الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
67 - شريعة الله لا شريعة
البشر حتى لا تغرق السفينة
أقوال ليست عابرة:
قال الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله: «إياك أن ترد الأمر على الله سبحانه وتعالى؛ لا تَقُل إن هذه الشريعة لم تَعُدْ تناسب العصر الحديث؛ فإنك بذلك تكون قد كفرت، والعياذ بالله» (1).
وقال الشيخ جاد الحق على جاد الحق شيخ الأزهر الأسبق رحمه الله: «الإسلام والسياسة متداخلان لا انقصام بينهما، وهو شريعة وعقيدة لا ينفصل عن السياسة ولا تضر به؛ لأنه صمام الأمن والأمان لها، وغير المسلمين يلتزمون بالقانون الإسلامى كقانون فقط لا مساس فيه بالعقيدة ولا ما يتبعها من الأمور اللصيقة بها» (2).
وجاء في قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي: «إن أول واجب على مَن يَلِي أمور المسلمين تطبيق شريعة الله فيهم، ويناشد المجمع جميع الحكومات في بلاد المسلمين المبادرة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وتحكيمها تحكيمًا تامًا كاملًا مستقرًا، في جميع مجالات الحياة، ودعوة المجتمعات الإسلامية، أفرادًا وشعوبًا ودولًا، للالتزام بدين الله تعالى وتطبيق شريعته، باعتبار هذا الدين عقيدة وشريعة وسلوكًا ونظام حياة» (3).
(1) تفسير الشعراوي، عند تفسير قوله تعالى:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (سورة البقرة:37).
(2)
فتاوى الأزهر، نسخة إلكترونية على موقع وزارة الأوقاف المصرية www.islamic-council.com ، تاريخ الفتوى: محرم 1402هجرية ـ 10 نوفمبر 1981م.
(3)
قرار رقم: 48 بشأن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، مجلة المجمع العدد الخامس.
وهذه شهادة من غير المسلمين، فقد قال البابا شنودة: «إن الأقباط في ظل حكم الشريعة يكونون أسعدَ حالًا وأكثر أمنًا، ولقد كانوا كذلك في الماضي، حينما كان حكم الشريعة هو السائد.
إن مصر تجلب القوانين مِن الخارج حتى الآن، وتطبقها علينا، ونحن ليس عندنا مثل ما في الإسلام مِن قوانين مُفَصَّلَة، فكيف نرضى بالقوانين المجلوبة، ولا نرضى بقوانين الإسلام؟!» (1)
لا نرضى بالإسلام بديلا:
نحن كمسلمين لا نرضى بالإسلام بديلًا، قال تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (يوسف: 40)، ونريد أن نُحْكَم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولو حكمنا عبد حبشي بشرع الله سنقول له:«سمعًا وطاعة» . قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ أَسْوَدُ، يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا» (رواه مسلم).
(عَبْدٌ مُجَدَّعٌ) أي مقطع الأعضاء، والمقصود التنبيه على نهاية خسته فإن العبد خسيس في العادة ثم سواده نقص آخر وجدعه نقص آخر ومن هذه الصفات مجموعة فيه فهو في نهاية الخسة والعادة أن يكون ممتهنا في أرذل الأعمال.
وديننا لا فصل فيه بين الأرض والسماء، والدنيا والآخرة، ولا يصح الفصل بين رجال الدين ورجال الدولة، فالحكم الإسلامي موضوع لإقامة الدين وسياسة الدنيا به، وعندنا علماء أما مصطلح رجال الدين فمأخوذ من أوربا.
وكل مسلم مُطالَبٌ أن يقيم الحق في نفسه وفي الخلق، وأن يحكم بشرع الله سواء كان حاكمًا أو محكومًا؛ في سياسته واقتصاده واجتماعه وأخلاقه وحياته الخاصة
(1) صحيفة الأهرام القاهرية، بتاريخ 6 مارس 1985م.
