الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
88 - مَن ترك لله عوضه الله
(1)
نَسألُ اللهَ بِما يَقضِي الرّضَى
…
حَسْبَيَ اللهُ بِمَا شاءَ قَضَى
رُبَّ أمرٍ بِتُّ قدْ أبرَمْتُهُ
…
ثُمَّ مَا أصْبَحْتُ إلَاّ فانقَضَى
شَرُّ أيّامي هوَ اليَوْمُ الذي
…
أقْبَلُ الدّنْيَا بدِينِي عِوَضَا
قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا للهِ عز وجل إِلَّا بَدَّلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ» . (رواه الإمام أحمد، وقال الألباني: «سنده صحيح على شرط مسلم»)(2).
(إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا للهِ) أي امتثالًا لأمره وابتغاءً لرضاه بغير مشاركة غرض من الأغراض معه. وهذا التعويض من الله تعالى، ليس هو التعويض المادي فقط، بل تلك الراحة والاطمئنان والسعادة، والتوفيق إلى الأعمال الصالحة، كل ذلك قد يكون من ذلك التعويض الرباني.
قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق: 2 - 3). أمر الله سبحانه وتعالى بتقواه، ومن اتقاه فإن الله يجعل له فرجًا ومخرجًا.
فكل من اتقى الله تعالى، ولازم مرضاة الله في جميع أحواله، فإن الله يثيبه في الدنيا والآخرة. ومن جملة ثوابه أن يجعل له فرجًا ومخرجًا من كل شدة ومشقة، وكما أن
(1) هذه الخطبة والتي تليها بتصرف من كتاب (مَن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه) لإبراهيم بن عبد الله الحازمي.
(2)
أما لفظ: «ما ترك عبد شيئا لله لا يتركه إلا لله إلا عوضه منه ما هو خير له فى دينه ودنياه» ، فقال الألباني: «موضوع بهذا اللفظ
…
نعم صح الحديث بدون قوله في آخره: «في دينه ودنياه» . [انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني (1/ 61)].
من اتقى الله جعل له فرجًا ومخرجًا، فمن لم يتق الله، وقع في الشدائد والآصار والأغلال، التي لا يقدر على التخلص منها والخروج من تبعتها.
وقوله تعالى: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} أي: يسُوقُ الله الرزق للمتقي، من وجه لا يحتسبه ولا يشعر به.
وعن أبَيّ بن كعب سدد خطاكم قال: «ما من عبد ترك شيئًا لله إلا أبدله الله به ما هو خير منه من حيث لا يحتسب، ولا تهاون به عبد فأخذ من حيث لا يصلح إلا أتاه الله بما هو أشد عليه» .
وقال قتادة بن دعامة السدوسي التابعي الجليل: «لا يقْدِرُ رَجلٌ على حَرَامٍ ثم يَدَعه ليس به إلا مخافة الله عز وجل إلا أبْدَله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خيرٌ له من ذلك» .
وإني لأدعو اللهَ والأمْرُ ضيّقٌ
…
عليَّ فما ينفك أن يتفرّجا
وربَّ فتىً ضاقتْ عليه وجوهُهُ
…
أصاب له في دعوة الله مَخْرَجا
ما حرّم الله على عبادة شيئًا إلا عوضهم خيرًا منه:
فقد حرّم عليهم الربا وعوّضهم منه التجارة الرابحة، وحرّم عليهم القمار، وحرّم عليهم الحرير وأعاضهم منه أنواع الملابس الفاخرة من الصوف والكتان والقطن وغيرها، وحرّم عليهم الزنا واللواط وأعاضهم منه النكاح بالنساء الحسان، وحرّم عليهم شُرْبَ المسْكِر وأعاضهم عنه بالأشربة اللذيذة النافعة للروح والبدن، وحرّم عليهم سماع آلات اللهو من المعازف وغيرها وأعاضهم عنها بسماع القرآن العظيم، وحرّم عليهم الخبائث من المطعومات وأعاضهم عنها بالمطاعم الطيبات.
ومن عجائب حكمة الله، أنه جعل مع الفضيلة ثوابها وهو الصحة والنشاط
وجعل مع الرذيلة عقابها، وهو الانحطاط والمرض.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «إن للحسنة ضياءً في الوجه ونورًا في القلب، وسعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمةً في القبر، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق» .
مَنْ تَرَكَ لُبْسَ الثِّيَابِ الْمُرْتَفِعَةِ الْقِيمَةِ تَوَاضُعًا لِلهِ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا لِلهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا» . (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
(مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ) أَيْ لُبْسَ الثِّيَابِ الْحَسَنَةِ الْمُرْتَفِعَةِ الْقِيمَةِ (تَوَاضُعًا لِلهِ) أَيْ لَا لِيُقَالَ إِنَّهُ مُتَوَاضِعٌ أَوْ زَاهِدٌ وَنَحْوُهُ وَالنَّاقِدُ بصير، (دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ) أَيْ يُشَهِّرُهُ وَيُنَادِيهِ (مِنْ أَيِّ حُلَلِ الْإِيمَانِ) أَيْ مِنْ أَيِّ حُلَلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ.
والحُلَّة: ثوب جيّد جديد، غليظًا كان أو رقيقًا، والجمع حِلالٌ وحُلَلٌ.
من ترك الكذب والمراء:
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ» (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
(أَنَا زَعِيمٌ) أَيْ ضَامِنٌ وَكَفِيلٌ (ببيت) البيت ها هنا الْقَصْرُ يُقَالُ هَذَا بَيْتُ فُلَانٍ أَيْ قَصْرُهُ (فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ) أَيْ مَا حَوْلَهَا خَارِجًا عَنْهَا تَشْبِيهًا بِالْأَبْنِيَةِ الَّتِي تَكُونُ حَوْلَ الْمُدُنِ وَتَحْتَ الْقِلَاعِ (الْمِرَاءَ) أَيِ الْجِدَالَ؛ كَسْرًا لِنَفْسِهِ كَيْلَا يَرْفَعَ نَفْسَهُ عَلَى خَصْمِهِ بِظُهُورِ فَضْلِهِ.
نماذج لمن ترك لله فأبدله الله خيرًا منه:
قد جرت سنة الله عز وجل في خلقه أن من آثَرَ الألم العاجل على الوصال الحرام أعقبه ذلك في الدنيا المسرّة التامة، وإن هلك فالفوز العظيم، والله سبحانه وتعالى لا يضيع ما تحمّل عبدُه لأجله. وكل مَن خرج عن شيء مِنه لله حفظه الله عليه أو أعاضه الله ما هو أجَلّ منه.
1 -
ترك يوسف الصديق عليه السلام امرأة العزيز لله واختار السجن على الفاحشة فكانت النتيجة أنْ عوّضه الله بأنْ مكّنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء:
هذه المحنة العظيمة أعظم على يوسف عليه السلام مِن محنة إخوته، وصَبْرُه عليها أعظمُ أجرًا، لأنه صبْرُ اختيار مع وجود الدواعي الكثيرة لوقوع الفعل، فقدَّم محبة الله عليها، وذلك أن يوسف عليه السلام بَقِيَ مُكْرَمًا في بيت العزيز، وكان له من الجمال والكمال والبهاء ما أوجب ذلك، أنْ {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} أي: هو غلامها، وتحت تدبيرها، والمسكن واحد، يتيسر إيقاع الأمر المكروه من غير إشعار أحد، ولا إحساس بشر.
وزادت المصيبة، بأن {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} وصار المحل خالِيًا، وهما آمنان من دُخُول أحد عليهما، بسبب تغليق الأبواب، وقد دعته إلى نفسها {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ}
…
أي: افعل الأمر المكروه وأقبل إليَّ، ومع هذا فهو غريب، لا يحتشم مثلُه ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه، وهو أسيرٌ تحت يدها، وهي سيدَتُه، وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك، وهو شاب عَزَبٌ، وقد توعَّدَتْه، إن لم يفعل ما تأمره به بالسجن، أو العذاب الأليم.
فصبر عن معصية الله، مع وجود الداعي القوي فيه، وقدم مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء، ورأى من برهان ربه - وهو ما معه من العلم والإيمان، الموجب لترك كل ما حَرَّم الله - ما أوجب له البُعد والانكفاف، عن هذه المعصية الكبيرة،
و {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} أي: أعوذ بالله أن أفعل هذا الفعل القبيح، لأنه مما يسخط الله ويبعد منه.
بل إنه فضل السجن على معصية الله سبحانه وتعالى:
وكانت النتيجة أنْ عوّضه الله أن مكّنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء:
قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)} (يوسف: 50 - 57). فتأمل كيف جزاه الله سبحانه وتعالى على ضيق السجن أن مكنه في الأرض ينزل منها حيث يشاء، وأقرّت المرأة والنسوة ببراءته.
2 -
ترَكَ الفاحشة خوفًا من الله فنجاه الله:
يا ربّ ما أقربَ منكَ الفرجا
…
أنتَ الرجاءُ وإليكَ الملتجا
يا ربّ أشكو لكَ أمراً مزعجا
…
أبهَمَ لَيلُ الخَطبِ فيهِ وَدَجَا
يا ربّ فاجعلْ ليَ منهُ مَخْرَجا
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَاشَوْنَ أَخَذَهُمُ المَطَرُ، فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِي الجَبَلِ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا لِلهِ صَالِحَةً، فَادْعُوا اللهَ بِهَا لَعَلَّهُ يَفْرُجُهَا» .
فَقَالَ أَحَدُهُمْ: «اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ، كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ فَحَلَبْتُ بَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ وَلَدِي، وَإِنَّهُ نَاءَ بِيَ الشَّجَرُ، فَمَا أَتَيْتُ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ، فَجِئْتُ بِالحِلَابِ فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا، أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَبْدَأَ بِالصِّبْيَةِ قَبْلَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ» . فَفَرَجَ اللهُ لَهُمْ فُرْجَةً حَتَّى يَرَوْنَ مِنْهَا السَّمَاءَ.
وَقَالَ الثَّانِي: «اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ أُحِبُّهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، فَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا، فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَسَعَيْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ فَلَقِيتُهَا بِهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ: «يَا عَبْدَ اللهِ اتَّقِ اللهَ، وَلَا تَفْتَحِ الخَاتَمَ» ، فَقُمْتُ عَنْهَا، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا». فَفَرَجَ لَهُمْ فُرْجَةً.
وَقَالَ الآخَرُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: «أَعْطِنِي حَقِّي» ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ فَتَرَكَهُ وَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا، فَجَاءَنِي فَقَالَ:«اتَّقِ اللهَ وَلَا تَظْلِمْنِي وَأَعْطِنِي حَقِّي» ،
فَقُلْتُ: «اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ البَقَرِ وَرَاعِيهَا» ، فَقَالَ:«اتَّقِ اللهَ وَلَا تَهْزَأْ بِي» ، فَقُلْتُ:«إِنِّي لَا أَهْزَأُ بِكَ، فَخُذْ ذَلِكَ البَقَرَ وَرَاعِيَهَا» ، فَأَخَذَهُ فَانْطَلَقَ بِهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ مَا بَقِيَ». فَفَرَجَ اللهُ عَنْهُمْ» (رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري).
(نَأى بِي الشَّجَر) أي تباعد عن مكاننا الشجر الذي ترعاه مواشينا فبعدتُ عن أهلي في طلبه فكان ذلك سبب تأخري في العودة إليهم.
(وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ) أَيْ يَصِيحُونَ وَيَسْتَغِيثُونَ مِنَ الْجُوعِ. (فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي) أي حَالِي اللَّازِمَةُ. (لَا تَفْتَح الخَاتَمَ) الْخَاتَمُ كِنَايَةٌ عَنْ بَكَارَتِهَا. (بِفَرَقِ أُرْزٍ) الْفَرَقُ إِنَاءٌ يَسَعُ ثَلَاثَةَ آصَعٍ (فَرَغِبَ عَنْهُ) أَيْ كَرِهَهُ وسخطه وترَكَه.
3 -
ترك فاحشة الزنا خوفاً من الله فأجرى الله على يديه معجزة:
عن حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم، أَنَّهُ قَالَ:«كَانَ جُرَيْجٌ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَةٍ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ» . قَالَ حُمَيْدٌ: «فَوَصَفَ لَنَا أَبُو رَافِعٍ صِفَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ لِصِفَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أُمَّهُ حِينَ دَعَتْهُ، كَيْفَ جَعَلَتْ كَفَّهَا فَوْقَ حَاجِبِهَا، ثُمَّ رَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَيْهِ تَدْعُوهُ، فَقَالَتْ: «يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمُّكَ كَلِّمْنِي» ، فَصَادَفَتْهُ يُصَلِّي، فَقَالَ:«اللهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ، فَرَجَعَتْ، ثُمَّ عَادَتْ فِي الثَّانِيَةِ، فَقَالَتْ: «يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمُّكَ فَكَلِّمْنِي» ، قَالَ:«اللهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي» ، فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ، فَقَالَتْ:«اللهُمَّ إِنَّ هَذَا جُرَيْجٌ وَهُوَ ابْنِي وَإِنِّي كَلَّمْتُهُ، فَأَبَى أَنْ يُكَلِّمَنِي، اللهُمَّ فَلَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ الْمُومِسَاتِ» .
قَالَ: «وَلَوْ دَعَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتَنَ لَفُتِنَ» .
قَالَ: «وَكَانَ رَاعِي ضَأْنٍ يَأْوِي إِلَى دَيْرِهِ، فَخَرَجَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْقَرْيَةِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا الرَّاعِي، فَحَمَلَتْ فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَقِيلَ لَهَا: «مَا هَذَا؟» ، قَالَتْ:«مِنْ صَاحِبِ هَذَا الدَّيْرِ» ، فَجَاءُوا بِفُئُوسِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ، فَنَادَوْهُ فَصَادَفُوهُ يُصَلِّي، فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ، فَأَخَذُوا يَهْدِمُونَ دَيْرَهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ نَزَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ:«سَلْ هَذِهِ» ، فَتَبَسَّمَ، ثُمَّ
مَسَحَ رَأْسَ الصَّبِيِّ فَقَالَ: «مَنْ أَبُوكَ؟» ، قَالَ:«أَبِي رَاعِي الضَّأْنِ» ، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ قَالُوا:«نَبْنِي مَا هَدَمْنَا مِنْ دَيْرِكَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» ، قَالَ:«لَا، وَلَكِنْ أَعِيدُوهُ تُرَابًا كَمَا كَانَ» ، ثُمَّ عَلَاهُ». (رواه البخاري ومسلم، واللفظ له).
فِيهِ قِصَّةُ جُرَيْجٍ رضي الله عنه وَأَنَّهُ آثَرَ الصَّلَاةَ عَلَى إِجَابَتِهَا فَدَعَتْ عَلَيْهِ فَاسْتَجَابَ اللهُ لَهَا، قَالَ الْعُلَمَاءُ: «هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الصَّوَابُ فِي حَقِّهِ إِجَابَتَهَا لِأَنَّهُ كَانَ فِي صَلَاةِ نَفْلٍ، وَالِاسْتِمْرَارُ فِيهَا تَطَوُّعٌ لَا وَاجِبٌ، وَإِجَابَةُ الْأُمِّ وَبِرُّهَا وَاجِبٌ وَعُقُوقُهَا حَرَامٌ، وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُخَفِّفَ الصَّلَاةَ وَيُجِيبَهَا ثُمَّ يَعُودَ لِصَلَاتِهِ، فَلَعَلَّهُ خَشِيَ أَنَّهَا تَدْعُوهُ إِلَى مُفَارَقَةِ صَوْمَعَتِهِ وَالْعَوْدِ إِلَى الدُّنْيَا وَمُتَعَلِّقَاتِهَا وَحُظُوظِهَا وَتُضْعِفُ عَزْمَهُ فِيمَا نَوَاهُ وَعَاهَدَ عَلَيْهِ.
(الْمُومِسَاتِ) أَيِ الزَّوَانِي الْبَغَايَا الْمُتَجَاهِرَاتِ بِذَلِكَ، وَالْوَاحِدَةُ مُومِسَةٌ.
(دَيْرِهِ) الدَّيْرُ كَنِيسَةٌ مُنْقَطِعَةٌ عَنِ الْعِمَارَةِ تَنْقَطِعُ فِيهَا رُهْبَانُ النَّصَارَى لِتَعَبُّدِهِمْ وَهُوَ بِمَعْنَى الصَّوْمَعَةِ، وَهِيَ نَحْوَ الْمَنَارَةِ يَنْقَطِعُونَ فِيهَا عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ وَالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ. وَالْمَسَاحِي جَمْعُ مِسْحَاةٍ وَهِيَ كَالْمِجْرَفَةِ إِلَّا أَنَّهَا مِنْ حَدِيدٍ. (يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ) قَدْ يُقَالُ إِنَّ الزَّانِيَ لَا يَلْحَقَهُ الْوَلَدُ وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَعَلَّهُ كَانَ فِي شَرْعِهِمْ يَلْحَقُهُ، وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْ مَاءِ مَنْ أَنْتَ، وَسَمَّاهُ أَبًا مَجَازًا.
4 -
لما عقر سليمان بن داود سدد خطاكم الخيل التي شغلَتْه عن صلاة العصر حتى غابت الشمس سخر الله له الريح الرخاء اللينة، التي تجري بأمره إلى حيث أراد وقصد.
قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي
الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)} (ص: 30 - 40).
{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ} سليمان عليه السلام من فضائل داود، ومن منن الله عليه حيث وهبه له، فإن من أكبر نعم الله على عبده، أن يهب له ولدًا صالحًا، فإنْ كان عالمًا، كان نورًا على نور.
{نِعْمَ الْعَبْدُ} سليمان عليه السلام، فإنه اتصف بما يوجب المدح، وهو {إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي: رجَّاع إلى الله في جميع أحواله، بالتأله والإنابة، والمحبة والذكر والدعاء والتضرع، والاجتهاد في مرضاة الله، وتقديمها على كل شيء.
ولهذا {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} ، لما عرضت عليه الخيل الجياد السبق الصافنات أي: التي مِنْ وَصْفِهَا الصُّفُون، وهو رَفْعُ إحدى قوائمها عند الوقوف، وكان لها منظر رائق، وجمال معجب، خصوصًا للمُحتاج إليها كالملوك، فما زالت تُعْرَض عليه حتى غابت الشمس في الحجاب، فألْهَتْهُ عن صلاة المساء وذِكْرِه.
فقال ندمًا على ما مضى منه، وتقربا إلى الله بما ألهاه عن ذكره، وتقديما لحب الله على حب غيره:{إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} أي: آثرت حُب الخير، الذي هو المال عمومًا، وفي هذا الموضع المراد الخيل {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} .
{رُدُّوهَا عَلَيَّ} فرَدُّوهَا {فَطَفِقَ} فيها {مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} أي: جعل يعْقِرُها بسيفه، في سُوقِها وأعناقها.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} أي: ابتليناه واختبرناه بذهاب ملكه وانفصاله عنه بسبب خلل اقتضته الطبيعة البشرية، {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} أي: شيطانًا قضى الله وقدَّرَ أن يجلس على كرسِيِّ ملكه، ويتصرف في الملك في مدة فتنة سليمان، {ثُمَّ أَنَابَ} سليمان إلى الله سبحانه وتعالى وتاب.
فـ {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} فاستجاب الله له وغفر له، ورد عليه ملكه، وزاده ملكًا لم يحصل لأحد من بعده، وهو تسخير الشياطين له، يبنون ما يريد، ويغوصون له في البحر، يستخرجون الدُرّ والحلي، ومَن عصاه منهم قَرّنه في الأصفاد وأوْثَقَه.
{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} . وقلنا له: {هَذَا عَطَاؤُنَا} فَقَرَّ به عيْنًا {فَامْنُنْ} على مَن شئت، {أَوْ أَمْسِكْ} عن مَن شئت {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: لا حرج عليك في ذلك ولا حساب، لعلمه سبحانه وتعالى بكمال عدله، وحسن أحكامه، ولا تحسبن هذا لسليمان في الدنيا دون الآخرة، بل له في الآخرة خير عظيم.
ولهذا قال: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} أي: هو من المقربين عند الله المكرمين بأنواع الكرامات لله.
ومن فوائد هذه الآيات تقديم سليمان محبة الله تعالى على محبة كل شيء. وأن كل ما أشغل العبد عن الله، فإنه مشئوم مذموم، فَلْيُفَارِقْه ولْيُقْبِلْ على ما هو أنفع له.
ومن فوائدها القاعدة المشهورة أن «من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه» ؛ فسليمان عليه السلام عقر الجياد الصافنات المحبوبة للنفوس، تقديمًا لمحبة الله، فعوضه الله خيرًا من ذلك، بأن سخر له الريح الرخاء اللينة، التي تجري بأمره إلى حيث أراد وقصد، غدوها شهر، ورواحها شهر، وسخر له الشياطين، أهل الاقتدار على الأعمال التي لا يقدر عليها الآدميون.
5 -
تجاوز عن المعسرين فتجاوز الله عنه:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: «إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا» ، فَلَقِيَ اللهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ» (رواه البخاري ومسلم). (يَتَجَاوَزُ عَنِ الْمُعْسِرِ) أَي الْفَقِير الْمَدْيُون لَهُ بِأَن يَحُطُّ عَنهُ أَو يُنْظِرُه إِلَى ميسرَة.
وعن حُذَيْفَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «تَلَقَّتِ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَقَالُوا: «أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟» ، قَالَ:«لَا» ، قَالُوا:«تَذَكَّرْ» ، قَالَ:«كُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَآمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ، وَيَتَجَوَّزُوا عَنِ الْمُوسِرِ، قَالَ: قَالَ اللهُ عز وجل: «تَجَوَّزُوا عَنْهُ» (رواه البخاري ومسلم).
(تَلَقَّتِ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ) استقبلَتْهَا عند الموت لتقبضها. (فِتْيَانِي) جمع فَتًى وهو الأجير والخادم. (يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ) من الإنظار وهو الإمهال. (وَيَتَجَوَّزُوا عَنِ الْمُوسِرِ) التَّجَاوُزُ وَالتَّجَوُّزُ مَعْنَاهُمَا الْمُسَامَحَةُ فِي الِاقْتِضَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ وَقَبُولِ مَا فِيهِ نَقْصٌ يَسِيرٌ. (الْمُوسِرِ) الغني.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ لَهُ، أَظَلَّهُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
(مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا) أَيْ أَمْهَلَ مَدْيُونًا فَقِيرًا (أَوْ وَضَعَ لَهُ) أَيْ حَطَّ وَتَرَكَ دَيْنَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ (أَظَلَّهُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ) أَيْ أَوْقَفَهُ اللهُ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ.
وعَنْ بُرَيْدَةَ سدد خطاكم قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ» ، قَالَ: ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ» ، قُلْتُ: سَمِعْتُكَ يَا رَسُولَ اللهِ تَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ» ، ثُمَّ سَمِعْتُكَ تَقُولُ:«مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ» ،
قَالَ لَهُ: «بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الألباني والأرنؤوط).
وَفِي هَذه الأحَادِيثِ فَضْلُ إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ وَالْوَضْعِ عَنْهُ إِمَّا كُلُّ الدَّيْنِ وَإِمَّا بَعْضُهُ مِنْ كَثِيرٍ أَوْ قَلِيلٍ، وَفَضْلُ الْمُسَامَحَةِ فِي الِاقْتِضَاءِ وَفِي الِاسْتِيفَاءِ سَوَاءٌ اسْتُوْفِيَ مِنْ مُوسِرٍ أَوْ مُعْسِرٍ، وَفَضْلُ الْوَضْعِ من الدَّيْن، وأنه لا يُحْتَقَر شيءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ فَلَعَلَّهُ سَبَبُ السَّعَادَةِ وَالرَّحْمَةِ.
89 -
تَرَكوا لله فعوضهم الله
6 -
عاقبة الاسترجاع والصبر:
صبرت أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها فَأَخْلَفَ اللهُ لها رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم:
الإنسان المسلم معرض في هذه الحياة للاختبار والابتلاء والامتحان، فعليه إذا ابتُلِيَ أنْ يصبر ويحتسب مصيبته عنده الله، فإن الله لا يضيع عنده شيء، بل يُخْلِف عليه خيرًا مما أُخذ منه، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، يَقُولُ: “ مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللهُ:{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (1)، اللهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا “، قَالَتْ:«فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، قُلْتُ: «أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا، فَأَخْلَفَ اللهُ لِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم» . (رواه مسلم).
(أجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا) مَعْنَى أَجَرَهُ اللهُ: أَعْطَاهُ أَجْرَهُ وَجَزَاءُ صَبْرِهِ وَهَمِّهِ فِي مُصِيبَتِهِ. (وَأَخْلِفْ لِي) يُقَالُ لِمَنْ ذَهَبَ لَهُ مَالٌ أو ولد أو قَرِيبٌ أَوْ شَيْءٌ يُتَوَقَّعُ حُصُولُ مِثْلِهِ: «أَخْلَفَ اللهُ عَلَيْكَ» أَيْ رَدَّ عَلَيْكَ مِثْلَهُ. فَإِنْ ذَهَبَ مَا لَا يُتَوَقَّعُ مِثْلُهُ بِأَنْ ذَهَبَ وَالِدٌ أَوْ عَمٌّ أَوْ أخٌ لِمَنْ لَا جَدَّ لَهُ وَلَا وَالِدَ لَهُ قِيلَ: «خَلَّفَ اللهُ عَلَيْكَ» بِغَيْرِ أَلِفٍ أَيْ كَانَ اللهُ خَلِيفَةً مِنْهُ عَلَيْكَ.
إن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، فمن ترك لطم الخدود وشق الجيوب والنياحة وغير ذلك من المنكرات واحتسب مصيبته عند الله، واسترجع فإن الله سبحانه وتعالى يُخلفه وهو خير الوارثين.
(1) البقرة: 156.
مَن يَتَّقِ اللهِ يُحْمَدْ في عواقبهْ
…
ويَكْفِهِ شَرَّ مَن عَزّوا ومَن هَانُوا
مَن استجَارَ بغيرِ اللهِ في فَزَعٍ
…
فإنَّ ناصرَه عَجْزٌ وخُذْلَانُ
فالْزِمْ يَدَيْك بحبلِ اللهِ معتصمًا
…
فإنَّه الرُّكْنُ إنْ خانَتْك أرْكَانُ
7 -
ترك تعلم السحر فكان مشعل هداية للآخرين:
عن صُهَيْبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: «إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ» ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ فَأَعْجَبَهُ، فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ. فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ:«إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ» ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتْ النَّاسَ فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمْ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ: «اللهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ» ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ.
فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ:«أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ» . وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ:«مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي» ، فَقَالَ:«إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ» فَآمَنَ بِاللهِ فَشَفَاهُ اللهُ، فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ:«مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟» قَالَ: «رَبِّي» قَالَ: «وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟» قَالَ: «رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ» ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ.
فَجِيءَ بِالْغُلَامِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ» ، فَقَالَ:«إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ» فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ: «ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ» ، فَأَبَى
فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ:«ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ» فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ.
ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ» ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ:«اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ» ، فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ.
فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟» قَالَ: «كَفَانِيهِمُ اللهُ» فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ» ، فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ:«اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟» قَالَ: «كَفَانِيهِمُ اللهُ» .
فَقَالَ لِلْمَلِكِ: «إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ» ، قَالَ:«وَمَا هُوَ؟» قَالَ: «تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي» .
فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ «بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ» ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ:«آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ» .
فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: «أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ، قَدْ وَاللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ» ، فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ:«مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ» ، فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ:«يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ» (رواه مسلم).
(الْأَكْمَه): الَّذِي خُلِقَ أَعْمَى، (الْمِئْشَار): الْمِنْشَار، (ذُرْوَة الْجَبَل): أَعْلَاهُ، (رَجَفَ بِهِمْ الْجَبَل): أَيّ اِضْطَرَبَ وَتَحَرَّكَ حَرَكَة شَدِيدَة، (الْقُرْقُور): السَّفِينَة الصَّغِيرَة، (انْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَة): اِنْقَلَبَتْ، (الصَّعِيد): الْأَرْض الْبَارِزَة، (كَبِد الْقَوْس): مِقْبَضهَا عِنْد الرَّمْي، (الصّدْغ): جانب الوجه من العين إلى الأذن، (نَزَلَ بِك حَذَرك): أَيْ مَا كُنْت تَحْذَر وَتَخَاف، (الْأُخْدُود): هُوَ الشَّقّ الْعَظِيم فِي الْأَرْض، وَجَمْعه أَخَادِيد، (السِّكَك): الطُّرُق، وَأَفْوَاههَا: أَبْوَابهَا.
(مَنْ لَمْ يَرْجِع عَنْ دِينه فَأَحْمُوهُ فِيهَا): اِرْمُوهُ فِيهَا مِنْ قَوْلهمْ: «حَمَيْت الْحَدِيدَة وَغَيْرهَا» إِذَا أَدْخَلْتهَا النَّار لِتُحْمَى، (تَقَاعَسَتْ): تَوَقَّفَتْ وَلَزِمَتْ مَوْضِعهَا، وَكَرِهَتْ الدُّخُول فِي النَّار.
8 -
جزاء الصدق والأمانة:
المسلم مأمور بأداء الأمانة، والتحلي بالأخلاق الحسنة والصفات الحميدة، فمن عمل بهذه الصفات جُوزي بالجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة، فمن ترك الخيانة والغدر لله سبحانه بصدق وإخلاص، عوضه الله على ذلك خيرًا كثيرًا.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: «خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ» ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأرْضُ:«إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا» ، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ:«أَلَكُمَا وَلَدٌ؟» ، قَالَ أَحَدُهُمَا:«لِي غُلامٌ» ، وَقَالَ الآخَرُ:«لِي جَارِيَةٌ» ، قَالَ:«أَنْكِحُوا الْغُلامَ الْجَارِيَةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا» . (رواه البخاري). (العقار) المراد به هنا الدار، (ألكما ولد؟): ألِكُلٍ منكُما ولد؟
وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: “ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ:«ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ» ، فَقَالَ:«كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا» ، قَالَ:«فَأْتِنِي بِالكَفِيلِ» ، قَالَ:«كَفَى بِاللهِ كَفِيلًا» ، قَالَ:
«صَدَقْتَ» ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي البَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ التَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى البَحْرِ.
فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلَا، فَقُلْتُ: «كَفَى بِاللهِ كَفِيلًا» ، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ:«كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا» ، فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا»، فَرَمَى بِهَا فِي البَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ.
فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا المَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ المَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، فَأَتَى بِالأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ:«وَاللهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ» ، قَالَ:«هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟» ، قَالَ:«أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ» ، قَالَ:«فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا» . (رواه البخاري).
(الْتَمَسَ) طلب. (للْأَجَل) الزمن الذي حدده له للوفاء. (فنَقَرَهَا) حفرها. (صحيفة) رسالة مكتوبة. (زجَّجَ) سوى موضع النقر وأصلحه. (تسَلّفْت فلانًا) طلَبْت منه سلَفًا. (جَهَدْتُ) بذَلْتُ وسعيتُ. (وَلَجَتْ) دخَلَتْ في البحر.
9 -
لما ترك المهاجرون رضي الله عنهم ديارهم لله وأوطانهم التي هي أحبُّ شيء إليهم أعاضهم الله سبحانه وتعالى أنْ فتح عليهم الدُّنيا وملّكَهم شرق الأرض وغربَها:
قال رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: “ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ:«تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ» ، فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ
قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ:«تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ» ، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ:«تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ» ، فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم:«فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ عز وجل أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ عز وجل أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» (رواه النسائي، وصححه الألباني).
(قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ) جَمْعُ طَرِيقٍ، كَرَغِيفٍ وَأَرْغِفَةٍ.
(كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ) الطِّوَلِ: الْحَبْلُ الطَّوِيلُ يُشَدُّ أَحَدُ طَرَفَيْهِ فِي وَتَدٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالطَّرَفُ الْآخَرُ فِي يَدِ الْفَرَسِ لِيَدُورَ فِيهِ ويرعى وَلَا يذهب لوجهه.
وَهَذَا من كَلَام الشَّيْطَان ومقصوده أَن المُهَاجر يصير كالمقيد فِي بِلَاد الغربة لَا يَدُور الا فِي بَيته وَلَا يخالِطُه إلا بعضُ معارفه فَهُوَ كالفرس فِي طَوْل لَا يَدُور وَلَا يرْعَى الا بِقَدرِهِ، بِخِلَاف أهل الْبِلَاد فِي بِلَادهمْ فَإِنَّهُم مبسوطون لَا ضيق عَلَيْهِم فأحدهم كالفرس الْمُرْسل.
(فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ) بِمَعْنى الْمَشَقَّة والتعب (وَالْمَالِ) الْمرَاد بِالْمَالِ الْجِمال وَالْعَبِيد وَنَحْوهمَا أَو المَال مُطلقًا.
وقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم: «تَغْزُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ فَارِسَ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُهَا اللهُ» (رواه مسلم).
وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: “ إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا» (رواه مسلم). (زَوَىَ) جمع.
10 -
ترك عقد اللؤلؤ في الحرام فناله بالحلال:
في ذيل طبقات الحنابلة نقل الحافظ ابن رجب الحنبلي هذه القصة في ترجمة القاضي أبي بكر الأنصاري البزاز عنه أنه قال: «كنتُ مجاورًا بمكة - حرسها الله تعالى -
فأصابني يومًا من الأيام جوعٌ شديدٌ لم أجد شيئًا أدفع به عني الجوع، فوجدتُ كيسًا من إبْرَيْسَم (1) مشدودًا بشرابة (2) من إبريسم أيضًا فأَخذْتُه وجئتث به إلى بيتي، فحلَلْتُه فوجدتُ فيه عِقْدًا (3) مِن لُؤلؤ لم أرَ مِثْله، فخرجْتُ فإذا الشيخ ينادي عليه، ومعَه خرقة فيها خمسمائة دينار، وهو يقول:«هذا لمن يَرُدّ علينا الكيس الذي فيه اللؤلؤ» ، فقلت:«أنا محتاج، وأنا جائع، فآخذ هذا الذهب فأنتفع به، وأرُدُّ عليه الكيسَ» .
فقُلت له: «تعالَ إليَّ» ، فأخذْتُه وجئتُ به إلى بيتي، فأعطاني علامة الكيس، وعلامة الشرابة، وعلامة اللؤلؤ وعَدَدَه، والخيط الذي هو مَشدُود به، فأخرجْتُه ودَفَعْتُه إليه. فسلم إليّ خمسمائة دينار، فما أخذتها، وقلت:«يجب عليَّ أنْ أعيده إليك ولا آخذَ له جزاء» ، فقال لي:«لا بُدَّ أنْ تأخذ» . ألح عليَّ كثيرًا، فلم أقبل ذلك منه، فتركني ومضى.
وأما ما كان مِنّي فإني خرجتُ من مكة وركبتُ البحر، فانكسر المركب وغرق الناس، وهلكَت أموالهم، وسلِمْتُ أنا على قطعة من المركب، فبقيتُ مُدّةً في البحر لا أدري أين أذهب، فوصَلْتُ إلى جزيرة فيها قومٌ، فقعَدتُ في بعض المساجد، فسمعوني أقرأ، فلم يبق في تلك الجزيرة أحد إلا جاء إليّ وقال:«علِّمْني القرآن» . فحصل لي من أولئك القوم شيء كثير من المال.
ثم إني رأيتُ في ذلك المسجد أوراقًا من مصحف، فأخذتها أقرأ فيها فقالوا لي:«تُحْسِنُ تكتب؟» . فقلت: نعم، فقالوا:«عَلِّمْنَا الخَطّ» ، فجاءوا بأولادهم من الصبيان والشباب، فكنتُ أعَلّمُهم، فحصل لي أيضًا من ذلك شيء كثير فقالوا لي بعد ذلك: «
(1) الإبْرَيْسَمُ: أحسن الحرير.
(2)
أي رباط.
(3)
العِقْد: قلادةٌ أو خيط يُنظَم فيه الخرزُ ونحوُه ويحيط بالعنق. والجمع: عُقود.
عندنا صبيَّةً يتيمة، ولها شيء من الدُنيا نريد أن تتزوجَ بها»، فامتنعتُ، فقالوا:«لا» ، بل وألزموني، فأجَبْتُهُم إلى ذلك.
فلما زفُّوها إليَّ مدَدْتُ عيني أنظر إليها، فوجدت ذلك العقد بعينه معلقًا في عنقها، فما كان لي حينئذ شغل إلا النظر إليه. فقالوا:«يا شيخ، كسرتَ قلب هذه اليتيمة مِن نظرك إلى هذا العقد، ولم تنظر إليها» ، فقصصتُ عليهم قصة العقد فصاحوا وصرخوا بالتهليل والتكبير، حتى بلغ إلى جميع أهل الجزيرة، فقلتُ:«ما بكم» . فقالوا: «ذلك الشيخ الذي أخذ منك العقد أبو هذه الصبية، وكان يقول: «ما وجدتُ في الدنيا مسلمًا إلا هذا الذي ردَّ علَيَّ هذا العقد» ، وكان يدعو ويقول:«اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزَوّجَه بابنتي» ، والآن قد حصلَتْ».
فبقيتُ معها مدة ورُزِقْتُ منها بولدَيْن، ثم إنها ماتت فورثْتُ العقد أنا وولداي، ثم مات الولدان فحصل العقد لي فبعته بمائة ألف دينار.
11 -
ثمرة الأمانة: عف عن الباذنجان فرزقه الله الباذنجان والمرأة صاحبة الباذنجان ودارها:
كان في أحد مساجد دمشق طالب علم وكان مضرب المثل في فقره وفي إبائه وعزة نفسه وبذلها للآخرين. وكان يسكن في غرفة في المسجد، مر عليه يومان لم يأكل فيهما شيئًا وليس عنده ما يطعمه ولا ما يشتري به طعامًا، فلما جاء اليوم الثالث أحس كأنه مُشْرِفٌ على الموت، وفكر ماذا يصنع، فرأى أنه بلغ حد الإضرار الذي يجوز له أكل الميتة أو السرقة بمقدار الحاجة. وآثر أن يسرق ما يقيم صلبه - هذا ما رآه في حاله هذه.
وكان المسجد يتصل سطحه ببعض البيوت، يستطيع المرء أن ينتقل من أولها إلى آخرها مشيًا على أسقفها، فصعد إلى سقف المسجد وانتقل منه إلى الدار التي تليه فلمح بها نساء فغض من بصره وابتعد، ونظر فرأى إلى جنبها دارًا خالية وشم رائحة الطبخ تصدر منها، وكانت البيوت من دور واحد، فقفز قفزتين من السقف إلى الشرفة فصار
في الدار وأسرع إلى المطبخ فكشف غطاء القدر فرأى فيها باذنجانًا محشوًا، فأخذ واحدة ولم يُبَالِ مِن شدة جوعه بسخونتها وقضم منها قضمة.
فما كاد يبتلعها حتى ارتد إليه عقله ودينه وقال لنفسه: «أعوذ بالله؛ أنا طالب علم مقيم في المسجد، ثم اقتحم المنازل وأسرق ما فيها؟» ، وكَبُرَ عليه ما فعل وندم واستغفر، ورد الباذنجانة، وعاد من حيث جاء، فنزل إلى المسجد وقعد في حلقة الشيخ وهو لا يكاد من شدة الجوع يفهم ما يسمع.
فلما انقضى الدرس وانصرف الناس جاءت امرأة مستترة - ولم يكن في تلك الأيام امرأة غير مستترة - فكلمَتْ الشيخ بكلام لم يسمعه فتلفت الشيخ حوله فلم يَرَ غيره فدعاه وقال له: «هل أنت متزوج؟» ، قال:«لا» .
قال: «هل تريد الزواج؟» ، فسكت، فأعاد عليه الشيخ سؤاله فقال:«يا شيخ ما عندي ثمن رغيف، والله، فلماذا أتزوج؟» . قال الشيخ: «إن هذه المرأة أخبرتني أن زوجها توفي وأنها غريبة عن هذا لبلد ليس لها فيه ولا في الدنيا إلا عم عجوز فقير وقد جاءت به معها - وأشار إليه قاعدًا في ركن الحلقة - وقد ورثَتْ دار زوجها ومعاشه وهي تحب أن تجد رجلًا يتزوجها لئلا تبقى منفردة فيطمع بها» . قال: «نعم» ، وسألها الشيخ:«هل تقبلين به زوجًا؟» ، قالت:«نعم» .
فدعا الشيخ عمها ودعا شاهدين وعقَدَا العقد، ودفع المهر عن التلميذ، وقال له:«خذ بيد زوجتك» ، فأخذ بيدها فقادَتْه إلى بيتها، فلما أدخَلَتْه كشفت عن وجهها فرأى شبابًا وجمالًا، وإذا البيت هو البيت الذي اقتحمه، وسألَتْه:«هل تأكل؟» ، قال:«نعم» ، فكشفت غطاء القِدْر فرأت الباذنجانة فقالت:«عجبًا، مَن الذي دخل الدار فقضمها؟» ، فبكى الرجل وقص عليها الخبر، فقالت له:«هذه ثمرة الأمانة، عفَفْتَ عن الباذنجانة الحرام، فأعطاك الله الدار كلها وصاحبتها بالحلال» .
13 -
تركا الحرام فرزقهما الله الحلال:
كان في طريقه إلى الجامعة، فركب سيارة أجرة وجلس بجواره طالب في المدرسة الفنية الصناعية، وفي أثناء الطريق نزل السائق إلى حديقة جوافة فانتزع بعض الثمار، وعرض عليهما بعضها فرفضا قائلَيْن إن هذا حرام ولا يجوز أكْلُه، وإنه لم يستأذن أصحاب الحديقة، فسكت السائق.
وفي الطريق وبعد مسافة يسيرة قابلَتْه سيارة نقل محمّلة بثمار الجوافة، فأعطاهُ سائقُها بعض الثمار التي كانت أمامه في التابلوه (1)، وعندما أخذها السائق عرض عليهما بعض تلك الثمار قائلًا:«كُلَا مِن هذه؛ فهي حلال» . فأكلا منها، وكان جزاء صبرهما عن الحرام أن رزقهما الله من نفس الثمار ولكن بالطريق الحلال.
(1) تابلوه السَّيَّارة: صندوق معدنيّ- غالبًا- مجهَّز لاحتواء عدَّادَي البنزين والسُّرعة، ومؤشِّر الحرارة وجهاز الراديو، وخِزانة صغيرة. [انظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، للدكتور أحمد مختار عبد الحميد عمر (1/ 279)].