الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
72 - الفرق بين الخلوة والاختلاط
مراعاة المنع من الاختلاط في التشريع:
إذا عرضت للمرأة حاجة تسوغ خروجها فلا حرج عليها إن خرجت وفقًا لما سبق بيانه، غير أن تلك الحاجة لاتسوغ اختلاطها بالرجال إلاّ أن تكون ضرورة، وذلك لحرمة الاختلاط وإن من أقوى الأدلة على تحريم الاختلاط، رعاية الشارع للنساء، وصيانته لهن من الاختلاط في سائر أحكام التشريع.
إن العِفَّة حجاب يُمَزِّقه الاختلاط، ولهذا صار طريق الإسلام التفريق والمباعدة بين المرأة والرجل الأجنبي عنها، فالمجتمع الإسلامي مجتمع فردي لا زوجي فللرجال مجتمعاتهم، وللنساء مجتمعاتهن، ولا تخرج المرأة إلى مجتمع الرجال إلا لضرورة أو حاجة بضوابط الخروج الشرعية.
كل هذا لحفظ الأعراض والأنساب، وحراسة الفضائل، والبعد عن الرِّيب والرذائل، وعدم إشغال المرأة عن وظائفها الأساس في بيتها، ولذا حُرِّم الاختلاط، سواء في التعليم، أم العمل، والمؤتمرات، والندوات، والاجتماعات العامة والخاصة، وغيرها؛ لما يترتب عليه من هتك الأعراض ومرض القلوب، وخطرات النفس، وخنوثة الرجال، واسترجال النساء، وزوال الحياء، وتقلص العفة والحشمة، وانعدام الغَيْرَة.
ولهذا فأهل الإسلام لا عهد لهم باختلاط نسائهم بالرجال الأجانب عنهن، بل إن علماء الحملة الصليبية الفرنسية أشاروا إلى ذلك في كتابهم (وصف مصر) الذي ذكروا فيه أحوال المجتمع المصري في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر فقالوا: «النساء في كل الظروف لا يخرُجْن مطلقًا سافراتِ الوجوه، بل يغطين وجوههن بالبرقع
…
ولا يدخل الرجال مطلقًا - فيما عدا بعض الأهل الأقربين - إلى
مسكن السيدات
…
ولم يستطع الرحالة السابقون على الغزو أن يتعرفوا على أحوال سيدات الطبقة المسيطرة، وذهبت أدراجَ الرياحِ كلُّ توسلاتهم اللحوح؛ فلم يكن عظماء مصر ليسمحوا لأحد بأن يتطلع إلى جمال زوجاتهم» (1).
وإنما حصلت أول شرارة قدحت للاختلاط على أرض الإسلام من خلال المدارس الاستعمارية الأجنبية والعالمية، التي فتحت أول ما فتحت في بلاد الإسلام في (لبنان)، وقد علم تاريخيًا أن ذلك من أقوى الوسائل لإذلال الرعايا وإخضاعها، بتضييع مقومات كرامتها، وتجريدها من الفضائل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. كما عُلِم تاريخيًا أن التبذل والاختلاط من أعظم أسباب انهيار الحضارات، وزوال الدول، كما كان ذلك لحضارة اليونان والرومان.
ولهذا حُرِّمَتْ الأسباب المفضية إلى الاختلاط - هتك سنة المباعدة بين الرجال والنساء - ومنها:
(تحريم الدخول على الأجنبية والخلوة بها، للأحاديث المستفيضة كثرة وصحة، ومنها: خلوة السائق، والخادم، والطبيب وغيرهم بالمرأة، وقد تنتقل من خلوة إلى أخرى، فيخلو بها الخادم في البيت، والسائق في السيارة، والطبيب في العيادة وهكذا!!.
(تحريم سفر المرأة بلا محرم، والأحاديث فيه متواترة معلومة.
(تحريم النظر العمد من أي منهما إلى الآخر، بنص القرآن والسنة.
(تحريم دخول الرجال على النساء، حتى الأحماء - وهم أقارب الزوج - فكيف بالجلسات العائلية المختلطة، مع ما هن عليه من الزينة، وإبراز المفاتن، والخضوع بالقول، والضحك
…
؟!!
(1) وصف مصر (1/ 64 - 65) تأليف ج دي شابرول، ترجمة زهير الشايب.
(تحريم مَسّ الرجل بدن الأجنبية، حتى المصافحة للسلام.
(تحريم تَشَبُّه أحدهما بالآخر.
(وشرع لها صلاتها في بيتها، فهي من شعائر البيوت الإسلامية، وصلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في مسجد قومها، وصلاتها في مسجد قومها خير من صلاتها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما ثبت الحديث بذلك.
(ولهذا سقط عنها وجوب الجمعة، وأُذن لها بالخروج للمسجد وفق الأحكام التالية:
1 -
أن تؤمن الفتنة بها وعليها.
2 -
أن لا يترتب على حضورها محذور شرعي.
3 -
أن لا تزاحم الرجال في الطريق ولا في الجامع.
4 -
أن تخرج تَفِلةً غير متطيبة.
5 -
أن تخرج متحجبة غير متبرجة بزينة.
6 -
إفراد باب خاص للنساء في المساجد، يكون دخولها وخروجها معه، كما ثبت الحديث بذلك في سنن أبي داود وغيره.
7 -
تكون صفوف النساء خلف الرجال.
8 -
خير صفوف النساء آخرها بخلاف الرجال.
9 -
إذا نابَ الإمامَ شيء في صلاته سَبَّح رجل، وصفقت امرأة.
10 -
تخرج النساء من المسجد قبل الرجال، وعلى الرجال الانتظار حتى انصرافهن إلى دُورهن، كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها في صحيح البخاري وغيره.
إلى غير ذلك من الأحكام التي تباعد بين أنفاس النساء والرجال.
الفرق بين الخلوة والاختلاط:
الخلوة المحرمة: هي أن ينفرد رجل بامرأة أجنبية عنه، في غيبة عن أعين الناس، وهي من أفعال الجاهلية ، وكبائر الذنوب.
والمرأة الأجنبية: هي غير المَحرمَ ، والمَحْرمَ: كل من حَرُم تزوجها على التأبيد ، وتحريمها إما بالنسب ، أو بالرضاع ، أو بالمصاهرة ، فالمحرمات بالنسب: الأمهات ، ثم البنات ، ثم الأخوات ، ثم العمات ، والخالات ، ثم بنات الأخ ، وبنات الأخت ، ويحرم من الرضاع كل ما يحرم من النسب.
أما المحرمات بسبب المصاهرة: فزوجة الأب ، وزوجة الابن ، وأمّ الزوجة (وهذه تحرُم بمجرد العقد على ابنتها)، وبنت الزوجة (وهذه لا تحرم إلا بالدخول بالأم). وعلى هذا من الأجنبيات على الرجل ابنة كل من: عمه ، وعمته ، وخاله ، وخالته، وزوجة كل من: عمه ، وخاله ، وابن أخيه ، وابن أخته ، وكذا أخت زوجته وابنة الصديق والجار ، وهكذا.
الدليل على تحريم الخلوة:
1 -
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» (رواه البخاري ومسلم).
2 -
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ؛ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ» (رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني والأرنؤوط).
وهذا يعم جميع الرجال ، ولو كانوا صالحين أو مُسِنِّين، وجميع النساء ، ولو كنَّ صالحات أو عجائز.
تعريف الاختلاط:
الاختلاط هو امتزاج الرجل بالمرأة التي ليست بمحرم - أي التي يباح له زواجها - اجتماعًا يؤدي إلى ريبة.
أو هو اجتماع الرجل بالمرأة التي ليست بمَحْرَم له اجتماعًا يؤدي إلى ريبة.
أو هو اجتماع الرجال بالنساء غير المحارم في مكان واحد ، يمكنهم فيه الاتصال فيما بينهم بالنظر ، أو الإشارة ، أو الكلام ، أو البدن من غير حائل أو مانع يدفع الريبة والفساد.
فدخول الأجنبي على النساء اختلاط بهن، ودخول الأجنبية على الرجال اختلاط بهم، ودخول بعضهم على بعضهم اختلاط، وأما دخول أحدهما على الآخر في رقعة ليس فيها سواهما ممن يعقل، أو كان فيها ولكن قام فاصل معتبر حال بينه وبينهم فتلك خلوة، وهي صورة خاصة من الاختلاط.
ويمكن تقسيم الاختلاط إلى قسمين:
القسم الأول: اختلاط محرم:
وهو كل ما كان في مكان خاص، أو موطن يدعو إلى الفساد والريبة أو اشتمل على محظور شرعي. وحقيقته أن يخالط الرجل المرأة ويجلس إليها كما يجلس إلى امرأته أو إحدى محارمه بحيث يرتفع الحاجز بينهما ، ويتمكن من التأثير عليها لو أراد.
ويزداد الضرر من الاختلاط كلما طالت مدته وكثر تكراره، أو عند حدوثه مع الشَوَابّ، أو عند فقد المَحْرَم. ويزداد الأمر سوءًا إذا كان ملازمًا لها كالاختلاط في التعليم ، أو مجال العمل، وكل من ابْتُلِيَ بذلك علم أنه لابد أن يطلع على خصوصيات المرأة ، ولا بد أن يخلو بها.
ومما يُعْرَفُ به الاختلاط المحرم:
- أنه يؤدي إلى زوال الكلفة بين الرجال والنساء.
- أنه يكثر من خلاله العلاقات المحرمة.
- أنه قد يؤدي إلى الخلوة بالمرأة الأجنبية.
- أنه قد يؤدي إلى تلاصق وتزاحم بالأجساد.
من صور الاختلاط المحرم:
1 -
اختلاط الأولاد الذكور والإناث - ولو كانوا إخوة - بعد التمييز في المضاجع؛ وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتفريق بينهم في المضاجع. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِى الْمَضَاجِعِ» . (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
ولما كان النوم مظنة انكشاف العورة، وثوران الشهوة جاءت الشريعة الكاملة المطهرة بالأمر بالتفريق بين الأولاد في المضاجع، وقد ذُكِر أن التساهل في عدم التفريق بين الأولاد أثناء النوم أحد أسباب زنا المحارم، والعياذ بالله.
2 -
السماح للخطيبين بالمصاحبة والمخالطة التي تجر إلى الخلوة، ثم إلى ما لا تحمد عقباه، فيقع العبث بأعراض الناس بحجة التعارف ومدارسة بعضهم بعضًا.
3 -
استقبال المرأة أقارب زوجها الأجانب، أو أصدقاءه في حال غيابه.
4 -
الاختلاط في دور التعليم كالمدارس والجامعات والمعاهد، والدروس الخصوصية.
5 -
الاختلاط في الوظائف، والأندية، والمستشفيات، والزيارات بين الجيران، والأعراس، والحفلات.
6 -
الخلوة في أي مكان ولو بصفة مؤقتة كالمصاعد، والمكاتب، والعيادات، وغيرها.
7 -
ومن الصور المحرّمة أيضًا اجتماع رجل بامرأة، ولو كان ذلك في مكانٍ عامٍ إذا ترتّبت عليه ريبةٌ أو سوء ظنّ فيهما، ما لم يُزِل اللبس الذي قد يقَع في نفس من رآه ظنًّا أو يقينًا؛ لما رواه البخاري ومسلم أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وآله وسلم جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم تَزُورُهُ فِى اعْتِكَافِهِ فِى الْمَسْجِدِ، فِى الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وآله وسلم مَعَهَا يَقْلِبُهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ
أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الأَنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ لَهُمَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وآله وسلم:«عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِىَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ» . فَقَالَا: «سُبْحَانَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ» . وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا. فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِى قُلُوبِكُمَا شَيْئًا» .
وهناك صور أظهر في تحريم الاختلاط من غيرها:
كإِذَا كَانَ فِيهِ:
- الْخَلْوَةُ بِالأَجْنَبِيَّةِ، وَالنَّظَرُ بِشَهْوَةٍ إِلَيْهَا.
- تَبَذُّل الْمَرْأَةِ وَعَدَمُ احْتِشَامِهَا.
- عَبَثٌ وَلَهْوٌ وَمُلَامَسَةٌ لَلأَبْدَانِ كَالاِخْتِلَاطِ فِي الأَفْرَاحِ وَالْمَوَالِدِ وَالأَعْيَادِ.
فَالاِخْتِلَاطُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ مِثْل هَذِهِ الأُمُورِ وَاضِحُ التَّحْرِيمِ؛ لِمُخَالَفَتِهِ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ.
القسم الثاني: اختلاط جائز:
وهو كل ما كان في الأماكن العامة وتدعو الحاجة إليه ويشق التحرز عنه ، ولا محظور فيه كاختلاط النساء بالرجال في الأسواق والطرقات لقضاء حاجة سريعة كسؤال عن متاع أو استفتاء وسؤال عن حاجة وبيع وشراء ونحوه، إذ يسعى الجميع في حاجته ذهابًا وجيئةً، ويبيعون ويشترون، فلا بأس في هذا ما لم يتلبّس من وَقع فيه بمحرّم خارجٍ عنه، فما هو إلا لقاء عابر ، واللقاء العابر لقاء محدود لا تزول به الكلفة، وتلتزم فيه المرأة بالضوابط الشرعية في التعامل مع الرجال الأجانب.
فالاختلاط العابر، في موضع لايخشى منه الفتنة - في الغالب - ليس من الصور المحرّمة، بل هو مما تعمّ به البلوى، ويضطر إليه الناس لمعاشهم في كلّ زمانٍ ومكان.
ومن الصوَر التي لا حَرجَ فيها:
1 -
الأصل جواز اختلاط النساء بمحارمهن، وكذلك الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء (1)، ومن كان نحوهم، ما دام جانب الفتنة مأمونًا.
2 -
اجتماع الرجال والنساء في المسجد الواحد لأداء فريضة أو عبادة، كما هو الحال منذ صدْرِ الإسلام وحتى يومنا هذا، في المساجد الثلاثة التي تُشدّ إليها الرحال وغيرِها، وقد كانت النساء يشهدن الصلاة مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد، ولم يَنْهَ عن ذلك، كما لم يأمر بضرب حاجزٍ بين صفوف الرجال وصفوف النساء.
3 -
الدخول على المخطوبة ورؤيتها مع وجود المحرم ، فقد رخص الإسلام في ذلك.
4 -
ما يكون من وراء حجاب كما هو الحال في الدائرة التلفزيونية المعمول به في جامعات وكليات البنات في السعودية.
5 -
إذا بعدت أنظار الرجال عن النساء والعكس، وصعب التحرز مما فوق ذلك.
6 -
الاختلاط مع وجود فاصل معتبر وإن كان فضاءً.
7 -
يجوز اختلاط النساء بالرجال غير المحارم لحاجة مع وجود محرم، وفق ضوابط تُؤمن معها الفتنة، تختلف باختلاف الحال والمقام.
ويشترط لجواز الاختلاط على هذا النحو شروط:
- أن لا تكون هناك خلوة بين الرجل والمرأة.
(1) قال تعالى: (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ)(النور: 31) أي: الأطفال الذين دون التمييز، فإنه يجوز نظرهم للنساء الأجانب، وعلل تعالى ذلك، بأنهم لم يظهروا على عورات النساء، أي: ليس لهم علم بذلك، ولا وجدت فيهم الشهوة بعدُ، ودل هذا أن المميز تستتر منه المرأة، لأنه يظهر على عورات النساء. (تفسير السعدي، ص 566 - 567).
- استفراغ الجهد في المباعدة بين الرجال والنساء قدر الإمكان، إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
- أن يكون حضور المرأة لحاجة يشق عليها تركها وتكون الحاجة طارئة ينتهي الحضور بزوالها.
- أن تكون المرأة مستترة بالحجاب الشرعي الساتر لجميع جسدها، ومنه الوجه والكفان.
ومن أوضح الأدلة على وجوب ستر المرأة المسلمة لوجهها وكفيها عند الرجال الأجانب: الرخصة للقواعد من النساء بوضع الحجاب، وأن يستعففن خير لهن؛ قال تعالى:{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)} (النور: 60).
فقد رخَّص الله سبحانه وتعالى للقواعد من النساء، أي: العجائز، اللائي تقدم بهن السنّ، فقَعَدْنَ عن الحيض والحمل ويئِسْنَ من الولد أن يضعن ثيابهن الظاهرة من الجلباب والخمار، التي ذكرها الله سبحانه في آيات ضرب الحجاب على نساء المؤمنين، فيكشفن عن الوجه والكفين، ورفع تعالى الإثم والجناح عنهن في ذلك بشرطين:
الشرط الأول: أن يَكُنَّ من اللاتي لم يبق فيهن زينة ولا هن محل للشهوة، وهن اللائي لا يرجون نكاحًا، فلا يَطْمَعْنَ فيه، ولا يُطْمَع فيهن أنْ يُنْكَحْنَ؛ لأنهن عجائز لا يَشتَهين ولا يُشتَهَيْن، أما من بقيت فيها بقية من جمال ومحل للشهوة، فلا يجوز لها ذلك.
الشرط الثاني: أن يكن غير متبرجات بزينة، وهذا يتكون من أمرين:
أحدهما: أن يَكُنَّ غير قاصدات بوضع الثياب التبرج، ولكن التخفيف إذا احتجن إليه.
وثانيهما: أن يكن غير متبرجات بزينة من حلي وكحل وأصباغ وتجمل بثياب ظاهرة، إلى غير ذلك من الزينة التي يفتن بها.
فلتحذر المؤمنة التعسف في استعمال هذه الرخصة، بأن تدعي بأنها من القواعد، وليست كذلك، أو تبرز متزينة بأيٍّ من أنواع الزينة.
ثم قال ربُنَا جل وعلا: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} ، وهذا تحريض للقواعد على الاستعفاف وأنه خير لهن وأفضل، وإن لم يحصل تبرج منهن بزينة.
فدلَّت هذه الآية على فرض الحجاب على نساء المؤمنين لوجوههن وسائر أبدانهن وزينتهن؛ لأن هذه الرخصة للقواعد، اللاتي رُفع الإثم والجناح عنهن، إذ التهمة في حقهن مرتفعة، وقد بلغن هذا المبلغ من السن والإياس، والرخصة لا تكون إلا من عزيمة، والعزيمة فرض الحجاب في الآيات السابقة.
وبدلالة أن استعفاف القواعد خير لهن من الترخص بوضع الثياب عن الوجه والكفين، فوجب ذلك في حق من لم تبلغ سن القواعد من نساء المؤمنين، وهو أولى في حقهن، وأبعد لهن عن أسباب الفتنة والوقوع في الفاحشة، وإن فعلن فالإثم والحرج والجناح.
ولذا فإن هذه الآية من أقوى الأدلة على فرض الحجاب للوجه والكفين وسائر البدن، والزينة بالجلباب والخمار.
ومن أقوى الأدلة كذلك قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (الأحزاب: 59)، والقائلون بكشف وجه المرأة متفقون على أن الواجب على نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يستُرْن وجوههن للأدلة الكثيرة على هذا، ولكنهم يرونه خاصًا بهن! فكيف يكون ذلك والخطاب في هذه الآية للجميع؟! ولماذا أدخلهن الله في هذه الآية وهي - حسب زعمهم - لا تدل على وجوب ستر الوجه؟؟!! أليس هذا من التناقض الذي ينزه عنه كتاب الله؟!
في قوله تعالى: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} وجوب حجب أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم وستر وجوههن، لا نزاع فيه بين أحد من المسلمين، وفي هذه الآية ذكر أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم مع بناته ونساء المؤمنين، وهو ظاهر الدلالة على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب على جميع المؤمنات.
الضرورة إذا اقتضت اختلاطًا:
تقرر أن الاختلاط محرم، ولا يدخل في ذلك ما تدعو إليه الضرورة وتشتد الحاجة إليه ويكون في مواضع العبادة كما يقع في الحرم المكي والحرم المدني.
ومن حالات الاضطرار إسعاف غريق ونحوه، أو مداواة مريض عند فقدان المماثل في الجنس، أو إن احتاج القاضي اللقاء بالنساء.
ومن المقرر أن الضرورات تبيح المحظورات، بَيْدَ أن الضرورة تقدر بقدرها، فيتقي المرءُ ربَّه ويتحرز عما نهاه عنه ما استطاع.
فإذا اقتضت الضرورة اختلاطًا، كما في الحج - على سبيل المثال - فإن الحج ركن من أركان الإسلام وهو فعل مأمور مقدم على ترك المحظور، فإن اشتد الزحام ولم يمكن تجنبه كالحال في هذه الأزمنة، فتؤدي المرأة فرضها، متقيدة بضوابط الشرع.
ومثل الحج سائر الضرورات التي تبيح المحظورات، فينبغي أن تقدر بقدرها، ولايتعدى قدر الاضطرار فيها، وهذا يقدره ويقرره أهل العلم والشأن فهم أعلم بضابط الضروريات وأجدر بعرض الوقائع على الأحاديث والآيات، فإن وجدت ضرورة لا تكون إلاّ مع الاختلاط فكشأن سائر المحظورات تباح بقدر الحاجة، وبعد انتهائها يعود كل حكم إلى أصله.
ويشترط في حالات الاضطرار ألا يبغى فيها ولا يعتدى كما قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)} (البقرة:173).
73 -
الأدلة على تحريم
اختلاط المرأة بالرجال الأجانب
اختلاط الرجال بالنساء له ثلاث حالات:
الأولى: اختلاط النساء بمحارمهن من الرجال وهذا لا إشكال في جوازه.
الثانية: اختلاط النساء بالأجانب لغرض الفساد، وهذا لا إشكال في تحريمه.
الثالثة: اختلاط النساء بالأجانب في دور العلم، والحوانيت، والمكاتب، والمستشفيات، والحفلات، ونحو ذلك، فهذا في الحقيقة قد يظن السائل في باديء الأمر أنه لا يؤدي إلى افتتان كل واحد من النوعين بالأخر، ولكشف حقيقة هذا القسم فإنا نجيب عنه من طريق مجمل ومفصل:
أما المجمل: فهو أن الله - تعالى - جَبَلَ الرجال على القوة والميل إلى النساء، وجبل النساء على الميل إلى الرجال مع وجود ضعف ولين، فإذا حصل الاختلاط نشأ عنه آثار تؤدي إلى حصول الغرض السيء؛ لأن النفوس أمارة بالسوء، والهوى يعمى ويُصِمّ، والشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر.
وأما المفصل: فالشريعة مبنية على المقاصد ووسائلها، ووسائل المقصود الموصلة إليه لها حكمه، فالنساء مواضع قضاء وطر الرجال. وقد سَدَّ الشارع الأبواب المُفضية إلى تعلق كل فرد من أفراد النوعين بالآخر.
بعض الأدلة على تحريم اختلاط المرأة بالرجال الأجانب:
الدليل الأول: قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (الأحزاب: 53).
فلا يقل أحد غير ما قال الله، لا يقل أحد إن الاختلاط، وإزالة الحجب، والترخص في الحديث واللقاء والجلوس والمشاركة بين الجنسين أطهر للقلوب، وأعف للضمائر، وأعون على تصريف الغريزة المكبوتة، وعلى إشعار الجنسين بالأدب وترقيق المشاعر والسلوك
…
إلى آخر ما يقوله نفر من خلق الله الضعاف والمهازيل الجهال المحجوبين، لا يقل أحد شيئًا من هذا
…
يقول الله هذا عن نساء النبي الطاهرات، أمهات المؤمنين، وعن رجال الصدر الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممن لا تتطاول إليهن وإليهم الأعناق.
وإذا كانت هذه الآية نزلت في أمهات المؤمنين فالعبرة - كما يقول الأصوليون - بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإذا كانت أمهات المؤمنين المقطوع بعفتهن وطهارتهن مأمورات بالحجاب، وعدم الظهور أمام الأجانب فالنساء المسلمات بشكل عام مأمورات بالستر وعدم الظهور من باب أولى.
الدليل الثاني:
الأمر بغض البصر دليل على المنع من الاختلاط:
أمر الله الرجال بغض البصر، وأمر النساء بذلك؛ قال تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}
…
(النور: 30 - 31).
فلو كان الاختلاط سائغًا في الشرع لكان في هذه الأوامر الربانية تكليف بما لا يطاق؛ إذ كيف تختلط المرأة بالرجل، وتجلس بجواره في العمل أو الدراسة، ولا ينظر كل واحد منهما للآخر وهما يتبادلان الأعمال والأوراق والدروس؟! كيف نتصور غض البصر لكل من الرجل والمرأة وهما مجتمعان في مكان واحد؛ فالآية إذن في مدلولها تنهى عن الاختلاط وتحرمه.
إن غض البصر من الرجال عن محاسن المرأة؛ سواء البشرة إذا انكشفت، أو تقاسيم البدن إذا بدت من وراء الحجاب: مأمور به. وسواء قيل بوجوب تغطية الوجه والكفين أم لا، فإن غض البصر واجب عن سائر البدن.
وغض البصر متعذر بل ممتنع في الاختلاط المنظم؛ لطول المكث في مجلس واحد، فصَرْفُ البصر من كليهما غير ممكن، وتحوط المرأة في حجابها شاق؛ إذ طول المقام يلجؤها إلى تغيير أوضاعها، مما سيبدي حتما ما يجب ستره.
فما كان الشارع ليأمر بغض البصر من كليهما، ثم يبيح اختلاطهما على هذه الصورة، فإن في الإباحة تحريضًا وتيسيرًا للنظر، وإتْبَاعه بنظرة أخرى، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعليِّ رضي الله عنه:«يَا عَلِىُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ» . (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
فالمختلط إذا قدر على الغض في الأولى، فهل سيصمد في الثانية، أو الثالثة إلى المائة، وهي كذلك، هما كل يوم في لقاءات مستمرة لساعات طويلة، قد تبلغ الثمان والعشر؟.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: «الْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا» (رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم). وإنما كان زنًا لأنه تمتع بالنظر إلى محاسن المرأة ومُؤَدٍّ إلى دخولها في قلب ناظرها، فتعلق في قلبه، فيسعى إلى إيقاع الفاحشة بها. فإذا نهى الشارع عن النظر إليهن لما يؤدي إليه من المفسدة وهو حاصل في الاختلاط، فكذلك الاختلاط يُنهى عنه لأنه وسيلة إلى ما لا تحمد عقباه من التمتع بالنظر والسعي إلى ما هو أسوأ منه.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من حق الطريق: «غَضّ البَصَر» (رواه البخاري ومسلم). فإذا كان غض البصر واجبًا على الرجال إذا مرت بمجلسهم في الطريق امرأة مرورًا عابرًا، فكيف يسوغ لبعض الناس أن يزعموا أن شريعة الله تعالى لا تُمانع من اختلاط الرجال بالنساء يوميًا في مكان مغلق الساعات الطوال؟!
وإذا كان استراق النظر خيانة كما في قول الله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (غافر: 19)؛ فكيف تكون المخالطة؟
وإذا نهى الشارع عن النظر إلى النساء بسبب ما يؤدي إليه من المفسدة وهو حاصل في الاختلاط، فكذلك الاختلاط ينهى عنه لأنه وسيلة إلى ما لا تحمد عقباه من التمتع بالنظر والسعي إلى ما هو أسوأ منه، وواقع الناس اليوم يبين أن الاختلاط يفضي لزامًا لوقوع البصر فيما أمر الله بحفظه عنه.
الدليل الثالث:
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ» ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ:«يَا رَسُولَ اللهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟» ، قَالَ:«الْحَمْوُ الْمَوْتُ» (رواه البخاري ومسلم).
وجه الاستدلال: أنه حذّر من الدخول على النساء باسم فعل الأمر (إيَّاك)، والمعنى احفظوا أنفسكم واتقوا الدخول على النساء، فهو أمرٌ باتِّقَاء الدخول على النساء والأمر يفيد الوجوب، ونهي عن الدخول عليهن؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضدّه، والنهي يفيد التحريم.
وسمى صلى الله عليه وآله وسلم دخول قريب الرجل على امرأته وهو غير مَحْرَم لها باسم الموت، ولا شك أن تلك العبارة هي أبلغ عبارات التحذير، وهذا دليل صحيح نبوي على أن قوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (الأحزاب: 53) عام في جميع النساء؛ إذ لو كان حكمه خاصًا بأزواجه صلى الله عليه وآله وسلم لَمَا حذر الرجالَ هذا التحذير البالغ العام من الدخول على النساء.
وظاهر الحديث التحذير من الدخول عليهن ولو لم تحصل الخلوة بينهما، وهو كذلك، فالدخول عليهن والخلوة بهن كلاهما محرم تحريمًا شديدًا بانفراده.
فتأملوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم في دخول قريب الزوج على زوجته «الْحَمْوُ الْمَوْتُ» ؛ لتدركوا أن اختلاط الرجال الأجانب بالنساء الأجنبيات أنه هو الموت.
الدليل الرابع:
عن أَبِى أُسَيْدٍ الأَنْصَارِىِّ سدد خطاكم أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ - وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِى الطَّرِيقِ - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لِلنِّسَاءِ: «اسْتَأْخِرْنَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَاتِ الطَّرِيقِ» . فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ. (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
(وَهُوَ خَارِج): أَيْ النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم، (أَنْ تَحْقُقْنَ) هُوَ أَنْ يَرْكَبْنَ حُقّهَا وَهُوَ وَسَطهَا، أَيْ ابْعُدْنَ عَنْ الطَّرِيق، وَالْمَعْنَى أَنْ لَيْسَ لَهُنَّ أَنْ يَذْهَبْنَ فِي وَسَط الطَّرِيق. (بِحَافَّاتِ): جَمْع حَافَّة وَهِيَ النَّاحِيَة. (ثَوْبهَا): أَيْ الْمَرْأَة (مِنْ لُصُوقهَا): أَيْ الْمَرْأَة (بِهِ): بِالْجِدَارِ.
ووجه الدلالة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا منع الاختلاط في الطريق لأنه يؤدى إلى الافتتان، فكيف يقال بجواز الاختلاط في غير ذلك؟!.
الدليل الخامس:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؛ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» . (رواه مسلم).
ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر باتقاء النساء، وهو يقتضي الوجوب، فكيف يحصل الامتثال مع الاختلاط؟!!
الدليل السادس: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً هِيَ أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ» (رواه البخاري ومسلم). ووجه الدلالة: أنه وصَفَهُنَّ بأنهن فتنة فكيف يُجمع بين الفاتن والمفتون؟ هذا لا يجوز.
الدليل السابع: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ فَإِذَا خَرَجَتْ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
(فَإِذَا خَرَجَتْ اِسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ) أَيْ زَيَّنَهَا فِي نَظَرِ الرِّجَالِ، وَقِيلَ أَيْ نَظَرَ إِلَيْهَا لِيُغْوِيَهَا وَيُغْوِيَ بِهَا. وَالْأَصْلُ فِي الِاسْتِشْرَافِ رَفْعُ الْبَصَرِ لِلنَّظَرِ إِلَى الشَّيْءِ وَبَسْطُ الْكَفِّ فَوْقَ الْحَاجِبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَرْأَةَ يُسْتَقْبَحُ بُرُوزُهَا وَظُهُورُهَا فَإِذَا خَرَجَتْ أَمْعَنَ النَّظَرَ إِلَيْهَا لِيُغْوِيَهَا بِغَيْرِهَا، وَيُغْوِيَ غَيْرَهَا بِهَا لِيُوقِعَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا فِي الْفِتْنَةِ.
أَوْ يُرِيدَ بِالشَّيْطَانِ شَيْطَانُ الْإِنْسِ مِنْ أَهْلِ الْفِسْقِ سَمَّاهُ بِهِ عَلَى التَّشْبِيهِ.
والاختلاط وسيلة إلى تسهيل هذا التزيين والإغواء.
دَعِي عنكِ قومًا زاحمَتْهُم نساؤُهم
…
فكانوا كما حفَّ الشرابَ ذبابُ
تساوَوا فهذا بينهم مثلُ هذهِ
…
وسِيَّانُ معنىً يافعٌ وكَعَابُ
وما عجبي أنَّ النساءَ ترجَّلَتْ
…
لكنَّ تأنيثَ الرجالِ عُجَاب
الغُلامُ إذا كادَ يَبْلُغُ الحُلُمَ أوْ بَلَغَهُ فهو يافِع وَمُرَاهِق، والكَعَاب: المرأة حين يَبْدُو ثَدْيُها للنّهود، والمعنى: لا فرق عندهم بين ذكر وأنثى، فالرجال مثل النساء.
الدليل الثامن: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا» (رواه مسلم).
ووجه الدلالة أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شرع للنساء إذا أتَيْن إلى المسجد فإنهن ينفصلن عن الجماعة على حدة، ثم وصف أول صفوفهن بالشر، والمؤخر منهن بالخير، وما ذلك إلا لبُعد المتأخرات عن الرجال عن مخالطتهم ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم، وذمّ أول صفوفهن لحصول عكس ذلك، ووصف آخر صفوف الرجال بالشر إذا كان معهم نساء في المسجد؛ لفوات التقدم والقُرْب من الإمام وقربه من النساء اللاتى يشغلن البال، وربما أفسدن به العبادة وشوشن النية والخشوع.
فإذا كان الشارع توقع حصول ذلك في مواطن العبادة مع أنه لم يحصل اختلاط فحصول ذلك إذا وقع اختلاط من باب أولى فيمنع الاختلاط من باب أولى.
وقد أفرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد بابًا خاصًّا للنساء يدخلن ، ويخَرجن منه ، لا يُخالطهن ، ولا يُشاركهن فيه الرجال. فعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَوْ تَرَكْنَا هَذَا الْبَابَ لِلنِّسَاءِ» ، قَالَ نَافِعٌ:«فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى مَاتَ» (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وشرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرجال إمامًا ومؤتمين ألَاّ يخرُجوا فور التسليم من الصلاة ، إذا كان بالصفوف الأخيرة بالمسجد نساء ، حتى يخرجن ، وينصرفن إلى دورهن قبل الرجال ، لكي لا يحصل الاختلاط بين الجنسين ـ ولو بدون قصد ـ إذا خرجوا جميعًا.
فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَتْ: «كَانَ يُسَلِّمُ فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ فَيَدْخُلْنَ بُيُوتَهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْصَرِفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم» (رواه البخاري).
وهذا كله في حال العبادة والصلاة التي يكون فيها المسلم أو المسلمة أبعد ما يكون عن وسوسة الشيطان وإغوائه ، فكيف بما عداها؟!.
الدليل التاسع:
روى البخاري ومسلم أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وآله وسلم جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم تَزُورُهُ فِى اعْتِكَافِهِ فِى الْمَسْجِدِ، فِى الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وآله وسلم مَعَهَا يَقْلِبُهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الأَنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ لَهُمَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وآله وسلم:«عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِىَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ» . فَقَالَا: «سُبْحَانَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ» . وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا. فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِى قُلُوبِكُمَا شَيْئًا» .
والشاهد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرر أن خلطة الرجل بالمرأة موطن ريبة، ومحل تهمة، مع أن هذه الخلطة كانت:
- عند المسجد.
- وفي مكان عام مطروق (يمر فيه الناس).
- وزمانها ليلة من ليال العشر الأواخر من رمضان.
- مع امرأة مضروب عليها الحجاب الكامل بغير خلاف لكونها من أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم.
- أضف إلى ذلك الأصول المقررة؛ كعصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورسوخ إيمان صحابته رضي الله عنهم.
كل ذلك لم يبرر ترك بيان أن الاختلاط بالنساء موضع تهمة، ومحل شبهة.
الدليل العاشر:
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تُبَاشِرْ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا» (رواه البخاري)؛ فالمرأة المسلمة منهية عن وصف المرأة الأجنبية لزوجها كأنه ينظر إليها، والْحِكْمَة فِي هَذَا النَّهْي خَشْيَة أَنْ يُعْجِب الزَّوْج الْوَصْف الْمَذْكُور فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى تَطْلِيق الْوَاصِفَة أَوْ الِافْتِتَان بِالْمَوْصُوفَةِ، فكيف يُعقَل أن ينهى الإسلام المرأةَ المسلمة أن تصف امرأةً أجنبية لزوجها لئَلّا يتعلق قلبُه بها، ثم يبيح لهذا الزوج أن يجالس هذه المرأة الأجنبية ويخالطها في العمل أو الدراسة مخالطةً مستديمة؟!!!