الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موضوعات عامة
51 -
البركة من الله
ظاهرة قلة البركة:
من الظواهر التي لاحظها كثير من الناس اليوم قلّة البركة في الأموال والأولاد وعدم الانتفاع بالأرزاق والأبناء، حتى إن الرجل ليكون مرتّبه عاليًا ودخله جيدًا وأبناؤه عُصْبَة من الرجال الأقوياء الأشداء ثم تراه يقترض ويستدين، ويعيش في بيته وحيدًا أو مع زوجه العجوز لا أحد من أبنائه يحدب عليه أو يلتفت إليه. ولربما دخل كثير من الناس السوق وجيبه مليء بالمال، فلا يخرج إلا وهو صفر اليدين أو قد تحمَّل شيئًا من الدَّين، وعندما ينظر فيما أتى به من أغراض وحاجات لأهله لا يجد إلا أشياء كمالية صغيرة، يحملها بين يديه بلا عناء، ولا تساوي ما أنفق فيها من مال.
وإن هذا الأمر ليس قضية عارضة أو مسألة هينة، بل هو في الواقع يشكل ظاهرة ملموسة وقضية محسوسه، ويعد منحنى خطيرًا في حياة المجتمع المسلم، يجب على كل فرد أن يدرسه ويتعرف أسبابه، ويبحث عن حله الناجح وعلاجه الناجع، فيأخذ به ويقي نفسه، لعل الله أن ينجيه مما ابتلي به غيره من الناس، أو مما قد يكون هو نفسه مبتلى به.
إن البركة قد افتقدها كثير منا في أغلب أموره، ورغم ذلك لا يتنبه إلى ذلك ولا يحزن على فقدها أو يحاول أن يفعل الأسباب لتحصيلها.
ولو استعرضنا حال من نُزِعَتْ منه البركة لوجدنا ما يُحزن: الذرِّيةُ التي يقول الله تعالى عنها: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 46 (صارت عند بعض الناس مصدر شقاء ومتاعب، لماذا؟ لأنه لم يبارك فيهم.
الزوجة التي يقول الله عز وجل عنها في كتابه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21 (لا ألفة، ولا مودّة، ولا رحمة، مشاكل، خلافات، محاكم، لماذا؟ لأنه لم يبارَك فيها.
بركة العمر:
العمر، أغلى ما يملك الإنسان في الدنيا عمره، تمر السنة والسنتان والعشر سنين والواحد منهم مكانه يراوح، في عبادته، في علمه، في حفظه لكتاب الله، في تفقهه، في دينه، وإن تقدم فشيئًا يسيرًا، يعيش الواحد منهم الستين والسبعين سنة وإذا قارن هذا العمر الطويل بما قدم للآخرة يجد الفارق الهائل، ربما لم يحفظ خمسة أجزاء من القرآن، لماذا؟ لأنه لم يبارَك له في عمره.
أوقات كثير منهم مهدره، أربعٌ وعشرون ساعة في اليوم والليلة، لو تأملنا كيف تذهب لَحَزَنَّا على ذلك، ست ساعات في النوم، ست ساعات في العمل، وساعة للصلوات الخمس، كلها ما يقارب اثنتي عشرة إلى ثلاث عشرة ساعة، والباقي ما يقارب النصف ضائع، لماذا؟ لأن البركة نُزِعت من الوقت.
ومما يزيد الأمر خطورة أننا سوف نُسأل عن أعمارنا: فيم قضيناها؟ فعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ سدد خطاكم عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ» (رواه الترمذي وحسنه الألباني).
(فِيمَا أَفْنَاهُ) أَيْ صَرَفَهُ (وَعَنْ شَبَابِهِ) أَيْ قُوَّتِهِ فِي وَسَطِ عُمُرِهِ (فِيمَا أَبْلَاهُ) أَيْ ضَيَّعَهُ. والْمُرَادُ سُؤَالُهُ عَنْ قُوَّتِهِ وَزَمَانِهِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنْهُ عَلَى أَقْوَى الْعِبَادَةِ. (وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اِكْتَسَبَهُ) أَيْ أَمِنْ حَرَامٍ أَوْ حَلَالٍ؟ (وَفِيمَا أَنْفَقَهُ) أَيْ فِي طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ.
