المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌57 - من وسائل الحصول على البركة - دليل الواعظ إلى أدلة المواعظ - جـ ٢

[شحاتة صقر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌أحاديث ضعيفةوموضوعة ولا أصل لها

- ‌خطورة انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس

- ‌أسباب انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس:

- ‌من الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة:

- ‌1 - عدم تقبل الناس للأحاديث الصحيحة بعد سماعهم للأحاديث الضعيفة:

- ‌2 - إيقاع المسلم في الشرك الصريح:

- ‌3 - التشنيع على أهل الحديث:

- ‌4 - تعليم الناس ما لم يثبت:

- ‌5 - تأصيل أصول مخالفة للشريعة:

- ‌6 - إفساد الأخلاق:

- ‌7 - تغيير سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌8 - إلغاء قواعد في أصول الفقه:

- ‌9 - التفرقة بين المسلمين:

- ‌10 - تشويه سمعة الصحابة رضي الله عنهم

- ‌11 - إعانة المستهترين على الاجتراء على الله بالمعاصي:

- ‌12 - الابتداع في العبادة، ومخالفة السنة:

- ‌13 - مساواة المسلمين بأهل الذمة:

- ‌14 - الصد عن سبيل الله:

- ‌15 - إلقاء الشك والريبة بين المسلمين؛ ونشر الخرافة بينهم:

- ‌16 - التضييق على الناس في أمورٍ من المباحات:

- ‌17 - أحيانًا تؤدي الأحاديث الضعيفة والموضوعة إلى احتقار النساء:

- ‌نماذج منأثر الحديثالضعيف والموضوعفي تخريب العقائد

- ‌أولًا: في أسماء الله وصفاته وتوحيده:

- ‌ثانيا: في حقيقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌مَن أرادُوا شَيْنَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌ثالثا: في العصبيات والأهواء:

- ‌رابعا: الأحاديث الموضوعة والخرافة:

- ‌خامسًا: الأحاديث الموضوعة في القرآن:

- ‌أحاديثضعيفة وموضوعة ولا أصل لها

- ‌تنبيهاتقبل قراءة الأحاديث

- ‌التنبيه الأول:

- ‌التنبيه الثاني:

- ‌التنبيه الثالث:

- ‌التنبيه الرابع:

- ‌التنبيه الخامس:

- ‌حرف الألف

- ‌حرف الباء

- ‌حرف التاء

- ‌حرف الثاء

- ‌حرف الجيم

- ‌حرف الحاء

- ‌حرف الخاء

- ‌حرف الدال

- ‌حرف الذال

- ‌حرف الراء

- ‌حرف الزاي

- ‌حرف السين

- ‌حرف الشين

- ‌حرف الصاد

- ‌حرف الضاد

- ‌حرف الطاء

- ‌حرف العَيْن

- ‌موضوعات عامة

- ‌52 - أقسام البركة

- ‌53 - من صور البركة

- ‌54 - البركة في المجتمع المسلم

- ‌55 - عندما ترد الأرض بركتها

- ‌56 - كيف نحصل على البركة

- ‌57 - من وسائل الحصول على البركة

- ‌58 - التبرك المشروع والتبرك الممنوع

- ‌59 - قصة أصحاب الأخدود

- ‌60 - استضعاف وثبات

- ‌61 - الثبات حتى الممات

- ‌63 - مفهوم الإصلاح في الإسلام

- ‌64 - خصائص الشريعة الإسلامية

- ‌65 - نظام الحكم في الإسلام

- ‌66 - دين اسمه العلمانية

- ‌67 - شريعة الله لا شريعةالبشر حتى لا تغرق السفينة

- ‌68 - الشريعة خيرٌ كلها

- ‌71 - الاختلاط بين الرجال والنساء

- ‌72 - الفرق بين الخلوة والاختلاط

- ‌74 - من الثمار المُرّة للاختلاط

- ‌75 - واجِبُنا نحو آل بيت النبي

- ‌76 - معاوية بن أبي سفيان

- ‌77 - من فضائل معاوية

- ‌78 - من صفات معاوية

- ‌82 - السبيل إلى سلامة الصدر

- ‌83 - السهر

- ‌84 - أضرار السهر

- ‌85 - أنواع الهموم

- ‌86 - علاج الهموم

- ‌88 - مَن ترك لله عوضه الله

- ‌90 - المسجد الأقصىفي قلب كل مسلم

- ‌91 - لا يضر السحابَ نبحُ الكلاب

- ‌92 - الله سبحانه وتعالىيدافع عن خليله صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌93 - المولد النبوي هل نحتفل

- ‌94 - لماذا لانحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌95 - كشف شبهاتمن قال بجواز الاحتفال بالمولد

- ‌96 - كشفشبهات حول الاحتفال بالمولد

- ‌97 - رأس السنة هل نحتفل

- ‌98 - شم النسيم هل نحتفل

- ‌99 - حكمالاحتفال بشم النسيم

- ‌100 - عيد الأم هل نحتفل

الفصل: ‌57 - من وسائل الحصول على البركة

‌57 - من وسائل الحصول على البركة

6 -

الصدق في البيع:

فالصادقُ في البيع والشراءِ والمعاملات مبارَكٌ له في الكَسب، مترادفٌ عليه الخير، فعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ سدد خطاكم عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ:«الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» (رواه البخاري ومسلم).

(الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صدَقَا وَبَيَّنَا بِوَرِكِ لَهُمَا فِي بَيْعهمَا) أَيْ بَيْن كُلّ وَاحِد لِصاحِبِهِ مَا يَحْتَاج إِلَى بَيَانه مِنْ عَيْب وَنَحْوه فِي السِّلْعَة وَالثَّمَن وَصدَقَ فِي ذَلِكَ، وَفِي الْإِخْبَار بِالثَّمَنِ وَمَا يَتَعَلَّق بِالْعِوَضَيْنِ.

وَمَعْنَى (مُحِقَتْ بَرَكَة بَيْعهمَا) أَيْ ذَهَبَتْ بَرَكَته وَهِيَ زِيَادَته وَنَمَاؤُهُ.

7 -

قراءة سورة البقرة:

قال صلى الله عليه وآله وسلم: «اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ» (رواه الإمام مسلم).

(فَإِنَّ أَخْذَهَا) يعني المواظبة على تلاوتها والعمل بها (بَرَكَةٌ): أي زيادة ونماء (وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ) أي تأسف على ما فات من الثواب (وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ) بفتح الباء والطاء: السحرة: تسمية لهم باسم فعلهم لأن ما يأتون به باطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل.

وقيل البطلة: أهل البطالة الذين لم يؤهلوا لذلك ولم يوفقوا له أي لا يستطيعون قراءة ألفاظها وتدبر معانيها لبطالتهم وكسلهم.

ص: 326

8 -

القناعة والرضا بعطاء الله:

يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ تبارك وتعالى يَبْتَلِي عَبْدَهُ بِمَا أَعْطَاهُ، فَمَنْ رَضِيَ بِمَا قَسَمَ اللهُ عز وجل لَهُ بَارَكَ اللهُ لَهُ فِيهِ وَوَسَّعَهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ لَمْ يُبَارِكْ لَهُ» (رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني).

إن العبرة ليست بما تملك من مقومات المادة، وليست العبرة بما تملك من طاقات وقُدرات، ما الفائدة إذا سلبت البركة من كل ذلك.

إن القليل من المادة، والقليل من الطاقات مع بركة الله، تفعل الأعاجيب.

فأنت قد تُعطَى الملايين، لكن تُنْزَع منها البركة، تجد شقاءها في الدنيا قبل الآخرة، تملك الملايين لكن لا تتمتع بها لأن البركة منزوعة، وقد لا يكون معك إلا راتبك، لكن يبارك الله في هذا القليل فتعيش حياة الملوك أنت وأولادك.

رجلان: الأول له عشرة من الولد، والثاني ليس له إلا بنت واحدة.

تُنزع البركة من الأول، فهؤلاء العشرة لا ينفعونه بشيء، بل ربما عانوا هم سبب المتاعب التي يعيشها، والنكد الذي يعيشه، ربما مَرِضْ ولا أحد من العشرة يُحس به، أو يلتفت إليه يمر اليومان والثلاثة والأسبوع، ولا أحد يسلم عليه؛ إنهم عشرة، لكن بدون بركة.

والثاني يطرح الله البركة في هذه البنت، فتكون قرة عينيَ والديها في الدنيا، تقوم بحقهما، وترعى شؤونهما مع أنها متزوجة ولها بيتها ومسئولياتها، ومع ذلك هي على صلة مستمرة بهما يوميًا، على الأقل ترفع سماعة الهاتف كل ليلة قبل أن تنام لكي تطمئن عليهما، إنها المنحة الإلهية التي لا تُشترى بالمال، ولا يجلبها الملك والسلطان وإنما هي بيد من بيده ملكوت كل شيء.

واعلم يا عبد الله، بأن الله لو فتح لك باب البركة فأبشر بكل خير، مع قلة الراتب، وضيق المسكن، وانعدام الولد، وضعف الجاه.

ص: 327

واعلم يا عبد الله أن هذا الباب لو أغلقه الله عليك ثم فتح لك كل أبواب الدنيا من مال وولد وجاه وسلطان وصحة، فما هو بنافعك بشيء إنما يكون معها الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء.