والعامة، لا فصل بين العلم والعمل، ولا يصح أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر بالبعض الآخر؛ قال تعالى:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 85).
وإن وجود بعض الهفوات أو الجنايات من الدول التي تطبق الإسلام أو من حكام المسلمين لا يقدح في مرجعيةِ الشريعة، ووجوبِ إقامةِ الدين، وسياسةِ الدنيا به؛ فكل إنسان يؤخذ منه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والحق مقبول من كل من جاء به والباطل مردود على صاحبه كائنًا من كان، والطبيب والمهندس قد يخطئ ولا نطالب بإلغاء مهنة الطب والهندسة؛ فكذلك الأمر هنا.
الإسلام المنزل من عند الله سبحانه وتعالى هو دين الفطرة:
والإسلام المنزل من عند الله سبحانه وتعالى هو دين الفطرة، الدين الذي يعرف أسرار الفطرة فيقدم لها ما يصلح لها وما يصلحها. الدين الذي يعالج الفطرة على أحسن وجه وأنسب طريقة، ليخرج منها بأقصى ما تستطيع أن تمنحه من الخير. الدين الذي يتلبس بالفطرة فيملؤها كلها ولا يترك فراغًا واحدًا لا ينفذ إليه.
الدين الذي يأخذ الفطرة كما هي كلًا واحدًا لا يتجزأ، كلًا يشمل الجسم والعقل والروح، فيعالجها العلاج الشامل الذي يأخذ في حسابه الجوانب كلها. ويأخذها مرتبطًا بعضها ببعض في نظام وثيق. ومن ثم لا يأخذ شعور الإنسان ويترك سلوكه. لا يأخذ آخرته ويدع دنياه. وإنما يعمل حساب ذلك كله في توجيهاته وتشريعاته سواء.
إن الإسلام يتناول الحياة كلها، بكل ما تشتمل عليه من تنظيمات. ويرسم للبشر صورة كاملة لما ينبغي أن تكون عليه حياتهم في هذه الأرض. إنه يتناول الإنسان من يقظته في الصباح الباكر حتى يسلم جنبه للنوم في آخر المساء. يعلمه ويلقنه ماذا
يصنع وماذا يقول أول مايفتح عينيه، ثم حين يقوم، ثم حين يقضي ضرورته، ثم حين يؤدي صلاته، ثم حين يضرب في مناكب الأرض باحثًا عن رزقه: زارعًا أو صانعًا أو عاملًا أو بائعًا أو شاريًا .. ثم حين يتناول طعامه، ثم حين يستريح من القيلولة، ثم حين يعود في آخر اليوم، ثم حين يلقى زوجه وأطفاله، ثم حين يضع جنبه، ثم حين يأخذ في النوم. بل إذا صحا كذلك في وسط النوم فزعًا أو غير مفزّع!
وكما تناول الإنسان فردًا في جميع أحواله، فقد تناوله كذلك وهو يعيش في المجتمع مع غيره من الأفراد. فعلم المجتمع ولقنه كيف تكون الصلات بين أفراده، وكيف تكون العلاقات. وكيف ينشئ تقاليده على المودة والإخاء والحب، والتكافل والتعاون. وكيف يشتري وكيف يبيع. وكيف يزرع وكيف يجني. وكيف يملك وكيف يوزع الثروة بين الأفراد.
وكما تناول الفرد والمجتمع تناول كذلك الدولة ممثلة المجتمع. فأعطى ولي الأمر حقوقًا وأوجب عليه واجبات. وعلمه ولقنه كيف يحكم الناس، وكيف يقيم بينهم العدل، وكيف يوزع المال بينهم، بأي نسب وعلى أي الفئات ومن أي الموارد. وكيف يعلن الحرب وكيف يقيم السلم، وكيف يتعامل مع الدول والجماعات والأفراد.
الحياة كلها بجميع دقائقها وتفصيلاتها. الحياة المادية والفكرية والروحية. الحياة الفردية والاجتماعية. الحياة بكل ما تشمله من مفاهيم. وكانت تلك هي طريقة الإسلام الفذة في إصلاح البشرية.
إن الإسلام به نظام اقتصادي عادل، ونظام اجتماعي متوازن، ونظام سياسي راشد محكم الرباط؟
هل البشر الذين يشرعون ما يخالف شرع الله يحسبون أنهم أدرى من الله سبحانه وتعالى الذي خلق الخلق سبحانه وتعالى؟ سبحانه وتعالى عما يصفونه علوًا كبيرًا.
إن الإسلام قد بيَّن أن الحياة السليمة النظيفة المتكاملة لا يمكن أن تتم في داخل القلب معزولة عن واقع الحياة. لا يمكن أن تتم في الوجدان والمشاعر إن لم يكن لها رصيد مواز لها من العمل والسلوك. ومن ثم لم يجعل الدين عقيدة كامنة في الضمير. وإنما جعلها نظامًا قائمًا على عقيدة، ومجتمعًا قائمًا على هذا النظام.
إن الإسلام دين الفطرة وكلمة الله، ومن ثم يجعل في حسابه الباطن والظاهر، والشعور والعمل، والوجدان والسلوك. من أجل ذلك يحرص الإسلام على واقع المجتمع أن يكون نظيفًا ليعاون الفرد على نظافة الضمير. ولن تكون نظافة المجتمع إلا بنظام اقتصادي عادل، ونظام اجتماعي متوازن، ونظام سياسي راشد محكم الرباط بالعقيدة الصحيحة والإيمان الصحيح.
التغيير الذي ننشده
شرع الله، لا شرع البشر
شرع الخالق، لا شرع المخلوق
الشريعة الإسلامية لا العَلَمانية الوضعية
نريد خلافة على منهاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسود فيها شريعة الله ـ، قال تعالى:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} (الحج: 41).
ويجب على كل مسلم أن يعلم أن مسألة تطبيق الشريعة الإسلامية ليست مسألة هينة، بل هي من أصول التوحيد؛ فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق وبالتالي هو الذي يشرع، قال تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} (الأعراف: 54).
والذي يشرع من دون الله يزعم أنه شريك لله سبحانه وتعالى في الأمر والنهي والتحليل
والتحريم؛ قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21). وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (يوسف: 40). وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (النساء: 65). وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (النساء: 59). وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)} (النساء: 66).
يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله:
«يقف الإنسان أمام هذه النصاعة في التعبير، وهذا الحسم في التقرير، وهذا الاحتياط البالغ لكل ما قد يهجس في الخاطر من مبررات لِتَرْك شيء ـ ولو قليل ـ من هذه الشريعة في بعض الملابسات والظروف.
يقف الإنسان أمام هذا كله، فيعجب كيف ساغ لمسلم - يَدّعِي الإسلام - أن يترك شريعة الله كلها، بدعوى الملابسات والظروف! وكيف ساغ له أن يظل يَدّعِي
الإسلام بعد هذا التَرْك الكُلّي لشريعة الله؟! وكيف لا يزال الناس يسمون أنفسهم «مسلمين» وقد خلعوا ربقة الإسلام من رقابهم، وهم يخلعون شريعة الله كلها؛ ويرفضون الإقرار له بالإلوهية، في صورة رفضهم الإقرار بشريعته، وبصلاحية هذه الشريعة في جميع الملابسات والظروف، وبضرورة تطبيقها كلها في جميع الملابسات والظروف؟!!
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} . يتمثل الحق في صدوره من جهة الألوهية، وهي الجهة التي تملك حق تنزيل الشرائع، وفرض القوانين، ويتمثل الحق في محتوياته، وفي كل ما يعرض له من شئون العقيدة والشريعة، وفي كل ما يقصه من خبر، وما يحمله من توجيه.
{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} .
فهو الصوره الأخيره لدين الله، وهو المرجع الأخير في هذا الشأن، والمرجع الأخير في منهج الحياة وشرائع الناس، ونظام حياتهم، بلا تعديل بعد ذلك ولا تبديل.
ومِن ثَمّ فكل اختلاف يجب أن يُرَدَّ إلى هذا الكتاب ليفصل فيه، سواء كان هذا الاختلاف في التصور الاعتقادي بين أصحاب الشرائع السماوية، أو في الشريعة التي جاء هذا الكتاب بصورتها الأخيرة، أو كان هذا الاختلاف بين المسلمين أنفسهم، فالمرجع الذي يعودون إليه بآرائهم في شأن الحياة كله هو هذا الكتاب، ولا قيمه لآراء الرجال ما لم يكن لها أصل تستند إليه من هذا المرجع الأخير.
وتترتب على هذه الحقيقه مقتضياتها المباشره:
والأمر موجه ابتداء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما كان فيه من أمر أهل الكتاب الذين يجيئون إليه متحاكمين، ولكنه ليس خاصًا بهذا السبب، بل هو عام، وإلى آخر الزمان،
طالما أنه ليس هناك رسول جديد، ولا رسالة جديدة، لتعديل شيءٍ ما في هذا المرجع الأخير!
لقد كمل هذا الدين، وتمت به نعمة الله على المسلمين، ورَضِيَهُ الله لهم منهج حياه للناس أجمعين، ولم يعد هنالك من سبيل لتعديل شيء فيه أو تبديله، ولا لترك شيء من حكمه إلى حكم آخر، ولا شيء من شريعته إلى شريعة أخرى.
وقد علم الله حين رضيه للناس، أنه يسع الناس جميعًا، وعلم الله حين رضيه مرجعًا أخيرًا أنه يحقق الخير للناس جميعًا، وأنه يسع حياة الناس جميعًا، إلى يوم الدين.
وأي تعديل في هذا المنهج - ودَعْكَ مِن العدول عنه - هو إنكار لهذا المعلوم من الدين بالضرورة، يُخْرِجُ صاحبه من هذا الدين، ولو قال باللسان ألف مرة: إنه من المسلمين!
وقد علم الله أن معاذير كثيرة يمكن أن تقوم وأن يبرر بها العدول عن شيء مما أنزل الله واتباع أهواء المحكومين المتحاكمين، وأن هواجس قد تتسرب في ضرورة الحكم بما أنزل الله كله بلا عدول عن شيء فيه، في بعض الملابسات والظروف، فحَذّر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآيات مرتين من اتباع أهواء المتحاكمين، ومن فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه.
وأولى هذه الهواجس: الرغبة البشرية الخفية في تأليف القلوب بين الطوائف المتعددة، والاتجاهات والعقائد المتجمعة في بلد واحد، ومسايرة بعض رغباتهم عند ما تصطدم ببعض أحكام الشريعة، والميل إلى التساهل في الأمور الطفيفة، أو التي يبدو أنها ليست من أساسيات الشريعة!
وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يحسم في هذا الأمر، وأن يقطع الطريق على الرغبة البشرية الخفية في التساهل مراعاة للاعتبارات والظروف، وتأليفًا للقلوب حين تختلف الرغبات والأهواء فقال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
إن الله لو شاء لجعل الناس أمة واحدة؛ ولكنه جعل لكل منهم طريقًا ومنهاجًا، وجعلهم مبتلين مختبرين فيما آتاهم من الدين والشريعة، وما آتاهم في الحياة كلها من عطايا، وأن كلًا منهم يسلك طريقه؛ ثم يرجعون كلهم إلى الله، فينبئهم بالحقيقة، ويحاسبهم على ما اتخذوا من منهج وطريق.
إذن لا يجوز أن يفكر في التساهل في شيء من الشريعة لتجميع المختلفين في المشارب والمناهج؛ فهم لا يتجمعون: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} .
بذلك أغلق الله سبحانه وتعالى مداخل الشيطان كلها، وبخاصة ما يبدو منها خيرًا وتأليفًا للقلوب وتجميعًا للصفوف؛ بالتساهل في شيء من شريعة الله؛ في مقابل إرضاء الجميع! أو في مقابل ما يسمونه وحدة الصفوف!
إن شريعة الله أبقى وأغلى من أن يُضَحَّى بجزء منها في مقابل شيء قَدَّر الله ألا يكون! فالناس قد خُلِقوا ولكل منهم استعداد، ولكل منهم مشرب، ولكل منهم منهج، ولكل منهم طريق.
ولحكمة من حكم الله خُلِقوا هكذا مختلفين، وقد عرض الله عليهم الهدى وتركهم يستبقون، وجعل هذا ابتلاء لهم يقوم عليه جزاؤهم يوم يرجعون إليه، وهم إليه راجعون.
وإنها لتَعِلّة باطلة (1) إذن، ومحاولة فاشلة، أن يحاول أحد تجميعهم على حساب شريعة الله، أو بتعبير آخر على حساب صلاح الحياة البشرية وفلاحها؛ فالعدول أو التعديل في شريعة الله لا يعني شيئًا إلا الفساد في الأرض، وإلا الانحراف عن المنهج الوحيد القويم، وإلا انتفاء العدالة في حياة البشر، وإلا عبودية الناس بعضهم لبعض، واتخاذ بعضهم لبعض أربابًا من دون الله.
وهو شر عظيم وفساد عظيم، لا يجوز ارتكابه في محاولة عقيمة لا تكون؛ لأنها غير ما قدره الله في طبيعة البشر؛ ولأنها مضادة للحكمة التي من أجلها قدر ما قدر من اختلاف المناهج والمشارع، والاتجاهات والمشارب، وهو خالق الخلق وصاحب الأمر الأول فيهم والأخير، وإليه المرجع والمصير.
إن محاولة التساهل في شيء من شريعة الله، لمثل هذا الغرض، تبدو - في ظل هذا النص الصادق الذي يبدو مصداقه في واقع الحياة البشرية في كل ناحية - محاولة سخيفة لا مبرر لها من الواقع، ولا سند لها من إرادة الله، ولا قبول لها في حس المسلم، الذي لا يحاول إلا تحقيق مشيئة الله. فكيف وبعض من يسمون أنفسهم «مسلمين» يقولون: إنه لا يجوز تطبيق الشريعة حتى لا نخسر «السائحين» ؟!!!
ويعود السياق فيؤكد هذه الحقيقة، ويزيدها وضوحًا؛ فالنص الأول:
…
{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} قد يعني النهي عن ترك شريعة الله كلها إلى أهوائهم! فالآن يحذره من فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} . فالتحذير هنا أشد وأدق؛ وهو تصوير للأمر على حقيقته؛ فهي فتنة
(1) تَعِلَّةُ: ذريعة، حجَة. تَعِلَّةُ الصبيِّ: ما يُعَلَّل ويتلهى به ليسكت.
يجب أن تُحْذَر، والأمر في هذا المجال لا يعدو أن يكون حكمًا بما أنزل الله كاملًا؛ أو أن يكون اتباعًا للهوى وفتنة يحذر الله منها.
ثم يستمر السياق في تتبع الهواجس والخواطر؛ فيُهَوّن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم إذا لم يعجبهم هذا الاستمساك الكامل بالصغيرة قبل الكبيرة في هذه الشريعة، وإذا هم تولوا فلم يختاروا الإسلام دينًا؛ أو تولوا عن الاحتكام إلى شريعة الله:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} . فإن تولوا فلا عليك منهم؛ ولا يفْتِنك هذا عن الاستمساك الكامل بحكم الله وشريعته. ولا تجعل إعراضهم يفت في عضدك أو يحولك عن موقفك.
فإنهم إنما يتولون ويعرضون لأن الله يريد أن يجزيهم على بعض ذنوبهم، فهم الذين سيصيبهم السوء بهذا الإعراض، لا أنت ولا شريعة الله ودينه، ولا الصف المسلم المستمسك بدينه.
ثم إنها طبيعة البشر: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} فهم يخرجون وينحرفون لأنهم هكذا، ولا حيلة لك في هذا الأمر، ولا ذنب للشريعة، ولا سبيل لاستقامتهم على الطريق!
وبذلك يغلق كل منافذ الشيطان ومداخله إلى النفس المؤمنة؛ ويأخذ الطريق على كل حجة وكل ذريعة لترك شيء من أحكام هذه الشريعة؛ لغرض من الأغراض، في ظرف من الظروف.
ثم يقفهم على مفرق الطريق: فإنه إما حكم الله، وإما حكم الجاهلية. ولا وسط بين الطرفين ولا بديل. حكم الله يقوم في الأرض، وشريعة الله تُنَفّذ في حياة الناس، ومنهج الله يقود حياة البشر. أو أنه حكم الجاهلية، وشريعة الهوى، ومنهج العبودية. فأيهما يريدون؟ {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
إن معنى الجاهلية يتحدد بهذا النص؛ فالجاهلية - كما يصفها الله سبحانه وتعالى ويحددها قرآنه - هي حكم البشر للبشر، لأنها هي عبودية البشر للبشر، والخروج من عبودية الله ورفض ألوهية الله، والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله.
إن الجاهلية - في ضوء هذا النص - ليست فترة من الزمان، ولكنها وضْعٌ من الأوضاع. هذا الوضع يوجد بالأمس، ويوجد اليوم، ويوجد غدًا، فيأخذ صفة الجاهلية، المقابلة للإسلام، والمناقضة للإسلام.
والذي لا يبتغي حكم الله يبتغي حكم الجاهلية، والذي يرفض شريعة الله يقبل شريعة الجاهلية، ويعيش في الجاهلية. وهذا مفرق الطريق، يقف الله الناس عليه. وهم بعد ذلك بالخيار! ثم يسألهم سؤال استنكار لابتغائهم حكم الجاهلية؛ وسؤال تقرير لأفضلية حكم الله:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .أجل! فمن أحسن من الله حكمًا؟ ومن ذا الذي يجرؤ على ادعاء أنه يشرع للناس، ويحكم فيهم، خيرًا مما يشرع الله لهم ويحكم فيهم؟ وأية حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادعاء العريض؟
أيستطيع أن يقول: إنه أعلم بالناس من خالق الناس؟ أيستطيع أن يقول: إنه أرحم بالناس من رب الناس؟ أيستطيع أن يقول: إنه أعْرَفُ بمصالح الناس من إله الناس؟ أيستطيع أن يقول: إن الله سبحانه وتعالى وهو يشرع شريعته الأخيرة، ويرسل رسوله الأخير؛ ويجعل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين، ويجعل رسالته خاتمة الرسالات، ويجعل شريعته شريعة الأبد - كان سبحانه وتعالى يجهل أن أحوالًا ستطرأ وأن حاجات ستستجد، وأن ملابساتٍ ستقع، فلم يحسب حسابها في شريعته لأنها كانت خافية عليه، حتى انكشفت للناس في آخر الزمان؟!
ما الذي يستطيع أن يقوله من يُنَحِّي شريعة الله عن حكم الحياة، ويستبدل بها شريعة الجاهلية وحكم الجاهلية، ويجعل هواه هو أو هوى شعب من الشعوب، أو هوى جيل من أجيال البشر، فوق حكم الله، وفوق شريعة الله؟
ما الذي يستطيع أن يقوله، وبخاصة إذا كان يدعي أنه من المسلمين؟!
الظروف؟ الملابسات؟ عدم رغبة الناس؟ الخوف من الأعداء؟!! ألم يكن هذا كله في علم الله سبحانه وتعالى وهو يأمر المسلمين أن يقيموا بينهم شريعته، وأن يسيروا على منهجه وألا يُفْتَنوا عن بعض ما أنزله؟
ألم يكن ذلك في علم الله وهو يشدد هذا التشديد، ويحذر هذا التحذير؟
يستطيع غير المسلم أن يقول ما يشاء. ولكن المسلم - أو من يدّعون الإسلام - ما الذي يقولونه من هذا كله، ثم يبقون على شيء من الإسلام؟ أو يبقى لهم شيء من الإسلام؟ إنه مفرق الطريق، إما إسلام وإما جاهلية. إما إيمان وإما كفر. إما حكم الله وإما حكم الجاهلية. والذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون الظالمون الفاسقون. والذين لا يقبلون حكم الله من المحكومين ما هم بمؤمنين.
إن هذه القضية يجب أن تكون واضحة وحاسمة في ضمير المسلم، وألا يتردد في تطبيقها على واقع الناس في زمانه، والتسليم بمقتضى هذه الحقيقة ونتيجة هذا التطبيق على الأعداء والأصدقاء! وما لم يحسم ضمير المسلم في هذه القضية، فلن يستقيم له ميزان، ولن يتضح له منهج، ولن يفرق في ضميره بين الحق والباطل، ولن يخطو خطوة واحدة في الطريق الصحيح. وإذا جاز أن تبقى هذه القضية غامضة أو مائعة في نفوس الجماهير من الناس، فما يجوز أن تبقى غامضة ولا مائعة في نفوس من يريدون أن يكونوا «المسلمين» وأن يحققوا لأنفسهم هذا الوصف العظيم» (1).
(1) في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب رحمه الله (2/ 901 - 905) باختصار وتصرف يسيرين.
حتى لا تنحرف صحوة الشعب في مصر عن مسارها الصحيح:
وحتى لا تنحرف صحوة الشعب في مصر عن مسارها الصحيح يجب التأكيد على هُويَّة مِصرَ الإسلاميةِ؛ كدَولةٍ إسلاميةٍ مرجعيةُ التشريع فيها إلى الشريعة الإسلامية، وكُلُّ ما يخالفها يُعَدُّ باطلًا، وهذا في الحقيقة هو الضمان الحقيقي لحماية غير المسلمين واستمرارِ السلام والتسامح في المجتمع.
ويجب تفعيل المادة الثانية مِن الدُّستور، ومراجعةِ كافَّة التشريعات المخالفةِ للشريعة، وصياغتِها مِن جديد بصورةٍ تُوافِق الشريعةَ؛ فإن الأُمَّةَ لم تَخترْ هذه المادةَ لتَبقى حَبيسةَ الأوراقِ لمُدَّةِ أكثر مِن ثلاثين سنة! وهذا مِن شأنه أن يُزيلَ التناقضَ الواقعَ في التشريعات والقوانين، كما يرفع الإثمَ عن أجهزة الدَّولة المختلِفة في مخالفة شَرْع الله والحُكْمِ بغير ما أَنزل اللهُ، وهو أعظم سببٍ لحصول النِّقَم والبلاءِ بالأُمَّة.
في حماك ربنا، في سبيل ديننا.
لا يَرُوعُنا الفَنَا، فتَوَلّ نصْرَنا، واهدِنا إلى السَّنن.
نحن عُصبةُ الإلهْ، دينُه لنا وطنْ.
نحنُ جُنْدُ مصطفاهْ، نستخف بالمحنْ.
ولنا الكتاب جاهْ، شرعُه هو السَّننْ.
فلنعشْ على هداهْ، سادة أعزةً، أو نَمُتْ له فدىً.
الكفوف بالكفوفْ، فاشهدوا عهودنَا.
الثباتُ في الصفوفْ، والمضاءُ والفَنَا.
المِئُونَ والألُوفْ فديةٌ لديننا.
وعلى شفا السيوفِ نستردّ مجدنا.
بالكتاب شِرْعةً، والرسول قدوةً، واليقين عُدّةً.