الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
52 - أقسام البركة
أقسام البركة التي جعلها الله في الأشياء:
البركة التي جعلها الله في الأشياء تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: بركة ذاتية، جعلها الله في الذوات: وهذه البركة هي في أجسام الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام- ، فيجوز أن يتبرك من يشاء من قومهم بهم، إما بالتمسّح بأجسامهم أو بعرقهم أو بشعرهم؛ لأن الله قد جعل أجسامهم مباركة، فمن تبرك بهم تعدت إليه البركة، وقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذا جسدٍ مبارك، فكان الصحابة رضي الله عنهم يتبركون بشعره صلى الله عليه وآله وسلم، وفي حديث أنس رضي الله عنه قال:«لَمَّا رَمَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم الْجَمْرَةَ وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ فَقَالَ: «احْلِقْ» ، فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ فَقَالَ:«اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ» (رواه مسلم) ، وكان إِذَا تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ (رواه البخاري). وهذه البركة الذاتية خاصة بالأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام -.
القسم الثاني: بركة معنوية، ومنها:
بركة المسلم فكل مسلم مبارك ، وهي بركة ما معه من الإسلام والتقوى، ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:«إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ» (رواه البخاري). وهذه بركة عمل، وكلما كان المسلم أكثر تمسكًا واتباعًا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أكثر بركةً ، فالتبرك بأهل العلم والتقوى هو الأخذ من علمهم والاقتداء بهم في التقوى والعمل الصالح، ولا يجوز أن يُتَمَسَّح بهم أو يُؤْخَذ ريقُهم للتبرك به لأن الصحابة الكرام رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك مع خير هذه الأمة بعد نبيها - وهم أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
ومن البركة المعنوية بركة بعض البلاد، كبيت الله الحرام، وحول المسجد الأقصى {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (الإسراء: 1). فهي مباركة بما فيها من الخير الكثير لمن أرادها لعبادة الله وطاعته، وكذلك الحجر الأسود لمن استلمه وقبَّلَه طاعةً لله فيحصل على بركة متابعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال عمر رضي الله عنه لمّا قبَّل الحجر:«إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ» (رواه البخاري ومسلم).
ومنها بركة بعض الأزمنة، كرمضان، والعشر من ذي الحجة، ففيها بركة بمعنى أن من أطاع الله فيها واجتهد في ذلك فإنه يحصل على ثواب عظيم مما لا يحصل عليه في غيرها من الأزمنة.
ومنها بركة بعض الأشجار، كالنخلة وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:«إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ» (رواه البخاري) ، فالبركة فيها لما يحصل عليه الناس منها من المنافع، من ثمرها، وعيدانها، وسعفها ونحو ذلك.
القرآن كلام الله المبارك:
القرآنُ العظيم كثيرُ الخيراتِ، كتابٌ مبارَك محكَم، فصلٌ مهيمِن، أنزله الله رحمة وشفاءً وبيانًا وهُدى، قال سبحانه:{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (الأنبياء: 50).
{وَهَذَا} أي: القرآن {ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} فوصفه بوصفين جليلين: كونه ذكرًا يُتَذَكّرُ به جميع المطالب، من معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن صفات الرسل والأولياء وأحوالهم، ومن أحكام الشرع من العبادات والمعاملات وغيرها، ومن أحكام الجزاء والجنة والنار.
وكونه مباركًا يقتضي كثرة خيراته ونمائها وزيادتها، ولا شيء أعظم بركة من هذا القرآن، فإن كل خير ونعمة، وزيادة دينية أو دنيوية، أو أخروية، فإنها بسببه،
وأثر عن العمل به، فإذا كان ذكرًا مباركًا، وجب تلقيه بالقبول والانقياد، والتسليم، وشكر الله على هذه المنحة الجليلة، والقيام بها، واستخراج بركته، بتعلم ألفاظه ومعانيه.
وأما مقابلته بضد هذه الحالة، من الإعراض عنه، والإضراب عنه صفحًا وإنكاره، وعدم الإيمان به فهذا من أعظم الكفر وأشد الجهل والظلم، ولهذا أنكر تعالى على من أنكره فقال:{أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}
وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (الأنعام 92).
أي: {وَهَذَا} القرآن الذي {أَنْزَلْنَاهُ أَنْزَلْنَاهُ} إليك {مُبَارَكٌ} أي: وَصْفُه البركة، وذلك لكثرة خيراته، وسعة مبراته. {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: موافق للكتب السابقة، وشاهد لها بالصدق.
{وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} أي: وأنزلناه أيضا لتنذر أم القرى، وهي: مكة المكرمة، ومن حولها، من ديار العرب، بل، ومن سائر البلدان. فتحذر الناس عقوبة الله، وأخذه الأمم، وتحذرهم مما يوجب ذلك. {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} لأن الخوف إذا كان في القلب عمرت أركانه، وانقاد لمراضي الله.
وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأنعام: 155). {وَهَذَا} القرآن العظيم، والذكر الحكيم. {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} أي: فيه الخير الكثير والعلم الغزير، وهو الذي تستمد منه سائر العلوم، وتستخرج منه البركات، فما من خير إلا وقد دعا إليه ورغب فيه، وذكر الحكم والمصالح التي تحث عليه، وما من شر إلا وقد نهى عنه وحذر منه، وذكر الأسباب المنفرة عن فعله وعواقبها الوخيمة {فَاتَّبِعُوهُ} فيما يأمر به وينهى، وابنوا أصول دينكم وفروعه عليه
{وَاتَّقُوا} الله تعالى أن تخالفوا له أمرا {لَعَلَّكُمْ} إن اتبعتموه {تُرْحَمُونَ} فأكبر سبب لنيل رحمة الله اتباع هذا الكتاب، علما وعملًا.
ومِن بركة القرآن:
1 -
أنَّ مَن أخذ به حصل له الفتح، فأنقذ الله بذلك أممًا كثيرةً مِن الشرك.
2 -
أنَّ الحرف الواحد بعشر حسنات قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ (الم) حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ» . (رواه الترمذي وصححه الألباني).
3 -
أنَّه يقدَّم صاحبُه على الناس في الإمامة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:«يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ» (رواه البخاري ومسلم).
4 -
أنَّه يقدَّم حافظهُ على غيره في اللحد، كما فعل صلى الله عليه وآله وسلم (رواه البخاري).
5 -
أنَّ الله تعالى يرفع صاحبه درجةً بكل آيةٍ كان يحفظها في الدنيا، قال صلى الله عليه وآله وسلم:«يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا» (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
6 -
من بركات القرآن أنه رُقْيَة وجعل الله تعالى في قراءته شفاءً للمؤمنين، سواءً مِن الأمراض الحسيَّةِ، أو المعنويةِ، قال تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي سدد خطاكم قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ:«لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ» ، فَأَتَوْهُمْ، فَقَالُوا:«يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟» .
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: «نَعَمْ، وَاللهِ إِنِّي لَأَرْقِي، وَلَكِنْ وَاللهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا» ، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأُ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ.
قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ:«اقْسِمُوا» ، فَقَالَ الَّذِي رَقَى:«لَا تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ، فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا» ، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ:«وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ» ، ثُمَّ قَالَ:«قَدْ أَصَبْتُمْ، اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا» فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم (رواه البخاري).
(فَاسْتَضَافُوهُمْ): طلبوا منهم الضيافة. (فَلُدِغَ): ضربته حية أو عقرب.
(الرَّهْطَ): ما دون العشرة من الرجال. (لَأرْقِي): من الرُّقْية وهي كل كلام استشفي به من وجع أو غيره. (جُعْلا): أجرة. (فصَالَحُوهم): اتفقوا معهم.
(قَطِيع): طائفة من الغنم. (يَتْفِل): من التفل وهو النفخ مع قليل من البصاق.
(نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ) فك من حبل كان مشدودًا به. (قلَبة) عِلّة. (وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ) ما الذي أعلمك أنها يرقى بها. (وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا) اجعلوا لي منه نصيبًا.
يقول ابن القيم عن نفسه: «مكثتُ بمكة مدة يعتريني أدواء ولا أجد طبيبًا ولا دواءً فكنت أعالج نفسي بالفاتحة، فأرى لها تأثيرًا عجيبًا، فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألمًا فكان كثيرٌ منهم يبرأ سريعًا» .
سورة مباركة:
وسورةُ البقرة سورة مبارَكة، مأمورٌ بتعلّمها، قال صلى الله عليه وآله وسلم:«اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ» (رواه مسلم).
(فَإِنَّ أَخْذَهَا) يعني المواظبة على تلاوتها والعمل بها (بَرَكَةٌ): أي زيادة ونماء (وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ) أي تأسف على ما فات من الثواب (وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ) بفتح الباء والطاء: أي السحرة: تسمية لهم باسم فعلهم لأن ما يأتون به باطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل.
أو المراد سَحَرة البيان: أي أنهم لا يستطيعونها من حيث التحدي، كما قال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 23 - 24).
وقيل البطلة: أهل البطالة الذين لم يؤهلوا لذلك ولم يوفقوا له أي لا يستطيعون قراءة ألفاظها وتدبر معانيها لبطالتهم وكسلهم.
الأنبياء عليهم السلام مباركون:
والرسُل والدعاةُ مبارَكون بأعمالهم الصّالحةِ ودعوتهم إلى الخيرِ والهدى، قال عيسَى عليه السلام:{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (مريم: 31).
ونوحٌ عليه السلام أُغدِق ببركاتٍ من الله: قال الله عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} (المؤمنون: 29). أي: وبقيت عليكم نعمة أخرى، فادعوا الله فيها، وهي أن ييسر الله لكم منزلًا مباركًا، فاستجاب الله دعاءه، قال الله: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ
عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} إلى أن قال: {قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} (هود: 48).
وألقَى الله البركةَ على إبراهيمَ وآله، قال تعالى:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} (الصافات: 112، 113)، {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} أي: أنزلنا عليهما البركة، التي هي النمو والزيادة في علمهما وعملهما وذريتهما.
وبارَك الله في إبراهيم وفي أهل بيته، قال عز وجل:{رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} (هود: 73). {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} أي: لا تزال رحمته وإحسانه وبركاته، وهي: الزيادة من خيره وإحسانه، وحلول الخير الإلهي على العبد {عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} أي: حميد الصفات، لأن صفاته صفات كمال، حميد الأفعال لأن أفعاله إحسان، وجود، وبر، وحكمة، وعدل، وقسط. {مَجِيدٌ} المجد: هو عظمة الصفات وسعتها، فله صفات الكمال، وله من كل صفة كمال أكملها وأتمها وأعمها.
قال ابن القيم رحمه الله: “ هذا البيتُ المبارَك المطهَّر أشرفُ بيوت العالم على الإطلاق، فلم يأتِ بعدَ إبراهيمَ نبيٌّ إلَاّ من أهل بيتِه، وكلُّ من دخل الجنّةَ من أولياء الله بعدَهم فإنما دخل من طريقهم وبدعوَتهم “.
حبيبنا ونبينا المبارك صلى الله عليه وآله وسلم:
وفي مقدمة الأنبياء وعلى رأسهم أفضل الأنبياء وسيد الأولين والآخرين نبينا محمد؛ فإنه سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع، وله صلى الله عليه وآله وسلم فضائل عظيمة ومزايا كريمة أنعم الله تعالى عليه بها، فزادَتْه شرفًا وفضلًا وبركة.
ومن أعظم بركاته صلى الله عليه وآله وسلم هذا الدين الذي بعث به، فمَن قَبِلَها سعد في الدنيا والآخرة، ومَن ردّها خسر الدنيا والآخرة، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وما هذا النكد وهذا الشقاء الذي تعيشه البشرية إلا لبعدها عن هذه الرسالة العظيمة.
أضف إلى ذلك صورًا من بركاته الحسية: من تكثيره الطعام، ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة.
عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِى الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَالنَّبِىُّ صلى الله عليه وآله وسلم بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ فَتَوَضَّأَ فَجَهَشَ النَّاسُ نَحْوَهُ، فَقَالَ «مَا لَكُمْ؟». قَالُوا:«لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ وَلَا نَشْرَبُ إِلَاّ مَا بَيْنَ يَدَيْكَ» ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِى الرَّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَثُورُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ، فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا.
قُلْتُ: «كَمْ كُنْتُمْ؟» .
قَالَ: «لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً» (رواه البخاري ومسلم).
(الرَّكْوة) إناءٌ صغير من جِلْدٍ يُشْرَب فيه الماءُ والجمع رَكَوات بالتحريك ورِكاءٌ.
(جَهَشَ النَّاسُ نَحْوَهُ) أَيْ أَسْرَعُوا لِأَخْذِ الْمَاء.
وعَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم خَمَصًا فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي فَقُلْتُ لَهَا: «هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؛ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم خَمَصًا شَدِيدًا» ، فَأَخْرَجَتْ لِي جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ.
فَذَبَحْتُهَا وَطَحَنَتْ، فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي فَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فَقَالَتْ:«لَا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَمَنْ مَعَهُ» . فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا قَدْ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وَطَحَنَتْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا؛ فَتَعَالَ أَنْتَ فِي نَفَرٍ مَعَكَ» ، فَصَاحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَقَالَ:«يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ لَكُمْ سُورًا فَحَيَّ هَلًا بِكُمْ» .
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ وَلَا تَخْبِزُنَّ عَجِينَتَكُمْ حَتَّى أَجِيءَ» ، فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقْدَمُ النَّاسَ حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي، فَقَالَتْ:«بِكَ وَبِكَ» . فَقُلْتُ: «قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ لِي» ، فَأَخْرَجْتُ لَهُ عَجِينَتَنَا فَبَصَقَ فِيهَا وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ فِيهَا وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ:«ادْعِي خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلَا تُنْزِلُوهَا» ، وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللهِ لَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ» (رواه البخاري ومسلم).
(خَمَصًا): أَيْ ضَامِر الْبَطْن مِنْ الْجُوع. (فَانْكَفَأْت إِلَى اِمْرَأَتِي): أَيْ اِنْقَلَبْت وَرَجَعْت. (فَأَخْرَجَتْ لِي جِرَابًا) وِعَاء مِنْ جِلْد. (وَلَنَا بُهَيْمَة دَاجِن) هِيَ بِضَمِّ الْبَاء تَصْغِير (بَهِيمَة) وَهِيَ الصَّغِيرَة مِنْ أَوْلَاد الضَّأْن، والدَّاجِن: مَا أَلِف الْبُيُوت.
(فَجِئْته فَسَارَرْته فَقُلْت: يَا رَسُول اللهِ): فِيهِ: جَوَاز الْمُسَارَرَة بِالْحَاجَةِ بِحَضْرَةِ الْجَمَاعَة، وَإِنَّمَا نَهَى أَنْ يَتَنَاجَى اِثْنَانِ دُون الثَّالِث. (السُّور): هُوَ الطَّعَام الَّذِي يُدْعَى إِلَيْهِ، وَقِيلَ: الطَّعَام مُطْلَقًا. (فَحَيَّ هَلًا) بِتَنْوِينِ (هَلًا) وَقِيلَ: بِلَا تَنْوِين عَلَى وَزْن عَلَا وَيُقَال: (حَيّ هَلْ) فَمَعْنَاهُ: عَلَيْك بِكَذَا أَوْ اُدْعُ بِكَذَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَعْجِلْ بِهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: هَاتِ وَعَجِّلْ بِهِ. (حَتَّى جِئْت اِمْرَأَتِي فَقَالَتْ: بِك وَبِك) أَيْ ذَمَّتْهُ وَدَعَتْ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: بِك تَلْحَق الْفَضِيحَة، وَبِك يَتَعَلَّق الذَّمّ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: جَرَى هَذَا بِرَأْيِك وَسُوء نَظَرَك وَتَسَبُّبك. (قَدْ فَعَلْت الَّذِي قُلْت لِي) مَعْنَاهُ: أَنَّى أَخْبَرْت النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم بِمَا عِنْدنَا فَهُوَ أَعْلَم بِالْمَصْلَحَةِ.
(وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتكُمْ) أَيْ اِغْرِفِي، وَالْقَدَح: الْمِغْرَفَة. (تَرْكُوه وَانْحَرَفُوا) أَيْ شَبِعُوا وَانْصَرَفُوا. (تَغِطّ) أَيْ تَغْلِي، وَيُسْمَع غَلَيَانهَا.
وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيث عَلَمَيْنِ مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة: أَحَدهمَا: تَكْثِير الطَّعَام الْقَلِيل، وَالثَّانِي: عِلْمه صلى الله عليه وآله وسلم بِأَنَّ هَذَا الطَّعَام الْقَلِيل الَّذِي يَكْفِي فِي الْعَادَة خَمْسَة أَنْفُس أَوْ نَحْوهمْ سَيَكْثُرُ فَيَكْفِي أَلْفًا وَزِيَادَة، فَدَعَا لَهُ أَلْفًا قَبْل أَنْ يَصِل إِلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ صَاع شَعِير وَبُهَيْمَة.