الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
60 - استضعاف وثبات
كرامة الغلام:
«وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ: «مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي» ، فَقَالَ:«إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ» فَآمَنَ بِاللهِ فَشَفَاهُ اللهُ.
يتجاهل الغلام الفكرة التي عرضها الجليس- فكرة الهدايا - والتي لم تَنَل من إحساسه شيئًا ويقول له: «إِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ» وهنا ترتفع قيمة الأمر بالإيمان الذي طلبه الغلام في تصور الجليس لأن شفاؤه سيكون بهذا الإيمان ولأن الأمر بالإيمان كان بديلًا للهدايا والمادة التي تنال من نفوس الناس تقديرًا واعتبارًا فانعكس هذا التقدير والاعتبار على الأمر الذي طلبه الغلام «فَآمَنَ (جليس الملك) بِاللهِ فَشَفَاهُ اللهُ» .
والملاحظة الدقيقة في تحرك الغلام أنه لم يقل للجليس: «فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ» . مثلما قال له الراهب وذلك لأن الغلام انتقل بالدعوة من مرحلة السرية إلى المرحلة العلنية بهذا التحرك العلني العام وبدليل أنه كان «يُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ» ، كل الناس.
إن الجليس قد أتى إلى الملك فجلس إليه كما كان يجلس من قبل.
فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟» قَالَ: «رَبِّي» قَالَ: «وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟» قَالَ: «رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ» فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ.
وفظيع جدًا أن يدعى الإنسان الربوبية لنفسه ولكن كيف يكون هذا الادعاء؟ فمن خلال دراسة هذه الظاهرة البشعة نجد أن القرآن سجلها على فرعون وعلى الملك
الذي حاجّ إبراهيم في ربه وهذان يتفقان مع هذا الملك في أمرين هما: الكفر بالله، والملك على الناس.
ونجد في رد الجليس نفيًا لربوبية الملك المدعاة من خلال إثبات ربوبية الله وحده على الملك حيث إنه ليس هناك رب لرب وبذلك يكون الجليس قد سوى بين الملك والناس في عبوديتهم لله سبحانه وتعالى ولم يكن الجليس ليستطيع هذه المواجهة إلا إذا خالط قلبه بشاشة الإيمان لأنه حينما يكون ذلك، تكون الثقة والطلاقة والقوة، وهؤلاء هم سحرة فرعون يسجدون لله بعد أن علموا أن موسى رسول الله وليس ساحرًا فيهددهم فرعون قائلًا:{فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)} (طه: 71). فيردون عليه قائلين: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)} (طه: 72).
وهكذا أيضًا تعامل الملك مع الجليس «فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ» .
لم يقتله فورًا حتى يكشف بقية المؤمنين.
فَجِيءَ بِالْغُلَامِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ» ، فَقَالَ:«إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ» فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ: «ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ» ، فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ:«ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ» فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ.
الملك الكافر يقول: (أَيْ بُنَيَّ) كلمة كلها مكر وخبث وضغط على نفس الغلام، وإغراء له بالقرب منه بما يتضمن هذا القرب من مستقبل زاهر وحياة مترفة، ويقول الملك:«قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ» ، وقد حاول الملك بهذه العبارة أن يسرق ما كسبه الغلام من تقدير في نفوس الناس بأن يعود
بتفسير أعمال الغلام إلى السحر الذي تعلمه من ساحر الملك الذي أتى الملك إليه بالغلام.
ويفشل الملك في إغراء الغلام «فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ» . ليست خيانة ولا عمالة ولكنها الطاقة البشرية المحدودة.
ولكن حدوث هذه النتيجة التي انتهى إليها الغلام لا يكون إلا بعد بلوغ حد الاستطاعة في الصبر والتحمل والثبات وهذا هو الحد الفاصل بين أن يكون المتكلم في محنة التعذيب معذورًا أو مقصرًا.
استضعاف وثبات:
فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ: «ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ» ، فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ:«ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ» فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ.
وهذا الذي حدث من الملك مع الراهب والجليس هو الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عندما شكوا إليه الاستضعاف.
عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ سدد خطاكم قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ: «أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللهَ لَنَا؟» ، قَالَ:«كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ. وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ. وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» (رواه البخاري).
(حَتَّى يَسِير الرَّاكِب مِنْ صَنْعَاء إِلَى حَضْرَمَوْت) صَنْعَاء الْيَمَن بَيْنهَا وَبَيْن حَضْرَمَوْت مِنْ الْيَمَن أَيْضًا مَسَافَة بَعِيدَة نَحْو خَمْسَة أَيَّام.
مفاوضات مع الغلام:
ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ» فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ: «اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ» فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ.
فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟» ، قَالَ:«كَفَانِيهِمُ اللهُ» .
فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ» فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ: «اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ» ؛ فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ:«مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟» قَالَ: «كَفَانِيهِمُ اللهُ» .
إن الملك لا قضية عنده ولا مبدأ، ولهذا لم يجد وسيلة في مواجهة الموقف إلا التعذيب والتقتيل، ونلاحظ أن الملك كان حريصًا على أن يرتد الراهب والجليس قبل أن يقتلهما؛ لأن ارتدادَهما قَتْلٌ للدعوة، وقتلهما حياة لها؛ ولهذا لم يقتلهما إلا بعد أن عرض عليهما الدعوة ويئس من الاستجابة.
ونلحظ حرص الملك الشديد على ارتداد الغلام حتى لا يسبب قتله حرجًا للملك وبلبلة في عقول الناس؛ لأن الغلام كان معروفًا لهؤلاء الناس بأعماله الطيبة وبحبه للخير. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن الملك أراد أن تخسر الدعوة هذا الداعية، ويتحدث الناس أن الغلام لم يكن على شيء، لأنه ارتد عن دعوته.
ومن ناحية ثالثة فإن الملك كان طامعًا في أن يستفيد من هذا الغلام في تثبيت موقفه بجَعْله ساحرًا له، وداعيًا إلى مُلْكه طالما أن عنده هذه القدرة العجيبة على أن يعالج الناس من أدوائهم.
والذي يؤكد لنا حرص الملك على ارتداد الغلام هو الأسلوب الذي تعامل به معه. فقد أخَّره عن الراهب والجليس حتى يشهد مصرعهما فيتأثر ويضعف، وكذلك فإن الملك اختار وسيلة غير الوسيلة التي قتل بها الراهب والجليس. وسيلة فيها فرصة
للتردد والتفكير أثناء المسافة بين القصر والجبل، ثم صعود الجبل، والذي يؤكد لنا أن الملك كان يفعل ذلك بقصد ردة الغلام هو أنه طلب من أصحابه أن يعرضوا عليه الارتداد في ذروة الجبل وقبل أن يقذفوه.
ولكن الغلام يدعو الله فوق الجبل: «اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ» .
بأي كيفية يرضاها الله سبحانه وتعالى وبأي سبب يختاره عز وجل فليس التوكل على الله عند المؤمن محدودًا بخبرة الواقع ودراسة الظروف لأنه لو كان الأمر كذلك لما استطاع الغلام أن يدعو بهذا الدعاء؛ لأن الواقع لم يكن يحتمل أي تفكير، ولكنه التوكل بكامل حقيقته وجوهر معناه انطلاقًا إيمانيًا لا يتقيد بضيق الواقع وارتفاعًا وجدانيًا لا يهبط بشدة الظروف.
وعندما يتحقق التوكل، تتحقق الاستجابة بإذن الله.
فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ.
وسبب عودته إلى الملك هو سبب طلبه للنجاة من أصحاب الملك فوق الجبل وهو أن الدعوة لم تتم، وليست الحياة هدفًا يحرص عليه الدعاة إلا من خلال كونها ضرورة من ضرورات الدعوة سواء أكان تحقيق هذه الضرورة يتطلب الحرص على الحياة أو الحرص على الموت.
والذين يفسرون مصلحة الدعوة بالحرص على حياة الدعاة فحسب هم أصحاب التصور الناقص الذي لا يعدو أن يكون فلسفة للجبن أو للارتداد عن سبيل الله. والذين يندفعون إلى الموت برغبتهم النفسية دون اعتبار لمصلحة الدعوة إنما يبددون بذلك الاندفاع والتهور طاقة الدعوة وإمكانياتها.