ماذا نقول لله إذا سألنا عن أعمارنا فيم أفنيناها؟ نقول: نصف أعمارنا ضائع فيما لا فائدة منه، أغلى شيء نملكه في الدنيا نضيّع نصفه، خسارة كبيرة.
والوقتُ أنْفَسُ ما عُنيتَ بحفظهِ
…
وأراه أسهلَ ما عليك يُضَيَّعُ
ولعل أوجز كلمة في تعريف الوقت هي: «الوقت هو الحياة» .
وقال علي بن أبي طالب سدد خطاكم: «من أمضى يومه في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد بناه، أو حمد حصّله، أو علم اقتبسه، فقد عق يومه، وظلم نفسه» .
وكما قيل: «إن الليل والنهار رأس مال المؤمن، ربحُها الجنة وخسرانها النار» .
وقال ابن القيم رحمه الله: «السَّنَةُ شجرة، والشهور فروعُها، والأيام أغصانُها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثِمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة، فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية، فثمرته حنظل» .
بركة العلم:
نزعت البركة من علم كثير منا، تجد الواحد عنده شهادة جامعية أو خريج كلية علوم شرعية وليس له أثر في أهله وجيرانه وأقاربه، كم سمعنا من المحاضرات، كم حضرنا مجالس علم، كم قرأنا من كتب، أين أثر ذلك علينا وعلى أهلنا وجيراننا ومجتمعنا؟ لا شيء، لماذا؟ لأنه لم يبارَك فيه، لماذا؟ لأننا ربما لم تكن نيتنا خالصة لله، أو لم نستشعر مسؤوليه تبليغ العلم،، لا نستشعر أهمية الدعوة إلى الله. عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ابن العاص رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ:«بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آيَةً» (رواه البخاري).
هذا هو حال من نزعت منه البركة، تحولت النِعَمُ إلى نِقَم، وأسباب الراحة والسعادة إلى شقاء ومتاعب، وأصبح يجري وراء الدنيا، كالذي يشرب من البحر؛ كلما زاد شربًا زاد عطشًا.
فكيف المخرج من ذلك؟ ما السبيل إلى حصول البركة؟ ماذا نعمل حتى تحصل لنا البركة ونسعد بما يعطينا الله من نعم؟
تعريف البركة:
البَرَكَةُ، هي النَّماءُ والزيادةُ، وهي شيء من خير يجعله الله تعالى في بعض مخلوقاته، والتَّبْريكُ الدُّعاءُ بها.
والبركة هي الزيادة في الخير والأجر وكل ما يحتاجه العبد في دينه ودنياه بسبب ذات مباركة أو زمان مبارك. وهي: أن تعمل في الزمن القصير ما لا يعمله غيرك في الزمن الكثير.
ضوابط في مفهوم البركة:
1 -
البركة كلها من الله كما أن الرزق من الله؛ فلا تطلب البركة إلا من الله؛ ويدل على هذا قوله تعالى: {قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ} (هود: 48)، وقوله:{رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} (هود: 73).
فإذا كانت البركة من الله فطلبُها من غيره شرك.
البركة من الله عز وجل ، وهو الذي يبارك ويجعل الشيء مُباركًا، قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام:{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} (مريم: 31). والله سبحانه وتعالى هو الذي يجعل البركة فيمن شاء، وفيما شاء كما قال تعالى:{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 71). ويبارك على من شاء، كما قال تعالى:{وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} (الصافات: 113). والله الذي يبارك وحده، ولا يجوز للمخلوق أن يقول: باركتُ على الشيء، أو يُقال له: بارِكْ لنا، أو: اجعَلْ لنا بركة.
عن سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وَقَدْ حَضَرَتْ الْعَصْرُ وَلَيْسَ مَعَنَا مَاءٌ غَيْرَ فَضْلَةٍ، فَجُعِلَ فِي إِنَاءٍ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بِهِ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ وَفَرَّجَ أَصَابِعَهُ ثُمَّ قَالَ:«حَيَّ عَلَى أَهْلِ الْوُضُوءِ، الْبَرَكَةُ مِنْ اللهِ» ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ النَّاسُ وَشَرِبُوا فَجَعَلْتُ لَا آلُوا مَا جَعَلْتُ فِي بَطْنِي مِنْهُ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ بَرَكَةٌ.
قُلْتُ لِجَابِرٍ: «كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟» . قَالَ: «أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَةٍ» . (رواه البخاري).
قَوْله: (وَحَضَرَتْ الْعَصْر) أَيْ وَقْت صَلَاتهَا. قَوْله: (فَجَعَلْت لَا آلُو) أَيْ لَا أُقَصِّر، وَالْمُرَاد أَنَّهُ جَعَلَ يَسْتَكْثِر مِنْ شُرْبه مِنْ ذَلِكَ الْمَاء لِأَجْلِ الْبَرَكَة.
2 -
ما يُتبرك به من الأعيان والأقوال والأفعال التي ورد الشرع بها إنما هو سبب للبركة وليس هو البركة. كما أن ما يُتداوى به من الأدوية إنما هو سبب للشفاء وليس هو الشفاء، وما ذكر الشرع أن فيه بركة فيُستعمل استعمال السبب الذي قد يتخلف تأثيره لفقد شرط أو وجود مانع كما هو معلوم في قاعدة الأسباب الشرعية. وما تضاف البركة إليه إنما هو من باب إضافة الشيء إلى سببه، كما قالت عائشة رضي الله عنها عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها: “ فَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا». أي: جويرية رضي الله عنها هي سبب للبركة وليست المعطية للبركة؛ فلذلك لما تزوجها صلى الله عليه وآله وسلم أعتق الصحابة من سَبَوْهُ من قومها بني المصطلق لكونهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهذه بركة عظيمة من الله والسبب هو جويرية بنت الحارث؛ فهكذا الأشياء المباركة سبب للخير والنماء والزيادة.
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لَمَّا قَسَمَ سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقَعَتْ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ فِي السَّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ - أَوْ لِابْنِ عَمٍّ لَهُ - وَكَاتَبَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا، وأنها أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ سَيِّدِ قَوْمِهِ، وَقَدْ أَصَابَنِي مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ،
فَوَقَعْتُ فِي السَّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ ـ أَوْ لِابْنِ عَمٍّ لَهُ ـ فَكَاتَبْتُهُ عَلَى نَفْسِي، فَجِئْتُكَ أَسْتَعِينُكَ عَلَى كِتَابَتِي».
قَالَ: «فَهَلْ لَكِ فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ؟» . قَالَتْ: «وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟» .
قَالَ: «أَقْضِي كِتَابَتَكِ وَأَتَزَوَّجُكِ» . قَالَتْ: «نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ» .
قَالَ: «قَدْ فَعَلْتُ» .
قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وَخَرَجَ الْخَبَرُ إِلَى النَّاسِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم تَزَوَّجَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، فَقَالَ النَّاسُ:«أَصْهَارُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم» فَأَرْسَلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ.
قَالَتْ عائشة: «فَلَقَدْ أَعْتَقَ بِتَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا» (رواه الإمام أحمد في المسند، وأبو داود، وحسنه الألباني). والْمُكَاتَبَةُ مُعَاقَدَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ، يُكَاتِبُ الرَّجُل عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ عَلَى مَالٍ مُنَجَّمٍ (أي على أقساط)، وَيَكْتُبُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُعْتَقٌ إِذَا أَدَّى النُّجُومَ. (أي الأقساط).
وبَعْدَ الْتِزَامِ الْعَبْدِ بِالْمُكَاتَبَةِ يُصْبِحُ كَالْحُرِّ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ، فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيُقَاسِمَ شُرَكَاءَهُ، وَيُضَارِبَ وَيُعِيرَ وَيُودِعَ وَيُؤَجِّرَ وَيُقَاصَّ، وَيَتَصَرَّفَ فِي مَكَاسِبِهِ، وَيُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ تَبْذِيرٍ، وَدُونَ إِخْرَاجِ الْمَال بِغَيْرِ عِوَضٍ.
وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنْ كُل تَصَرُّفٍ فِيهِ صَلَاحُ الْمَال وَاكْتِسَابُ الْمَنَافِعِ.
