المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌58 - التبرك المشروع والتبرك الممنوع - دليل الواعظ إلى أدلة المواعظ - جـ ٢

[شحاتة صقر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌أحاديث ضعيفةوموضوعة ولا أصل لها

- ‌خطورة انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس

- ‌أسباب انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس:

- ‌من الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة:

- ‌1 - عدم تقبل الناس للأحاديث الصحيحة بعد سماعهم للأحاديث الضعيفة:

- ‌2 - إيقاع المسلم في الشرك الصريح:

- ‌3 - التشنيع على أهل الحديث:

- ‌4 - تعليم الناس ما لم يثبت:

- ‌5 - تأصيل أصول مخالفة للشريعة:

- ‌6 - إفساد الأخلاق:

- ‌7 - تغيير سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌8 - إلغاء قواعد في أصول الفقه:

- ‌9 - التفرقة بين المسلمين:

- ‌10 - تشويه سمعة الصحابة رضي الله عنهم

- ‌11 - إعانة المستهترين على الاجتراء على الله بالمعاصي:

- ‌12 - الابتداع في العبادة، ومخالفة السنة:

- ‌13 - مساواة المسلمين بأهل الذمة:

- ‌14 - الصد عن سبيل الله:

- ‌15 - إلقاء الشك والريبة بين المسلمين؛ ونشر الخرافة بينهم:

- ‌16 - التضييق على الناس في أمورٍ من المباحات:

- ‌17 - أحيانًا تؤدي الأحاديث الضعيفة والموضوعة إلى احتقار النساء:

- ‌نماذج منأثر الحديثالضعيف والموضوعفي تخريب العقائد

- ‌أولًا: في أسماء الله وصفاته وتوحيده:

- ‌ثانيا: في حقيقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌مَن أرادُوا شَيْنَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌ثالثا: في العصبيات والأهواء:

- ‌رابعا: الأحاديث الموضوعة والخرافة:

- ‌خامسًا: الأحاديث الموضوعة في القرآن:

- ‌أحاديثضعيفة وموضوعة ولا أصل لها

- ‌تنبيهاتقبل قراءة الأحاديث

- ‌التنبيه الأول:

- ‌التنبيه الثاني:

- ‌التنبيه الثالث:

- ‌التنبيه الرابع:

- ‌التنبيه الخامس:

- ‌حرف الألف

- ‌حرف الباء

- ‌حرف التاء

- ‌حرف الثاء

- ‌حرف الجيم

- ‌حرف الحاء

- ‌حرف الخاء

- ‌حرف الدال

- ‌حرف الذال

- ‌حرف الراء

- ‌حرف الزاي

- ‌حرف السين

- ‌حرف الشين

- ‌حرف الصاد

- ‌حرف الضاد

- ‌حرف الطاء

- ‌حرف العَيْن

- ‌موضوعات عامة

- ‌52 - أقسام البركة

- ‌53 - من صور البركة

- ‌54 - البركة في المجتمع المسلم

- ‌55 - عندما ترد الأرض بركتها

- ‌56 - كيف نحصل على البركة

- ‌57 - من وسائل الحصول على البركة

- ‌58 - التبرك المشروع والتبرك الممنوع

- ‌59 - قصة أصحاب الأخدود

- ‌60 - استضعاف وثبات

- ‌61 - الثبات حتى الممات

- ‌63 - مفهوم الإصلاح في الإسلام

- ‌64 - خصائص الشريعة الإسلامية

- ‌65 - نظام الحكم في الإسلام

- ‌66 - دين اسمه العلمانية

- ‌67 - شريعة الله لا شريعةالبشر حتى لا تغرق السفينة

- ‌68 - الشريعة خيرٌ كلها

- ‌71 - الاختلاط بين الرجال والنساء

- ‌72 - الفرق بين الخلوة والاختلاط

- ‌74 - من الثمار المُرّة للاختلاط

- ‌75 - واجِبُنا نحو آل بيت النبي

- ‌76 - معاوية بن أبي سفيان

- ‌77 - من فضائل معاوية

- ‌78 - من صفات معاوية

- ‌82 - السبيل إلى سلامة الصدر

- ‌83 - السهر

- ‌84 - أضرار السهر

- ‌85 - أنواع الهموم

- ‌86 - علاج الهموم

- ‌88 - مَن ترك لله عوضه الله

- ‌90 - المسجد الأقصىفي قلب كل مسلم

- ‌91 - لا يضر السحابَ نبحُ الكلاب

- ‌92 - الله سبحانه وتعالىيدافع عن خليله صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌93 - المولد النبوي هل نحتفل