وكما أن مصلحة الدعوة هي الحد الفاصل بين الجبن والشجاعة، فهي أيضًا الحد الفاصل بين الشجاعة والتهور، فالجُبْن هو عدم الاستعداد للتضحية، والتهور هو التضحية بلا ضرورة أو منفعة، والشجاعة هي التضحية الضرورية النافعة، وعلى هذا
لم يكن طلب الغلام للنجاة جبنًا ولم تكن عودته إلى الملك تهورًا بل كان في كلا الموقفين شجاعًا حكيمًا.
جَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ.
لم تؤثر محنته على منهج، عاد إلى نفس النقطة التي كان عليها، نفس الموقف الذي كان فيه، موقف المواجهة مع الملك، فقد تحقق للغلام إمكانية تلك المواجهة فلا يجوز التراجع ولا حتى التأجيل.
ولما ذهب إلى الملك سأله: «مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟» .
ولا يريد الملك أن ينسب الأصحاب إليه لأنهم منهزمون أمام الغلام، حتى لا يكون لهزيمته بأصحابه أمام الغلام حساسية تؤثر على ادعاء الربوبية لنفسه فقال:«مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟» . ولم يقل ماذا فعل أصحابي رغم أنهم أصحابه كما قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ» .
قال الغلام: «كَفَانِيهِمُ اللهُ» . ولعلنا نلاحظ أن قول الغلام للملك بعد النجاة: «كَفَانِيهِمُ اللهُ» ، كان مثل قوله قبل النجاة:«اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ» . نفس الكلمة التي قالها عند الضر فوق الجبل، قالها بعد كشف الضر واهتزاز الجبل بلا زيادة ولا تغيير، فقد ينطلق لسان الإنسان عند الضر بكلمات اللجوء إلى الله والاستغاثة به فإذا ما انكشف الضر تتغير الكلمات والألفاظ ويدخل فيها إحساس الإنسان بنفسه وعمله ويفسر الكشف الإلهي لضره بمجهود بذله أو تصرف تصرفه.
محاولة أخرى فاشلة:
ويحاول الملك قتله مرة ثانية.
فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ» فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ: «اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ» ؛ فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ:«مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟» قَالَ: «كَفَانِيهِمُ اللهُ» .
إن اختيار الملك لأسلوب القذف بالغلام في وسط البحر بعد محاولة القذف به من فوق الجبل يعتبر نموذجًا للمادية البحتة في مواجهة دين الله عز وجل، تلك المادية البحتة التى أعمت أصحابها عن قَدَر الله فوق ذروة الجبل حيث اهتز الجبل فسقطوا هم وعاد هو سالمًا. وكما اهتز الجبل فسقطوا، انكفأت السفينة فغرقوا، وعاد هو سالمًا.
وكما اهتز الجبل فسقطوا، انكفأت السفينة فغرقوا، وعاد هو سالمًا، وجاء يمشي إلى الملك.
ويقين الغلام بعجز الملك عن قتله وإن كان موقفًا خاصًا إلا أنه تضمن حقيقة اعتقادية مطلقة قالها رسول صلى الله عليه وآله وسلم لابن عباس في حديثه: «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» (رواه الترمذيُّ، وصححه الألباني).
الغلام الضعيف يأمر الملك:
«فَقَالَ لِلْمَلِكِ: «إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ» ، قَالَ:«وَمَا هُوَ؟» قَالَ: «تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ: «بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ» ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي».
ونرى في كلمات الغلام شيئين: إثبات عجز الملك، والأمر الذي سيأمر الملك به، ولعل هذا أول أمر يتلقاه الملك في حياته ويجد نفسه مضطرًا إلى تنفيذه. وبذلك يُنهِي الغلام ادعاء الربوبية الذي يدعيه الملك بإثبات عجزه واضطراره إلى تنفيذ الأمر الذي يصدر إليه. ولقد حرص الغلام على إنهاء هذا الإدعاء في ذلك الموقف لأنه الموقف الأخير الذي يجب أن ينتهي معه هذا الإدعاء الفظيع.
