الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
59 - قصة أصحاب الأخدود
(1)
شَرِّدُوا أخيارَنا بَرًّا وبحرًا
…
واقْتُلوا أبناءَنا حُرًا فَحُرّا
إنما الصالحُ يبقَى صالحًا أبَدَ
…
الدهْرِ ويبقى الشرُّ شَرّا
كَسِّرُوا الأقلامَ هل تَكسيرُها
…
يمنعُ الأيدِي أن تنقُشَ صخْرَا
اقطَعُوا الأيدِي هل تقطيعُها
…
يمنعُ الأعينَ أن تنظرَ شَذْرا
أطفِئُوا الأعينَ هل إطفاؤُها
…
يَمنعُ الأنْفُسَ أنْ تَصْعَدَ زَفْرَا
أخْمِدُوا الأنْفُسَ هذَا جُهْدُكُم
…
وبهِ مَنْجَاتُنا مِنكُم فَشُكْرَا
النَّظر الشَّذْر: هو نَظَر المُغْضَبِ، زفَرَ الشَّخصُ زَفْرًا وزَفِيرًا: أخرج نَفَسه من رئتيه بعد مَدِّه إيّاه.
مذابح:
إن ما يتعرض له المسلمون من مذابح وتحريق وتشريد على أيدي اليهود في فلسطين، وعلى أيدي الهندوس في الهند وكشمير، وعلى أيدي البوذيين في بورما والصين، وعلى أيدي الروس في الشيشان، وعلى أيدي النصارى الأمريكان في العراق وأفغانستان وعلى أيدي الإثيوبيين في الصومال، وعلى أيدي الشيعة في العراق، وفي غيرها من بلاد المسلمين لَيُذَكِّرُنا بواجبنا نحو هذا الدين ووجوب الثبات عليه ونصرته والدفاع عنه والتضحية بأنفسنا وبأنفَس ما لدينا في سبيل الله عز وجل.
(1) هذه الخطبة واللتان بعدها بتصرف من رسالة (أصحاب الأخدود) للشيخ رفاعي سرور.
إن لسان حال هؤلاء المستضعفين:
كَتَبنا بالدّمِ الغالي بيانَا
…
نُخَبِّر مَن نُحبُّ بما دهَانَا
ونَنْقُل صورةً عَنَّا إليْكُم
…
تَرَوْنَ بها الحرائقَ والدُخَانَا
تَرَوْنَ مَدامِعَ الأطفالِ لَمَّا
…
يُجَمِّدُها الجليدُ على لِحَانا
تَرَوْنَ نساءَنا مُتلَفِّعاتٍ
…
بحسْرَتِهِنَّ يَنْشُدْن الحَنَانَا
تَرَوْنَ شيوخَنا عجَزَتْ خُطاهُمْ
…
فما هربُوا ولا وَجدُوا الأمَانَا
تَرَوْنَ بُيوتَنا صارتْ قُبورًا
…
وتحتَ رُكامِها دفنُوا رُؤَانا
أحِبَّتَنَا أعَادِينَا قُساةٌ
…
فلا تتَعجَّبُوا مِمَّا اعْتَرَانَا
همُ اختطفوا هُدوءَ الليلِ مِنَّا
…
ومِن أجواءِنا سَرَقُوا شَذَانَا
نَلُوذُ بِمَنْ أرَانا الحقَّ حقًّا
…
ومَن بظلالِ رحمتِه احْتوانا
أمِا والله مَا نخشَى عدُوًّا
…
يَظَلُّ برَغْم قسوتِه جبَانَا
زَرَعْنا للبُطولةِ جانِحَيْها
…
فطارَتْ نحونا تحْمِي حِمَانَا
وذَوَّبْنَا الجليدَ بها وسِرْنا
…
تُغَرِّد تحتَ أرجُلِنا خُطَانَا
بُطُولَتُنا غَذَوْناها يَقينًا
…
وأسْرَجْنَا لجوْلَتِها الحِصانَا
سقَيْنَاها الدُعَاءَ ومَا مَلَلْنَا
…
نُنَاشِدُ مَن بقُدْرتِه كفَانَا
تكَامَل موقفُ الأعداءِ مِنَّا
…
وأيَّدَ بعضُهم بعضًا عَيانَا
لِقاءٌ بين شَرقٍ مُستَبِدٍّ
…
وغربٍ بالعداوةِ واجَهَانَا
أحِبَّتَنَا لنا حقٌّ عليكمْ
…
ومَن عرَفَ الحقوقَ رعَى وصَانَا
أقَمْنا حُجَّةَ الإسلامِ فيكُمْ
…
وأحْيَيْنا الجهادَ علَى ثَرانَا
بذَلْنا النفْسَ للمولَى وطِرْنَا
…
بأجنحةِ الرضَا لما دعانَا
فماذا تبذُلون لنَصْرِ دِينٍ
…
وأعيُنُكم بِلا غَبَشٍٍ ترانَا
ألَسْتُمْ تُبصِرُون دُخَانَ غَدْرٍ
…
وإرهابًا به الباغي رَمَانَا
ومَا إرهابُ هذَا العصرِ مِنَّا
…
ولَا فِينَا ولا هُو مِن هُدَانَا
دَعاوَى مِن عَدُوّ اللهِ يرمِي
…
بأسْهُمِها لِيُوقِفَ مُرتَقانَا
يُفَرِّقُ بَيْنَنا ويُثِيرُ فِينَا
…
خِلافاتٍ يَزيدُ بِها أسَانا
وكَمْ مِن وَاهِن في الأرضِ يحْبُو
…
ويَحْسَبُ أنَّهُ بلغَ العَنانَا
أمَا علِم المكابِرُ أنَّ فينَا
…
كتابَ اللهِ يمنَحُنا البيانَا
يُضِيءُ لنا الوجودَ فنحنُ نبنِي
…
على أضواء منهجِه الكيانَا
نقولُ له وللدنيا جميعًا
…
بأنَّا سوفَ نرعَى من رعَانا
وسوف نُلَقِّنُ الباغينَ درسًا
…
يُعيدُ إلى المودةِ مَن جَفانا
سَنُرهُبُ بالجهادِ طُغاةَ حربٍ
…
ونَمنَحُهم إذا صَدقُوا الأمانَا
قصة طفل بطل:
وها هي قصة من قصص الثبات الرائعة بطلها طفل صغير ضحَّى بحياته في سبيل نشر دين الله عز وجل.
عن صُهَيْبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: «إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ» ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ فَأَعْجَبَهُ، فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ. فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ:«إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ» ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتْ النَّاسَ فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمْ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا
فَقَالَ: «اللهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ» ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ.
فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ:«أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ» . وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ:«مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي» ، فَقَالَ:«إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ» فَآمَنَ بِاللهِ فَشَفَاهُ اللهُ، فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ:«مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟» قَالَ: «رَبِّي» قَالَ: «وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟» قَالَ: «رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ» ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ.
فَجِيءَ بِالْغُلَامِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ» ، فَقَالَ:«إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ» فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ: «ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ» ، فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ:«ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ» فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ.
ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ» ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ:«اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ» ، فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ.
فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟» قَالَ: «كَفَانِيهِمُ اللهُ» فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ» ، فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ:«اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟» قَالَ: «كَفَانِيهِمُ اللهُ» .
فَقَالَ لِلْمَلِكِ: «إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ» ، قَالَ:«وَمَا هُوَ؟» قَالَ: «تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي» .
فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ «بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ» ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ:«آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ» .
فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: «أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ، قَدْ وَاللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ» ، فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ:«مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ» ، فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ:«يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ» (رواه مسلم).
(الْأَكْمَه): الَّذِي خُلِقَ أَعْمَى، (الْمِئْشَار): الْمِنْشَار، (ذُرْوَة الْجَبَل): أَعْلَاهُ، (رَجَفَ بِهِمْ الْجَبَل): أَيّ اِضْطَرَبَ وَتَحَرَّكَ حَرَكَة شَدِيدَة، (الْقُرْقُور): السَّفِينَة الصَّغِيرَة، (انْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَة): اِنْقَلَبَتْ، (الصَّعِيد): الْأَرْض الْبَارِزَة، (كَبِد الْقَوْس): مِقْبَضهَا عِنْد الرَّمْي، (الصدغ): جانب الوجه من العين إلى الأذن، (نَزَلَ بِك حَذَرك): أَيْ مَا كُنْت تَحْذَر وَتَخَاف، (الْأُخْدُود): هُوَ الشَّقّ الْعَظِيم فِي الْأَرْض، وَجَمْعه أَخَادِيد، (السِّكَك): الطُّرُق، وَأَفْوَاههَا: أَبْوَابهَا.
(مَنْ لَمْ يَرْجِع عَنْ دِينه فَأَحْمُوهُ فِيهَا): اِرْمُوهُ فِيهَا مِنْ قَوْلهمْ: «حَمَيْت الْحَدِيدَة، وَغَيْرهَا» إِذَا أَدْخَلْتهَا النَّار لِتُحْمَى، (تَقَاعَسَتْ): تَوَقَّفَتْ وَلَزِمَتْ مَوْضِعهَا، وَكَرِهَتْ الدُّخُول فِي النَّار.
راوي القصة أحد الأبطال:
هذه القصة حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وراوي هذا الحديث هو صهيب الرومي سدد خطاكم والذي كان مستضعفًا في مكة وحِينَ أَرَادَ الْهِجْرَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ لَهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: «أَتَيْتَنَا صُعْلُوكًا، فَكَثُرَ مَالُكَ عِنْدَنَا، وَبَلَغْتَ ما بَلَغْتَ، ثم تريد أن تَخْرُجَ بِنَفْسِكَ وَمَالِكَ، وَاللهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ» ، فَقَالَ لَهُمْ:«أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ مَالِي أَتُخَلُّونَ سَبِيلِي؟» فَقَالُوا: «نَعَمْ» ، فَقَالَ:«أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَكُمْ مَالِي» ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:«رَبِحَ صُهَيْبُ، رَبِحَ صُهَيْبُ» (رواه ابن حبان وغيره، وصححه الألباني)، الصعلوك: الفقير.
وفي صهيب سدد خطاكم نزل قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (البقرة: 207). وقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أبَا يَحْيَى، رَبِحَ البَيْعُ» ، وتلا عليه هذه الآية. (رواه الحاكم وقال: “ صحيح على شرط مسلم “، وسكت عنه الذهبي في التلخيص).
وعن صهيب سدد خطاكم قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وخرج معه أبو بكر سدد خطاكم وكنت قد هممت بالخروج معه فصدني فتيان من قريش فجعلت ليلتي تلك أقوم ولا أقعد، فقالوا:«قد شغله الله عنكم ببطنه» ، ولم أكُنْ شاكيًا، فقاموا فلحقني منهم ناس بعدما سرت بَرِيدًا ليَرُدُّوني فقلت لهم:«هل لكم ان أعطيكم أواقي من ذهب وتخلون سبيلي وتَفُون لي؟» ، فَتَبِعْتُهم إلى مكة فقلت لهم:«احفروا تحت أسكفة الباب فإنّ تحتها الأواق واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين» . وخرجْتُ حتى قدِمْتُ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يتحول منها - يعني قباء - فلما رآني قال: «يَا أبَا يَحْيَى رَبِحَ الْبَيْعُ» ثلاثًا. فقلت: «يا رسول الله، ما سبقني إليك أحدٌ، وما أخبرك إلا جبريل – عليه السلام» . (رواه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الذهبي في التلخيص)، الأسكفة: عتبة الباب، والبَرِيدُ: مسافة قدرها فرسخان وقيل غير ذلك.
بطانة السوء:
عن صُهَيْبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: «إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ» .
من هذا القول نجد نموذجًا لبطانة السوء التى يهمها أن تبقى الأوضاع التي يستفيدون منها وينعمون فيها، ومثلهم الواضح سحرة فرعون الذين جاءوا إلى المدائن لمواجهة موسى فكان أول ما قالوا:{وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} (الأعراف: 113).
فلم يسألوا عمن سيواجهون وما هي قضيته، فهذا لا يهم ولكن الذي يهم هو الأجر، غير أننا نلحظ أن الساحر في طلبه للغلام لم يكن يريد منفعة شخصية لأن الطلب جاء لما أحس الساحر بِدُنُوِّ أجله. فلم يكن يريد بهذا الطلب شخصه.
وهنا يبرز معنى جديد وهو أن الساحر لما كبر وعاش عمره في تهيئة الواقع للملك مستفيدًا ومنعمًا لم يصبح الأمر بالنسبة له منفعة ذاتية بل أصبح ذاته نفسها التي أحب أن تستمر في شخص الغلام فقد قضى عمره ساحرًا ولابد من امتداد لهذا العمر بعمر جديد. فكان طلبه للغلام.
وهنا مثال آخر:
لما انتهت معركة بدر وجد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أبا جهل وبه آخر رمق، فوضع رِجْله على عنقه وأخذ لحيته ليحتز رأسه، وقال:«هل أخزاك الله يا عدو الله؟» ، قال:«وبماذا أخزاني؟ هل فوق رجل قتلتموه؟» ، وقال:«فلو غير أكَّار قتلنى» ، ثم قال:«أخبرني لمن الدائرة اليوم؟» قال: «لله ورسوله» ، ثم قال لابن مسعود - وكان قد وضع رِجْله على عنقه -:«لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رُوَيْعِىَ الغنم» ، وكان ابن مسعود من رعاة الغنم في مكة. وبعد أن دار بينهما هذا الكلام احتز ابن مسعود رأسه.
فها هو أبو جهل في الرمق الأخير يريد أن يطمئن على الباطل الذي كان يحمله. فتأمل حرص أهل الباطل على نشر باطلهم، فكيف لا يحرص المسلم على نشر الحق الذي يحمله.
الهداية من الله عز وجل:
(فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ فَأَعْجَبَهُ، فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ. فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: «إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ»).
الغلام في لغة العرب: من كان بعد سن الفطام وقبل البلوغ.
وبِقَدَر الله سبحانه وتعالى يلتقى الغلام بالراهب في طريقه إلى الساحر بصورة عجيبة فقد قعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان يجلس إلى الراهب راغبًا وإلى الساحر كارهًا.
وتلمح من النص أن الغلام كان على إصرار في القعود إلى الراهب لأنه كان يقعد إليه كلما أتى الساحر، رغم أن الساحر كان يضربه كلما تأخر عنه. وهذا الضرب يمثل بالنسبة للغلام بلاءًا وامتحانًا إذا راعينا أنه غلام صغير.
ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يتربى هذا الغلام - من البداية - تربية حقيقية كاملة ويريد أن يكون ارتباطه بالدعوة متفقًا مع طبيعتها لأن هذا الغلام سيكون منطلقًا أساسيًا لتلك الدعوة، وسيكون دليل الناس إليها.
ولكن الغلام يشتكي إلى الراهب هذا البلاء شكوى الذي يعاني من مشكلة تعوق انطلاقه واستمراره ولم تكن شكوى الذي يقدم المعاذير ليتخلى ويتراجع.
ومن قول الراهب تتبين لنا نظرته إلى الواقع فقد كان يعتبره “ دار حرب “ ولهذا أجاز لغلامه أن يكذب إذ أن الكذب لا يجوز إلا في ثلاث حالات كما أخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلَاّ فِى ثَلَاثٍ: يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، وَالْكَذِبُ فِى الْحَرْبِ، وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ» . (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وَكَذِبه لِزَوْجَتِهِ وَكَذِبهَا لَهُ الْمُرَاد بِهِ فِي إِظْهَار الْوُدّ وَالْوَعْد بِمَا لَا يَلْزَم وَنَحْو ذَلِكَ، فَأَمَّا الْمُخَادَعَة فِي مَنْع مَا عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا، أَوْ أَخْذ مَا لَيْسَ لَهُ أَوْ لَهَا فَهُوَ حَرَام بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
وانْظُرْ فِي حِكْمَةِ اللهِ عز وجل وَمَحَبَّتِهِ لِاجْتِمَاعِ الْقُلُوبِ كَيْفَ حَرَّمَ النَّمِيمَةَ وَهِيَ صِدْقٌ لِمَا فِيهَا مِنْ إفْسَادِ الْقُلُوبِ وَتَوْلِيدِ الْعَدَاوَةِ وَالْوَحْشَةِ، وَأَبَاحَ الْكَذِبَ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا، إذَا كَانَ لِجَمْعِ الْقُلُوبِ وَجَلْبِ الْمَوَدَّةِ وَإِذْهَابِ الْعَدَاوَةِ.
والحرب هي الحالة التي كان الراهب يعتبر نفسه عليها مع المجتمع الذي يعيش فيه. ولتوضيح فكرة جواز الكذب في هذه الحالات الثلاث التي جاءت في الحديث نجد أن الجواز جاء بتلك الصيغة: «لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلَاّ فِى ثَلَاثٍ» ، فالجواز هنا ليس أساسه أمر أو إباحة مطلقة ولكنه إباحة مقيدة بحالات محددة.
وليحذر كل مسلم الخروج عن حدود النصوص التي حددها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جواز الكذب حتى لا تتسرب تلك الصفة إلى طبيعته فيكتب عند الله كذابًا.
آيات تعين على الصبر:
ومع شدة البلاء والأذى تظهر الآيات التى تعين على الصبر وتطمئن النفوس: «فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتْ النَّاسَ فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمْ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ: «اللهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ» ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ:«أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ» .
وهنا نَكتَشف أن الغلام كان قلقًا لتَلَقِّيه من الراهب والساحر في وقت واحد، ولقد كان من الممكن أن يستمر الغلام في تَلَقِّيه للدين والسحر دون قلق إذا كان يسمع للراهب والساحر بدون شعور أو تفكير لأن السماع حينئذ سيكون مجردًا من التأثر
وسيصبح الدين والسحر عند الغلام مجرد فكر وكلام ولكن القلق الذي نشأ في نفس الغلام كان بسبب تأثره العميق بكلام الراهب وإدراكه السليم لمعنى الدين.
وكان الغلام يطمئن إلي صدق ما عليه الراهب بدليل أنه لما أراد الدعاء الذي سيتحقق به الاطمئنان فعلًا قال: «اللهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ» ، فالبدء بذكر أمر الراهب قبل الساحر يعني أنه يريد أن يرتبط إيمانه بالراهب.
وكذلك نجد أن الغلام قال: (اللهُمَّ) وهذا بلا شك ما تعلمه من الراهب ويكون هذا معناه أن المقياس الذي أراد الغلام أن يفاضل به بين الراهب والساحر هو من عند الراهب وبتعاليمه مما يدل على أن حقيقة الدين استقرت في ضمير الغلام وملأت عقله وكيانه.
المعلم التقي النقي:
كان الراهب تقيًا نقيًا «فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: «أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ» .
كلمات كلها إخلاص وتجرد. فهذا الراهب المعلم أخبر الغلام أنه قد أصبح أفضل منه بلا حرج، ومن أين سيأتيه الحرج وقد خلصَتْ نفسُه لله تبارك وتعالى؟ فهو لم يكن يُعَلّم ليُقَال عنه عالم، ولم يكن يدعو ليكون على رأس أتباع، وإذا تذكرنا أن الغلام كان صغيرًا سنًا، وأنه ما التقى بالراهب إلا منذ وقت قريب فإننا ندرك مدى الفهم الصحيح عند الراهب للدعوة؛ فالدعوة ليست بالعمر الذي يعيشه الإنسان ولكن بالإيمان والكفاءة والأثر.
المعلم المربي:
إن الراهب لما ذكر للغلام ميزته أتبعها بالمسئولية التى تقع عليه باعتبار تلك الميزة، وهذا في الواقع حماية للإنسان من الغرور؛ لأن الإحساس بتكاليفها يجعل
الإنسان يعيش في شعور دائم بميزاته فينحرف به ذلك الشعور إلى الغرور ولهذا لما قال الراهب للغلام: «أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي» ، قال له:«وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى» .
السرية والكتمان:
«فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ» . وهذه هي فكرة السرية في منهج الدعوة.
وقد كانت السرية مرحلة أساسية في تاريخ الدعوة منذ بدايتها؛ فهذا نوح عليه السلام يقول {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)} (نوح: 8 - 9).
وتكشف لنا آيات القرآن إيمانَ رَجُلً من آل فرعون: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} (غافر: 28). فقد كان الرجل من آل فرعون واستطاع أن يكتم إيمانه.
وأيضًا زوجة فرعون نفسه كانت تكتم إيمانها؛ {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)} (التحريم: 11). وذلك دون أن يدري فرعون.