- ‌94 - لماذا لانحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌95 - كشف شبهاتمن قال بجواز الاحتفال بالمولد

- ‌96 - كشفشبهات حول الاحتفال بالمولد

- ‌97 - رأس السنة هل نحتفل

- ‌98 - شم النسيم هل نحتفل

- ‌99 - حكمالاحتفال بشم النسيم

- ‌100 - عيد الأم هل نحتفل

الفصل: ‌58 - التبرك المشروع والتبرك الممنوع

‌58 - التبرك المشروع والتبرك الممنوع

(1)

التّبرُّك: هو طلب البركة، والتبرك بالشيء: طلب البركة بواسطته.

ولا شك أن الخير والبركة بيد الله عز وجل، وقد اختص الله عز وجل بعض خلقه بما شاء من الفضل والبركة، وأصل البركة: الثبوت واللزوم، وتطلق على النماء والزيادة.

والتبريك: الدعاء، يقال: برَّك عليه: أي دعا له بالبركة، ويقال: بارك الله الشيءَ وبارك فيه أو بارك عليه: أي وضع فيه البركة.

وتبارك لا يوصف بها إلا الله عز وجل، ولا تسند إلا إليه،، فلا يقال: تبارك فلان؛ لأن المعنى عَظُمَ وهذه صفة لا تنبغي إلا لله عز وجل.

وتباركه سبحانه وتعالى: دوام جوده، وكثرة خيره، ومجده وعلوِّه، وعظمته وتقدسه، ومجيء الخيرات كلها من عنده، وتبريكه على من شاء من خلقه.

واليُمْنُ: هو البركة: فالبركة واليُمن لفظان مترادفان.

والتبرك المشروع يكون بأمور، منها ما يأتي:

أولًا: التبرك بأمرٍ شرعيٍّ معلومٍ مثل كذكر الله سبحانه وتعالى وتلاوة القرآن، قال الله تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} (ص:29).

والتبرك بذكر الله وتلاوة القرآن الكريم، يكون على الوجه المشروع، وهو طلب البركة من الله عز وجل بذكر القلب، واللسان، والعمل بالقرآن والسنة على الوجه المشروع؛ لأن من بركات ذلك اطمئنان القلب، وقوة القلب على الطاعة، والشفاء من

(1) انظر: نور السنة وظلمات البدعة في ضوء الكتاب والسنة، للدكتور سعيد بن علي بن وهف القحطاني، التبرك المشروع والتبرك الممنوع، للدكتور علي بن نفيع العلياني، التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر الجديع.

ص: 338

الآفات، والسعادة في الدنيا والآخرة، ومغفرة الذنوب، ونزول السكينة، وأن القرآن يكون شفيعًا لأصحابه يوم القيامة.

ولا يُتَبَرّك بالمصحف كوضعه في البيت أو في السيارة وإنما التبرك يكون بالتلاوة والعمل به.

والتبرك باسم الله سبحانه وتعالى، والاستعانة بالله في التسمية، فهذا مشروع، فيما شرعت فيه التسمية.

ثانيًا: التبرك بأمرٍ حسيٍّ معلومٍ، مثل العلم، والدعاء، ونحوهما، فالرجلُ يُتَبَرّك بعلمه، ودعوته إلى الخير، فيكون هذا بركة لأننا نِلْنا منه خيرًا كثيرًا.

ثالثًا: التبرك بهيئةٍ شرعيَّةٍ مثل الاجتماع على الطعام، والأكل مِن جوانب القصعة، ولعق الأصابع، وكيْل الطعام. قال صلى الله عليه وآله وسلم: “ اجْتَمِعُوا عَلى طَعَامِكُم وَاذْكُروا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ» (رواه أبو داود وابن ماجه، وحسنه الألباني). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: “ البرَكَةُ تَنْزِلُ في وَسَطِ الطَّعَامِ، فَكُلُوا مِنْ حَافَّتَيْهِ، وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بلعق الأصابع وقال: “ فإِنَّهُ لَا يَدْرِي في أَيَّتِهِنَّ البَرَكَةُ “ (رواه مسلم). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: “كِيلُوا الطَّعامَ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ “ (رواه البخاري).

رابعًا: التبرك بالأمكنة، فهناك أمكنةٌ جعل الله فيها البركة إذا تحقق في العمل الإخلاص والمتابعة كالمساجد، وخاصة المسجد الحرام والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، ومسجد قباء، وأحاديث فضل الصلاة فيها مشهورةٌ معلومةٌ.

خامسًا: التبرك بالأطعمة، وهناك أنواعٌ مِن الطعام جعل الله فيها بركة مثل:

1 -

الزيت، قال صلى الله عليه وآله وسلم: “ كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ “ أي: الزيتون (رواه الترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني).

ص: 339

2 -

الحبَّةُ السوداء، قال صلى الله عليه وآله وسلم: “ الحبَّةُ السَّوْداءُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَاّ السَّام “ (رواه البخاري ومسلم)، والسام: الموت.

3 -

التبرك بشرب ماء زمزم؛ لأنه أفضل مياه الأرض، ويُشبع من شربه ويكفيه عن الطعام، ويُستشفى بشربه مع النية الصالحة من الأسقام؛ لأنه لما شرب له؛ وزمزم قال عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ؛ إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ» (رواه مسلم).

قَوْله صلى الله عليه وآله وسلم فِي زَمْزَم: «إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ» أَيْ تُشْبِعُ شَارِبهَا كَمَا يُشْبِعُهُ الطَّعَام.

وفي قصة أبي ذر أنه لما دخل مكة أقام بها شهرًا لا يتناول غير مائها، وقال:«مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا أَجِدُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوع» (رواه مسلم).

(حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَن بَطْنِي) يَعْنِي اِنْثَنَتْ لِكَثْرَةِ السِّمَن وَانْطَوَتْ.

(سُخْفَة جُوع) أي رِقَّةُ الْجُوعِ وَضَعْفه وَهُزَاله.

وأيضًا ماء زمزم خير ماء على وجه الأرض قال صلى الله عليه وآله وسلم: «خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْأرْضِ مَاءُ زَمْزَم؛ فِيهِ طَعَامٌ مِنَ الطُعْمِ وَشِفَاءٌ مِنَ السُّقْمِ» (صحيح رواه الطبراني).

(فِيهِ طَعَامٌ مِنَ الطُعْمِ) أي طعام إشباع أو طعام شبع من إضافة الشيء إلى صفته، والطُعم: الطعام (وَشِفَاءٌ مِنَ السُّقْمِ) أي شفاء من الأمراض إذا شرب بنية صالحة.

وعن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ سدد خطاكم قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).

وعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَحْمِلُ مَاءَ زَمْزَمَ وَتُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ يَفْعَلُهُ. (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وَحَمَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِى الأَدَاوَى وَالْقِرَبِ وَكَانَ يَصُبُّ عَلَى الْمَرْضَى وَيَسْقِيهِمْ. (رواه البيهقي، وصححه الألباني).

ص: 340

4 -

التبرك بماء المطر، فلا شك أن المطر مبارك لما جعل الله فيه من البركة: من شرب الناس منه، والأنعام، والدواب، وإنبات الأشجار، والثمار، وأحيى به الله كل شيء. قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)} (ق: 9 - 12).

وعَنْ أَنَسٍ سدد خطاكم قَالَ: أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مَطَرٌ، فَحَسَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ مِنْ الْمَطَرِ، فَقُلْنَا:«يَا رَسُولَ اللهِ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟» .

قَالَ: «لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى» . (رواه مسلم).

قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث من صحيح مسلم:

«مَعْنَى (حَسِرَ) كَشَفَ أَيْ كَشَفَ بَعْض بَدَنه. وَمَعْنَى (حَدِيث عَهْد بِرَبِّهِ) أَيْ بِتَكْوِينِ رَبّه إِيَّاهُ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَطَر رَحْمَة، وَهِيَ قَرِيبَة الْعَهْد بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى لَهَا فَيَتَبَرَّك بِهَا» .

سادسًا: التبرك بالأزمنة، وهناك أزمنةٌ خصّها الشرع بزيادة فضلٍ وبركةٍ؛ مثل: شهر رمضان، وليلة القدر، والعشر الأول من ذي الحجة، ويوم الجمعة، والثلث الأخير من الليل.

سابعًا: التبرك المشروع بذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مُبَارَك في ذاته وما اتصل بذاته؛ ولهذا تبرك الصحابة رضي الله عنهم بذاته صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذلك، ما ثبت عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِالْهَاجِرَةِ إِلَى الْبَطْحَاءِ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَقَامَ النَّاسُ فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ يَدَيْهِ فَيَمْسَحُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ.

قَالَ: فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَوَضَعْتُهَا عَلَى وَجْهِي فَإِذَا هِيَ أَبْرَدُ مِنْ الثَّلْجِ وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنْ الْمِسْكِ» (رواه البخاري). الهَجِيرُ والهَجِيرَةُ والهَجْرُ والهاجِرَةُ: نصفُ النهارِ عندَ زوالِ

ص: 341

الشمسِ مع الظُّهْرِ، أو من عندِ زوالِها إلى العَصْرِ لأنَّ الناسَ يَسْتَكِنُّونَ في بُيُوتِهِمْ كأَنَّهُم قد تَهاجَرُوا، وشدَّةُ الحَرِّ.

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سدد خطاكم قَالَ: «لَمَّا رَمَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم الْجَمْرَةَ وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ فَقَالَ: «احْلِقْ» ، فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ فَقَالَ:«اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ» (رواه مسلم). (نَاوَلَهُ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ): أي ناول الحلاق.

وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ عَنْهُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا. (رواه مسلم).

وفي رواية عَنْها رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِى مَاتَ فِيهِ جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ؛ لأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدِى» . (رواه مسلم).

وكان الصحابة رضي الله عنهم يتبركون بثياب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومواضع أصابعه، وبماء وضوئه، وبفضل شربه، ويتبركون بالأشياء المنفصلة منه: كالشعر، والأشياء التي استعملها وبقيت بعده: كالآنية، والنعل، وغير ذلك مما اتصل بجسده صلى الله عليه وآله وسلم (1).

(1) الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مبارك، جعل الله فيه البركة، وهذه البركة نوعان:

أ- بركة معنوية: وهي ما يحصل من بركات رسالته في الدنيا والآخرة، لأن الله أرسله رحمة للعالمين، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، وختم به الرسل، ودينه يحمل اليسر والسماحة.

ب- بركة حسّيّة، وهي على نوعين:

النوع الأول: بركة في أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي ما أكرمه الله به من المعجزات الباهرة الدالة على صدقه.

النوع الثاني: بركة في ذاته وآثاره الحسية: وهي ما جعل الله له صلى الله عليه وآله وسلم من البركة في ذاته؛ ولهذا تبرك به الصحابة في حياته، وبما بقي له من آثار جسده بعد وفاته.

ص: 342

والتبرك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته لا يقاس عليه أحد من خلق الله عز وجل؛ لما جعل الله فيه من البركة. فلا يقاس عليه غيره صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإنه لم يُؤْثَرْ عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر بالتبرك بغيره من الصحابة رضي الله عنهم أو غيرهم، ولم يُنْقَل أن الصحابة رضي الله عنهم فعلوا ذلك مع غيره لا في حياته ولا بعد مماته، ولم يفعلوه مع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ولا مع الخلفاء الراشدين المهديين، ولا مع العشرة المشهود لهم بالجنة.

قال الإمام الشاطبي رحمه الله: «الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه الصلاة والسلام لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه، إذ لم يترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق سدد خطاكم، فهو كان خليفته، ولم يُفْعَل به شيءٌ من ذلك، ولا عمر سدد خطاكم، وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان، ثم علي، ثم سائر الصحابة الذين لا أحدَ أفضلُ منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركًا تبرك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها» (1).

ولا شك أن الانتفاع بعلم العلماء الصالحين، والاستماع إلى وعظهم، ودعائهم، والحصول على فضل مجال الذكر معهم فيها من الخير والبركة والنفع الشيء العظيم، ولكن لا يُتَبَرَّكُ بذواتهم وإنما يُعمل بعلمهم الصحيح، ويقتدى بأهل السنة منهم.

والتبرك بمعنى أن يُقال: بركة فلان، وذلك بما استفيد منه من العلم والتعليم والدعوة إلى الله عز وجل وما حصل بسببه من الخير والصدقات التي يقدمها للفقراء والمساكين والمحتاجين والأيتام فهذا جائز، كما قال أسيد بن الحضير رضي الله عنه:«مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ» (رواه البخاري).

(1) الاعتصام للشاطبي (2/ 8، 9) ونظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، (ص 261 - 269).

ص: 343

والتبرك الممنوع منه ما يأتي:

أولًا: التبرك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته ممنوع إلا في أمرين:

الأمر الأول: الإيمان به وطاعته وإتباعه، فمَن فعل ذلك حصل له الخير الكثير والأجر العظيم والسعادة في الدنيا والآخرة.

الأمر الثاني: التبرك بما بقي من أشياء منفصلة عنه صلى الله عليه وآله وسلم: كثيابه، أو شعره، أو آنيته، فهذا جائز حتى لو تبرك أحد بشعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته، فهذا لا محذور فيه. وما عدا ذلك من التبرك فلا يشرع، فلا يتبرك بقبره، ولا تشد الرحال لزيارة قبره، وإنما تشد الرحال لزيارة أحد المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، والمسجد النبوي.

وإنما تستحب الزيارة لقبره لمن كان في المدينة، أو زار المسجد ثم زار قبره، وصفة الزيارة: إذا دخل المسجد صلى تحية المسجد، ثم يذهب إلى القبر ويقف بأدب مستقبلًا الحجرة فيقول بأدب وخفض صوت:«السلام عليك يا رسول الله» .

ولا يدعو عند القبر؛ لظنه أن الدعاء عنده مستجاب، ولا يطلب منه الشفاعة، ولا يتمسح بالقبر ولا يُقَبّلُه ولا شيء من جدرانه، ولا يتبرك بالمواضع التي جلس فيها أو صلى فيها، ولا بالطرق التي سار عليها، ولا بالمكان الذي أنزل عليه فيه الوحي، ولا بمكان ولادته، ولا بليلة مولده، ولا بالليلة التي أسري به فيها، ولا بذكرى الهجرة، ولا غير ذلك مما لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

تنبيهات:

1 -

التبرك بآثاره صلى الله عليه وآله وسلم له شروط منها الإيمان الشرعي المقبول عند الله، فمن لم يكن مسلمًا صادق الإسلام فلن يحقق الله له أي خير بتبركه هذا.

2 -

يشترط للراغب في التبرك أن يكون حاصلًا على أثر من آثاره صلى الله عليه وآله وسلم، ويستعمله؛ ونحن نعلم أن آثاره من ثياب أو شعر أو فضلات قد فُقِدَتْ وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين.

ص: 344

وإذا كان الأمر كذلك فإن التبرك بهذه الآثار يصبح أمرًا غير ذي موضوع في زماننا هذا ويكون أمرًا نظريًّا محضًا فلا ينبغي إطالة القول فيه.

3 -

إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن أقر الصحابة في غزوة الحديبية وغيرها على التبرك بآثاره صلى الله عليه وآله وسلم والتمسح بها وذلك لغرض مهم وخاصة في تلك المناسبة - وذلك الغرض هو إرهاب كفار قريش وإظهار مدى تعلق المسلمين بنبيهم وحبهم له وتفانيهم في خدمته وتعظيم شأنه - إلا أن الذي لا يجوز التغافل عنه ولا كتمانه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد تلك الغزوة رغَّبَ المسلمين بأسلوب حكيم وطريقة لطيفة عن هذا التبرك وصرَفَهم عنه وأرشدهم إلى أعمال صالحة خير لهم منه عند الله عز وجل وأجدى.

وهذا ما يدل عليه الحديث الآتي: عن عبد الرحمن بن أبي قُرَاد سدد خطاكم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تَوَضَّأَ يَوْمًا فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَتَمَسَّحُونَ بِوَضُوئِهِ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم:«مَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَذَا؟» . قَالُوا: «حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ» . فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، أَوْ يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ فَلْيَصْدُقْ حَدِيثَهَ إِذَا حَدَّثَ، وَلْيُؤَدِّ أَمَانَتَهُ إِذَا اؤْتُمِنَ، وَلْيُحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَهُ» . (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).

«مَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَذَا؟» أي التمَسُّح، وكان هذا من المعلوم الواضح عنده أنه للتبرك الناشىء عن حسن الاعتقاد في الله ورسوله، فالسؤال لإظهار ما يترتب على الجواب. قَالُوا:«حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ» أي الحامل، أو حملنا. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وآله وسلم:«مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ» أي على وجه الكمال. «أَوْ يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ» (أو) للتنويع، أو بمعنى بل، وهو الأظهر، ويحتمل شك الراوي. «فَلْيَصْدُقْ حَدِيثَهَ» أي في حديثه. «إِذَا حَدَّثَ» أي متى تكلم وتحدث. «وَلْيُحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَهُ» أي مجاورة جيرانه ومعاشرة أصحابه وإخوانه؛ فإن هذه الأوصاف من أخلاق المؤمنين، وأضدادها من علامات المنافقين؛ فالمدار على الأفعال الباطنة دون الأحوال الظاهرة، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم نبههم على أن جملة همتهم يجب أن تكون على أمثال هذه الأخلاق دون الاكتفاء بظواهر الأمور المشترك فيها المؤمن والمنافق والمخالف والموافق.

ص: 345

وخلاصة معناه أن ادعاءكم محبة الله ومحبة رسوله لا يتم ولا يستتب بمسح الوضوء فقط، بل بالصدق في المقال وبأداء الأمانة وبالإحسان إلى الجار.

4 -

هناك قصة مفتراة على الصحابية أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنها شربت بول النبي صلى الله عليه وآله وسلم. رُوي عن أم أيمن أنها قالت: قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الليل إلى فخارة من جانب البيت فبال فيها، فقمت من الليل وأنا عطشى فشربت ما في الفخارة وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:«يا أم أيمن قومي إلى تلك الفخارة فأهريقي ما فيها» . قلت: «قد والله شربت ما فيها» . قالت: فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال: «أما أنك لا يفجع بطنك بعده أبدًا» .

(الحديث الذي جاءت به هذه القصة أخرجه الحاكم في (المستدرك) ولا يصح، وهذه القصة مفتراة على أم أيمن رضي الله عنها).

ثانيًا: من التبرك الممنوع: التبرك بالصالحين:

فلا يُتَبَرّك بذواتهم، ولا آثارهم، ولا مواضع عباداتهم، ولا مكان إقامتهم، ولا بقبورهم، ولا تشد الرحال إلى زيارتها، ولا يُصَلَّى عندها، ولا تُطلَب الحوائج عند قبورهم، ولا يُتَمَسَّح بها، ولا يُعْكَفُ عندها، ولا يُتَبَّرك بمواليدهم، وغير ذلك ومن فعل شيئًا من ذلك تقربًا إليهم فقد أشرك بالله شركًا أكبر، إذا اعتقد أنهم يضرون أو ينفعون، أو يعطون أو يمنعون، أما من فعل ذلك يرجو البركة من الله بالتبرك بهم فقد ابتدع بدعة نكراء، وعمل عملًا قبيحًا.

ثالثًا: من التبرك الممنوع:

التبرك بالأشجار، والأحجار، والقبور، والحيطان، والغيران كغار ثور وغار حراء، أو بالعيون أو غير ذلك، معتقدًا أنه بتمسحه بها، أو أخذ ترابها أو العكوف عندها، أنها تشفع له عند الله وأنها تعطيه الخير الكثير، وتمنحه النفع بنفسها وتدفع عنه الضر، فهذا شركٌ أكبر مخرج من ملة الإسلام، وفي حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ، ولِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ

ص: 346

يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا، ويَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، قَالَ: فَمَرَرْنَا بِالسِّدْرَةِ، فَقُلْنَا:«يَا رَسُولَ اللهِ ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ» ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهُ أَكْبَرُ، إِنَّهَا السُّنَنُ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَتْ بنو إِسْرَائِيلَ: {

اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (1) لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» (رواه أحمد والترمذي والطبراني، وصححه الألباني).

والتبرك بالأشجار، والأحجار، والقبور وغيرها معتقدًا أنها سبب لحصول البركة، ولا يعتقد أنها تقرب إلى الله، أو تنفعه وتضره من دون الله، فهذا شركٌ أصغر.

والتبرك بالجبال والمواضع، يخالف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتبرك بذلك يسبب تعظيم هذه الجبال والمواضع، ولا يجوز القياس على تقبيل الحجر الأسود أو الطواف بالبيت، فإن ذلك عبادة لله عز وجل توقيفية، ولا يمسح غير الحجر الأسود والركن اليماني من الكعبة، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستلم من الأركان إلا الركنين، اليمانيين باتفاق العلماء.

ولا يجوز التمسح ولا تقبيل مقام إبراهيم ولا الحِجْر، ولا شيء من جدران المسجد، ولا يُتَبَرّك بجبل حراء، ويسمى جبل النور، ولا تشرع زيارته، ولا الصعود إليه ولا قصده للصلاة، ولا يُتَبَرّك بجبل ثور، ولا تشرع زيارته، ولا جبل عرفات، ولا جبل أبي قبيس، ولا جبل ثبير، ولا يتبرك بالدور: كدار الأرقم ولا غيرها، ولا تشرع زيارة جبل الطور، ولا تشد الرحال إليه، ولا يتبرك بالأشجار والأحجار ونحوها.

(1) الأعراف: 138.

ص: 347