ويكون الأمر هو: «تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ» ، حتى يشهدوا الأحداث ويفهموا معناها، ولقد بدأ الغلام أوامره بهذا الأمر حتى لا يُخفي الملك الحقائق التي
تفيد الناس وتساعدهم على الإيمان ومعرفة الحق. وهذا هو ماقصده موسى عليه السلام عندما طلب من فرعون أن يكون موعد المواجهة بينه وبين السحرة يوم اجتماع الناس {يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} (طه: 59).
ويستمر الغلام في إصدار الأوامر إلى الملك العاجز: «وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ» حتى يكتمل ضعف الغلام في إحساس الناس فيكون غلامًا صغيرًا مصلوبًا في جذع شجرة، حتى يسهل على الناس الانطلاق بإحساسهم نحو الإيمان بالقوة التي قهرت الملك والتي تقف مع ذلك الغلام الصغير المصلوب، قوة الله رب الغلام.
«ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي» . واشتراط أن يكون السهم من كنانته هو؛ فيكون سبب القتل من عنده وتتأكد رغبته في القتل.
«ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ» .
ولقد كان من الطبيعي أن يوضع السهم في كبد القوس ولكن الغلام جعل التصرف الطبيعي تنفيذًا لأمر منه حتى لا يتحرك الملك أي حركة من تلقاء نفسه ليكون خضوعه كاملًا ونهائيًا لأوامر الغلام.
وبهذا يكون الغلام قد أعطى للناس تفسيرًا للموقف فيكون قتله رغبة منه وسببًا من عنده، يتحقق بقدَر الله بعد أن عجز الملك.
الملك ينفذ أوامر الغلام:
«فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ: «بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ» ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ».
يستجيب الملك لأوامر الغلام استجابة الضعيف المضطر فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهمًا من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: «بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ» .
استجاب الملك لأوامر الغلام لأنه وجد نفسه أمام ثلاثة أمور:
1 -
إما أن يترك الغلام يدعو بدعوته كيفما شاء، وهذا الحال كان سينتهي بإيمان الناس.
2 -
وإما أن يستمر في تأكيد عجزه عن ذلك وتتأكد للناس قوة الله الذي يحمي الغلام، وكان هذا الحال أيضًا سينتهي بإيمان الناس.
3 -
والأمر الثالث وهو ما اختاره الملك، والذي انتهى بقتل الغلام وأيضًا آمن الناس، فقد أراد الله أن يؤمن الناس وأن تعلو كلمته وقضى بذلك سبحانه وحكم ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.
حقيقة قدرية هائلة:
«ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ» . هذه العبارة تتضمن حقيقة قدرية هائلة. حقيقة الربط بين السبب والنتيجة وهي لحظة الفرق بين الضرب بالسهم وموت الغلام حيث يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ» . فلم يَمُتْ. لم يتحقق ربط السبب بالنتيجة.
«فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ» . وقد كانت هذه الحقيقة القدرية الأخيرة التي تتحدد بها العلاقة بين السبب والنتيجة. سبقها عدة حقائق.
ففي القصة النتيجة التي تتحقق بعكس مقصود البشر من السبب فنفس الغلام الذي أراد البشر أن يكون داعية للضلال. يريد الله أن يكون داعية للحق، وفي نفس طريق الغلام إلى الساحر يلتقي بالراهب ويجلس إليه ويسمع منه ويعجبه كلامه.
وفي القصة النتيجة الهائلة بالسبب البسيط، مثلما قتل الغلام الدابة التي كانت تسد على الناس الطريق بحجر صغير. وهو المعنى المتحقق كذلك بهزيمة الملك ووقوع ما كان يحذره بسبب هذا الغلام الصغير.
وفي القصة المختلفة النتيجة الهائلة بالسبب الواحد وذلك عندما كان الغلام وأصحاب الملك فوق الجبل فرجف بهم الجبل وجاء إلى الملك وكذلك عندما كان الغلام وأصحاب الملك في السفينة فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك.