الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
61 - الثبات حتى الممات
فتح باب الإيمان:
لقد كان آخر ما قاله الغلام هو أمره للملك بأن يقول: «بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ» . وبهذه الكلمة فتح الغلام للناس باب الإيمان. فقد كانوا يعرفونه محبًا لهم وساعيًا لمنفعتهم ومداويًا لأدوائهم وما بقي إلا أن يعرف الناس أن للغلام ربًّا هداه إلى محبتهم وأذِنَ له بشفائهم.
«بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ» باسمه تحقق عجز الملك، وباسمه سيموت الغلام راغبًا من أجل إيمانهم، وهنا نشعر بمدى القهر الذي انتهى إليه الملك. فبعد أن كان يدَّعي الربوبية ويعذب ويقتل من لا يدَّعيها له، يقول في النهاية بنفسه:«بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ» . ولذلك لم يكن الغلام خائفًا من أن تنعكس رؤية الناس له وهو يموت خوفًا من الملك بعد قهره بهذا الموقف.
كما أن الغلام لم يكن خائفًا لأنه استطاع أن ينشئ تعاطفًا كاملًا له في نفوس هؤلاء الناس بسلوكه معهم قبل ذلك وبموقف الموت ذاته حيث تحدد الفارق بينه كغلام صغير مصلوب على جذع شجرة وبين الملك الظالم.
وداعًا أيُّها البطلُ
…
لفَقْدِك تَدمعُ المقلُ
لئنْ ناءَتْ بنا الأجسادُ
…
فالأرواحُ تتصلُ
فنسألُ ربَّنا المولَى
…
وفي الأسحارِ نبتهلُ
بأنْ نلقاكَ في فَرَحٍ
…
بِدارٍ مَا بها مَللُ
بجنّاتٍ وروضاتٍ
…
بها الأنهارُ والحُلَلُ
بها الحورُ تُنادينَا
…
بصوتٍ مَا له مَثَلُ
بها الأحبابُ قاطبةً
…
كذا الأصحابُ والرسلُ
بها أبطالُ أمَّتِنا
…
بها شُهَدَاؤُنا الأوَلُ
فيَا مَن قَدْ سَبَقْتَ
…
إلى جِنَانِ الخُلْدِ ترتحِلُ
هنيئًا ما ظفرْتَ به
…
هَنيئًا أيُّها البطَلُ
واستجاب الناس:
وعندما انتهى الخوف من الملك المقهور وبدأ التعاطف مع الغلام الداعية بدأ الناس في الإحساس الصحيح بالموقف: غلام صغير يحب الناس ويقدم لهم المنافع والخير، يموت برغبته من أجلهم، بعد أن أثبت عجز الملك وضعفه، يموت من أجل أن يؤمنوا بالله رب الغلام.
انظُرْ إلى الماءِ إنّ البذْلَ شيمَتُه
…
يأتي الحقولَ فيرْوِيها ويحْمِيها
واستجاب الناس، فاندفعوا من كل مكان بلا خوف يرددون نداءات الإيمان:«آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ» .
مواجهة بين أهل الحق وأهل الباطل:
فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: «أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ، قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ» فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ: «مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ» ، فَفَعَلُوا.
لم يتوقف اندفاع الناس من كل طريق وفي كل السكك وواصلوا الاندفاع حتى أخاديد النيران. وواصل الملك مواجهة الجماهير المندفعة فقال: «مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ» ؛ ليقاوم كل إنسان بنفسه حب البقاء في نفسه فيكون أقل مقدار للضعف كافيًا وسببًا للارتداد. وقد كانت هذه الفكرة آخر ما أفرزته رأس هذا الملك المهزوم من سموم المكر. ولكن الإيمان أبطل أثرها، وعالجت قوة الاندفاع الأصيل إلى الموت أثر أي ضعف كان كامنًا في النفوس.
موقف لغلام آخر:
ويذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشهدًا لمعالجة الإيمان لإحساس التعلق بالحياة فيه: «حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ: «يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ» .
جاءت الأم بولدها متمسكة به إلى النهاية لم تَفْصلها أهوال الأحداث عنه حتى جاءت إلى حافة الأخدود واشتعلت مشاعر الأمومة وكراهية الموت فيها فترددت أن تقع بابنها ولكن الطفل - مرة أخرى طفل - يُطْفئ في إحساس أمه لهيب النار ذات الوقود لتُلْقِي بنفسها وتنجو من الضعف والتقاعس، وكان حديث هذا الصبي هو آخر كلمات القصة عند حافة الأخدود، قصة الانتصار للحق.
كمْ في خيامِ الذُلِّ مِن فتيانِنَا
…
مَن نالَهُ ما نالني ودهاهُ
لكنَّنِي عِفْتُ الحياةَ مشردًا
…
ورضيتُ دربًا لا أريدُ سواهُ
لاتمسحِي دمعي ولكن ودِّعي
…
بطلًا يباركُ ربُّه مَسْعاهُ
لاتجزعي فلَقَدْ يَطُول غيابُه
…
عن مُقْلَتَيْكِ وتخْتَفِي رُؤْيَاهُ
وإلى اللقاءِ لدَى الإلهِ وخُلْدِه
…
في عالمِ الأرواحِ يا أمَّاهُ
ومضَى الفِدائِيُّ الشهيدُ لربِّهِ
…
عَجِلًا إليه كَيْ ينالَ رِضاهُ
وتبقى مشاهد العذاب وأخاديد النيران بشررها المتطاير ولهيبها ترتفع ألسنته بأجساد المؤمنين الطاهرة. ويبقى أثر تلك النار في قلب كل مؤمن مستضعف في الأرض ترتفع ألسنتها كلما استشهد شهيد في سبيل تلك الدعوة من أجل التمكين لها في الأرض وهذه الحياة.
لدى ذِكْرِكم تحْيَى المحامدُ والعُلَى
…
وما ماتَ مَن في ذِكْرِه للْعُلَى ذِكْرُ
فإنْ ستَرَتْ تلكَ القبورُ جُسومَكم
…
فثَمَّ خصالٌ ليسَ يستُرُها قبرُ
من المجدِ نِلْتُم غايةً بعدَ غايةٍ
…
يقودُكم عزمٌ ويدفعُكم صَبْرُ
القرآن الكريم يذكر القصة:
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} تبدأ السورة قبل الإشارة إلى حادث الأخدود بهذا القسم: بالسماء ذات البروج، وهي إما أن تكون أجرام النجوم الهائلة وكأنها بروج السماء الضخمة أي قصورها المبنية، كما قال:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)} (الذاريات: 47) وكما قال: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)} (النازعات: 27) وإما أن تكون هي المنازل التي تنتقل فيها تلك الأجرام في أثناء دورانها، وهي مجالاتها التي لا تتعداها في جريانها في السماء.
{وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} وهو يوم الفصل في أحداث الدنيا، وتصفية حساب الأرض وما كان فيها. وهو الموعود الذي وعد الله بمجيئه، ووعد بالحساب والجزاء فيه؛ وأمهل المتخاصمين والمتقاضين إليه. وهو اليوم العظيم الذي تتطلع إليه الخلائق، وتترقبه لترى كيف تصير الأمور.
{وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} في ذلك اليوم الذي تعرض فيه الأعمال، وتعرض فيه الخلائق، فتصبح كلها مشهودة، ويصبح الجميع شاهدين، ويُعلَم كل شيء، ويظهر مكشوفًا لا يستره ساتر عن القلوب والعيون.
وتبدأ الإشارة إلى الحادث بإعلان النقمة على أصحاب الأخدود: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} . وهي كلمة تدل على الغضب، غضب الله على الفعلة وفاعليها. كما تدل على شناعة الذنب الذي يثير غضب الحليم، ونقمته، ووعيده بالقتل لفاعليه. ثم يجيء تفسير الأخدود:{النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} والأخدود: الشق في الأرض. وكان أصحابه قد شقوه وأوقدوا فيه النار حتى ملأوه نارًا، فصارت النار بدلًا في التعبير من الأخدود للإيحاء بتلهب النار فيه كله وتوقدها.
قتل أصحاب الأخدود، واستحقوا هذه النقمة وهذا الغضب، في الحالة التي كانوا عليها وهم يرتكبون ذلك الإثم، ويزاولون تلك الجريمة:{إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)} . وهو تعبير يصور موقفهم ومشهدهم، وهم يوقدون النار، ويلقون بالمؤمنين والمؤمنات فيها وهم قعود على النار، قريبون من عملية التعذيب البشعة، يشاهدون أطوار التعذيب، وفعل النار في الأجسام في لذة وسعار، كأنما يثبتون في حسهم هذا المشهد البشع الشنيع!
وما كان للمؤمنين من ذنب عندهم ولا ثأر: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)} فهذه جريمتهم أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد. العزيز القادر على ما يريد، الذي له العزة التي قهر بها كل شيء. وهو الحميد في أقواله وأوصافه وأفعاله، المستحق للحمد في كل حال، والمحمود بذاته ولو لم يحمده الجهال! وهو الحقيق بالإيمان وبالعبودية له. وهو وحده الذي له ملك السماوات والأرض وهو يشهد كل شيء.
وهو الشهيد على ما كان من أمر المؤمنين وأصحاب الأخدود، وهذه لمسة تُطَمْئِنُ قلوب المؤمنين، وتهدد العتاة المتجبرين. فالله كان شهيدًا. وكفى بالله شهيدًا.
وتنتهي رواية الحادث في هذه الآيات القصار، التي تملأ القلب بشحنة من الكراهية لبشاعة الفعلة وفاعليها، كذلك تنتهي رواية الحادث وقد ملأت القلب بالروعة. روعة الإيمان المستعلي على الفتنة، والعقيدة المنتصرة على الحياة.
فقد كان يمكن للمؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم. ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم في الدنيا قبل الآخرة؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير: معنى زهادة الحياة بلا عقيدة.
إنه معنى كريم جدًا ومعنى كبير جدًا هذا الذي ربحوه وهم بَعْدُ في الأرض. ربحوه وهم يجدون مس النار فتحترق أجسادهم، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تُذْكِيه النار؟ وبعد ذلك لهم عند ربهم حساب، ولأعدائهم الطاغين حساب.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} علمًا وسمعًا وبصرًا، أفلا خاف هؤلاء المتمردون على الله، أن يبطش بهم العزيز المقتدر، أو ما علموا أنهم جميعهم مماليك لله، ليس لأحد على أحد سلطة، من دون إذن المالك؟ أوَخفي عليهم أن الله محيط بأعمالهم، مجاز لهم على فعالهم؟ كلا إن الكافر في غرور، والظالم في جهل وعمى عن سواء السبيل.
ثم وعدهم، وأوعدهم، وعرض عليهم التوبة، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} أي: العذاب الشديد المحرق.
{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} إن الذي حدث في الأرض وفي الحياة الدنيا ليس خاتمة الحادث وليس نهاية المطاف. فالبقية آتية هناك. والجزاء الذي يضع الأمر في نصابه، ويفصل فيما كان بين المؤمنين والطاغين آتٍ. وهو مقرر مؤكد، وواقع كما يقول عنه الله سبحانه وتعالى وينص على {الْحَرِيقِ} وهو مفهوم
من عذاب جهنم. ولكنه ينطق به وينص عليه ليكون مقابلًا للحريق في الأخدود. وبنفس اللفظ الذي يدل على الحدث.
ولكن أين حريق من حريق؟ في شدته أو في مدته! وحريق الدنيا بنار يوقدها الخلق. وحريق الآخرة بنار يوقدها الخالق! قال صلى الله عليه وآله وسلم: «نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِى يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ» . قَالُوا: «وَاللهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللهِ» . قَالَ: «فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا» . (رواه البخاري ومسلم).
وحريق الدنيا لحظات وتنتهي، وحريق الآخرة آباد لا يعلمها إلا الله! ومع حريق الدنيا رِضَى الله عن المؤمنين وانتصار لذلك المعنى الإنساني الكريم. ومع حريق الآخرة غضب الله، والارتكاس الهابط الذميم!
ولما ذكر عقوبة الظالمين، ذكر ثواب المؤمنين، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بقلوبهم {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بجوارحهم {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} الذي حصل به الفوز برضا الله ودار كرامته.
الدنيا الهينة:
إن الدنيا هينةُ على الله عز وجل فقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وفي صحيح مسلم عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِى الآخِرَةِ إِلَاّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ - وَأَشَارَ يَحْيَى ـ أحد رواة الحديث ـ بِالسَّبَّابَةِ - فِى الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ» .
وفي صحيح مسلم أيضًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ فَمَرَّ بِجَدْىٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ:«أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ» . فَقَالُوا: «مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَىْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ» ،
قَالَ: «أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ» . قَالُوا: «وَاللهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ؛ لأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ» ، فَقَالَ:«فَوَاللهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ» .
(الكَنفَ: الجانِب والناحِية. أسكَّ: أي: صغير الأُذنين).
إن الدنيا هينةُ على الله، ومن هوانها أنها أهونُ من هذه الجيفةُ التي ألقيتموها واستغربتم أن يزاد عليها ولو بدرهمٍ يسير. فقيمتها الشرائية صفر، ليس لها قيمة.
وإذا كانتِ الدنيا هينةُ على اللهِ هذا الهوان، فإن اللهَ عز وجل لم يَرْضَها جزاءً لأوليائِه.
وأيضًا لم يجعلَ العذابُ فيها والعقوبة فيها هي الجزاءُ الوحيدُ لأعدائه.
كلا إن الدنيا أهونُ على الله، بل لولا أن يفتن الناس، لولا أن تصيبهم فتنة لجعل الله هذه الدنيا بحذافيرها وزينتها وبهجتها ومتاعها جعلها كلها للكافرين.
استمع إلى هذه الآيات: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)} (الزخرف: 33 - 35).
