الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غيرهم، كما يحترمون الأوهام وحب العمالات التي ينزلونها. ولما استولوا على مدينة الأستانة كانوا يوجهون أنظارهم على الدوام إلى المواطن التي أنشأتهم وتناسلوا فيها، فكانوا أشبه بسياح وفاتحين عابري سبيل في أوربا: من ورائهم قبور أجدادهم، ومهاد عباداتهم وكل ما يقدسونه ويحترمونه، وأمامهم شعوب يكرهونها، وأديان يريدون القضاء عليها، وأقطار يتراءى لهم أن الباري تعالى يلعنها. وأهم ما أخر الأتراك وقادهم إلى انحطاطهم، ذكرى مجد سالف، وإعجاب وطني لا تناسب بينه وبين ثروتهم وقوتهم، فكانوا يستهينون، ولهم القوة، بالأخطار التي تهددهم، فإذا كتب لهم النصر سكروا وقربوا القرابين وإذا غلبوا حملوا على رؤسائهم.
هذا رأي المؤرخ الفرنسي في العثمانيين وعلة انحطاطهم وقال غيره وأغرق: إن
شأن الأتراك العثمانيين في الولايات التي يفتحونها إذا رحلوا عنها شأن جماعة من البدو نزلوا منزلاً موقتاً ضربوا خيامهم فيه، إذا ترحلوا عنه من الغد لا تشاهد بعدهم في الأرض التي نزلوها سوى آثار أطنابهم، وعمد خيامهم فقط.
حملة محمد علي على الشام وهزيمة الأتراك:
أظهر والي مصر محمد علي وهو بعض عمال الدولة العثمانية مثالاً مجسماً من التجدد في الممالك، وبدت أمارات قوته بعد أن قرض المماليك من مصر، فلم يسع الباب العالي إلا الاعتراف بسلطته ومحاسنته، شأنه مع كل عامل أحرز قوة، على شرط أن يؤدي الجزية، ويعرف كيف يصانع رجال الدولة وسلطانهم. وكان محمد علي أسعد طالعاً من سلطانه، لأنه لم يصطدم يوم قام بإصلاحه بما اصطدم به السلطان محمود في تطبيق الإصلاحات، راى من المصريين قبولا لدعوته، واستعداداً للمدنية، وهو لم يقاوم الطبيعة كما قاومها الترك العثمانيون في السياسة التي استخدموها للقضاء على العناصر، بل استعرب وتمصر وألف بطانته من كل من يخدم مصر بدون عصبية.
قام بما أراد في مملكته الصغيرة أحسن قيام، وفتح صدره لكل جديد،
بل فتحت مصر بفضله صدرها لذلك. بيد أن محمد علي لم يقف عند الحد الذي بلغه من الاسئثار بوادي النيل، وطمح إلى التوسع في الملك، شأن عظماء الفاتحين الطامعين في بسطة السلطان، ولكن أي البلاد يفتح؟ هل يتوسع في أفريقية؟ في صحراء ليبيا وصحراء النوبة وهي أصقاع لا توازي العناء. وربما صدمته دول الاستعمار عن التوغل في شمالي إفريقية أو في أواسطها، أم يقصد الشام وهي مفتاح كل فتح، وفيها من العمران ما يوازي العناء في استصفائها، وبينها وبين سكان مصر من وجه الشبه ما لا ينكر محله، ثم لا يصعب عليه إذا خفقت عليها أعلامه، أن يتقدم إلى الأمام، ويملك من أرض العرب والترك ما طاب له، ولا
يعلم ما تحدثه الأيام.
بحث محمد علي عن وسيلة لذلك فلم يلبث طالعه السعيد أن خلق له سبباً معقولاً لفتح الشام، وذلك أن بعض فلاحي الشرقية بمصر ضاقت نفوسهم من إعنات عماله بالجندية والضرائب، فهاجروا إلى جهات غزة ملتجئين إلى والي عكا، وكان عددهم ستة آلاف، فطلب منه محمد علي إرجاعهم خوفاً من كثرة عدد من يتبعهم إلى الشام، فامتنع الوالي من ذلك بدعوى أن القطرين تابعان لسلطان واحد، فاستشاط محمد علي غضباً خصوصاً وهو الذي استرضى خاطر الدولة على والي عكا وكانت غضبت عليه، ودفع عنه ستين ألف كيس غرامة اقتضتها منه لترضى عنه، فاتخذ عزيز مصر من ذلك حجة لفتح الشام فأمر سنة 1247 بإعداد جيش للسفر إليها عن طريق العريش وطريق البحر في آن واحد، وذلك لمحاصرة عكا من جهتين، وعين ولده إبراهيم باشا قائداً عاماً للجيوش، وسليمان بك الفرنساوي قائم مقام له، وجنّد ستة ألايات من المشاة وأربعة من الفرسان، ومعهم أربعون مدفعاً وكثير من مدافع الحصار الضخمة، وما يلزم ذلك من الأعتاد والمؤن. فوصل إبراهيم باشا مع الأسطول إلى يافا وفتحت له كما فتحت القدس ونابلس أبوابها، وكانت عكا أشهر مدن الشام بحصانتها وفيها خمسة آلاف مقاتل، فدام حصارها سبعة أشهر تحاصرها من البحر بوارج حربية مسلحة بالمدافع الكبيرة، ومن البر ثلاثون ألف جندي، وبريطانيا العظمى متغاضية عنه طوعاً أو كرهاً، إذ كان محمد علي من فرنسا نصير وظهير، وليست بريطانيا حرة مطلقة، في