إن من أسباب قلة البركات ونزعها تعلق الناس بالمال والدنيا، وغفلتهم عن المآل والأخرى، حتى لقد أصبح كثير منهم يوالي في المال ويعادي فيه، ويحب له ويبغض من أجله، ويرضى إن أعطِي ويسخط إن مُنع. من أين ينتظر البركة مَن قد أصبح عبدًا للمال؟! من أين تأتيه البركة وقد أصبح المال محركه وهو الذي يسكِّنُه، وهو الذي يرضيه ويسخطه؟! يا لها من تعاسة ما أشدها على الأفراد والمجتمعات! ويا لها من انتكاسة ما أقوى أثرها على القلوب والنفوس!

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْخَمِيصةِ؛ إِنْ أعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ» . (رواه البخاري).

(عَبْد الدِّينَار) أَيْ طَالِبه الْحَرِيص عَلَى جَمْعه الْقَائِم عَلَى حِفْظه، فَكَأَنَّهُ لِذَلِكَ خَادِمه وَعَبْده. وخُص الْعَبْد بِالذِّكْرِ لِيُؤْذَن بِانْغِمَاسِهِ فِي مَحَبَّة الدُّنْيَا وَشَهَوَاتهَا كَالْأَسِيرِ الَّذِي لَا يَجِد خَلَاصًا، وَلَمْ يَقُلْ مَالِك الدِّينَار وَلَا جَامِع الدِّينَار لِأَنَّ الْمَذْمُوم مِنْ الْمِلْك وَالْجَمْع الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْر الْحَاجَة.

(وَالْخَمِيصة: الْكِسَاء الْمُرَبَّع).

(تَعِسَ) ضِدُّ سَعِدَ، تَقُولُ تَعِسَ فُلَانٌ: أَيْ شَقِيَ، وَقِيلَ مَعْنَى التَّعَس الْكَبُّ عَلَى الْوَجْهِ، وقيل: التَّعَسُ أَنْ يَعْثُرَ فَلَا يَفِيقُ مِنْ عَثْرَتِهِ، وَقِيلَ التَّعَسُ الشَّرُّ، وَقِيلَ: الْبُعْدُ، وَقِيلَ: الْهَلَاكُ، وَقِيلَ: التَّعَسُ أَنْ يَخِرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَالنَّكَسُ أَنْ يَخِرَّ عَلَى رَأْسِهِ، وَقِيلَ: تَعِسَ: أَخْطَأَ حُجَّتَهُ وَبُغْيَتَهُ.

ص: 328

(وَانْتَكَس) أَيْ عَاوَدَهُ الْمَرَضُ، وَقِيلَ: إِذَا سَقَطَ اِشْتَغَلَ بِسَقْطَتِهِ حَتَّى يَسْقُطَ أُخْرَى. (وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ) الْمَعْنَى إِذَا أَصابَتْهُ الشَّوْكَةُ فَلَا وَجَدَ مَنْ يُخْرِجُهَا مِنْهُ بِالْمِنْقَاشِ، تَقُولُ: نَقَشْتُ الشَّوْكَ، إِذَا اِسْتَخْرَجْتَهُ.

وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد لَمْ يَقْدِر الطَّبِيب أَنْ يُخْرِجهَا. وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى الدُّعَاء عَلَيْهِ بِمَا يُثَبِّطهُ عَنْ السَّعْي وَالْحَرَكَة، وَسَوَّغَ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ كَوْنُه قَصرَ عَمَله عَلَى جَمْع الدُّنْيَا وَاشْتَغَلَ بِهَا عَنْ الَّذِي أُمِرَ بِهِ مِنْ التَّشَاغُل بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَات.

وَفِي الدُّعَاءِ بِذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى عَكْسِ مَقْصودِهِ لِأَنَّ مَنْ عَثَرَ فَدَخَلَتْ فِي رِجْلِهِ الشَّوْكَة فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُخْرِجُهَا يَصيرُ عَاجِزًا عَنْ الْحَرَكَةِ وَالسَّعْيِ فِي تَحْصيل الدُّنْيَا.

وَإِنَّمَا خُص اِنْتِقَاش الشَّوْكَة بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَسْهَلَ مَا يُتَصوَّر مِنْ الْمُعَاوَنَة، فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ الْأَسْهَل انْتَفَى مَا فَوْقه بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

9 -

عدم الطمع والشره والجشع؛ فمن أخذ ما أُعْطِي بتعفُّف وغِنى بنفسٍ من غَير مسألةٍ ولا استشرافٍ له بالقلب بورِك له فيه:

عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ:«يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى» . قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا» .

فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ عُمَرُ:«إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ» .

فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم حَتَّى تُوُفِّيَ. (رواه البخاري ومسلم).

ص: 329

(خَضِرَة حُلْوَة) شَبَّهَهُ بِالرَّغْبَةِ فِيهِ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِ وَحِرْص النُّفُوس عَلَيْهِ بِالْفَاكِهَةِ الْخَضْرَاءِ الْمُسْتَلَذَّةِ فَإِنَّ الْأَخْضَرَ مَرْغُوب فِيهِ عَلَى اِنْفِرَادِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْيَابِسِ، وَالْحُلْوَ مَرْغُوب فِيهِ عَلَى اِنْفِرَادِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَامِضِ، فَالْإِعْجَاب بِهِمَا إِذَا اِجْتَمَعَا أَشَدُّ.

قَوْله: (بِسَخَاوَةِ نَفْس) أَيْ: بِغَيْرِ شَرَهٍ وَلَا إِلْحَاح أَيْ: مِنْ أَخْذِهِ بِغَيْرِ سُؤَال، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَخْذِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُعْطِي أَيْ: بِسَخَاوَةِ نَفْسِ الْمُعْطِي أَيْ: اِنْشِرَاحِهِ بِمَا يُعْطِيه.

(كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ) أَيْ: الَّذِي يُسَمَّى جُوعُهُ كَذَّابًا لِأَنَّهُ مِنْ عِلَّةٍ بِهِ وَسَقَم، فَكُلَّمَا أَكَلَ اِزْدَادَ سَقَمًا وَلَمْ يَجِدْ شِبَعًا.

(الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى) بيَّنها قَوْله صلى الله عليه وآله وسلم فِي حديث آخر: «الْيَد الْعُلْيَا خَيْر مِنْ الْيَد السُّفْلَى، وَالْيَد الْعُلْيَا الْمُنْفِقَة، وَالسُّفْلَى السَّائِلَة» (رواه البخاري ومسلم). وَالْمُرَاد بِالْعُلُوِّ: عُلُوّ الْفَضْل وَالْمَجْد وَنَيْل الثَّوَاب.

(لَا أَرْزَأُ) أَيْ: لَا أَنْقُص مَالَهُ بِالطَّلَبِ مِنْهُ.

وَإِنَّمَا اِمْتَنَعَ حَكِيم مِنْ أَخْذِ الْعَطَاءِ مَعَ أَنَّهُ حَقُّهُ لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا فَيَعْتَادُ الْأَخْذ فَتَتَجَاوَزُ بِهِ نَفْسه إِلَى مَا لَا يُرِيدُهُ فَفَطَمَهَا عَنْ ذَلِكَ وَتَرَكَ مَا يَرِيبُهُ إِلَى مَا لَا يَرِيبُهُ، وَإِنَّمَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ عُمَر لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَنْسُبَهُ أَحَد لَمْ يَعْرِفْ بَاطِنَ الْأَمْرِ إِلَى مَنْعِ حَكِيمٍ مِنْ حَقِّهِ.

وفِي هذا الحَدِيثِ فَوَائِد، مِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ الزُّهْد مَعَ الْأَخْذِ، فَإِنَّ سَخَاوَةَ النَّفْس هُوَ زُهْدُهَا، تَقُولُ سَخَتْ بِكَذَا أَيْ: جَادَتْ، وَسَخَتْ عَنْ كَذَا أَيْ: لَمْ تَلْتَفِتْ إِلَيْهِ.

وَمِنْهَا أَنَّ الْأَخْذَ مَعَ سَخَاوَةِ النَّفْس يُحَصِّلُ أَجْرَ الزُّهْد وَالْبَرَكَة فِي الرِّزْقِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الزُّهْدَ يُحَصلُ خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.

وَفِيهِ ضَرْب الْمَثَل لِمَا لَا يَعْقِلُهُ السَّامِعُ مِنْ الْأَمْثِلَةِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ النَّاسِ لَا يَعْرِفُ الْبَرَكَة إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْكَثِيرِ فَبَيَّنَ بِالْمِثَالِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْبَرَكَةَ هِيَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ

ص: 330

تَعَالَى، وَضَرَبَ لَهُمْ الْمَثَل بِمَا يَعْهَدُونَ، فَالْآكِلُ إِنَّمَا يَأْكُلُ لِيَشْبَعَ فَإِذَا أَكَلَ وَلَمْ يَشْبَعْ كَانَ عَنَاء فِي حَقِّهِ بِغَيْرِ فَائِدَة، وَكَذَلِكَ الْمَال لَيْسَتْ الْفَائِدَة فِي عَيْنِهِ وَإِنَّمَا هِيَ لِمَا يَتَحَصلُ بِهِ مِنْ الْمَنَافِعِ، فَإِذَا كَثُرَ عِنْدَ الْمَرْءِ بِغَيْرِ تَحْصيلِ مَنْفَعَةٍ كَانَ وُجُودُهُ كَالْعَدَمِ.

10 -

أكل الحلال وأداء العمل الذي أخذتَ الأجر عليه كما يجب:

يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ مَنْ أَصابَهُ بِحَقِّهِ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِيمَا شَاءَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ مَالِ اللهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا النَّارُ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

يعنى أن الذي يأخذها بغير حقها لن يبارك له فيها، سواءً كانت وظيفة أو صنعة أو غيرها. قَوْلُهُ:(خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ) مَعْنَاهُ أَنَّ صورَةَ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ مُونِقَةٌ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ مُشْرِقٍ نَاضِرٍ أَخْضَرَ.

(الْمَالُ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ) لَيْسَ هُوَ صفَةَ الْمَالِ وَإِنَّمَا هُوَ لِلتَّشْبِيهِ كَأَنَّهُ قَالَ الْمَالُ كَالْبَقْلَةِ الْخَضْرَاءِ الْحُلْوَةِ، وَالتَّاءُ فِي قَوْلِهِ خَضِرَةٌ وَحُلْوَةٌ بِاعْتِبَارِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْمَالُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا أَوْ عَلَى مَعْنَى فَائِدَةِ الْمَالِ أَيْ أَنَّ الْحَيَاةَ بِهِ أَوْ الْعِيشَةَ أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَالِ هُنَا الدُّنْيَا لِأَنَّهُ مِنْ زِينَتِهَا قَالَ اللهُ تَعَالَى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 46). (مَنْ أَصابَهُ بِحَقِّهِ) أَيْ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ مِنْ الْحَلَالِ. (وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ) أَيْ مُتَسَارِعٍ وَمُتَصرِّفٍ. وأَصلُ الْخَوْضِ الْمَشْيُ فِي الْمَاءِ وَتَحْرِيكُهُ ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي التَّلْبِيسِ بِالْأَمْرِ وَالتَّصرُّفِ فِيهِ، أَيْ رُبَّ مُتَصرِّفٍ فِي مَالِ اللَّهِ بِمَا لَا يَرْضَاهُ اللهُ، أَيْ يَتَصرَّفُونَ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَيَسْتَبِدُّونَ بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ قِسْمَةٍ، وَقِيلَ هُوَ التَّخْلِيطُ فِي تَحْصيلِهِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ كَيْفَ أَمْكَنَ. (فِيمَا شَاءَتْ نَفْسُهُ) أَيْ فِيمَا أَحَبَّتْهُ وَالْتَذَّتْ بِهِ. (لَيْسَ لَهُ) أَيْ جَزَاءٌ. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا النَّارُ) أَيْ دُخُولُ جَهَنَّمَ.

إن من أسباب عدم البركة أكل المال الحرام وتناوله والاستهانة بذلك أخذًا وعطاءً، وقد كثر في هذا الزمان ذلك المنكر العظيم، في معاملات الناس فيما بينهم،

ص: 331

وفي التخوض في أموال إخوانهم العامة بغير حق، فكم من المصارف الربوية التي توقع الناس في الربا فيما يدعى بالفوائد البنكية. وكم من قنوات الشر والفساد والإفساد وجرائد الشر والفتنة ومحلات الجشع والطمع من يبتلون المسلمين بمسابقات الميسر والقمار، وكم من التجار من يتعامل بالربا الذي لا مِرْية فيه، وكم من الموظفين والعمال من يأخذ الأجر ولا يقوم بالعمل كما ينبغي، وكم من الناس من يتلاعب بأموال المسلمين ومقدراتهم، سواء بأخذ الرشوة جهارًا نهارًا، أو الاقتطاع من مستحقات المشروعات والمرافق العامة، أو بأخذ ما لا يستحقه من انتدابات أو زيادات.

أفلا يكون ذلك سببًا في نزع البركات وقلة الخيرات، وقد قال سبحانه في الربا:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (البقرة: 276). صرح الله عز وجل في هذه الآية الكريمة بأنه يمحق الربا أي: يذهبه بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به. وعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ سدد خطاكم عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «مَا أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ الرِّبَا إِلَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إِلَى قِلَّةٍ» (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).

(أَكْثَر مِنْ الرِّبَا) أَيْ أَكْثَرَ مَاله وَجَمَعَهُ مِنْ الرِّبَا.

ولا يُنال ما عند الله إلا بطاعتِه، والسعادةُ في القربِ من الله، وبالإكثار من الطاعات تحُلّ البركات، وبالرجوع إليه تتفتّح لك أبوابُ الأرزاق؛ فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «شرح السنة للبغوي - (ج 7 / ص 243)

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِن رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أجَلَهَا، وتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا؛ فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنّ أحَدَكُم َاسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيةِ اللهِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ» (رواه أبو نعيم في الحلية، وصححه الألباني).

(رُوح الْقُدُسِ) أي الروح المقدسة وهو جِبْرِيلَ عليه السلام، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (النحل: 102). (نَفَثَ فِي رُوعِي) - بضم الراء

ص: 332

- أي ألقى الوحي في خَلَدي وبالي أو في نفسي أو قلبي أو عقلي من غير أن أسمعه ولا أراه، أما الرَّوْع - بفتح الراء - فهو الفزع ولا دخل له هنا، (أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أجَلَهَا) الذي كتبه لها الملَك وهي في بطن أمها، (وتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا) كذلك؛ فإنه سبحانه وتعالى قسم الرزق وقدَّره لكل أحد بحسب إرادته لا يتقدم ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص بحسب علمه القديم الأزلي، (فَاتَّقُوا اللهَ) أي ثِقُوا بضمانه، لكنه أمرنا تعبدًا بطلبه مِن حِلّه؛ فلهذا قال (وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ) بأن تطلبوه بالطرق الجميلة المحَلّلَة بغير كَدّ ولا حِرْص، ولا تهافت على الحرام والشبهات، أجْمَلَ: أي طلب في قصدٍ واعتدال مع عدم انشغال القلب، (وَلَا يَحْمِلَنّ أحَدَكُم اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ) أي اسْتِبْطَاءُ حصول الرزق (أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيةِ اللهِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ) من الرزق وغيرِه (إِلَّا بِطَاعَتِهِ) فإنّ ما عند الله لايُنال بالحرام.

11 -

عدم الحلف في البيع:

فعن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ» (رواه البخاري ومسلم).

(الْحَلِف) أَيْ الْيَمِين الْكَاذِبَة. (مَنْفَقَة) مِنْ النَّفَاقِ - بِفَتْحِ النُّونِ - وَهُوَ الرَّوَاجُ ضِدُّ الْكَسَادِ، وَالسِّلْعَة: الْمَتَاعُ. (مَمْحَقَة) الْمَحْقُ النَّقْص وَالْإِبْطَال.

وأَوْضَحَ الْحَدِيث أَنَّ الْحَلِفَ الْكَاذِبَ - وَإِنْ زَادَ فِي الْمَال - فَإِنَّهُ يَمْحَقُ الْبَرَكَةَ كَقَوْله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} (البقرة: 276) أَيْ يَمْحَق الْبَرَكَةَ مِنْ الْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ الرِّبَا وَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ زَائِدًا، لَكِنَّ مَحْقَ الْبَرَكَةِ يُفْضِي إِلَى اضْمِحْلَالِ الْعَدَد فِي الدّنْيَا، وَإِلَى اِضْمِحْلَال الْأَجْرِ فِي الْآخِرَةِ.

وهذا الحديث فِيهِ النَّهْي عَنْ كَثْرَة الْحَلِف فِي الْبَيْع، فَإِنَّ الْحَلِف مِنْ غَيْر حَاجَة مَكْرُوه، وَيَنْضَمّ إِلَيْهِ تَرْوِيج السِّلْعَة، وَرُبَّمَا اِغْتَرَّ الْمُشْتَرِي بِالْيَمِينِ.

ص: 333

إذًا لا تحلف ولا تغشّ ولا تكذب ـ أخي البائع ـ حتى يبارك لك في بيعك وشرائك.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَيْسَ شَيْءٌ أُطِيعَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ أَعْجَلَ ثَوَابًا مِنْ صلَةِ الرَّحِمِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَعْجَلَ عِقَابًا مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، والْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ» (رواه البيهقي، وصححه الألباني).

(لَيْسَ شَيْءٌ أُطِيعَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ أَعْجَلَ ثَوَابًا مِنْ صلَةِ الرَّحِمِ) أي الإحسان إلى الأقارب بقول أو فعل (وَلَيْسَ شَيْءٌ أَعْجَلَ عِقَابًا مِنَ الْبَغْيِ) أي التعدي على الناس (وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ) بنحو إساءة أو هجر (والْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ) أي الكاذبة (تَدَعُ) أي تترك (الدِّيَارَ بَلَاقِعَ) أَي فارغة لذهاب المَال، جمع بَلْقَع، وهي الأرض القفراء التي لا شئ فيها، أي أن الحالف يفتقر ويذهب ما في بيته من الرزق.

12 -

اتباع هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبب للبركة في المأكل والمشرب:

البركةُ يتحرّاها العبدُ في مأكلِه في يومه وليلتِه، والطّعام المبارَك ما أكلتَه ممّا يَلِيكَ، وتجنّبتَ الأكلَ من وسط الصحفَة، وذكرتَ اسمَ الله عليه، فعَنْ عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ:«الْبَرَكَةُ تَنْزِلُ وَسَطَ الطَّعَامِ، فَكُلُوا مِنْ حَافَتَيْهِ وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ» (رواه الترمذي وصححه الألباني).

(فَكُلُوا مِنْ حَافَّتَيْهِ) أَيْ جَانِبَيْهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا خُصوص التَّثْنِيَةِ، فَعن عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أتِيَ بِقَصعَةٍ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم:«كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا، وَدَعُوا ذُرْوَتَهَا يُبَارَكْ فِيهَا» (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

(ذُرْوَتهَا) الذُّرْوَة - بِالضَّمِّ وَالْكَسْر -: أَعْلَى الشَّيْء، وَالْمُرَاد الْوَسَط، وَالْبَرَكَة وَالنَّمَاء وَالزِّيَادَة مَحَلّهَا الْوَسَط، فَاللَّائِق إِبْقَاؤُهُ إِلَى آخِر الطَّعَام لِبَقَاءِ الْبَرَكَة وَاسْتِمْرَارهَا وَلَا يَحْسُن إِفْنَاؤُهُ وَإِزَالَته.

ص: 334

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الْبَرَكَةُ تَنْزِلُ وَسَطَ الطَّعَامِ» يدل على أن الإنسان إذا أكل من أعلاه، أي من الوسط، نُزِعَت البركة من الطعام (1).

وأمَر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلَعقِ الأصابعِ والصحفة بعد الفراغ من الطعام رجاءَ البركة، فعَنْ جَابِرٍ سدد خطاكم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أَمَرَ بِلَعْقِ الْأَصابِعِ وَالصحْفَةِ وَقَالَ:«إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّهِ الْبَرَكَةُ» (رواه مسلم).

إن من آداب الأكل أن الإنسان إذا فرغ من أكْله فإنه يلعق الصحفة ويلعق أصابعه، يعني: يلحسها حتى لا يبقى فيها أثر الطعام؛ فقد تكون البركة فيما علق بالأصابع من الطعام.

والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يأمر أمته بشيء إلا وفيه الخير والبركة.

وَقَوْله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَدْرُونَ فِي أَيّه الْبَرَكَة» مَعْنَاهُ - وَاللهُ أَعْلَم - أَنَّ الطَّعَام الَّذِي يَحْضُرهُ الْإِنْسَان فِيهِ بَرَكَة وَلَا يَدْرِي أَنَّ تِلْكَ الْبَرَكَة فِيمَا أَكَلَهُ أَوْ فِيمَا بَقِيَ عَلَى أَصابِعه أَوْ فِيمَا بَقِيَ فِي أَسْفَل الْقَصعَة أَوْ فِي اللُّقْمَة السَّاقِطَة، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظ عَلَى هَذَا كُلّه؛

(1) قال بعض أهل العلم: «إلا إذا كان الطعام أنواعًا وكان نوع منه في الوسط وأراد أن يأخذ منه شيئًا فلا بأس، مثل أن يوضع اللحم في وسط الصحفة فإنه لا بأس أن تأكل من اللحم ولو كان في وسطها؛ لأنه ليس له نظير في جوانبها فلا حرج. فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَهُ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَقَرَّبَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم خُبْزًا وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيْ الْقَصْعَةِ. قَالَ: «فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ» . (رواه البخاري ومسلم). (الدُّبَّاء) هُوَ الْقَرْع، وَهُوَ الْيَقْطِين أَيْضًا.

وَقَدْ حَمَلَ بَعْض الشُّرَّاح فِعْله صلى الله عليه وآله وسلم فِي هَذَا الْحَدِيث عَلَى التَّفْصِيل بَيْن مَا إِذَا كَانَ الْطعَامُ لَوْنًا وَاحِدًا فَلَا يَتَعَدَّى مَا يَلِيه، أَوْ أَكْثَر مِنْ لَوْن فَيَجُوز ذَلِكَ، فَقَالَ: كَانَ الطَّعَام مُشْتَمِلًا عَلَى مَرَق وَدُبَّاء وَقَدِيد فَكَانَ صلى الله عليه وآله وسلم يَأْكُل مِمَّا يُعْجِبهُ وَهُوَ الدُّبَّاء وَيَتْرُك مَا لَا يُعْجِبهُ وَهُوَ الْقَدِيد.

وَقَالَ بعضهم: «إِنَّمَا جَالَتْ يَد رَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي الطَّعَام لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَتَكَرَّه ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا يَتَقَذَّرهُ، بَلْ كَانُوا يَتَبَارَكُونَ بِرِيقِهِ وَمُمَاسَّة يَده، بَلْ كَانُوا يَتَبَادَرُونَ إِلَى نُخَامَته فَيَتَدَلَّكُونَ بِهَا، فَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُتَقَذَّر مِنْ مُؤَاكِله يَجُوز لَهُ أَنْ تَجُول يَده فِي الصَّحْفَة.

ص: 335

لِتَحْصل الْبَرَكَة، وَأَصل الْبَرَكَة الزِّيَادَة وَثُبُوت الْخَيْر وَالْإِمْتَاع بِهِ، وَالْمُرَاد هُنَا - وَاللهُ أَعْلَم - مَا يَحْصل بِهِ التَّغْذِيَة وَتَسْلَم عَاقِبَته مِنْ أَذًى، وَيُقَوِّي عَلَى طَاعَة اللهِ تَعَالَى وَغَيْر ذَلِكَ.

وفي الاجتماعِ على الطعام بركة، وفي التفرّق نَزعٌ لها، فعن وَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ أَصحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالُوا:«يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَأْكُلُ وَلَا نَشْبَعُ؟» ، قَالَ:«فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ» ؟ قَالُوا: «نَعَمْ» . قَالَ: «فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ؛ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ» . (رواه أبو داود وحسنه الألباني).

وَحْشِيّ بْن حَرْب شَامِيّ تَابِعِيّ. (تَفْتَرِقُونَ): أَيْ حَالَ الْأَكْل بِأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْ أَهْل الْبَيْت يَأْكُل وَحْده. (وَاذْكُرُوا اِسْم اللهِ عَلَيْهِ): أَيْ فِي اِبْتِدَاء أَكْلِكُمْ. (يُبَارَك لَكُمْ فِيهِ): أَيْ فِي الطَّعَام.

قال الشيخ ابن عثيمين في شرح هذا الحديث من (رياض الصالحين):

«والتفرق على الطعام من أسباب نزع البركة؛ لأن التفرق يستلزم أن كل واحد يجعل له إناء خاص، فيتفرق الطعام وتنزع بَرَكته، وذلك لأنك لو جعلْتَ لكل إنسان طعامًا في صحن واحد أو في إناء واحد لَتَفَرَّق الطعام، لكن إذا جعلته كله في إناء واحد اجتمعوا عليه وصار في القليل بركة، وهذا يدل على أنه ينبغي للجماعة أن يكون طعامهم في إناء واحد ولو كانوا عشرة أو خمسة يكون طعامهم في صحن واحد بحسبهم؛ فإن ذلك من أسباب نزول البركة والتفرق من أسباب نزع البركة» .

13 -

صلاة أربع ركعات من أول النهار:

إن مما يساعد الإنسان على تحصيل البركة في عمره وماله صلاة أربع ركعات من أول النهار، قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم:«قَالَ اللهُ – عز وجل: «يَا ابْنَ آدَمَ لَا تَعْجِزْ عَنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ» . وفي رواية: «قَالَ رَبُّكُمْ عز وجل: «يَا ابْنَ آدَمَ صلِّ لِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَوَّلَ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ» (رواه الإمام أحمد وغيره، وصححه الألباني).

ص: 336

(يَا ابْنَ آدَمَ لَا تَعْجِزْ عَنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ) أي عن صلاتها. (مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ) يَحْتَمِل أَنْ يُرَاد بِهَا فَرْض الصبْح وَرَكْعَتَا الْفَجْر أَوْ أُرِيدَ بِالْأَرْبَعِ الْمَذْكُورَة صلَاة الضُّحَى. (أَكْفِك آخِره): يَحْتَمِل أَنْ يُرَاد كِفَايَته مِنْ الْآفَات وَالْحَوَادِث الضَّارَّة، وَأَنْ يُرَاد حِفْظه مِنْ الذُّنُوب وَالْعَفْو عَمَّا وَقَعَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ أَوْ أَعَمّ مِنْ ذَلِكَ.

14 -

شكر الله عز وجل على نعمه:

قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم: 7).

وحقيقة الشكر: أن تُظهِر في قلبك الفرح بالله وبنعمته وفضله عليك، ثم تخوض في العمل بموجبه، وذلك بالجوارح والقلب واللسان. أما الجوارح فباستعمالها في طاعة الله، والقلب فشكره دوام المراقبة، واللسان فشكره ذكر الله عز وجل.

ص: 337