3 -
التماس البركة في شيء من الأشياء مَبْنِيٌّ على التوقيف؛ فالذي يدل على حصول البركة من عدمها إنما هو الدليل الشرعي فحسب.
4 -
البركة التي توجد في بعض المخلوقات من الذوات أو الأماكن وغيرها من فضل الله اختصها الله بذلك لحكمة يعلمها.
من صفات الله تعالى أنه تبارك:
ومن صفات الله تعالى أنه تبارك كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}
…
(الملك: 1)، {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} (الفرقان: 61) ، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} (الفرقان: 1). واسمه تعالى مباركٌ تُنال معه البركة، قال عز وجل:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (الرحمن: 78).
وكلُّ شيءٍ لا يكونُ لله فبركتُه منزوعَة، والربُّ هو الذي يُبارِك وحدَه، والبركةُ كلُّها مِنه، وهو سبحانَه تبارَك في ذاتِه، ويباركُ فيمن شاءَ من خلقِه، قال عز وجل:{وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (الزخرف: 85). وكلُّ ما نُسِب إليه فهو مبارَك.
{يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} كلما جاء الليل ذهب النهار، وكلما جاء النهار ذهب الليل، وهكذا أبدا على الدوام، حتى يطوي الله هذا العالم، وينتقل العباد إلى دار غير هذه الدار. {تَبَارَكَ اللَّهُ} أي: عَظُم وتعالَى وكَثُر خيرُه وإحسانُه، فتبارك في نفسه لعظمة أوصافه وكمالها، وبارك في غيره بإحلال الخير الجزيل والبر الكثير، فكل بركة في الكون، فمن آثار رحمته، ولهذا قال:{تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
والله سبحانه يختص بعض خلقه بما يشاء من الخير والفضل والبركة كالرسل والأنبياء. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 33)، وقال تعالى عن عيسى عليه السلام:{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} (مريم: 31).
وكذلك فضل الله بعض الأماكن على بعض وبارك فيها كمكة والمدينة والمسجد الأقصى. وفضل بعض الأزمنة على بعض وبارك فيها، كشهر رمضان وليلة القدر وعشر ذي الحجة ويوم الجمعة. وأيضًا فقد أوجد جل وتعالى البركة في الأشياء كالمطر والسحور ونحوها.
والله جلّ وعلا برحمته يأتي بالخيرات، وبفضله يضاعِف البركات، وليسَت سَعةُ الرّزق والعملِ بكثرته، ولا زيادةُ العمر بتعاقُب الشهور والأعوام، ولكن سعةُ الرزقِ والعمُر بالبركة فيه.
وبالعمَل المبارَك يُكتسَب الذّكر الجميل في الحياة، وجزيلُ الثوابِ في الآخرة، فيه طهارةُ القلبِ وزكاةُ النفس وعليُّ الخلُق.
لا غِنَى لأحدٍ عن بركةِ الله:
والبركةُ ما كانت في قليلٍ إلَاّ كثَّرته، ولا في كثير إلا نفَعَته، ولا غِنَى لأحدٍ عن بركةِ الله، حتى الأنبياء والرسل يطلبونها من خالقِهم.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ سدد خطاكم عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِى فِى ثَوْبِهِ، فَنَادَى رَبُّهُ يَا أَيُّوبُ، أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى قَالَ بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ لَا غِنَى لِى عَنْ بَرَكَتِكَ» . (رواه البخاري).
(بَيْنَا): بينما. (خَرَّ عَلَيْهِ) أَيْ سَقَطَ عَلَيْهِ. (رِجْلُ جَرَادٍ) أَيْ جَمَاعَةُ جَرَادٍ، وَالْجَرَادُ اِسْمُ جَمْعٍ وَاحِدُهُ جَرَادَةٌ كَتَمْرٍ وَتَمْرَةٍ. (يَحْثِي) أَيْ يَأْخُذُ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا. (فَنَادَاهُ رَبُّهُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِإِلْهَامٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. (قَالَ: بَلَى) أَيْ أَغْنَيْتنِي. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْحِرْصِ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنْ الْحَلَالِ فِي حَقِّ مَنْ وَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ بِالشُّكْرِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ تَسْمِيَةُ الْمَالِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ بَرَكَةً، وَفِيهِ فَضْلُ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ.