الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
78 - من صفات معاوية
رضي الله عنه
توقير معاوية سدد خطاكم لآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَوْفٍ الْجُرَشِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَمُصُّ لِسَانَهُ أَوْ قَالَ شَفَتَهُ - يَعْنِي الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - وَإِنَّهُ لَنْ يُعَذَّبَ لِسَانٌ أَوْ شَفَتَانِ مَصَّهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم» . (رواه الإمام أحمد وقال الأرنؤوط: «إسناده صحيح»).
وأخرج ابن كثير في البداية والنهاية بسند صحيح، أن معاوية رضي الله عنه، كان إذا لَقِيَ الحسن بن علي رضي الله عنهما قال:«مرحبًا بابن رسول الله وأهلًا» ، ويأمر له بثلاثمائة ألف، ويلقى ابن الزبير رضي الله عنهما فيقول:«مرحبًا بابن عمة رسول الله وابن حواريِّه» ، ويأمر له بمائة ألف.
وأخرج الآجري عن الزهري قال: لما قُتل علي بن أبي طالب وجاء الحسن بن علي إلى معاوية رضي الله عنهم، فقال له معاوية:«لو لم يكن لك فضل على يزيد (1) إلا أن أمك من قريش وأمه امرأة من كلب (2)، لكان لك عليه فضل، فكيف وأمك فاطمة بنت رسول صلى الله عليه وآله وسلم؟!» .
ورواية أهل البيت عن معاوية رضي الله عنه دالة على فضله وصدقه عندهم ، وممن روى عنه ابن عباس رضي الله عنهما ومحمد بن علي بن أبي طالب (ابن الحنفية).
(1) يزيد بن معاوية.
(2)
قبيلة من قبائل العرب.
أمر معاوية سدد خطاكم بالمعروف وإنكاره للمنكر:
1 -
عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنه عَامَ حَجَّ عَلَى الْمِنْبَرِفَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعَرٍ وَكَانَتْ فِي يَدَيْ حَرَسِيٍّ، فَقَالَ:«يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ، وَيَقُولُ: «إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَهَا نِسَاؤُهُمْ» (رواه البخاري ومسلم).
وعَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: «إِنَّكُمْ قَدْ أَحْدَثْتُمْ زِيَّ سَوْءٍ وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم نَهَى عَنْ الزُّورِ» . قَالَ: «وَجَاءَ رَجُلٌ بِعَصًا عَلَى رَأْسِهَا خِرْقَةٌ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: أَلَا وَهَذَا الزُّورُ» . قَالَ قَتَادَةُ: «يَعْنِي مَا يُكَثِّرُ بِهِ النِّسَاءُ أَشْعَارَهُنَّ مِنْ الْخِرَقِ» (رواه مسلم).
قال الإمام النووي: «الْقُصَّة: الْخُصْلَة مِنْ الشَّعْر، وهِيَ شَعْر مُقَدَّم الرَّأْس الْمُقْبِل عَلَى الْجَبْهَة، وَقِيلَ: شَعْر النَّاصِيَة. وَالْحَرَسِيّ: وَاحِد الْحُرَّاس، وَهُمْ خَدَم الْأَمِير الَّذِينَ يَحْرُسُونَهُ.
(يَا أَهْل الْمَدِينَة أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ) هَذَا السُّؤَال لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بِإِهْمَالِهِمْ إِنْكَار هَذَا الْمُنْكَر وَغَفْلَتهمْ عَنْ تَغْيِيره.
وفِي هَذَا الحَدِيث اِعْتِنَاء معاوية رضي الله عنه بِإِنْكَارِ الْمُنْكَر، وَإِشَاعَة إِزَالَته، وَتَوْبِيخ مَنْ أَهْمَلَ إِنْكَاره مِمَّنْ تَوَجَّهَ ذَلِكَ عَلَيْهِ» (1).
2 -
عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ قَالَ سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانَ عَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه قَالَ: «إِنَّكُمْ لَتُصَلُّونَ صَلَاةً لَقَدْ صَحِبْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فَمَا رَأَيْنَاهُ يُصَلِّيهَا وَلَقَدْ نَهَى عَنْهُمَا يَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ» (رواه البخاري).
(1) باختصار من شرحه لصحيح مسلم.
3 -
عَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْعَبَّاسِ أَنْكَحَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَكَمِ ابْنَتَهُ وَأَنْكَحَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنَتَهُ وَكَانَا جَعَلَا صَدَاقًا، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَرْوَانَ يَأْمُرُهُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ فِي كِتَابِهِ:«هَذَا الشِّغَارُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم» (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
(وَكَانَا جَعَلَا صَدَاقًا) أَيْ كَانَا جَعَلَا إِنْكَاح كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا الْآخَر اِبْنَته صَدَاقًا.
(فَكَتَبَ مُعَاوِيَة) بْن أَبِي سُفْيَان الْخَلِيفَة. (إِلَى مَرْوَان) بْن الْحَكَم وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَة مِنْ قِبَل مُعَاوِيَة رضي الله عنه. (وَقَالَ فِي كِتَابه) الَّذِي كَتَبَ إِلَى مَرْوَان. (هَذَا الشِّغَار الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم). قَالَ الْإِمَام الْخَطَّابِيّ: «إِذَا وَقَعَ النِّكَاح عَلَى هَذِهِ الصِّفَة كَانَ بَاطِلًا لِأَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم نَهَى عَنْهُ» .
4 -
عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي الْخُوَارِ أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ أَرْسَلَهُ إِلَى السَّائِبِ ابْنِ أُخْتِ نَمِرٍ يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ رَآهُ مِنْهُ مُعَاوِيَةُ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: «نَعَمْ صَلَّيْتُ مَعَهُ الْجُمُعَةَ فِي الْمَقْصُورَةِ فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قُمْتُ فِي مَقَامِي فَصَلَّيْتُ فَلَمَّا دَخَلَ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَقَالَ: «لَا تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ إِذَا صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ فَلَا تَصِلْهَا بِصَلَاةٍ حَتَّى تَكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَمَرَنَا بِذَلِكَ أَنْ لَا تُوصَلَ صَلَاةٌ بِصَلَاةٍ حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ» (رواه مسلم).
(صَلَّيْت مَعَهُ الْجُمُعَة فِي الْمَقْصُورَة) فِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز اِتِّخَاذهَا فِي الْمَسْجِد إِذَا رَآهَا وَلِيّ الْأَمْر مَصْلَحَة، قَالُوا: وَأَوَّل مَنْ عَمِلَهَا مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان حِين ضَرَبَهُ الْخَارِجِيّ.
قَوْله: (فَإِنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَمَرَنَا بِذَلِكَ أَلَّا تُوصَلَ صَلَاةٌ بِصَلَاةٍ حَتَّى نَتَكَلَّم أَوْ نَخْرُج) فِيهِ دَلِيل على أَنَّ النَّافِلَة الرَّاتِبَة وَغَيْرهَا يُسْتَحَبّ أَنْ يَتَحَوَّل لَهَا عَنْ مَوْضِع الْفَرِيضَة إِلَى مَوْضِع آخَر، وَأَفْضَله التَّحَوُّل إِلَى بَيْته، وَإِلَّا فَمَوْضِع آخَر مِنْ الْمَسْجِد أَوْ غَيْره لِيَكْثُر مَوَاضِع سُجُوده وَلِتَنْفَصِل صُورَة النَّافِلَة عَنْ صُورَة الْفَرِيضَة.
وَقَوْله: (حَتَّى نَتَكَلَّم) دَلِيل عَلَى أَنَّ الْفَصْل بَيْنهمَا يَحْصُل بِالْكَلَامِ أَيْضًا.
معاوية سدد خطاكم طالبًا للعلم والنصيحة:
1 -
عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُدَيْجٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَأَلَ أُخْتَهُ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: «هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يُصَلّيِ فِي الثَّوْبِ الَّذِي يُجَامِعُهَا فِيهِ؟» ، فَقَالَتْ:«نَعَمْ إِذَا لَمْ يَرَ فِيهِ أَذًى» (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
2 -
وكَتَبَ مُعَاوِيَةُ بنُ أبي سُفْيَان رضي الله عنهما إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنْ اكْتُبِي إِلَيَّ كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ وَلَا تُكْثِرِي عَلَيَّ، فَكَتَبَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها إِلَى مُعَاوِيَةَ:«سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ» ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
(مَنْ اِلْتَمَسَ) أَيْ طَلَبَ، (بِسَخَطِ النَّاسِ) السَّخَطُ وَالسُّخُطُ وَالسُّخْطُ وَالْمَسْخَطُ: الْكَرَاهَةُ لِلشَّيْءِ وَعَدَمُ الرِّضَا بِهِ، (كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ) لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ مِنْ حِزْبِ اللهِ وَهُوَ لَا يَخِيبُ مَنْ اِلْتَجَأَ إِلَيْهِ، أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ.
(وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ) أَيْ سَلَّطَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهِ حَتَّى يُؤْذُوهُ.
تواضع معاوية سدد خطاكم وزهده:
1 -
روى الإمام أحمد في (الزهد) وابن أبي عاصم بسند صحيح عن أبي حملة قال: «رأيت معاوية على المنبر بدمشق يخطب الناس وعليه قميص مرقوع» .
2 -
وعن يونس بن ميسر الحميري الزاهد - وهو من شيوخ الأوزاعي - قال: «رأيت معاوية في سوق دمشق وهو مُرْدِفٌ وراءَه وصيفًا، وعليه قميص مرقوع الجَيْب يسير في أسواق دمشق» . (الوصيف: الخادم).
3 -
قال ابن دريد عن أبي حاتم عن العتبي قال: قال معاوية: «يأيها الناس! ما أنا بخيركم وإن منكم لَمَن هو خيرٌ مِنّي، عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو،
وغيرهما من الأفاضل، ولكن عسى أن أكون أنفعكم ولاية، وأنكاكم في عدوكم، وأدَرّكم حلبًا».
4 -
عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ فَقَامُوا لَهُ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (رواه الإمام أحمد، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين).
وعَنْه أيضًا قَالَ: «خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَامِرٍ، فَقَامَ ابْنُ عَامِرٍ وَجَلَسَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِابْنِ عَامِرٍ: اجْلِسْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (رواه الترمذي وأبو داود، واللفظ له، وصححه الألباني).
حِلم معاوية سدد خطاكم ورحابة صدره:
لقد كان حلم معاوية رضي الله عنه ورحابة صدره مضرب المثل، وأخباره في ذلك كثيرة جدًا، وقد أفرد الحافظان ابن أبي الدنيا وابن أبي عاصم تصنيفًا في حلم معاوية.
1 -
قال ابن عون: «كان الرجل يقول لمعاوية: «والله لتستقيمن بنا يا معاوية أو لنُقَوِّمَنَّكَ» ، فيقول:«بماذا؟» ، فيقول:«بالخشب» ، فيقول:«إذن نستقيم» .
2 -
وقال قبيصة بن جابر: «صحبتُ معاوية فما رأيت رجلًا أثقل حلمًا ولا أبطأ جهلًا ولا أبعد أناةً منه» .
3 -
عن أبي مسلم الخولاني، أنه نادى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وهو جالس على منبر دمشق فقال:«يا معاوية، إنما أنت قبر من القبور؛ إن جئتَ بشيء كان لك شيء، وإن لم تجئ بشيء فلا شيء لك. يا معاوية، لا تحسبَنَّ الخلافة جمع المال، وتفرقته ولكن الخلافة العمل بالحق والقول بالمعدلة، وأخذ الناس في ذات الله، يا معاوية، إنا لا نبالي بكدر الأنهار وما صفَت لنا رأس عيننا وإنك رأس أعيننا، يا معاوية إنك إن تَحِفْ على قبيلة من قبائل العرب يذهب حَيْفُك بعدلِك» .
فلما قضى أبو مسلم مقالته أقبل عليه معاوية فقال: «يرحمك الله يرحمك الله» .
4 -
وقال بعضهم: أسمَعَ رجلٌ معاويةَ كلامًا سيئًا شديدًا، فقيل له:«لو سطوت عليه؟» ، فقال:«إني لأستحيي من الله أن يضيق حِلمي عن ذنبِ أحدٍ من رعيتي» .
وفي رواية قال له رجل: «يا أمير المؤمنين ما أحلمك؟» ، فقال:«إني لاستحيي أن يكون جرم أحد أعظم من حلمي» .
5 -
وقال له ابن أخته عبد الرحمن بن أبي الحكم: «إن فلانًا يشتمني» ، فقال له معاوية:«طأطئ لها؛ فتمر؛ فتجاوزك» .
6 -
وقال: «لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ الرجل ذلك إلا بقوة الحلم» .
جهاد معاوية سدد خطاكم وفتوحاته:
شهد معاويةُ رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حُنينا والطائف، وشهد غزوة تبوك، وهي العُسرة. وفي أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه شهد حرب المرتدين في اليمامة. ثم جمع أبو بكر رضي الله عنه أناسًا ووجههم إلى الشام، وأمَّر عليهم معاوية رضي الله عنه، وأمرهم باللحاق بيزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه، وهي أول مهمة قيادية يتولاها معاوية. ثم صَحِبَ أخاهُ يَزيدَ أميرَ الشام في فُتوحها، وشهد اليرموك، وفتح دمشق تحت راية يزيد.
وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسل يزيدُ حملةً بإمرة أخيه معاوية رضي الله عنهما إلى سواحل بلاد الشام فافتتحها. وكان معاوية رضي الله عنه من الجيش الذي فتح بيت المقدس، ودخل المسجد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان أحد أربعة شهدوا على العَهد العُمَري الشهير. وفي سنة تسع عشرة زمن عمر كانَ معاويةُ رضي الله عنه قائدَ فتحِ قَيْسَارِيَّة، من المعارك الفاصلة مع الروم، وكان فيها بَطارِقَتُهم، وقد حاصرها معاوية حصارًا شديدًا، وأبلى فيها بلاءً كبيرًا.
وكان قد استأذن عمر في بناء قوة بحرية لمحاربة الروم فلم يأذن.
ثم توفي عمر وهو عن معاوية راض، فأقرّه عثمان بن عفان رضي الله عنهم على إمرة الشام كلها، وكان معاوية يغزو الروم، وكان على رأس صائفة، واستطاع أن يصل إلى عمّورية (موقع أنقرة اليوم)، ومعه عدد من الصحابة، منهم: عبادة بن الصامت، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو ذر الغفاري، وأبو الدرداء، وشداد بن أوس رضي الله عنهم.
وأعاد معاوية طلب بناء قوة بحرية للمسلمين، فوافق عثمان رضي الله عنه، فبنى أسطولًا، وغزا بنفسه جزيرة قبرص سنة خمس وعشرين وقيل سنة ثمان وعشرين.
وعندما قامت الدولة الأموية استكمل معاوية رضي الله عنه ما بدأه في بناء القوة البحرية لحماية سواحل الدولة الإسلامية بإقامة المراكب للغزو إلى جانب ترتيب الحفظة في السواحل مما استولى عليه المسلمون من قواعد ومنشآت بحرية، وعندما خرجت الروم في عهده إلى السواحل الشامية أمر بجمع الصناع من النجارين فجُمعوا ورتبهم في السواحل الشامية وجعل مقر دار صناعة السفن في جند الأردن بعكا.
كما أنشأ الخليفة معاوية رضي الله عنه أول دار صناعة للأساطيل لإنتاج السفن الحربية المختلفة بمصر سنة 54 هـ في عهد واليها مسلمة بن مخلد الأنصاري، وبلغت السفن الحربية في عهد معاوية رضي الله عنه نحوًا من ألف وسبعمائة سفينة شراعية مشحونة بالرجال والسلاح وجميع العتاد، والمستلزمات القتالية البحرية.
روى البخاري في صحيحه عن أم حَرَام الأنصارية أنها سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «أوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا» .، ومعاوية هو أمير تلك الغزوة، ومعه عدد من الصحابة، وقام بتحصين أسوار سواحل الشام عند ذهابه إلى قبرص، مثل عكا وصور، وأنشأ حصونًا وشحنها بالجند.
توقفت الفتوحات بعد مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه مظلومًا.
وغزا جُزُرَ صقلية، ورودس، وجربا، كريت، وكثير من جزر بحر إيجة قرب القسطنطينية.
وأما في إفريقية، فقد جدد معاوية فتحها، ووصل إلى مكان تونس اليوم، كما فتح مناطق من فزّان، والسودان.
وفي عهده افتتح بعض المناطق في المشرق، مثل الرُّخّج وبعض سجستان، وقوهستان، وغزا أمراؤه بلادَ السِّند، وجبال الغور، وبلاد اللان، واجتازوا النهر، وهم أول من اجتازه من جند المسلمين، ودخلوا بخارى، وسمرقند، وتِرْمِذ.
والحاصل كما قال أبونعيم في (معرفة الصحابة): «مَلَكَ الناسَ كلَّهم عشرين سنة منفردًا بالمُلك، يفتح الله به الفتوح، ويغزو الروم، ويقسم الفيء والغنيمة، ويقيم الحدود، والله تعالى لا يُضِيْعُ أجرَ من أحسنَ عَملًا» .
وتحدث القاضي ابن العربيِّ المالكي في كتابه (العواصم من القواصم) عن الخصال التي اجتمعت في معاوية رضي الله عنه ، فذكر منها: «
…
قيامه بحماية البيضة، وسدِّ الثغور ، وإصلاح الجند ، والظهور على العدوِّ ، وسياسة الخلق».
عدل معاوية سدد خطاكم:
وعن الزهري قال: «عمل معاوية بسيرة عمر بن الخطاب سنين لا يخرم منها شيئًا» .
وقال ابن كثير في ترجمة معاوية رضي الله عنه: «وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين
…
فلم يزل مستقلًا بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها
وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم وكلمة الله عالية، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل وصفح وعفو» (1).
اهتمام معاوية سدد خطاكم برعيته:
عن أبي قبيل قال: «كان معاوية يبعث رجلًا يقال له أبو الجيش في كل يوم فيدور على المجالس يسأل هل ولد لأحد مولود؟ أو قدم أحد من الوفود؟ فإذا أخبر بذلك أثْبِتَ في الديوان» - يعني ليجري عليه الرزق. (يجري عليه الرزق: أي يحدد له راتبًا من بيت المال).
وعن أبي عثمان الشامي، قال: كان معاوية يَخرج علينا ونحن في الكُتّاب، ويقول للمعلم:«يا معلِّم، أَحْسِن أَدَبَ أبناءِ المُهاجرين» .
ومن إصلاحات معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أنه أول من بلّط المدينة المنورة بالحجارة، وبنى فيها مرافق وحصنًا لأهلها. وكان يُرسل الأطعمة إلى المدينة كما كان يُفعل أيام عمر، وأمر بحفر نهر مَعْقِل.
واهتم بالمسجد الحرام وأمر بتوسعته وأجرى له القناديل والزيت من بيت المال وأضاء المصابيح فيه لأهل الطواف، واهتم بالمسجد الأقصى، وقام مسلمة بن مخلد أمير مصر من قبل معاوية بالزيادة في المسجد الجامع بالفُسطاط عام 53 هـ وبنى له أربع منارات شامخة وفرشه بالحصير.
واهتم معاوية رضي الله عنه بالمرافق العامة في الدولة الإسلامية، وحرص على توفير مياه الشرب في المدينة، وأجرى في الحرم المكي عيونًا وأنشأ آبار المياه على الطرقات، فربط بين أجزاء مملكته ربطًا محكمًا.
(1) البداية والنهاية (8/ 119).
وجعل دار المراجل بمكة، والتي كان يطبخ فيها طعام الحجاج وطعام الصائمين من الفقراء في شهر رمضان المبارك وقفًا في سبيل الله.
ذكر بعض ما جاء من ثناء الصحابة على معاوية سدد خطاكم:
* قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه قُبيل وفاته: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ عَلَى أُمَرَاءِ الْأَمْصَارِ، وَإِنِّي إِنَّمَا بَعَثْتُهُمْ عَلَيْهِمْ لِيَعْدِلُوا عَلَيْهِمْ وَلِيُعَلِّمُوا النَّاسَ دِينَهُمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وآله وسلم وَيَقْسِمُوا فِيهِمْ فَيْئَهُمْ وَيَرْفَعُوا إِلَيَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِهِم» . (رواه مسلم).
وقد توفي عمر سدد خطاكم ومعاوية سدد خطاكم أمير الشام.
قال الإمام الذهبي رحمه الله: «حسبُك بمن يُؤَمِّرُه عمر، ثم عثمان على إقليم - وهو ثغر - فيضبطُه ويقومُ به أتمّ قيام» . (سير أعلام النبلاء 3/ 132).
وروى الطبري في التاريخ بسند صحيح عن سعيد المقبُري، قال: قال عمر بن الخطاب: «تَذكرونَ كِسْرَى وقَيْصَرَ ودَهاءَهُما؛ وعندَكم معاوية» .
وعن ابن عمر سدد خطاكمما أنه قال: «ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسْوَدَ من معاوية» ، فقيل:«ولا أبوك؟» ، قال:«أبي عمر رحمه الله خير من معاوية، وكان معاوية أسْوَدَ منه» . (أسْوَدَ: من السيادة).
وقال ابن عباس سدد خطاكمما: ما رأيت رجلًا كان أخْلَق للملك من معاوية». (أخلق: أجدر).
وعَنْ أَبِى إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِىِّ قَالَ: «لَمَّا عَزَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عُمَيْرَ بْنَ سَعِيدٍ عَنْ حِمْصَ وَلَّى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ النَّاسُ: «عَزَلَ عُمَيْرًا وَوَلَّى مُعَاوِيَةَ» . فَقَالَ عُمَيْرٌ: «لَا تَذْكُرُوا مُعَاوِيَةَ إِلَاّ بِخَيْرٍ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «اللَّهمَّ اهْدِ بِهِ» . (رواه الترمذي وصححه الألباني).
وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «إني لأتمنى أن يزيدَ اللهُ – عز وجل معاويةَ مِن عُمري في عُمره» .
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «ليس أحدٌ منا أعلم من معاوية» .
وروى البخاري عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: «أَوْتَرَ مُعَاوِيَةُ بَعْدَ الْعِشَاءِ بِرَكْعَةٍ وَعِنْدَهُ مَوْلًى لِابْنِ عَبَّاسٍ، فَأَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: «دَعْهُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم» .
وعن ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: «هَلْ لَكَ فِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةَ؛ فَإِنَّهُ مَا أَوْتَرَ إِلَّا بِوَاحِدَةٍ؟» ، قَالَ:«أَصَابَ إِنَّهُ فَقِيهٌ» . (رواه البخاري).
وقال أبوالدَّرداء رضي الله عنه: «ما رأيتُ أشْبَهَ صلاةً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مِن أميركم هذا» ، يعني معاوية.
ذكر بعض ما جاء من ثناء التابعين على معاوية سدد خطاكم:
قال أبو إسحاق السبيعي الكوفي: «كان معاوية، وما رأينا بعده مثله» .
وعن مجاهد قال: «لو رأيتم معاوية لقُلْتم هذا المهدي؛ من فضله» .
وقال قتادة: «لو أصبحتم في مِثْلِ عمل معاوية لقال أكثَرُكُم: «هذا المهدي» .
وقال أبومُسْلِم الخَوْلاني لمعاوية: «فلا والله ما أبغضْناكَ منذ أَحببْناك، ولا عَصَيناك بعدما أَطَعْناك، ولا فارَقْناكَ بعدَما جامَعَنْاك، ولا نَكَثْنا بَيْعَتَنا منذُ بايَعْناك، سُيوفُنا على عَواتِقِنا، إنْ أَمَرْتَنا أَطَعْناك، وإنْ دَعَوْتَنا أَجَبْناك، وإنْ سَبَقْتَنا أَدْرَكْناك، وإنْ سَبَقْناكَ نَظَرْناك» .
وعن الزهري قال: «عمل معاوية بسيرة عمر بن الخطاب سنين لا يخرم منها شيئًا» .
ذكر بعض ما جاء من ثناء العلماء على معاوية سدد خطاكم:
قال ابن أبي العز الحنفي: «وأول ملوك المسلمين معاوية وهو خير ملوك المسلمين» .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَفْضَلُ مُلُوكِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ الْأَرْبَعَةَ قَبْلَهُ كَانُوا خُلَفَاءَ نُبُوَّةٍ وَهُوَ أَوَّلُ الْمُلُوكِ؛ كَانَ مُلْكُهُ مُلْكًا وَرَحْمَةً
كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ
…
(1) وَكَانَ فِي مُلْكِهِ مِنْ الرَّحْمَةِ وَالْحِلْمِ وَنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ خَيْرًا مِنْ مُلْكِ غَيْرِهِ».
وقال الإمام الذهبي عن معاوية رضي الله عنه: «أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ، مَلِكُ الإِسْلَامِ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ القُرَشِيُّ، الأُمَوِيُّ، المَكِّيُّ» .
وقال: «حَسْبُكَ بِمَنْ يُؤَمِّرُهُ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ عَلَى إِقْلِيْمٍ - وَهُوَ ثَغْرٌ – فَيَضْبِطُهُ، وَيَقُوْمُ بِهِ أَتَمَّ قِيَامٍ، وَيُرْضِي النَّاسَ بِسَخَائِهِ وَحِلْمِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ تَأَلَّمَ مَرَّةً مِنْهُ، وَكَذَلِكَ فَلْيَكُنِ المَلِكُ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم خَيْرًا مِنْهُ بِكَثِيْرٍ، وَأَفْضَلَ، وَأَصْلَحَ، فَهَذَا الرَّجُلُ سَادَ وَسَاسَ العَالَمَ بِكَمَالِ عَقْلِهِ، وَفَرْطِ حِلْمِهِ، وَسَعَةِ نَفْسِهِ، وَقُوَّةِ دَهَائِهِ وَرَأْيِهِ».
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين
…
فلم يزل مستقلًا بالأمر إلى
…
السنة التي كانت فيها وفاته ، والجهاد في بلاد العدو قائم ، وكلمة الله عالية ، والغنائم تَرِد إليه من أطراف الأرض ، والمسلمون معه في راحة وعدل ، وصفح وعفو».
(1) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أوَّلُ هَذَا الْأمْرِ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةً ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً» (رواه الطيالسي وأحمد والبزار، وصححه العراقي والألباني، انظر: الصحيحة3270).
وقال المؤرخ العلامة ابن خلدون: «إن دولة معاوية وأخباره كان ينبغي أن تلحق بدول الخلفاء الراشدين وأخبارهم، فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة» .
وقال الشيخ محب الدين الخطيب رحمه الله: «سألني مرة أحد شباب المسلمين ممن يحسن الظن برأيي في الرجال: «ما تقول في معاوية؟» . فقلت له: «ومن أنا حتى أسأل عن عظيم من عظماء هذه الأمة، وصاحب من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إنه مصباح من مصابيح الإسلام، لكن هذا المصباح سطع إلى جانب أربع شموس ملأت الدنيا بأنوارها فغلبت أنوارها على نوره» .
بعض ما رُوي من أقوال معاوية سدد خطاكم:
1 -
2 -
«ما مِن شيء ألذُّ عندي من غيظٍ أتجَرَّعُه أرجو بذلك وجه الله» .
3 -
4 -
5 -
«لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت» . قيل: «وكيف يا أمير المؤمنين؟» .
قال: «كانوا إذا مَدّوها خلّيْتُها، وإذا خَلوها مدَدْتُها» .
6 -
«إياكم وقذف المحصنات، وأن يقول الرجل: «سمعتُ وبلغني» ، فلو قذف أحدكم امرأة على عهد نوح لَسُئِلَ عنها يوم القيامة».
78 -
لا تدعوا على أولادكم
الأولاد نعمة:
مِنْ عظيمِ فضلِ اللهِ وكبيرِ نِعَمهِ على خلْقهِ أَنَّهُ سبحانه وتعالى كما قال: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)} (الشورى: 49 - 50).
وَحُبُّ الذُّريَةِ مفْطورٌ في النَّفْسِ الإنْسانيةِ، وطلَبُها والسَّعْيُ إليْها ليسَ غريبًا على النَّفسِ الإنسانيةِ؛ لأنَّ المالَ والبنينَ زينةُ الحياةِ الدنيَا، كما قالَ اللهُ تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (46)} (الكهف: 46).
وإذا كانَ الإنسانُ يُحِبُّ أنْ يكونَ لهُ ذريةٌ فعبادُ اللهِ المؤمنونَ من طبيعتِهِم وصفاتِهِم أن يبْتَهِلوا إلى اللهِ أنْ يرزقَهُم أولادًا مؤمنينَ صالحينَ مهْديينَ إلى الإسلام، مُطيعينَ للهِ، يعملونَ الخيرَ، ويبتعدُونَ عنِ الشَّرِّ، تَقَرُّ بِهِمْ أعْيُنُهُم، وتُسَرُّ بِهِمْ نفوسُهُم، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} (الفرقان: 74).
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا} أي: قرنائنا من أصحاب وأقران وزوجات، {وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} أي: تقر بهم أعيننا. قُرَّة العَيْن: ما يصادف المرء به سرورًا فلا تطمح العين إلى ما سواه، يقال: هو قرَّة عين أمّه: سرورها وسكونها.
قَالَ الضَّحَّاك: أَيْ مُطِيعِينَ لَك. وَفِيهِ جَوَاز الدُّعَاء بِالْوَلَدِ.
وإذا استَقْرَأنا حاله وصفات عباد الرحمن عرفنا من هممهم وعلو مرتبتهم أنهم لا تقر أعينهم حتى يرَوْهم مطيعين لربهم عالمين عاملين وهذا كما أنه دعاء لأزواجهم وذرياتهم في صلاحهم فإنه دعاء لأنفسهم لأن نفعه يعود عليهم ولهذا جعلوا ذلك هبة
لهم فقالوا: {هَبْ لَنَا} بل دعاؤهم يعود إلى نفع عموم المسلمين؛ لأن بصلاح مَن ذُكِرَ يكون سببًا لصلاح كثير ممن يتعلق بهم وينتفع بهم.
وقد دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لِأَنَسٍ: «اللهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ» (رواه البخاري ومسلم).
وَالْإِنْسَان إِذَا بُورِكَ لَهُ فِي مَاله وَوَلَده قَرَّتْ عَيْنه بِأَهْلِهِ وَعِيَاله ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ عِنْده زَوْجَة اِجْتَمَعَتْ لَهُ فِيهَا أَمَانِيّه مِنْ جَمَال وَعِفَّة وَنَظَر وَحَوْطَة أَوْ كَانَتْ عِنْده ذُرِّيَّة مُحَافِظُونَ عَلَى الطَّاعَة ، مُعَاوِنُونَ لَهُ عَلَى وَظَائِف الدِّين وَالدُّنْيَا ، لَمْ يُلْتَفَت إِلَى زَوْج أَحَد وَلَا إِلَى وَلَده ، فَتَسْكُن عَيْنه عَنْ الْمُلَاحَظَة ، وَلَا تَمْتَدّ عَيْنه إِلَى مَا تَرَى؛ فَذَلِكَ حِين قَرَّتْ الْعَيْن ، وَسُكُون النَّفْس.
هل أنت مسئول عن البر أو التمرد؟
وكثيرٌ من الآباءِ والأمَّهاتِ يرجونَ برَّ أولادِهِم بِهِمْ واحترامِهِمْ لَهُمْ، وهذا واجبٌ على الأولادِ لِوالِديهِمْ، إلَاّ أنَّ كثيرًا من الآباءِ والأمَّهاتِ يشْكونَ منْ تمرُّدِ وانْحرافِ أبنائِهِم وفسادِ أخْلاقِهِمْ.
ومهما كانتْ أسبابُ ذلك فإنَّ التَّبِعَةَ في الواقِعِ يَبُوءُ بها الآباءُ، فالطِّفلُ يولدُ على الفِطْرَةِ السَّليمَةِ والصَّفاءِ والنَّقاءِ، ولَكِنَّ المُجتَمَعَ هو الذي يُفْسِدُه، والبِيئةَ التي يعيشُ فيها هيَ الَّتِي تُلَوِّثُ فِطْرَتَهُ وتُفْسِدُ خُلُقَهُ ودينَهُ، ولا سِيَما أبَوَيهُ فَهُما سَببُ هلاكِهِ ودمارهِ، وسبَبُ فسادِهِ أو صلاحِهِ، وسبَبُ استقامَتِهِ أو اعْوِجاجِهِ، ففي الحديثِ الصَّحيحِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: “ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ “ (رواه البخاري).
ولِهذا جعلَ الإسلامُ من أعظمِ الواجباتِ على الآباءِ والأمَّهاتِ تِجاهَ أولادِهِمْ حسنَ تعَهُّدِهِم ورعايتِهِم، واعْتَبَرَ كلَّ مُفرِّطٍ في أداءِ هذا الواجِبِ ظالمًا لنفْسِهِ وولدِهِ ومُجْتَمَعِهِ وأُمَّتِهِ، فهلْ قُمْنا بواجِبِنا نحْو أبنائِنا؟!
علينا قَبْلَ أن نلومَ أبناءَنا ونشكُوَ منَ انحِرافِهِم وفسادِ أخلاقِهِم أن نَسألَ أنْفُسَنا: هل تعهَّدناهُمْ ورعيْناهُمْ منذ صِغَرِهِمْ كما عَلَّمَنَا الإسلامُ؟! هل غرسْنا ورسَّخْنا الإيمانَ والعقيدةَ الصحيحةَ في نفوسِهِمْ؟! هل عوَّدْناهُمُ الصَّلاةَ وهم صغارٌ كما أمرنا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
(مُرُوا): أَمْر مِنْ الْأَمْر. (أَوْلَادكُمْ): يَشْمَل الذُّكُور وَالْإِنَاث. (بِالصَّلَاةِ): وَبِمَا يَتَعَلَّق بِهَا مِنْ الشُّرُوط (وَهُمْ أَبْنَاء سَبْع سِنِينَ): لِيَعْتَادُوا وَيَسْتَأْنِسُوا بِهَا، (وَاضْرِبُوهُمْ): أَيْ الْأَوْلَاد (عَلَيْهَا): أَيْ عَلَى تَرْك الصَّلَاة (وَهُمْ أَبْنَاء عَشْر سِنِينَ): لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا أَوْ قَارَبُوا الْبُلُوغ (وَفَرِّقُوا بَيْنهمْ فِي الْمَضَاجِع): أَيْ فَرِّقُوا بَيْن أَوْلَادكُمْ فِي مَضَاجِعهمْ الَّتِي يَنَامُونَ فِيهَا إِذَا بَلَغُوا عَشْرًا حَذَرًا مِنْ غَوَائِل الشَّهْوَة وَإِنْ كُنَّ أَخَوَاته.
هل ربَّيْناهُمْ على حُبِّ اللهِ ورسولِهِ صلى الله عليه وآله وسلم؟! هل حرصْنا على تحفيظِهِمْ كتابَ اللهِ؟! هل شجَّعْناهُمْ على قِراءةِ السُّنَّةِ النَّبويةِ؟! هل صحِبْناهُم معنا إلى مجالسِ العلمِ والمحاضراتِ والنَّدواتِ التي تُعْقَدُ في المساجدِ وغيرِها؟! هل غرسْنا القِيَمَ الحميدَةَ والخِلالَ الكريمَةَ في نُفُوسِهِمْ وأدَّبْناهُمْ بِآدابِ الإسلامِ؟! هل خَصَّصْنا جُزْءًا من أوقاتِنا لأولادِنا وراقَبْنا تصرُّفاتِهِم في المنْزِلِ والشَّارعِ وتتبَّعْنا أحوالَهُمْ في المدارِسِ؟! هل نحنُ قُدوَةٌ صالِحةٌ لأبنائِنا؟! هل قمنا بتربية أبنائنا على الوجه الصحيح أم أننا تركناهم للشارع لكي يربِّيهِم على الأخلاق الدَّنِيئة والألفاظِ البذيئةِِ؟! أسئِلةٌ كثيرةٌ كثيرةٌ يجبُ أن يطرَحَها كلُّ واحدٍ منَّا على نفسِهِ، ويجيبَ عليها بصِدْقٍ.
رُوِيَ أن قاضيًا حَكَمَ على سارقٍ بقطْعِ يدِهِ، فما أنْ لَفَظَ القاضي بالحُكْمِ حتى اهتَزَّتْ جَنَبَاتُ المَحْكَمَةِ بِصَوْتٍ يُجَلْجِلُ: اقْطَعُوا لِسانَ أُمِّي قَبْلَ أَنْ تقْطَعوا يَدِي، فلقد سَرَقْتُ في طفولتي بيضةً من جيراننا، فلم تُؤَنّبْنِي، وإنما هشَّتْ لي وبشَّتْ، مستحسنةً ما فعلتُ، إنني لولا لسانُ أمِّي الذي هَلَّلَ للجريمة في صغري لما كنتُ اليوم سارقًا تقطعُ يدُهُ.
وهذا حال بعضنا اليوم مع أولادنا، نسكتُ عن خطيئاتهم الصغيرة، بل نضحك لهم ونشجعهم على الإساءاتِ. وعاتبَ بعضهم ولده على العقوق فقال: يا أبت، إنك عققتني صغيرًا فعققتك كبيرًا، وأضعتني وليدًا فأضعتُكَ شيخًا.
لقد أهملنا رعايةَ أولادِنا في أول الطريق فساءت أخلاقُهُم في نهايته.
وماذا كنا ننتظر غيرَ هذا وقد أضعنا أمرَ الله فيهمْ، وغفلنا عن إصلاحهم والعنايةِ بهم ووقايتهم؟! قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (التحريم: 6). ولا أظن أن أحدا منا لا يخاف على أولاده من النار مثلما نخاف على أنفسنا منها، إننا نخافُ أن يتأذَّوا ولو بشوكة، فهل نقبل أن يتلظى أبناؤنا في النار؟! إذً فاحموهم من النار.
إن مسؤوليتنا في تربيةِ أبنائِنا مسؤوليةٌ كاملةٌ، سنحاسب عليها أمام ربنا، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ:«أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا، وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (رواه البخاري ومسلم).
دعاء الوالدين مستجابٌ:
كثير من الآباء والأمهات بمجرد أن يَرَوْا من أبنائهم عقوقا أو تمردًا يَدْعُون عليهم بشتى المصائب، وما علموا أن دعاء الوالدين مستجابٌ، وربما وافق ساعة إجابةٍ، فتقع الدعوة موقعها، فيشقى الولدُ بعدها شقاءً عظيمًا.
ولهذا حذر رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم من الدعاء على الأولاد فقَالَ: “ لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أَوْلادِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ “ (رواه مسلم)، وقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم:«ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ»
وفي رواية: «وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ» (رواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وحسنه الألباني).
أيها الآباء، أيتها الأمهات، ما دامت دعوتكم مستجابة فلِمَ تحرمون أولادكم فضلَ دعوةٍ صالحةٍ تكون سببًا إن شاء الله تعالى في هدايتهم واستقامتهم؟! فأنبياءُ اللهِ ورسُلُهُ لم يغفلوا عن الدعاء والالتجاء إلى الله أن يهب لهم الذرية الصالحة، فهذا إبراهيم الخليل عليه السلام قال:{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} (الصافات:100)، وقال:{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} (إبراهيم:40)، وهذا زكريا عليه السلام دعا وقال:{رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (آل عمران: 38)، وقال تعالى في صفات عباد الرحمن:{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (الفرقان: 74).
فأَكْثِرُوا من الدُّعاء لأولادكم، واعلموا أن صلاحهم ينفعكم بعد موتكم؛ فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ:«إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَاّ مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ» . (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
فخذوا بأسباب صلاح ذرياتكم بغرس محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في قلوبهم، وبملء أوقات فراغهم بالمفيد، وبتشويقهم إلى الذهاب للمسجد صغارًا وحملهم عليه كبارًا.
من الخطأ في تربية الأولاد: الدعاءُ عليهم:
فكم من الوالدين ـ وخصوصًا الأمهات ـ من يدعو على أولاده، فتجد الأم - لأدنى سَبَبٍ - تدعو على ولدها البريء بالحُمَّى، أو أن يقتل بالرصاص، أو أن تدهسه سيارة، أو أن يصاب بالعمى أو الصمم، وتجد من الآباء من يدعو على أبنائه بمجرد أن
يرى منهم عقوقًا أو تمردًا ربما كان هو السببَ فيه. وما علم الوالدان أن هذا الدعاء ربما وافق ساعة إجابة، فتقع الدعوة موقعها، فيندمان ولات ساعة مندم.
ولا يجوز الدعاء على الولد، ولا لعْنُه، ولا سَبُّه، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:«لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ؛ لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ» (رواه مسلم). ولفظ أبي داود: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ تبارك وتعالى سَاعَةَ نَيْلٍ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ» (صححه الألباني).
(لَا تَدْعُوا) أَيْ دُعَاء سُوءٍ (عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أَيْ بِالْهَلَاكِ وَمِثْلِهِ (وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ) أَيْ بِالْعَمَى وَنَحْوِهِ (وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ) أَيْ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ بِالْمَوْتِ وَغَيْرِهِ (لَا تُوَافِقُوا) نَهْيٌ لِلدَّاعِي وَعِلَّةُ النَّهْيِ أَيْ لَا تَدْعُوا عَلَى مَنْ ذُكِرَ لِئَلَّا تُوَافِقُوا (مِنَ اللَّهِ سَاعَةَ نَيْلٍ) أَيْ عَطَاءٍ (فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ) أَيْ لِئَلَّا تُصَادِفُوا سَاعَةَ إِجَابَةٍ وَنَيْلٍ فَتُسْتَجَابَ دَعَوْتُكُمُ السُّوءُ.
جاء رجل يشكو إلى سعيد بن المسيب فساد ولده، فقال له سعيد بن المسيب:«علّك دعوتَ عليه» ، قال:«نعم» ، قال:«أنت أفسدته بالدعوة عليه» . (علك: لعلك).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه لهذا الحديث من رياض الصالحين: «وهذا يقع كثيرًا عند الغضب، إذا غضب الإنسان ربما يدعو على نفسه وربما يدعو على ولده، ويقول - مثلًا -: «قاتلك الله، أو جزاك الله بسوء» ، وما أشبه ذلك حتى إن بعضهم يدعوا على ولده باللعنة؛ نسأل الله العافية، وكذلك نجد بعض الناس يدعو على أهله ، يدعو على زوجته ، يدعو على أخته بل ربما دعا على أمه، والعياذ بالله، مع الغضب وكذلك يدعو على ماله يقول - مثلًا - على سيارة: «يكثر عطلها، الله لا يبارك
في هذه السيارة، هذه الدار، هذا الفراش، وما أشبه ذلك، كل ذلك نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ندعو عليها؛ لأنه ربما يصادف ساعة إجابة، فإذا صادف ساعة إجابة فإنه يستجاب.
لو قلت مثلًا لولدك: «تعال، قاتلك الله؛ لماذا فعلت كذا وكذا ، الله لا يوفقك، الله لا يربحك، الله لا يصلحك» ، كل هذا حرام لا يجوز؛ لأنه ربما يصادف ساعة إجابة.
كذلك المال: المال الذي يتعسر عليك، السيارة، أو الشغل في البيت أو غير ذلك لا تدعوا عليه، لا تقل:«الله لا يبارك في كذا» . لكن قل: «اللهم يَسِّرْ الأمر، اللهم سَهِّلْ» حتى يحصل التسهيل والتيسير.
قصص واقعية لنقارن بين دعاء الخير ودعاء الشر:
1 -
شاب لم يوفق بسبب دعوة والده عليه:
شابٌ في زمن ليس ببعيد، كان يرعى الغنم لأبيه، ورأى تهافتَ الشباب على السفر والانخراط في السلك العسكري، فطلب من أبيه أن يسمح له ليذهب معهم، فرفض الوالدُ ذلك، حاول مرارًا فلم يأذن له، قال الشاب:«سأذهب أذِنْتَ أم لم تأذن» ، قال:«أما القوة فما لي عليك من قوة، لكن مالي عليك إلا سلاح أوجهه في وقت السحر» ، وجاء يوم من الأيام وترك هذا الشاب غنمه مع أحد أقرانه، وذهب إلى إحدى قريباته فزوَّدَتْه بما يحتاجه المسافر وذهب إلى سفره.
وعلم الأب - وكان صالحًا تقيًا - بسفره بدون إذنه، فرفع يديه إلى الحي القيوم وسأل الله عز وجل أن يُرِيَه فيه ما يكره، فعَمِيَ الولدُ وهو في الطريق، واستقبله بعض أفراد قبيلته في الطائف، وسألوه:«ماذا تريد؟» ، قال:«كنت أريد الوظيفة أما الآن فأعمى لا يقبل مثلي في الوظيفة» ، أخذوه وجاءوا به إلى أبيه، وعندما دخل عليه البيت وهو في الليل - ووالده قليل البصر وهذا الشاب أعمى- فقال أبوه:«أفلان أنت؟» ، قال:«نعم» . قال: «هل وجدت السهم؟» . قال: «نعم والله» .
لكن الأب الحنون حزن حزنًا عظيمًا، وتأثر تأثرًا كبيرًا، وكان يود لو كانت في غير عينيه، وقام ليلته يبكي ويَئِنّ يركع ويسجد ويلحس بلسانه عين ولده ويدعو الله عز وجل، والله قريب مجيب، فما قام لصلاة الفجر حتى عاد لولده البصر، فحمد الله كثيرًا.
هذه القصة ذكرها الشيخ علي القرني في أحد دروسه وقال في نهايتها: «وهو معروف عند بعضكم أيها الجالسون، قد يكون هنا مَن يعلم الشخص الذي حصلَتْ له الدعوة والذي كانت منه الدعوة» .
2 -
ذُكِر أن شابًا اسمه مُنازِل كان مُكبًّا على اللهو واللعب لا يفيق عنه، وكان له والدٌ صاحب دِينٍ، كثيرًا ما يعظ هذا الابن ويقول له:«يا بني، احذر هفوات الشباب وعثراته، فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد» ، وكان إذا ألَحّ عليه زاد في العقوق.
ولما كان يوم من الأيام ألَحّ على ابنه بالنصح على عادته، فمدّ الولد يده على أبيه، فحلف الأب بالله مجتهدًا ليأتينّ بيت الله الحرام ويدعو على ولده، فخرج حتى انتهى إلى البيت الحرام وأنشأ يقول:
يا مَن إليهِ أتَى الحجّاجُ قد قطعُوا
…
عَرضَ المَهامِهِ مِن قُربٍ ومِن بُعْد
إنِّي أتَيْتُكَ يا مَن لا يُخيِّبُ مَن
…
يَدْعُوهُ مبتهلًا بالواحد الصمَد
هذا مُنازِلُ لا يرتدُّ من عَقَقِي
…
فخذ بحقّيَ يا رحمن من ولدي
وشُلَّ مِنْهُ بحَوْلٍ مِنْكَ جانِبهُ
…
يا مَن تَقَدَّس لم يُولَد ولم يَلِد
(المهَامِه: جمع مهمهة، وهي المفازة البعيدة).
فما أنزل الأب يدَيْه إلا وقد شَلَّ اللهُ نصفَ جسدِ هذا الابن العاق، وأصبح مشلولًا إلى أن مات، نعوذ بالله من العقوق.
3 -
تقول هذه المرأة المكلومة: عزمنا على السفر إلى مدينة الرياض وعند ركوب السيارة جرى خلاف بينها وبين أحد أبنائها حول لبس الشماغ، حيث طلبت منه إحضاره فرفض فكانت المشادة بينهما وانتهت بدعائها عليه بقولها:«اذهب لا رَدَّك الله» تقول هذه الأم الحزينة: «وسافرنا إلى الرياض وكانت المصيبة في أحد الشوارع في الرياض حيث كنت أسير معه فإذا بسيارة تتجه نحوه وتصدمه، فيسقط يصارع الموت ولم يلبثْ سوى ساعات ثم يموت، وأعود إلى بلدي بعد هذا السفر بدونه» ، هكذا كانت النهاية الأليمة؛ أستجاب الله دعاءها وذهب ابنها.
4 -
تذْكُر إحدى الأمهات أنه في أحد الأيام، وقبل أذان المغرب بقليل أراد أحد أبنائها السفر فحاولت أن يؤجله إلى الغد ليكون سفره نهارًا، ولكن الولد أصَرَّ
على السفر، وبالفعل سافر، تقول والدته: «لقد قلقتُ عليه أشد القلق، فما كان مني إلا أن فزعْتُ إلى الصلاة وذلك في الساعة الثامنة مساءً، وتضرعْتُ إلى الله وسألْتُه أنْ يحفظ ابني، وقدَّمْتُ مبلغًا يسيرًا صدقة لوجه الله.
وما هي إلا ساعات، ويتصل ابني بالهاتف يُطَمْئِنُنِي على وصوله سالمًا، وقال لي:«هل دعوْتِ اللهَ لي؟» ، فسألْتُه:«لماذا تسأل؟» ، قال: «في الساعة الثامنة تقريبًا، وبينما أنا أسير بسيارتي مسرعًا، وإذ بي أرى زجاج السيارة الأمامي، وقد أصبح عليه ظل أسود جعلني لا أرى أمامي فأصابني الخوف فحاولت إيقاف السيارة، وإذا بها واقفة فوضعت رأسي على مقود السيارة لحظات، ولما رفعت رأسي إذْ بالذي كان أمامي
قد ذهب، ويبدو لي والله أعلم أنه كان جملًا، وبعد هذا الموقف سارت السيارة، ولم أصَبْ بأذى ولله الحمد».
وما كان ذلك إلا بفضل الله، ثم بفضل وبركة دعاء والدته.
79 -
سلامة الصدر (1)
القلب السليم:
قد علق الله سبحانه وتعالى النجاة والفوز يوم القيامة بسلامة القلوب بقوله تعالى: {
…
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء: (88) – (89))، والقلب السليم هو القلب السالم من الشرك وغيره من محبطات الأعمال، والسالم من سيِّءِ الأخلاق كالغِلّ والحسد والبغضاء والحقد، وهو الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه ومن كل شبهة تعارض خبره.
والقلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر، فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يمدح به.
وسئل ابن سيرين رحمه الله: «ما القلب السليم؟» ، فقال:«الناصح لله في خلقه» .
وصاحب القلب السليم عنده من اليقين والنور ما يهتدي به إلى المطالب العالية.
أقصر طرق الجنة:
قال قاسم الجُوعي رحمه الله: أصل الدين الورع، وأفضل العبادة مكابدة الليل، وأقصر طرق الجنة سلامة الصدر».
وعن سفيان بن دينار قال: «قلت لأبي بشير - وكان من أصحاب علي سدد خطاكم -: «أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟» ، قال:«كانوا يعملون يسيرًا ويُؤْجَرُون كثيرًا» . قلت: ولِمَ ذاك؟ قال: «لسلامة صدورهم» .
(1) هذه الخطبة واللتان بعدها بتصرف من محاضرة (الأنقياء) للشيخ إبراهيم الدويش، ورسالة (البدر في فضل سلامة الصدر)، للدكتور نايف بن أحمد الحمد، القاضي في المحكمة العامة بالرياض.
وعن زيد بن أسلم قال: «دُخِل على أبي دجانة سدد خطاكم وهو مريض، وكان وجهه يتهلل، فقيل له: «ما لِوجهكَ يتهلل؟» ، فقال:«ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين. أما إحداهما: فكنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وأما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليمًا» .
سليم القلب من أفضل الناس:
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو بن العاص رضي الله عنهما قَالَ: «قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟» قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ» .
قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ؛ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ» (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)(1).
(1) تنبيه: حديث أَنَس بْن مَالِكٍ سدد خطاكم قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: “ يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ “، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى.
فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم تَبِعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ:«إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ؟» ، قَالَ:«نَعَمْ» .
قَالَ أَنَسٌ: «وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللهَ عز وجل وَكَبَّرَ، حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: «غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْقِرَ عَمَلَهُ، قُلْتُ: «يَا عَبْدَ اللهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ: “ يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ “، فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ، فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم؟» ، فَقَالَ:«مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ» . قَالَ: «فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي» ، فَقَالَ:«مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ» . فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: «هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وهو حديث لا يصح».
…
=
= فهذا الحديثُ ضعيفٌ - وإن كان ظاهر إسناده الصحة - فإنه معلول؛ لأن فيه انقطاعًا بين الزهري وأنس بن مالك سدد خطاكم، وممن أشار إلى هذه العلة الحافظ المزي في تحفة الأشراف (1/ 395)، وابن كثيرٍ في تفسيره (8/ 96)، والحافظ ابن حجر في النكت الظراف.
وكان الألباني قد صححه في الضعيفة (1/ 26)، ثم تراجع عن ذلك وضعَّفَه في ضعيف الترغيب (1728). وقال:«وجَرَيْنَا على ذلك بُرْهة من الزمن، حتى تبينْتُ العلة» (انظر: حديث: يطلع عليكم الآن رجل
…
في ميزان النقد لعبد الله زقيل).
فالحديث ضعيف ويخالف دأب الصحابة رضي الله عنهم، فإن في القصة أنّ عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال للرجل (إنّي لاحَيْتُ أبي) أي تخاصمت معه، وهذا كذب يُنَزَّه عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما عن الوقوع فيه إذ كان يكفيه أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدلًا من أن يكذب على الرجل. فينبغي عدم رواية هذه القصة حتى لا نُسِيءَ إلى الصحابة رضي الله عنهم دون أن نشعر.
يُقَالُ رَجُلٌ مَخْمُومُ الْقَلْبِ إِذَا كَانَ نَقِيَّ الْقَلْبِ مِنَ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ، هُوَ مِنْ خَمَمْتُ الْبَيْتَ إِذَا كَنَسْتُهُ وَنَظَّفْتُهُ. فَالْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ مَكْنُوسًا وَمُنَظَّفًا مِنْ أَخْلَاقِ الْأَقْذَارِ.
(صَدُوقِ اللِّسَانِ): أَيْ: مُبَالِغٍ لِلصِّدْقِ فِي لِسَانِهِ، فَيَحْصُلُ بِهِ الْمُطَابَقَةُ بَيْنَ تَحْسِينِ لِسَانِهِ وَبَيَانِهِ، فَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُنَافِيًا أَوْ مُرَائِيًا مُخَالِفًا، (النَّقِيُّ) أَيْ: نَقِيُّ الْقَلْبِ، وَطَاهِرُ الْبَاطِنِ، (لَا إِثْمَ فيه): فَإِنَّهُ مَحْفُوظٌ، وَبِالْغُفْرَانِ مَحْظُوظٌ، (وَلَا بَغْيَ) أَيْ: لَا ظُلْمَ لَهُ، (وَلَا غِلَّ) أَيْ: لَا حِقْدَ، (وَلَا حَسَدَ) أَيْ: لَا تَمَنِّيَ زَوَالِ نِعْمَةِ الْغَيْرِ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ وَالتَّعْمِيمِ عَلَى سَبِيلِ التَّكْمِيلِ وَالتَّعْمِيمِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ اخْتِصَاصُ الْإِثْمِ بِحَقِّ اللَّهِ، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ عَلَيْهِ لَا مِنَ الْخَلْقِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْخَالِقِ.
وما أحوجنا لمثل هذا النقي في مثل هذا الزمن الذي اتصف بكثرة الخلاف والنزاع والفرقة، فامتلأت النفوس وأوغِرَتْ الصدور، فلا تسمع إلا كلمات التنقص، والازدراء، وسوء الظن، والدخول في النيات والمقاصد! فما هي النتيجة؟!
إن خُوطِبُوا كذَبُوا أو طُولِبُوا غضبُوا
…
أو حُورِبُوا هربُوا أو صُوحِبُوا غدرُوا
على أرائِكِهِمْ سُبْحانَ خالِقِهِم عاشُوا
…
وما شَعَرُوا مَاتُوا وما قُبِرُوا!
ما أحوجنا لمثل هذا النقي.
فالأنقياء لا يعرفون الانتقام ولا التشفي، ويتجاوزون عن الهفوات والأخطاء.
الأنقياء: يتثبتون ولا يتسرعون.
الأنقياء: سليمة قلوبهم نقية صدورهم.
الأنقياء: يحبون العفو والصفح وإن كان الحق معهم.
الأنقياء: ألسنتهم نظيفة فلا يسبون ولا يشتمون.
الأنقياء: صفاء في السريرة ونقاء في السيرة.
دعاؤهم: اللهم قنا شح أنفسنا، اللهم قنا شح أنفسنا، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} (الحشر: 9).
لماذا الحديث عن الأنقياء؟ ولماذا الحديث عن سلامة الصدر؟
لقد خُلِقْنا لعبادة الله ومرضاته، وطلبًا لجنات الفردوس، فلا يجوز لمن كان هذا هو هدفه ومقصده من هذه الدنيا أن يغفل عن قلبه؛ فيطلق لهذه المضغة العنان في البغضاء والشحناء، والحَمْل على الآخرين والانتقام والتَشَفّي.
سلامة الصدر وتنقية القلب مطلب عزيز:
اعلم أن سلامة الصدر وتنقية القلب مطلب عزيز، والحرص عليه واجب، وبذل الأسباب إليه وسلوك طريقه مُتَعَيَّن، ولكن لا تنس أن الناس بشر وأن النفس ضعيفة، فلا بد من الخطأ ولا بد للنفس أن تتأثر، فتنبه لهذا وعامل الآخرين بحسبه. ولهذا يقول سعيد بن المسيب رحمه الله:«إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، ومن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله» .
سامِحْ أخاكَ إذا خلطْ
…
مِنه الإصابةُ والغلطْ
وتجافَ عن تعنِيفِهِ
…
إنْ زاغَ يومًا أو قَسَطْ
واحفَظْ صنِيعَكَ عندَهُ
…
شَكَرَ الصّنيعةَ أو غمَطْ
وأطِعْهُ إن عاصَى وهُنْ
…
إن عَزّ وادْنُ إذا شمَطْ
واقْضِ الوفاءَ ولو أخَلّ
…
بِمَا اشترطْتَ وما اشْتَرَطْ
واعلمْ بأنّكَ إنْ طلبْتَ
…
مُهَذَّبًا رُمْتَ الشطَطْ
مَن الذي ما سَاءَ قَطْ؟
…
ومَن له الحُسنَى فَقَطْ؟
الحذر من الأعداء:
الحيطة والحذر لا تنافي سلامة القلب والأخذ بالظاهر، فإن هناك من الناس من يَسْتَدْرِج الناس ويستغْفِلُهم ويُلَبِّسُ عليهم، فعليك أن تكون فطِنًا متنبهًا، فالله سبحانه وتعالى يقول للمؤمنين:{خُذُوا حِذْرَكُمْ} (النساء:71)، ويقول سبحانه وتعالى:{وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)} (الروم: 60).
القرآن يدعوك:
إن قرآننا هو كلام ربنا، ودستور حياتنا، ومنبع صفائنا، وميزاننا الذي نحتكم إليه عند خلافنا، بل وفي كل حياتنا وأمورنا. إن القرآن يدعونا جميعًا، وفي أكثر من سورة وأكثر من آية لمثل هذا الموضوع، فالقرآن يدعوك لبراءة القلب من الغل للذين آمنوا:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} (الحشر:10). والقرآن يدعوك فيقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف:199). والقرآن يدعوك فيقول: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (البقرة: 109). والقرآن يدعوك فيقول: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)} (المائدة: 13). والقرآن يدعوك فيقول: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التغابن:
14). والقرآن يدعوك فيقول: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)(الحجر: 85). والقرآن يدعوك فيقول: {
…
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)} (البقرة: 263). والقرآن يدعوك فيقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} (آل عمران: 134). والقرآن يدعوك فيقول: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} (الشعراء: 88 - 89).
وأخيرًا! القرآن - يا أخي الحبيب – القرآن يدعوك فيقول: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)} (النور: 22)؟
«بَلَى وَاللهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي» ، قالها أبو بكر الصديق سدد خطاكم مع سخاء نفسه وسلامة صدره ونصحه للأمة، فماذا نقول نحن وهذه حالنا مع قلوبنا؟!
قالت عائشة رضي الله عنها في أثناء حديثها عن حادثة الإفك: «
…
فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)} الْعَشْرَ الْآيَاتِ كُلَّهَا، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ سدد خطاكم - وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ -:«وَاللهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ» .
فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: «بَلَى وَاللهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي» ، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ:«وَاللهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا» (رواه البخاري).
وعن أنس بن مالك في قول الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا
الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} (فصلت: 34 - 35)، قال:«الرجل يشتمه أخوه فيقول: «إن كنتَ صادقًا فغفر اللهُ لي، وإن كنتَ كاذبًا فغفر اللهُ لك» .
أخي الحبيب: هلا وقفت مع هذه الآيات وتدبرتها جيدًا؟! إن القرآن يدعوك! {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} (محمد: 24)؟! هل استمعت جيدًا لهذه الآيات؟! تدبَّرْها وقِفْ معها طويلًا! كم من المشاجرات والخصومات تقع بيننا وبين الناس؟ وإذا رجعنا للقرآن وجدنا هذه الآيات تحدونا إلى العفو والصفح عن المؤمنين وعن الناس {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} (الشورى: 40)! تدبر قوله تعالى: {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ! فما أعظم هذا الأجر، فهو من مالك الملك سبحانه وتعالى، فلم تحرم نفسك هذا الأجر؟!
صور مشرقة في عالم الصفاء والنقاء:
الصورة الأولى:
هذا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لقي من الأذى مالا تطيقه الجبال ومع هذا كان أسلم الناس صدرًا وأكثرهم عفوا فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا رَسُولَ اللهِ! هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟» ، فَقَالَ:«لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلَاّ بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ. فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي. فَقَالَ: «إنَّ اللهَ – عز وجل قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ» .
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» (رواه البخاري ومسلم)(1).
(مَا لَقِيتُ) أي لقِيتُ الكثير منَ الأذَى. (يَوْمَ الْعَقَبَة) أي كان ما لاقاه عندها وقيل المراد بالعقبة جمرة العقبة التي بمنى وقيل مكان مخصوص في الطائف ولعل هذا أوْلى. (عَلَى وَجْهِي) باتجاه الجهة المواجهة لي.
(فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلا بقرن الثعالب) أي لم أَتَنَبَّهْ لِحَالِي وَلِلْمَوْضِعِ الَّذِي أَنَا ذَاهِبٌ إِلَيْهِ وَفِيهِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَ قَرْنِ الثَّعَالِبِ لِكَثْرَةِ هَمِّي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ.
وقَرْنُ الثَّعَالِبِ هُوَ قَرْنُ الْمَنَازِلِ، وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ نَجْدٍ، وَهُوَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ، وَأَصْلُ الْقَرْنِ كُلُّ جَبَلٍ صَغِيرٍ يَنْقَطِعُ مِنْ جَبَلٍ كَبِيرٍ.
(الْأَخْشَبَيْنِ) هُمَا جَبَلَا مَكَّةَ أَبُو قُبَيْسٍ وَالْجَبَلُ الَّذِي يُقَابِلُهُ، سُمِّيَا بذلك لصَلَابَتِهِما وغِلَظِ حِجَارَتِهِمَا.
الصورة الثانية: يوسف عليه السلام فَعَلَ إخوتُه فيه ما حكاه الله تعالى لنا، فلما أمكن منهم {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (يوسف: 92).
{لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} أي: لا أثرب عليكم ولا ألومكم {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فسمح لهم سماحًا تامًّا، من غير تعيير لهم على ذكر الذنب
(1) تنبيه: حديث قتادة السدوسي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في فتح مكة: «يا معشر قريش، ويا أهل مكة، ما ترون أني فاعل بكم؟» ، قالوا:«خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم» . ثم قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (رواه ابن جرير في التاريخ وذكره البيهقي، وضعّفه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء، والألباني، وقال:«هذا الحديث على شهرته ليس له إسناد ثابت» .
السابق، ودعا لهم بالمغفرة والرحمة، وهذا نهاية الإحسان، الذي لا يتأتى إلا من خواص الخلق وخيار المصطفين.
الصورة الثالثة: سلمان الفارسي سدد خطاكم لما شُتِمَ قال: «إن خَفَّتْ موازيني فأنا شر مما تقول، وإن ثَقُلَتْ موازيني لم يَضُرّني ما تقول» .
فقد كان همه مصروفًا إلى الآخرة فلم يتأثر قلبه بالشتم.
الصورة الرابعة: انشغال قلب الحاقد بما لا ينفع:
قال رجل لعمرو بن العاص سدد خطاكم: «والله لأتفرغن لك!» ، يعني بالكيد والتشفي والانتقام وغير ذلك، فماذا كان رد عمرو؟! فقال عمرو بن العاص سدد خطاكم بذكائه وعقله:«إذن تقع في الشغل، إذن تقع في الشغل!» .
نعم. إن الذي يتفرغ لِيَنَالَ من الناس ويشتم الناس لا يكون فارغًا أبدًا، إنما تشغله نفسه وحقده بالناس، فيضيع عمره فيما لا ينفع، ولا شك أن قول عمرو هو الصواب {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة: 269).
كم نحب أن نسمع مثل هذه الكلمات لمن وقع بينه وبين أحد خصومة أو من هدده وتوعده، (إذن تقع في الشغل)؛ لأن القلب الذي امتلأ بالحسد والانتقام من الناس، وتتبع زلاتهم والتشفي منهم، قلب مشغول دائمًا، أما القلب السليم الذي امتلأ بسلامة الصدر وحب الناس وجمع القلوب فهو لا يفكر إلا فيما ينفعه: كطلب علم أو عمل خير ونحوهما، أما أعراض الناس فهو بريء منها؛ لأنه عاهد الله أن يترك مثل ذلك.
الصورة الخامسة: تواضع جمّ:
في سيرة سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أن رجلًا زاحمه في مِنًى - وأنتم تعلمون حال الناس في مِنًى كيف يكون؟ وكيف تبلغ النفوس مبلغها في مثل هذه المواقف نظرًا للزحام الشديد؟ - فالتفت الرجل إلى سالم - وسالم هذا علّامة التابعين سدد خطاكم، فقال
الرجل لسالم: «إنني لأظنك رجل سوء» ، فبماذا أجاب سالم سدد خطاكم؟! قال كلمتين:«ما عرفني إلا أنت!» .
وإذَا تَشَاجَرَ في فؤادِكَ مَرَّةً
…
أمْرانِ فاعْمِدْ للأعَفِّ الأجْمَل
وإذَا هَمَمْتَ بِأمْرِ سُوءٍ فاتَّئِدْ
…
وإذَا همَمْتَ بأمرِ خَيرٍ فافْعَلِ!
الصورة السادسة: أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟
قال أبو داود: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: “ أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَبِي ضَيْغَمٍ أَوْ ضَمْضَمٍ - شَكَّ ابْنُ عُبَيْدٍ -، كَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ:«اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ» (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
(اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ) أَيْ فَلَوِ انْتَقَصَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ عِرْضِي فَلَيْسَ لِي عَلَيْهِ مِنْ دَعْوَى الِانْتِصَارِ، وفي هذا الجود من سلامة الصدر وراحة القلب والتخلص من معاداة الخلق ما فيه.
الصورة السابعة: استطالَ رجلٌ علَى عَلِيّ بنِ الحُسَيْن، فتغافَلَ عنه، فقال له الرجل:«إياك أعْنِي» ، فقال له عليّ:«وعَنْك أغْضِي» .
الصورة الثامنة: قال أبو وهب: جاء رجل إلى الشعبي فشتمه في ملأ من الناس فقال الشعبي: «إن كنت صادقًا فغفر الله لي، وإن كنت كاذبًا فغفر الله لك» .
الصورة التاسعة: شُتم الربيع بن خثيم فقال: «يا هذا قد سمع الله كلامك، وإن دون الجنة عقبة إن قطعْتُها لم يضرني ما تقول، وإن لم أقطعها فأنا شَرٌّ مما تقول» .
الصورة العاشرة: ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله:
الإمام البخاري محمد بن إسماعيل، صاحب الصحيح رحمه الله، كان كثير من أصحابه يقولون له:«إن بعض الناس يقع فيك!» . - لو قيلت هذه الكلمة لأحدنا ماذا
سيقول؟ ربما يبادر ويقول مباشرةً: ماذا يقولون؟! ومتى؟! ومن هم؟! أما الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- لما قيلت له هذه الكلمة: «إن بعض الناس يقع فيك» ، قال:{إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)} (النساء: 76)، ويتلو أيضًا قوله تعالى:{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} (فاطر: 43).
الصورة الحادية عشرة: هذا شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله يقول في رسالته التي أرسلها لتلاميذه من السجن معلمًا ومُرَبّيًا لهم: «لا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه عليَّ أو ظلمه وعدوانه؛ فإني قد أحلَلْتُ كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين وأريد بكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا فهُمْ في حِلٍ مِن جهتي» .
81 -
من أسباب غِلّ القلب
من أسباب التشاحن والتباغض وامتلاء الصدر وغل القلب:
1 -
طاعة الشيطان:
قالتعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)} (الإسراء: 53)، والفرقة والخلاف وملء الصدر بالشحناء وضيق الصدر غاية من غايات الشيطان.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: “ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» (رواه مسلم).
والمعنى أنهم لا يزين لهم عبادته ولكن يرغبهم في التحريش بينهم
، أي: بالخصومات وبالشحناء والحروب والفتن وغيرها، ومن نظر لحال المسلمين اليوم عرف كيف نجح الشيطان في التحريش بين المسلمين في كل مكان؟.
2 -
أمراض القلوب بأنواعها:
ومنها سوء الظن، والنجوى، والغرور، والهوى، وحب التصدر وغيرها كثير، وجماع ذلك: الغفلة عن القلب وإهماله، والمسلم لو اهتم بقلبه أكثر مما يهتم حقيقة بمظهره وبيته وأكله وشربه؛ لَوَجَدَ أن الله سبحانه وتعالى وفَّقَه في كل صغيرة وكبيرة.
فخُذْ مثلًا: سوء الظن! وهو ترجيح ما يخطر في النفس من احتمال السوء، ويبدأ سوء الظن بخاطرة تنقدح في الذهن، ثم لا يزال الشيطان ينفخ فيها حتى ينزلها منزلة الحقيقة، فنقول مثلًا: فلان يريد كذا، ويقصد من كلامه كذا، فدخلنا في النوايا والمقاصد، وكأننا أصبحنا نعلم الغيب بما يدور في صدور هؤلاء وفي نفوسهم.
3 -
الغضب:
فالغضب مفتاح كل شر عن أبي هريرةَ سدد خطاكم أنَّ رجلًا قال للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أوصِني. قال: «لَا تَغْضَبْ» . فَردَّدَ مِرَارًا، قال:«لَا تَغْضَبْ» . (رواه البخاري). فإن الغضب طريق إلى التهكم بالناس والسخرية منهم وبخس حقوقهم وإيذائهم وغير ذلك مما يُوَلّد البغضاءَ والفرقة.
4 -
النميمة:
وهي من أسباب الشحناء وطريق إلى القطيعة والتنافر ووسيلة إلى الوشاية بين الناس وإفساد قلوبهم، قال تعالى في ذمه أهل هذه الخصلة الذميمة:{هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)} (القلم: 11)، يعني وقاعًا في الناس عائبًا لهم بما ليس فيهم، ينقل الكلام من بعضهم إلى بعض على وجه الوقيعة بينهم.
وعَنْ حُذَيْفَةَ سدد خطاكم أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا يَنِمُّ الْحَدِيثَ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: “ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ “ (رواه مسلم).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «خِيَارُ عِبَادِ اللهِ الَّذِينَ إِذَا رُءُوا، ذُكِرَ اللهُ، وَشِرَارُ عِبَادِ اللهِ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ الْبُرَآءَ الْعَنَتَ» (رواه الإمام أحمد في المسند وحسنه الألباني والأرنؤوط).
(إذا رُؤُوا ذُكِر الله) أي لما في وجوههم من سيما الصلاح وأنوار الذكر.
(الْبُرَآء) جمع بريء، كالكُرَمَاء جمع كريم. (العَنَت) أي: يطلبون لهم الهلاك والتعب بأن يتهموهم بالفواحش.
5 -
الحسد:
وهو تمني زوال النعمة عن صاحبها وفيه تَعَدٍّ وأذى للمسلمين نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر الحسد خطير، حتى إن الله تعالى يأمرنا بالاستعاذة من شر
الحاسد، قال سبحانه وتعالى:{وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (الفلق: 5). وقال الله سبحانه وتعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (النساء: من الآية54). قال ذلك عن الكفار. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موجهًا أمتَه: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَقَاطَعُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا» (رواه البخاري ومسلم).
والحسد يُفْضي بصاحبه إلى اغتياب المحسود وشتمه وقد يُتْلِف ماله أو يسعى في سفك دمه، وكل ذلك مظالم يقتص منها في الآخرة ويذهب في عوض ذلك حسنات.
6 -
التنافس على الدنيا:
خاصة التنافس المذموم المؤدي إلى الوقوع في المحرمات فهذا يحقد على زميله لأن راتبه أكثر منه أو لكونه نال رتبة أعلى، وتلك تغار من أختها لأنها تزوجت قبلها، وهذا يكيد لجاره لكون منزله أفضل من منزله والأمر دون ذلك فكل ذلك إلى زوال.
وَمَا هِي إلَاّ جِيفَةٌ مُسْتَحِيلَةٌ
…
عليها كلابٌ همّهنَّ اجتذابُها
فإنْ تَجْتَنِبْها كُنْتَ سِلْمًا لأَهْلِهَا
…
وإن تَجْتَذِبْهَا نَازَعتْكَ كِلابُهَا
وعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ سدد خطاكم أنّ النّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: “ وَاللهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ “ (رواه البخاري ومسلم).
7 -
حب الشهرة والرياسة:
وهي الداء العضال والمرض الخطير، قال صلى الله عليه وآله وسلم:«مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ أَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ، لِدِينِهِ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الألباني والأرنؤوط).
والمراد من الحديث أن الحرص على المال والشرف، وهو الجاه والمنصب، أكثر إفسادًا للدِّين من إفساد الذئبين للغنم، لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره، وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعًا.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: «ما من أحدٍ أحب الرياسة إلا حَسد وبَغى وتَتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحَدٌ بخير» .
حُبُّ الرياسةِ داءٌ يُخْلِقُ الدُنْيَا
…
ويجعلُ الحُبَّ حَرْبًا للمُحِبِّينَا
يَفْرِي الحلَاقِمَ والأرحامَ يقْطَعُها
…
فلا مروءةَ تبقَى لا ولا دينَا
(يُخْلِقُ الدُنْيَا): يُفسدها، (يَفْرِي): يشق، (الحلقوم): تجويف خلف تجويف الفم، وهي مجرى الطعام والشراب والنفس، والجمع حلاقم وحلاقيم. والمعنى أنه يؤدي إلى قتل النفوس وإزهاق الأرواح.
8 -
كثرة المزاح:
فإن كثيره يورث الضغينة ويجر إلى القبيح والمزاح كالملح للطعام قليله يكفي وإن كثُرَ أضَرَّ وأهلَكَ.
لا تمزَحَنَّ فإنْ مزَحْتَ فلَا يَكُنْ
…
مَزحًا تُضافُ به إلى سُوءِ الأدبْ
واحْذرْ ممازحةً تعودُ عداوةً
…
إن المزاحَ علَى مُقَدّمةِ الغضبْ
وقال ميمون بن مهران رحمه الله “ إذا كان المزاح أمام الكلام كان آخره اللطمُ والشِتَام».
9 -
العُجب:
وهو تصور استحقاق الشخص رتبةً لا يكونُ مستحقًّا لها، وتغَيُّرُ النفس بما خفي سببه وخرج عن العادة مثله.
والعُجْبُ بالرأي والمكانة والنسب والمال سبب للعداوة إن لم يُمنع بالدين، وذلك برده ودفعه فالعُجْبُ قرينُ الكِبْر وملازمٌ له ، والكِبْر من كبائر الذنوب؛ فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ سدد خطاكم الله عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ:«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» (رواه مسلم).
وقال أبو الدرداء سدد خطاكم: «لولا ثلاثٌ لصلح الناس: شُحٌّ مطاع، وهوًى مُتَّبَع، وإعجابُ المرءِ بنفسه» .
10 -
المراء:
قال النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ» (رواه أبو داود وحسنه الألباني).
(أَنَا زَعِيم): أَيْ ضَامِن وَكَفِيل (بِبَيْتٍ): قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْبَيْت هَا هُنَا الْقَصْر.
(فِي رَبَضِ الْجَنَّة): مَا حَوْلهَا خَارِجًا عَنْهَا تَشْبِيهًا بِالْأَبْنِيَةِ الَّتِي تَكُون حَوْل الْمُدُن وَتَحْت الْقِلَاع. (الْمِرَاء): أَيْ الْجِدَال؛ كَسْرًا لِنَفْسِهِ كَيْلَا يَرْفَع نَفْسه عَلَى خَصْمه بِظُهُورِ فَضْله.
وحقيقة المراء طَعْنُك في كلام غيرك لإظهار خللٍ فيه لغير غرض سوى تحقير قائله وإظهار مزيتك عليه.
وقال أحدُهم لابنه: «يا بُنَيَّ، إياك والمراء؛ فإن نفعه قليل، وهو يهيج العداوة بين الإخوان» . وقال بعضهم: «ما رأيت شيئًا أذْهَبَ للدين ولا أنقَصَ للمروءة ولا أضْيَعَ للّذّة، ولا أشغل للقلب من المخاصمة» .
11 -
التناصح:
كيف يكون التناصح سببًا للحسد والحقد؟!
بعض الناس لا يحتمل النصيحة، فيبدأ بالكيد للناصح والتفتيش عن عيوبه وبَثِّها، مع أنك حرصْتَ على أن تكون الوسيلة صحيحةً: بانفراد بينك وبينه، وبالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، ومع ذلك وجد في نفسه شيئًا عليك، ولا يزال يتحرى ويبحث عن أخطائك، حتى يرد الصاع صاعين.
12 -
التجارة والبيع والشراء والتعامل مع الآخرين:
فالمشكلات الناتجة عن التعامل المادي قد توغر الصدور، والمسلم ينبغي أن يتصف بما ورد في الحديث عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ:«رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى» (رواه البخاري).
(سَمْحًا) جوَادًا متساهلًا يوافق على ما طُلِبَ منه. (اقْتَضَى) طلب الذي له على غيره.