أما الدنيا فأهون على الله من أن يجعلها للمتقين جزاء، أو يجعل العذاب فيها فقط جزاء الكافرين. كلا. لولا أن تفتن قلوب الناس لأعطى الدنيا للكافرين، كل ذلك قليلُ وحقير وتافه:{وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} (الزخرف: 35). ولكن قلةَ هذا المتاع وضآلته وتفاهته لا تظهرُ إلا إذا قورن بالعمرِ الأبديِ الخالدِ في الآخرة.
هناك تظهرُ قلةَ هذا المتاع. ولذا لما ذكر اللهُ زهو الكافرين ومظاهر القوة التي يتمتعون بها، وتقلبَهم في البلاد واستيلاءهم عليها، ذكر ذلك وعبر عنه بقوله عز وجل:{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ} (آل عمران: 196 - 197).
{قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)} (الزمر: 8). نعم قليلًا، تمتع بكفرك قليلًا، قد يكون هذا القليل ستون سنة. قد يكون سبعون، قد يكون مائة، ولكن كم تساوي هذه الومضة في عمر الخلود الأبدي في الآخرة؟ كم تساوي هذه الومضة في عمر أبدي خالد في دار الجزاء. {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)} (المؤمنون: 12 - 13). قالوا يومًا .. ثم تكاثروا اليوم، فرجعوا:{أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} ، {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} (المؤمنون: 114).
كان هذا القليل عشرات السنين، ولكنها أصبحت في عمر الخلود الأبدي في الآخرة يومًا، كلا فاليوم كثير، بعض يوم، بعض يوم وهم مستيقنون أنه بعض يوم فاسأل العادين. {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)} (المؤمنون: 14).
هناك يأتي الجزاءُ الحقيقي. ولذا كانت آياتُ القرآنِ تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تخاطبه وتلفتُ أنظارَ المؤمنين معه إلى أن القِصاص الحقيقي، والعقوبةَ الحقيقةَ والجزاء الذي ينتظرُ الظالمين والمتكبرين والمتجبرين من الكفار والفجرة والظلمة هناك:{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} (الغاشية: 25 - 26). {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)} (يونس: 46). قد ترى شيئًا من عقوبتهم، وقد يتوفاك قبل ذلك.
ولكن العبرةُ بالمرجع إلينا، وهناك سيلقون ربًا كان شهيدًا على فعلهم كلِه، كلِ الذي فعلُوه لم يكن خافيًا على الله، كان مطلعًا عليه:{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)} (الزخرف: 83). حينها كيف سيكون حالهم؟ {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (المعارج: 43 - 44). فاليوم أبصارهم خاشعة، وكبرياؤهم ذليل، لماذا؟ {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (المعارج: 44). لأنهم في يوم الموعد، لقد وعدوا ذلك اليومَ.
وعدوا به في الدنيا ولكن استهانوا واستخفوا، فما بالوا وما اكترثوا ولا استعدوا فما أسرعَ ما لقوه. {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)} (إبراهيم: 42 - 43). {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} : أي تنفتح فلا تغمض لشدة ما ترى من الأهوال. {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} : أي مسرعين الى الداعي الذي دعاهم الى الحشر، رافعي رؤوسهم. {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}: أي فارغة من العقل لشدة الخوف والفزع. هنا نعلم أنه ليس بالحتم أن تحلَ العقوبةُ بالظالمينَ في الدنيا. ليس بالحتم أن يعجلوا بالعقوبة. ولكن الذي نحن منه على يقين أن ظلمَهم واجتراءهم على الله، وانتهاكَهم لحرماتِ الله، لم يجرِ في غفلةٍ من الله.
ثم ليست كلُ عقوبةٍ لابد أن تكون ماثلةً للعيان، فهناك عقوباتُ تدبُ وتسري إلى المعاقبينَ بخفية، تسري فيهم وتمضي منهم وتتمكن من هؤلاء وهم - لمكر الله بهم - لا يشعرون. قد يُمْلِي اللهُ لظالمِ ولكن ليزدادَ من الإثمِ وليحيطَ به الظلمُ، ثم يوافي اللهَ بآثامه كلِها وجرائمهِ كلِها، ليوافي حينئذٍ جزاءه عند ربٍ كان في الدنيا مطلعًا عليه، شهيدًا عليه، رقيبًا عليه. {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)} (آل عمران: 178). إنا إذا رأينا إملاء اللهِ للظالمين وتمكينه للمجرمين فينبغي أن نعلم باليقين وإلا فنحن نعلم بالإيمان أن الجزاءَ مدخرٌ هناك، ولذا فلا دعي للبحث عن كوارث دنيوية تحل بهم.
إنك تشفق على بعض الطيبين عندما تراهم يجهدون أنفسهم في البحث عن عقوبة دنيوية حلت بهذا الظالم أو ذاك المجرم، حتى إذا لم يجدوا شيئًا قالوا الموت هو العقوبة. كلا. لقد مات الأطهار والأبرار والرسل الكرام، ولكن العبرة هناك في دار الجزاء. ويجب أن لا يغترَ أحدُ بأي مظهرٍ من مظاهر القوةِ أُتيها، فمظاهرُ القوةِ في الدنيا نسبية، ولكنها كلها على تفاوتها تتعطل حينما يوقفُ العبدُ بين يدي الله عز وجل.
62 -
مفهوم الإفساد في الإسلام
من أعظم الإفساد الصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى وتعطيل شريعته:
قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)} (النحل: 88). حيث كفروا بأنفسهم، وكذبوا بآيات الله، وحاربوا رسله، وصدوا الناس عن سبيل الله عز وجل، وصاروا دعاة إلى الضلال فاستحقوا مضاعفة العذاب، كما تَضاعَف جرمُهم، وكما أفسدوا في أرض الله عز وجل.
تطبيق القوانين الوضعيّة والبعد عن شرع الله سبحانه وتعالى من أعظم الفساد في الأرض:
قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)} (المؤمنون: 71).
فالحق واحد ثابت، والأهواء كثيرة متقلبة. وبالحق الواحد يُدَبَّر الكون كلّه، فلا ينحرف ناموسه لهوى عارض، ولا تتخلف سنته لرغبة طارئة. ولو خضع الكون للأهواء العارضة، والرغبات الطارئة لَفَسَد كله، ولفسد الناسُ معه، ولفسدت القيم والأوضاع، واختلت الموازين والمقاييس، وتأرجحت كلها بين الغضب والرضى، والكره والبغض، والرغبة والرهبة، والنشاط والخمول، وسائر ما يعرض من الأهواء والمواجد والانفعالات والتأثرات، وبناء الكون المادي واتجاهه إلى غايته كلاهما في حاجة إلى الثبات والاستقرار والاطراد، على قاعدة ثابتة، ونهج مرسوم، لا يتخلف ولا يتأرجح ولا يحيد.
ومن هذه القاعدة الكبرى في بناء الكون وتدبيره، جعل الإسلام التشريع للحياة البشرية جزءًا من الناموس الكوني. والبشر جزء من هذا الكون خاضع لناموسه الكبير؛ فأولى أن يشرع لهذا الجزء من يشرع للكون كله، ويدبره في تناسق عجيب.
بذلك لا يخضع نظام البشر للأهواء فيفسد ويختل: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (المؤمنون:71) إنما يخضع للحق الكلي، ولتدبير صاحب التدبير.
وهذه الأمة التي جاء لها الإسلام كانت أوْلى الأمم باتباع الحق الذي يتمثل فيه. ففوق أنه الحق هو كذلك مجد لها وذكر. وما كان لها من ذكر لولاه في العالمين: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} (المؤمنون: 71).
وقد ظلت أمة العرب لا ذكر لها في تاريخ العالم حتى جاءها الإسلام. وقد ظل ذكرها يُدَوّي في آذان القرون طالما كانت به مستمسكة. وقد تضاءل ذكرها عندما تخلت عنه، فلم تعد في العير ولا في النفير. ولن يقوم لها ذكر إلا يوم أن تفيء إلى عنوانها الكبير. قال تعالى: {
…
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (الأنبياء: 10). وقال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)} (الزخرف: 43 - 44).
{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} فعلًا، واتّصافًا بما يأمر بالاتصاف به، ودعوةً إليه، وحرصًا على تنفيذه في نفسك وفي غيرك. {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} مُوَصِّلٍ إلى الله وإلى دار كرامته، وهذا مما يوجب عليك زيادة التمسك به والاهتداء إذا علمت أنه حق وعدل وصدق، تكون بانيًا على أصلٍ أصيل، إذا بَنَى غيرك على الشكوك والأوهام، والظلم والجور.
{وَإِنَّهُ} أي: هذا القرآن الكريم {لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} أي: فخر لكم، ومنقبة جليلة، ونعمة لا يُقَادر قدْرُها، ولا يُعرَف وصْفُها، ويذكركم أيضًا ما فيه الخير الدنيوي والأخروي، ويحثكم عليه، ويذكركم الشر ويرهبكم عنه، {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} عنه: هل قمتم به فارتفعتم وانتفعتم، أم لم تقوموا به فيكون حجة عليكم، وكفرًا منكم
بهذه النعمة؟
فنَصّ هذه الآية هنا يحتمل أحد مدلولين: أن هذا القرآن تذكير لك ولقومك تسألون عنه يوم القيامة، فلا حجة بعد التذكير. أو أن هذا القرآن يرفع ذِكْرَك وذِكْرَ قومك. وهذا ما حدث فعلًا.
فأما الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإن مئات الملايين من الشِفَاه تُصلي وتسلم عليه، وتذكره ذكر المحب المشتاق آناء الليل وأطراف النهار منذ قرابة ألف وأربع مئة عام. ومئات الملايين من القلوب تخفق بذِكْرِه وحُبِّه منذ ذلك التاريخ البعيد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وأما قومه فقد جاءهم هذا القرآن والدنيا لا تحس بهم، وإن أحست اعتبرتهم على هامش الحياة. وهو الذي جعل لهم دورهم الأكبر في تاريخ هذه البشرية. وهو الذي واجهوا به الدنيا فعرفَتْهم ودانَتْ لهم طوال الفترة التي استمسكوا فيها به. فلما أنْ تخلّوْا عنه أنكَرَتْهم الأرض، واستصغرَتْهم الدنيا؛ وقذفت بهم في ذيل القافلة هناك، بعد أن كانوا قادة الموكب المرموقين!!
وإنها لَتَبِعَةٌ ضخمة تُسأل عنها الأمة التي اختارها الله لدينه، واختارها لقيادة القافلة البشرية الشاردة، إذا هي تخلت عن الأمانة:{وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} .
المسلم لا يطيع المفسدين من العَلَمانيين وغيرهم:
قال تعالى: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (الشعراء: 151 – 152). {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} الذين تجاوزوا الحد {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} أي الذين وَصْفُهم ودأبُهم الإفساد في الأرض بعمل المعاصي والدعوة إليها إفسادا لا إصلاح فيه وهذا أضر ما يكون لأنه شر محض.
ويجب فضح المناهج والاتجاهات والأوضاع والمبادئ والسبل المخالفة للإسلام ليحيى مَن حَيَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة. ولقد كان من مهمة الأنبياء
والمرسلين عليهم السلام كشف طريق الضلال لئلا يلتبس بطريق الحق. فكان النبي يقول لقومه: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (الشعراء: 151 – 152). واستبانة سبيل المجرمين هي من مقاصد القرآن: قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} (الأنعام:55). فمن مهمات الدعوة الإسلامية على مدى الزمن أن تزيل أي التباس أو غموض قد يصيب الناس، فيلبسون المنافق ثوب المؤمن الصادق، أو يلبسون المبتدع الضال ثوب المتّبِع المهتدي.
من الإفساد استضعاف المؤمنين وتعذيبهم:
قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)} (القصص: 4).
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} في ملكه وسلطانه وجنوده وجبروته، فصار من أهل العلو فيها، لا من الأعلين فيها.
{وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} أي: طوائف متفرقة، يتصرف فيهم بشهوته، وينفذ فيهم ما أراد من قهره، وسطوته.
{يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} وتلك الطائفة، هم بنو إسرائيل، استضعفهم بحيث إنه رأى أنهم لا مَنَعة لهم تمنعهم مما أراده فيهم، فصار لا يبالي بهم، ولا يهتم بشأنهم، وبلغت به الحال إلى أنه {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} فلا يقتلهن، يفعل ذلك خوفًا من أن يكثروا، فيغمروه في بلاده، ويصير لهم الملك.
{
…
إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} الذين لا قصد لهم في إصلاح الدين، ولا إصلاح الدنيا، وهذا من إفساده في الأرض.
من الإفساد التخريب والتدمير:
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي
قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)} (البقرة: 204 – 206).
هذا المخلوق الذي يتحدث، فيصور لك نفسه خلاصة من الخير، ومن الإخلاص، ومن التجرد، ومن الحب، ومن الترفع، ومن الرغبة في إفاضة الخير والبر والسعادة والطهارة على الناس. هذا الذي يعجبك حديثه. تعجبك ذلاقة لسانه، وتعجبك نبرة صوته، ويعجبك حديثه عن الخير والبر والصلاح.
{وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} زيادة في التأثير والإيحاء، وتوكيدًا للتجرد والإخلاص، وإظهارًا للتقوى وخشية الله. {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} تزدحم نفسه باللدد والخصومة، فلا ظل فيها للود والسماحة، ولا موضع فيها للحب والخير، ولا مكان فيها للتجمل والإيثار.
هذا الذي يتناقض ظاهره وباطنه، ويتنافر مظهره ومخبره، هذا الذي يتقن الكذب والتمويه والدهان، حتى إذا جاء دور العمل ظهر المخبوء، وانكشف المستور، وفضح بما فيه من حقيقة الشر والبغي والحقد والفساد:{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} . وإذا انصرف إلى العمل، كانت وجهته الشر والفساد، في قسوة وجفوة ولدد، تتمثل في إهلاك كل حي من الحرث الذي هو موضع الزرع والإنبات والإثمار، ومن النسل الذي هو امتداد الحياة بالإنسال، وإهلاك الحياة على هذا النحو كناية عما يعتمل في كيان هذا المخلوق النكد من الحقد والشر والغدر والفساد، مما كان يستره بذلاقة اللسان، ونعومة الدهان، والتظاهر بالخير والبر والسماحة والصلاح.
