق بمن كان يزين له الشر ويحسن له العاقبة بعد
ارتكابه فأتمر بما أُمر به، فكان ذلك وبالاً عليه وعلى جاره، ولم يخسر الدافع لهما شيئاً. وما كان يخطر بالبال أن هذه الشرارة تسري إلى دمشق مدينة التسامح واللطف ويقوم رعايا المسلمين بمعاونة الدروز يؤذون من أُمروا بالإحسان إليهم بعد أن عاشوا وإياهم ثلاثة عشر ثرنا في صفاء وهناء.
ويؤخذ مما قاله مشاقة أن مذبحة دمشق لا علاقة لها بحوادث لبنان على ما قيل ولا تعزى لها الأسباب التي عزيت لتلك، ولأن من أسبابها الأولية عبث النصارى بالشريعة التي أحدثتها الدولة على أثر حرب القريم مكرهة من دولة
الروس، وهي مساواة الرعايا بالحقوق المدنية، وإعفاء النصارى من الخدمة العسكرية، وقيل: إن الدواة رغبت في وضع الشريعة التي يقال عنها المساواة وهي ليست على شيء منه لتثير خواطر شعبها على النصارى وتجعل لهم سبيلاً إلى بغضهم ومقتهم، ولو كان النصارى وقتئذ على شيء من الحكمة لرفضوا إعفاءهم من الخدمة العسكرية التي جردتهم من الوطنية، وأبكمت لسانهم عن المطالبة بحقوقهم. قال: وكان مسلمو دمشق عامة وسورية خاصة يسفهون عمل الدولة التركية الذي قامت به مضطرة عقب حرب القريم، وكثر تذمر المسلمين من الدولة مع التقريع، فأجابتهم أنها لم تفعل ذلك إلا مضطرة، وبلغ من حقد المتعصبين أنهم تآمروا وألفوا الجمعيات السرية يطلبون بها خلع الدولة التركية وإبدالها بدولة تعيد مجد الإسلام ولا تخضع لأهل النصرانية وبلغ الأتراك أمرهم فأوغروا صدورهم على النصارى ليلهوهم ويتخلصوا من شرهم.
وبعد أن فصل هجوم النصارى على مطران الروم بدمشق يريدونه على أن يرفع عنهم حيف الحكومة، وطلبها بدل الخدمة العسكرية منهم، وذكر كيف عرض المطران على الوالي بأن النصارى تجمهروا جمهرة العصاة وأرادوا الإيقاع به، قال: إن الوالي لم يشأ أن يردع النصارى رأساً وأناط بتأديبهم رعاع المسلمين
الذين كانت الحكومة تخشى بطشهم، ولا تتجاسر على مطالبتهم بدفع الضرائب، وكانت الحكومة غير راضية عنهم لفتكهم ببعض وزرائها وامتناعهم عن إجابة مطالبها. ورغبة أحمد باشا والي دمشق بإثارتهم على النصارى كي يتخلص منهم أو من بعضهم فيقل عددهم وتضعف شوكتهم ويصبح إخضاعهم لأوامر الحكومة مكفولاً فيرد عن دولته الخطر الذي كان يتهددها به مسلمو دمشق وقد جاهروا بخلع دولة الأتراك عنهم وراسلوا دولة مصر لتأتي لنجدتهم ولم يفلحوا.
فرأى والي دمشق للوصول إلى هذا الغرض أن ينصب المدافع على أبواب الجامع الأموي وقاية للمسلمين الداخلين إليه في أوقات الصلاة من غدر النصارى! وأمر في عصر اليوم التاسع من تموز 1860 بإخراج الرعاع المسجونين من المسلمين بقصد تطوافهم في الشوارع وهم مكبلون بالقيود إرهاباً للثوار من المسلمين والدروز معاً، فلما وصلوا إلى باب البريد هجم بضعة من المسلمين على الخفر وبطشوا به وخلصوا رفاقهم ونادوا بالجهاد، فهجم الأوباش على
المسيحيين في بيوتهم ومحلاتهم ووضعوا السيف فيهم، قتلوا الرجال، وسبوا العيال، وهتكوا الأعراض، وراحوا بالعروض والأموال، وقتلوا بعض الرهبان الفرنسيسكانيين.
وذكر برانت قنصل بريطانيا أن السبب الرئيسي في إيقاد جذوة الفتنة أن أولاد المسلمين أخذوا يرسمون صورة الصليب في الطرقات ويدرسونها ويهينون المسيحيين المارين، فقبض عليهم التفكجي باشي وقيدهم بالسلاسل وأكرههم على تكنيس الطرق، فهجمت الغوغاء وأنقذتهم فاشتعلت الفتنة. قال: وعندي أن أحمد باشا مخطئ في ضعفه مع مجلسه، وعدم اتخاذه الاحتياطات التي أشير عليه بها غير مرة، وإصراره على إبقاء رئيس التفكجية في مركزه، مع اشتهاره بعدم الكفاية رغما عن تحذير عدة أشخاص من جميع الطبقات منه قبل إيقاظ الفتنة بعدة أسابيع، وإهماله إنقاذ مسيحي حاصبيا وراشيا نكثاً بوعوده لما أخبر بالخطر
المحدق بهم، وتقاعده عن استدراك مهاجمة زحلة وقلة اكتراثه بذبح الدروز النصارى إن لم نقل بتواطئه، وهو القائل، على ما روي، إنه يوجد في سورية آفتان كبيرتان هما المسيحيون والدروز فكلما ذبح أحدهما الآخر استفادت الحكومة العثمانية. وإن خطر حمل السلاح على النصارى والسماح به للمسلمين والدروز لا يمكن تأويله إلا بأن حكومة تلك الأيام كانت لا تهتم لفتنة تحدث أو أنها تود إحداثها أو لا تجسر أن تعامل الجميع بالسوية. وقال الماجور فرازر إن فؤاد باشا قال له: إن الدمشقيين يكرهون الأتراك، وأن من الضروري إلقاء الرعب في قلوبهم توطيداً لأركان الحكم العثماني فيتجنبون ركوب متن الفتنة.
وقد علل مشاقة سبب فتنة دمشق تعليلاً مقبولاً فقال: إنه لم يكن لها تعلق بحادثة لبنان بل لها أسباب خصوصية نشأت عن تصرفات جهلة النصارى عندما عجز عقلاؤهم عن ردعهم، فلما وضعفت الدولة قوانين المساواة بين رعاياها من أي مذهب كانوا توسع جهلة النصارى في تأويل هذه المساواة بأن معناها أنه لا يجب على الصغير الخضوع الكبير ولا للوضيع أن يحترم الرفيع، وتوهموا أن أدنياء النصارى هم بمنزلة عظماء المسلمين، ولم يريدوا أن يفهموا أن المساواة هي في الحقوق الشرعية والنظامية، وأن من الواجب حفظ اعتبار