{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} ولا يحب المفسدين الذين يُنْشِئون في الأرض الفساد. والله لا تخفى عليه حقيقة هذا الصنف من الناس، ولا يجوز عليه الدهان والطلاء الذي
قد يجوز على الناس في الحياة الدنيا، فلا يعجبه من هذا الصنف النكد ما يعجب الناس الذين تخدعهم الظواهر وتخفى عليهم السرائر.
إذا تولى فقصد إلى الإفساد في الأرض، وأهلك الحرث والنسل، ونشر الخراب والدمار، وأخرج ما يعتمل في صدره من الحقد والضغن والشر والفساد. إذا فعل هذا كله ثم قيل له:{اتَّقِ اللَّهَ} تذكيرًا له بخشية الله والحياء منه والتحرج من غضبه، أنكر أن يقال له هذا القول، واستكبر أن يُوَجَّهَ إلى التقوى، وتعاظم أن يُؤْخَذ عليه خطأ وأنْ يُوَجَّه إلى صواب. وأخذته العزة لا بالحق ولا بالعدل ولا بالخير ولكن {بِالْإِثْمِ} فاستعز بالإجرام والذنب والخطيئة، ورفع رأسه في وجه الحق الذي يُذَكَّر به، وأمام الله بلا حياء منه، وهو الذي كان يُشْهِد الله على ما في قلبه، ويتظاهر بالخير والبر والإخلاص والتجرد والاستحياء!
هذا الذي عناه القرآن تراه أمامك ماثلا في الأرض الآن وفي كل آن!
وفي مواجهة هذا الاعتزاز بالإثم، واللدد في الخصومة، والقسوة في الفساد، والفجور في الإفساد. {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} حسبه! ففيها الكفاية! جهنم التي وقودها الناس والحجارة. جهنم التي يُكَبْكَبُ فيها الغاوون وجنود إبليس أجمعون. جهنم الحطمة التي تطلع على الأفئدة. جهنم التي لا تُبقِي ولا تذر. جهنم التي تكاد تميز من الغيظ! حسبه جهنم {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} ويا للسخرية القاصمة في ذكر {الْمِهَادُ} هنا. ويا لبؤس من كان مهاده جهنم بعد الاعتزاز والنفخة والكبرياء!
الله سبحانه وتعالى لا يحب الفساد والمفسدين:
قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)} (القصص: 77). قال تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (البقرة: 205).
الله سبحانه وتعالى لا يصلح عمل المفسدين:
قال تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)} (يونس: 81).
{فَلَمَّا أَلْقَوْا} حبالهم وعصيهم، إذا هي كأنها حيات تسعى، فـ {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} أي: هذا السحر الحقيقي العظيم، ولكن مع عظمته {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} فإنهم يريدون بذلك نصر الباطل على الحق، وأي فساد أعظم من هذا؟!!
وهكذا كل مفسد عمل عملًا واحتال كيدًا، أو أتى بمكر، فإن عمله سيبطل ويضمحل، وإن حصل لعمله روَجَانٌ في وقت ما، فإن مآله الاضمحلال والمحق.
وأما المصلحون الذين قصْدُهم بأعمالهم وجه الله تعالى، وهي أعمال ووسائل نافعة، مأمور بها، فإن الله يصلح أعمالهم ويرقيها، وينميها على الدوام، فألقى موسى عصاه، فتلقفت جميع ما صنعوا، فبطل سحرهم، واضمحل باطلهم.
الله سبحانه وتعالى يعلم المفسد من المصلح:
قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (البقرة:220). فيجازي كل إنسان بما يستحق، وهذا يقتضي أن يميز بينهما في الثواب والجزاء، ويشمل ذلك الإفساد الديني، والدنيوي، والإصلاح الديني، والدنيوي، ويشمل الذي وقع منه الإفساد، أو الصلاح.
وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)} (آل عمران:62 - 63).
أى فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك بعد هذه الآيات البينات والحجج الواضحات التى أخبرناك بها وقصصناها عليك، فأنذرهم بسوء العاقبة، وأخبرهم أن
الله عز وجل عليم بهم، وبما يقولونه ويفعلونه من فساد في الأرض، وسيعاقبهم على ذلك العقاب الأليم. فأخبرهم بأنهم مفسدون وأن لهم سوء العقبى لأن الله عليم بإفسادهم ولن يتركهم بدون عقوبة.
وهذه الجملة الكريمة تتضمن فى ذاتها تهديدًا شديدًا لكل من أعرض عن الحق الذى جاء به النبى صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى ليس غافلًا عن إفساد المفسدين، وإنما يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
نتيجة الإفساد عذاب الله عز وجل:
يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ} بقلبك وبصيرتك كيف فعل الله عز وجل بهذه الأمم الطاغية، وهي {إِرَمَ} القبيلة المعروفة في اليمن {ذَاتِ الْعِمَادِ} أي: القوة الشديدة، والعتو والتجَبُّر.
{الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا} أي: مثل عاد {فِي الْبِلَادِ} أي: في جميع البلدان في القوة والشدة، كما قال لهم نبيهم هود عليه السلام:{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأعراف: 69).
{وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} أي: وادي القرى، نحتوا بقُوّتهم الصخور من الجبال يبنون به القصور بالوادى.
{وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} أي: ذي الجنود الذين ثبتوا ملكه، كما تُثَبِّت الأوتاد ما يراد إمساكه بها، والذين يشدون ملكه كما تشد الأوتاد الخيام، {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ} هذا
الوصف عائد إلى عاد وثمود وفرعون ومَن تَبِعَهُم، فإنهم طغوا في بلاد الله عز وجل، وآذَوْا عباد الله، في دينهم ودنياهم، ولهذا قال:{فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} وهو العمل بالكفر وشُعَبِه من جميع أجناس المعاصي، وسَعَوْا في محاربة الرسل وصَدِّ الناس عن سبيل الله، فلما بلغوا من العتو ما هو موجب لهلاكهم، أرسل الله عليهم من عذابه ذنوبًا وسوط عذاب، {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} لمن عصاه يُمْهِلُه قليلًا ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
المفسدون خاسرون:
قال تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)} (البقرة: 27).
{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} وهذا يعم العهد الذي بينهم وبينه والذي بينهم وبين عباده، الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات، فلا يُبَالون بتلك المواثيق، بل ينقضونها ويتركون أوامره ويرتكبون نواهيه، وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق.
{وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة، فإن الله أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به والقيام بعبوديته، وما بيننا وبين رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالإيمان به ومحبته وتعزيره والقيام بحقوقه، وما بيننا وبين الوالدين والأقارب والأصحاب وسائر الخلق بالقيام بتلك الحقوق التي أمر الله أن نَصِلَها.
فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق، وقاموا بها أتم القيام، وأما الفاسقون، فقطعوها، ونبذوها وراء ظهورهم، معتاضين عنها بالفسق والقطيعة، والعمل بالمعاصي، وهو: الإفساد في الأرض.
فـ {أُولَئِكَ} أي: من هذه صفته {هُمُ الْخَاسِرُونَ} في الدنيا والآخرة، فحصر الخسارة فيهم، لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم، ليس لهم نوع من الربح؛
لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان؛ فمن لا إيمان له لا عمل له، وهذا الخسار هو خسار الكفر.
وأما الخسار الذي قد يكون كفرًا، وقد يكون معصية، وقد يكون تفريطًا في ترك مستحب، المذكور في قوله تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (العصر:2)؛ فهذا عام لكل مخلوق، إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وحقيقة فوات الخير الذي كان العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه.
المفسدون لهم اللعنة:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)} (الرعد: 25).
{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} أي: من بعد ما أكده عليهم على أيدي رسله عليهم السلام، وغلظ عليهم، فلم يقابلوه بالانقياد والتسليم، بل قابلوه بالإعراض {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} فلم يَصِلُوا ما بينهم وبين ربهم بالإيمان والعمل الصالح، ولا وَصَلوا الأرحام ولا أدَّوْا الحقوق، {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} بل أفسدوا في الأرض بالكفر والمعاصي، والصَدّ عن سبيل الله وابتغائها عوجًا، {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ}
…
أي: البعد والذم من الله وملائكته وعباده المؤمنين، {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} وهي: الجحيم بما فيها من العذاب الأليم.
المفسدون يندمون حين لا ينفع الندم:
قال المفسرون: إن بني إسرائيل لِمَا في قلوبهم من الرعب العظيم من فرعون، كأنهم لم يصدقوا بإغراقه، وشَكُّوا في ذلك، فأمر الله البحر أن يلقيه على نجوة مرتفعة ببدنه، ليكون لهم عبرة وآية. {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} فلذلك تمر عليهم وتتكرر فلا ينتفعون بها؛ لعدم إقبالهم عليها. وأما من له عقل وقلب حاضر، فإنه يرى من آيات الله ما هو أكبر دليل على صحة ما أخبرَتْ به الرسل.
لولا أن الله يدفع بمن يقاتل في سبيله كيد الفجار وتكالب الكفار لفسدت الأرض باستيلاء الكفار عليها وإقامتهم شعائر الكفر ومَنْعِهم من عبادة الله تعالى، وإظهار دينه: