المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌82 - السبيل إلى سلامة الصدر - دليل الواعظ إلى أدلة المواعظ - جـ ٢

[شحاتة صقر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌أحاديث ضعيفةوموضوعة ولا أصل لها

- ‌خطورة انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس

- ‌أسباب انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس:

- ‌من الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة:

- ‌1 - عدم تقبل الناس للأحاديث الصحيحة بعد سماعهم للأحاديث الضعيفة:

- ‌2 - إيقاع المسلم في الشرك الصريح:

- ‌3 - التشنيع على أهل الحديث:

- ‌4 - تعليم الناس ما لم يثبت:

- ‌5 - تأصيل أصول مخالفة للشريعة:

- ‌6 - إفساد الأخلاق:

- ‌7 - تغيير سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌8 - إلغاء قواعد في أصول الفقه:

- ‌9 - التفرقة بين المسلمين:

- ‌10 - تشويه سمعة الصحابة رضي الله عنهم

- ‌11 - إعانة المستهترين على الاجتراء على الله بالمعاصي:

- ‌12 - الابتداع في العبادة، ومخالفة السنة:

- ‌13 - مساواة المسلمين بأهل الذمة:

- ‌14 - الصد عن سبيل الله:

- ‌15 - إلقاء الشك والريبة بين المسلمين؛ ونشر الخرافة بينهم:

- ‌16 - التضييق على الناس في أمورٍ من المباحات:

- ‌17 - أحيانًا تؤدي الأحاديث الضعيفة والموضوعة إلى احتقار النساء:

- ‌نماذج منأثر الحديثالضعيف والموضوعفي تخريب العقائد

- ‌أولًا: في أسماء الله وصفاته وتوحيده:

- ‌ثانيا: في حقيقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌مَن أرادُوا شَيْنَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌ثالثا: في العصبيات والأهواء:

- ‌رابعا: الأحاديث الموضوعة والخرافة:

- ‌خامسًا: الأحاديث الموضوعة في القرآن:

- ‌أحاديثضعيفة وموضوعة ولا أصل لها

- ‌تنبيهاتقبل قراءة الأحاديث

- ‌التنبيه الأول:

- ‌التنبيه الثاني:

- ‌التنبيه الثالث:

- ‌التنبيه الرابع:

- ‌التنبيه الخامس:

- ‌حرف الألف

- ‌حرف الباء

- ‌حرف التاء

- ‌حرف الثاء

- ‌حرف الجيم

- ‌حرف الحاء

- ‌حرف الخاء

- ‌حرف الدال

- ‌حرف الذال

- ‌حرف الراء

- ‌حرف الزاي

- ‌حرف السين

- ‌حرف الشين

- ‌حرف الصاد

- ‌حرف الضاد

- ‌حرف الطاء

- ‌حرف العَيْن

- ‌موضوعات عامة

- ‌52 - أقسام البركة

- ‌53 - من صور البركة

- ‌54 - البركة في المجتمع المسلم

- ‌55 - عندما ترد الأرض بركتها

- ‌56 - كيف نحصل على البركة

- ‌57 - من وسائل الحصول على البركة

- ‌58 - التبرك المشروع والتبرك الممنوع

- ‌59 - قصة أصحاب الأخدود

- ‌60 - استضعاف وثبات

- ‌61 - الثبات حتى الممات

- ‌63 - مفهوم الإصلاح في الإسلام

- ‌64 - خصائص الشريعة الإسلامية

- ‌65 - نظام الحكم في الإسلام

- ‌66 - دين اسمه العلمانية

- ‌67 - شريعة الله لا شريعةالبشر حتى لا تغرق السفينة

- ‌68 - الشريعة خيرٌ كلها

- ‌71 - الاختلاط بين الرجال والنساء

- ‌72 - الفرق بين الخلوة والاختلاط

- ‌74 - من الثمار المُرّة للاختلاط

- ‌75 - واجِبُنا نحو آل بيت النبي

- ‌76 - معاوية بن أبي سفيان

- ‌77 - من فضائل معاوية

- ‌78 - من صفات معاوية

- ‌82 - السبيل إلى سلامة الصدر

- ‌83 - السهر

- ‌84 - أضرار السهر

- ‌85 - أنواع الهموم

- ‌86 - علاج الهموم

- ‌88 - مَن ترك لله عوضه الله

- ‌90 - المسجد الأقصىفي قلب كل مسلم

- ‌91 - لا يضر السحابَ نبحُ الكلاب

- ‌92 - الله سبحانه وتعالىيدافع عن خليله صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌93 - المولد النبوي هل نحتفل

- ‌94 - لماذا لانحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌95 - كشف شبهاتمن قال بجواز الاحتفال بالمولد

- ‌96 - كشفشبهات حول الاحتفال بالمولد

- ‌97 - رأس السنة هل نحتفل

- ‌98 - شم النسيم هل نحتفل

- ‌99 - حكمالاحتفال بشم النسيم

- ‌100 - عيد الأم هل نحتفل

الفصل: ‌82 - السبيل إلى سلامة الصدر

‌82 - السبيل إلى سلامة الصدر

مما يعين على سلامة الصدر:

أولًا: الإخلاص:

عن أنس بن مالك سدد خطاكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “ ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ صَدْرُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِله، وَمُنَاصَحَةُ أُولِي الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَاءِهِمْ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الأرنؤوط).

(ثَلَاثٌ لَا يَغِلّ) - بتشديد اللام - من الغِلّ: وهو الحقد والشحناء، أي: لا يدخله حقد يُزيله عن الحق، ورُوِيَ: “ يَغِلُ “ بالتخفيف، من الوُغُول: وهو الدخول في الشر، ويُروَى بضم الياء (يُغِلّ) من الإغلال: وهو الخيانة، والمعنى: أن هذه الخلال الثلاث تُستَصلَح بها القلوبُ، فمن تمسَّك بها، طَهُرَ قلبُه من الخيانة والدََّخَل والشر.

(فإنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَاءِهِمْ)(مَنْ وَرَاءَهِمْ) بفتح الميم في (مَن) على أنه اسم موصول بمعنى (الذي)، ونصب (وَرَاءَهِمْ) أي: تنال غائبهم.

أو بكسر الميم في (مِن) وجر (وَرَاءِهِمْ) على أن (مِن) حرف جرّ، أي: تجمعهم بحيث لا يَشِذُ منهم شيء.

ثانيًا: رضا العبد بما قسمه الله سبحانه وتعالى له:

فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ» (رواه النسائي، وصححه الألباني). (وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ) أي الرضا بما قدرته لي في الأزل لأتلقاه بوجه منبسط، وخاطر منشرح، وأعلم أن كل قضاء قضيته لي فلي فيه خير.

إن الرضى يفتح للعبد باب السلامة فيجعل قلبه سليمًا نقيًّا من الغش والغل، ولا ينجو من عذاب الله إلا مَن أتَى الله بقلب سليم، وتستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضى وكلما كان العبد أشد رِضًى كان قلبه أسلم؛ فالخبث والغش قرين

ص: 595

السخط، وسلامة القلب وبره ونصحه قرين الرضى، وكذلك الحسد هو من ثمرات السخط وسلامة القلب منه من ثمرات الرضى.

ثالثًا: قراءة القرآن وتدبره:

فهو الدواء لكل داء، والمحروم مَن لم يتداوَ بكتاب الله، قال تعالى:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (فصلت: 44)، وقال:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} (الإسراء: 82). وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} (يونس: 57)، فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة.

وما كُلّ أحدٍ يُؤَهَّل ولا يُوَفَّق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به ووَضَعَه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام واعتقاد جازم واستيفاء شروطه لم يقاوِمْه الداء أبدًا، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء سبحانه وتعالى الذي لو نزل على الجبال لَصَدَّعها أو على الأرض لَقَطّعها؛ فما مِن مرض مِن أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحِمْية منه لمن رزقه فَهْمًا في كتابه.

فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية لكن لا يحسن التداوي به إلا الموفقون، ولله سبحانه وتعالى حكمة بالغة في إخفاء سِرّ التداوي به عن نفوس أكثر العالمين كما له حكمة بالغة في إخفاء كنوز الأرض عنهم.

فمن تدبر كتاب الله تعالى علم ما أعده الله تعالى لمن سلمت صدورهم لإخوانهم وآثاروهم على كثير من دنياهم.

رابعًا: تذكر الحساب والعقاب:

قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} (ق: 18) فمن أيقن أنه محاسَبٌ ومسئول عن كل شيء هانت الدنيا عليه، وزهد بما فيها، وفعل ما ينفعه عند

ص: 596

الله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} (الكهف: 49).

فينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلامًا تظهر المصلحة فيه ومتى استوى الكلام وتَرْكُه في المصلحة فالسُنّة الإمساك عنه لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه بل هذا كثير أو غالب في العادة والسلامة لا يَعْدِلها شيء.

قال صلى الله عليه وآله وسلم: “ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» (رواه البخاري ومسلم)، فهذا الحديث نص صريح في أنه لا ينبغي للإنسان أن يتكلم إلا إذا كان الكلام خيرًا وهو الذي ظهرت مصلحته للمتكلم.

ص: 597

خامسًا: الدعاء:

فتدعو الله بصِدْقٍ وإلحاحٍ أن يَرزقَك قلبًا سليمًا محبًا للمسلمين؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (الحشر: 10).

وعَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ عن شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ سدد خطاكم قال: «احْفَظُوا مِنِّي مَا أَقُولُ لَكُمْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «إِذَا كَنَزَ النَّاسُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَاكْنِزُوا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ حُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وحسنه الأرنؤوط، ورواه الحاكم في المستدرك، وقال: «صحيح على شرط مسلم»).

(اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ)، أَيْ: فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَمْرِ الدِّينِ، (وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ): وَهِيَ كَالْعَزْمِ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إِمْضَاءِ الْأَمْرِ، وَقَدَّمَ الثَّبَاتَ عَلَى الْعَزِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ فِعْلُ الْقَلْبِ مُقَدَّمًا عَلَى الْفِعْلِ، وَالثَّبَاتُ عَلَيْهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ؛ لِأَنَّ الْغَايَاتِ مُقَدَّمَةٌ فِي الرُّتْبَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُؤَخَّرَةً فِي الْوُجُودِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)} (الرحمن: 1 - 3).

وَالرُّشْدُ: بِمَعْنَى الْهِدَايَةِ، (وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ) الْمُرَادُ لُزُومُهَا وَدَوَامُهَا، (وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ)، أَيِ: التَّوْفِيقَ عَلَى شُكْرِهَا بِصَرْفِ النِّعْمَةِ فِي طَاعَةِ الْمُنْعِمِ، وَهُوَ الْقِيَامُ بِالْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ الزَّوَاجِرِ، (وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ): بِأَدَاءِ شَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَالْقِيَامِ بِإِخْلَاصِهَا، (وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا) أَيْ: مِنَ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ وَالْمَيْلِ إِلَى الشَّهَوَاتِ؛ فَإِنَّهَا مَرَضُ الْقَلْبِ، وَصِحَّتُهُ الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاقُ الْفَاضِلَةُ. أَوِ الْمُرَادُ سَلِيمًا مِنَ الْغِلِّ وَالْغِشِّ وَالْحِقْدِ، وَسَائِرِ الصِّفَاتِ الرَّدِيئَةِ، وَالْأَحْوَالِ الدَّنِيئَةِ.

ص: 598

(وَلِسَانًا صَادِقًا): نِسْبَةُ الصِّدْقِ إِلَى اللِّسَانِ مَجَازٌ بِأَنَّهُ لَا يَبْرُزُ عَنْهُ إِلَّا الْحَقُّ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ.

سادسًا: الصدقة:

فهي تطهر القلب، وتُزكي النفس، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (التوبة: 103). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ» (رواه البيهقي، وحسنه الألباني). وإن أحق المرضى بالمداواة مرضى القلوب، وأحق القلوب بذلك قلبك الذي بين جنبيك.

سابعًا: إحسان الظن بالآخرين وحمل الكلمات والمواقف على أحسن المحامل:

فعليك بحسن الظن والتماس الأعذار، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12)، وقال النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: “ إِيَّاكُمْ وَالظّنَّ؛ فَإِنّ الظّنَّ أكْذَبُ الْحَدِيثِ “. (رواه البخاري ومسلم).

ورُوِيَ عن عمر بن سدد خطاكم أنه قال: «لا تظن بكلمة صدرت من أخيك شرًّا وأنت تجد لها في الخير مَحْمَلًا» . ورُوِيَ عن محمد بن سيرين رحمه الله: “ إذا بلغَكَ عن أخيك شيءٌ، فالتَمِسْ له عُذرًا، فإن لم تجد له فقل: لعل له عذرًا “. ورُوِيَ عن أبي قلابة أنه قال: «التمس لأخيك العذر بجهدك، فإن لم تجد له عذرًا، فقُلْ لعلَّ لأخي عذرًا لا أعلمه» .

ورُوِيَ عن جعفر بن محمد أنه قال: «إذا بلغك عن أخيك الشيءَ تنكره؛ فالتمس له عذرًا واحدًا إلى سبعينَ عذرًا، فإن أصَبْتَه وإلا قُلْ لعل له عذرًا لا أعْرِفُه» . ورُوِيَ عن حمدون القصار أنه قال: «إذا زل أخٌ من إخوانكم فاطلبوا له سبعين عذرًا، فإن لم تقْبلْه قلوبُكم فاعلموا أن المعيب أنفسَكم؛ حيث ظهر لمسلم سبعين عذرًا فلم تقبله» .

تَأَنَّ ولا تعجَلْ بلَوْمِكَ صاحبًا

لعَلَّ لهُ عذرًا وأنتَ تلومُ

ص: 599

أحد العلماء نزع عمامته يومًا، وتوضأ في نهر دجلة فجاء لص فأخذها وترك عمامةً رديئةً بدَلها، فطلع الشيخ فلبسها، وما شعر حتى سألوه، وهو يدرس في درسه! فقال:«لعل الذي أخذها محتاج» !

ثامنًا: التغافل وإقالة العثرات والتغاضي عن الزلات:

قال محمد بن عبد الله الخُزاعيّ: سمعتُ عُثمان بن زائدة يقول: «العافية عشرة أجزاء: تسعة منها في التغافل» . قال: فحدثت به أحمد بن حنبل فقال: «العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل» .

وَمَنْ لَمْ يُغْمِضْ عَيْنَهُ عَنْ صديقِهِ

وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ يَمُتْ وَهْوَ عَاتِبُ

صَدِيقِه

وَمَنْ يَتَتبَعْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ

يَجِدْهَا وَلا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ

وقيل:

أَقِلْ ذَا الْوُدِّ عَثَرْتَهُ وَقِفْهُ

عَلَى سُنَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمَةْ

وَلَا تُسْرِعْ بِمَعْتَبَةٍ إلَيْهِ

فَقَدْ يَهْفُو وَنِيَّتُهُ سَلِيمَةْ

تاسعًا: إفشاء السلام:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: “ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا. أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَينَكُمْ “. (رواه مسلم).

وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سدد خطاكم: «ثلاث يصفين لك وُدّ أخيك: تبدؤه بالسلام إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه» .

ص: 600

إن من فوائد إفشاء السلام حصول الألفة؛ فتتألف الكلمة وتَعُمّ المصلحةُ وتقع المعاونة على إقامة شرائع الدين وإخزاء الكافرين، وهي كلمةٌ إذا سُمِعَت أخلصت القلب الواعي لها غير الحقود إلى الإقبال على قائلها.

عاشرًا: الابتسام والبشاشة:

للابتسامة أثر حسن على الآخرين صغارًا وكبارًا وهي مما يزرع الألفة والمحبة بين الناس وقد حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها وأمر بها مع فِعْلِه صلى الله عليه وآله وسلم لها فعن أبي ذَرٍّ سدد خطاكم قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: “ تَبَسُّمُكَ في وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ “ (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وقال ابن عيينة رحمه الله: «البشاشة مصيدةُ المودة، والبر شيء هَيِّن: وجْهٌ طليقٌ وكلامٌ ليِّنٌ» .

تَجَافى النومُ بَعدَك عن جُفوني

ولكن ليس يَجفوها الدموعُ

يذَكِّرُني تَبَسُّمَك الأقاحي

ويَحكِي لي تَوَرُّدَك الربيعُ

الْأُقْحُوَانُ: مِنْ نَبَاتِ الرَّبِيعِ لَهُ زهر أَبْيَضُ، والجمع أقاحي.

الحادي عشر: ترك السؤال عما لا يعنيك وتتبع أحوال الناس وعيوبهم:

قال صلى الله عليه وآله وسلم: «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الألباني).

وعن زيد بن أسلم قال: دُخل على أبي دجانة سدد خطاكم وهو مريض وكان وجهه يتهلل فقيل له: «ما لِوَجْهِك يتهلل؟» ، فقال:«ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين: أما إحداهما: فكنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وأما الأخرى: فكان قلبي للمسلمين سليمًا» .

ص: 601

والواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه؛ فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه ولم يُتْعِب قلبه، فكلما اطلع على عيبٍ لنفسه هان عليه ما يرى مثلَه مِن أخيه، ومن اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمى قلبه وتعب بدنه وتعذر عليه ترك عيوب نفسه، وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم، وأعجز منه من عابَهم بما فيه، مَن عابَ الناسَ عابُوه.

إذَا أنتَ عِبْتَ الناسَ عَابُوا وأكثَرُوا

عليك وأبدَوْا منكَ ما كان يُستَرُ

وقدْ قالَ في بعضِ الأقاويلِ قائلٌ

له منطقٌ فيهِ كلامٌ محبَّرُ

إذا ما ذكرتَ الناسَ فاتركْ عيوبَهمُ

فلا عيبَ إلا دُونَ ما مِنكَ يُذكرُ

فإنْ عبتَ قومًا بالذي ليسَ فيهمُ

فذلك عندَ اللهِ والناسِ أكبرُ

وإنْ عِبْتَ قومًا بالذِي فيكَ مِثْلُهُ

فكيفَ يعيبُ العُورَ مَن هُو أعْورُ

وكيفَ يعيبُ الناسَ مَن عيبُ نفسِهِ

أشَدُّ إذا عَدَّ العيوبَ وأنكرُ

متَى تلتمِسْ للناسِ عيبًا تجِدْ لهُم

عيُوبًا، لكِنِ الذي فيكَ أكثرُ

فسالمْهُمْ بالكَفِّ عنهم فإنهم

بعيبِكَ مِن عَيْنَيْكَ أهْدَى وأبصرُ

الثاني عشر: محبة الخير للمسلمين:

عَنْ أَنَسٍ سدد خطاكم عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: “ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» (رواه البخاري ومسلم). إن القلب لا يكون سليمًا إذا كان حقودًا حسودًا معجبًا متكبرًا وقد شرط النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

ص: 602

الثالث عشر: تَرْكُ الاستماع للغيبة والنميمة والإنكار على مرتكبهما حتى يبقى قلب الإنسان سليمًا:

دخل رجل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله فذكر له عن رجلٍ شيئًا فقال له عمر: «إن شئت نظرنا في أمرك فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6)، وإن كنت صادقا فأنت من أهل هذه الآية {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)} (القلم: 11)، وإن شئت عفونا عنك» ، فقال:«العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا» .

وعن الفضل بن أبي عياش قال: كنت جالسًا مع وهب بن مُنَبِّه فأتاه رجل فقال: «إني مررْتُ بفلانٍ وهو يشتمُكَ» ، فغضب فقال:«ما وجد الشيطانُ رسولًا غيرك؟» ، فما بَرِحْتُ من عنده حتى جاءه ذلك الرجل الشاتم فسلم على وهب، فرَدَّ عليه، ومد يده، وصافحه، وأجلسه إلى جنبه.

الرابع عشر: إصلاح القلب ومداومة علاجه:

عن النُّعمان بن بَشيرٍ سدد خطاكم قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “ ألَا وإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلّهُ، ألَا وَهِيَ الْقَلْبُ “ (رواه البخاري ومسلم).

خُصِّصَ القلب بالذِكْر؛ لأنه محلٌ لأصول الأعمال. ولذا ذكره الله سبحانه وتعالى في معرض الذم، قال تعالى:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (البقرة: (283))، وذكره في معرض المدح، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} (الأنفال: (2)).

(إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلّهُ)، يصلح بصلاحها ويفسد بفسادها، فإذا فعل الإنسان بجوارحه الطاعات وعمل الخيرات دل

ص: 603

ذلك على صلاح قلبه ، وإذا فعل المعاصي وارتكب المنكرات وتجنب الطاعات دل ذلك على فساد قلبه، ومما قيل في إصلاح القلب.

دواءُ قلبِكَ خمْسٌ عندَ قسوتِهِ

فدُمْ عليها تَفُزْ بالخَيْرِ والظَفَر

خلاءُ بطنٍ وقرآنٌ تَدَبُّرُه كذَا

تضَرُّعُ باكٍ ساعةَ السحر

كذا قيامِك جنحَ الليلِ أوسطَهُ

وأنْ تُجالسَ أهلَ الخيرِ والخبَر

الخامس عشر: الإيمان بالقدر:

فإن العبد إذا أيقن أن الأرزاق مقسومة مكتوبة رضي بحاله ولم يجد في قلبه حسدا لأحد من الناس على خير أعطاه الله إياه؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ» (رواه مسلم).

(انْظُرُوا إِلَى من هُوَ أَسْفَل مِنْكُم) فِي أُمُور الدُّنْيَا، (وَلَا تنظروا إِلَى من هُوَ فَوْقكُم) فِيهَا (فَهُوَ أَجْدَر) أَي فالنظر إِلَى من هُوَ أَسْفَل لَا إِلَى من هُوَ فَوق حقيق (أَن لَا تَزْدَرُوا) أَي بِأَن لَا تحتقروا (نعْمَة الله عَلَيْكُم) فَإِن الْمَرْء إِذا نظر إِلَى من فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا استصغر مَا عِنْده من نعم الله فَكَانَ سَببا لمقته، وَإِذا نظر للدون شكر النِّعْمَة وتواضع وحمد؛ فَيَنْبَغِي للْعَبد أَن لَا ينظر إِلَى تجمل أهل الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يُحَرك دَاعِيَة الرَّغْبَة فِيهَا ومصداقه قوله تعالى:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} (طه: (131)).

أي: لا تمد عينيك مُعجَبًا، ولا تكرر النظر مستحسنًا إلى أحوال الدنيا والممتعين بها، من المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء المجملة، فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجابًا بأبصار المعرضين، ويتمتع بها - بقطع النظر عن الآخرة - القومُ الظالمون، ثم تذهب

ص: 604

سريعًا، وتمضي جميعًا، وتقتل محبيها وعشاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة، ويعلمون ما هم عليه إذا قدموا في القيامة، وإنما جعلها الله فتنة واختبارًا، ليعلم مَن يقفُ عندها ويغْتَرُّ بها، ومن هو أحسن عملًا.

{وَرِزْقُ رَبِّكَ} العاجل من العلم والإيمان وحقائق الأعمال الصالحة، والآجل من النعيم المقيم والعيش السليم في جوار الرب الرحيم {خَيْرٌ} مما متعنا به أزواجًا في ذاته وصفاته {وَأَبْقَى} لكَوْنِه لا ينقطع، أكُلُها دائم وظلها، كما قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)(الأعلى: (16) - (17)).

وفي هذه الآية إشارة إلى أن العبد إذا رأى من نفسه طموحًا إلى زينة الدنيا وإقبالًا عليها أن يذكرها ما أمامها من رزق ربه وأن يوازن بين هذا وهذا.

وقيل لحاتم الأصم: «عَلَامَ بنَيْتَ أمْرَك؟» ، فقال:«على التوكل» . ثم قال: «بنَيْتُ أمري على أربع خصال: علمتُ أن رزقي لا يأكلُه غيري؛ فاطمأنَّتْ نفسي، وعلمتُ أنّ عملي لا يعملُه غيري؛ فلم أشتغل لغيره، وعلمتُ أنّ الموت يأتيني بغتةً؛ فأنا أبادِرُه، وعلِمْتُ أني لا أخلو من عين الله عز وجل حيث ما كنت؛ فأنا مُستحْيِي منه» .

السادس عشر: أن يضع المرء نفسه موضع خصمه:

فإن ذلك يدعوه إلى حسن الظن، قال ابن حزم رحمه الله:«من أراد الإنصاف فلْيَتَوَهَّمْ نفْسَهُ مكانَ خصمِه فإنه يلوح له وجهُ التعسف» .

وقال إبراهيم بن جنيد رحمه الله: «اتخذ مرآتين، وانظر في إحداهما عيب نفسك، وفي الأخرى محاسن الناس» .

السابع عشر: صحبة الجليس الصالح والابتعاد عن الجليس السوء:

فعن أَبِي مُوسَى سدد خطاكم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: “ إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ. فَحَامِلُ الْمِسْكِ، إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ،

ص: 605

وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً. وَنَافِخُ الْكِيرِ، إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً “ (رواه البخاري ومسلم).

فالجليس الصالح يعين صاحبه على الصفح والعفو عمن أساء إليه والصبر على ما يصيبه من أذى من الآخرين وبهذا يسلم صدره من الغِلّ وغيرِه.

وصحبةُ الأشرار تُورِثُ سوء الظن بالأخيار، ومَن صاحَبَ الأشرار لم يسلم من الدخول في جملتهم، فالواجب على العاقل أن يجتنب أهل الرّيَب لئلا يكون مريبًا، فكما أن صحبة الأخيار تورث الخير كذلك صحبة الأشرار تورث الشر.

الثامن عشر: استحضار حال أهل الجنة:

فقد أخبر الله تعالى عن حالهم فقال: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} (الأعراف: 43)، {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (الحجر: 47). وهذا من كرمه سبحانه وتعالى وإحسانه، على أهل الجنة، أن الغِلَّ الذي كان موجودًا في قلوبهم، والتنافس الذي كان بينهم، أنّ الله يقلعه ويزيله، حتى يكونوا إخوانًا متحابين، وأخلاء متصافين.

ويخلق الله لهم من الكرامة، ما به يحصل لكل واحد منهم الغبطة والسرور، ويرى أنه لا فوق ما هو فيه من النعيم نعيم، فبهذا يأمنون من التحاسد والتباغض، لأنه فقدت أسبابه.

التاسع عشر: معرفة أن مُخَالِط الناس لن يسلم من أذاهم:

عن ابن عمر سدد خطاكمما عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنّه قال: “ المُؤْمِنُ الذي يُخالِطُ النّاسَ وَيَصْبِرْ عَلى أَذاهم أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الّذِي لا يُخالِطَهُمْ ولا يَصْبِرْ على أَذاهم “ (رواه الإمام أحمد في المسند، والترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني).

قال أبو مسلم الخولاني رحمه الله: «كان الناس ورقًا لا شوك فيه، فإنهم اليوم شوك لا ورق فيه، إن سابَبْتَهم سابُّوك، وإن ناقدتَهم ناقدوك، وإن تركْتَهم لم يتركوك، وإن

ص: 606

نفرتَ منهم يدركوك». قيل له: «فما أصنع؟» ، قال:«هَبْ عِرْضَك ليوم فقرك، وخُذْ شيئًا من لا شيء» .

ومن أعظم أنواع الصبرِ الصبرُ على مخالطة الناس وتحَمُّلُ أذاهم، فكن فيما بينهم سميعًا لحَقّهم، أصمَّ عن باطلهم، نطوقًا بمحاسنهم، صموتًا عن مساوئهم.

العشرون: قبول اعتذار المخطئين:

قال أمير المؤمنين عمر سدد خطاكم: «أعقل الناس أعذَرُهُم لهم» . وقال الأحنف: «إياكم ورأيَ الأوغاد» . قالوا: «وما رأيُ الأوغاد؟» ، قال:«الذين يَرَوْنَ الصفح والعفو عارًا» .

قِيلَ لي قد أساءَ إليكَ فلانٌ

ومقامُ الفتى علَى الذُلِّ عارُ

قلت قدْ جاءَنا فأحدَثَ عُذْرًا

ودِيَةُ الذنبِ الاعتذارُ

وقيل:

اقبل معاذير مَن يأتيكَ معتذرًا

إنْ بَرَّ عندكَ فيما قالَ أو فَجَرَا

فقد أطاعك مَن يُرضِيكَ ظاهرُه

وقد أجَلَّك مَن يعصيكَ مُسْتَتِرا

الحادي والعشرون: أقْلِلْ من العتاب:

ولَسْتُ معاتبًا خِلًّا لأني

رأيتُ العتبَ يُغرِي بالعقوق

وَلَوْ أَنِّي أُوَقِّفُ لِي صَدِيقًا

عَلَى ذَنْبٍ بَقِيتُ بِلَا صَدِيق

ص: 607

فكثير منا يعتب على أخيه في أمر هو يأتيه ومن نفسه يرتضيه، وأبغض منه من يعتب على من يحسن إليه، فإن عاتبْتَ فليكُنْ عتابُك بحق ورفق ولطف ولا تبالغ فيه فتسيء أكثر من إساءة المعاتَب.

تَرَفَّقْ أيُّها المولَى عليهِمْ

فإنَّ الرِّفْقَ بالجانِي عِتابُ

وقد قيل: «إن أفضل العتاب ما غَرس العفوَ وأثمر المحبة، وعَتْبٌ يوجب العفو والصفاء أفضلُ من تركٍ يُعْقِبُ الجفاء» .

رأيتُ أساليبَ للعتابِ كثيرةً

وألطَفُها ما أكّدَ الحُبَّ في القلب

إذا ما خلَوْنا لم أجِدْ ما أقولُه

يَلِذُّ سوَى الشكوَى إليهِ مع العَتْب

وعلى المعاتَب أن يصبر على من يعاتبه ويحسن إليه فلعله بذلك يريح نفسه بتلك المعاتبة فتصفو نفسُه بعدها.

قُلْ لأحبابِنا الجناةِ علينَا

دَرِّجُونا على احتمالِ الملال

أحْسِنُوا في عتابِكم أو أسِيئُوا

لا عَدِمْنَاكم علَى كلِّ حال

ومن أراد العتاب فليحسن اختيار الوقت والمكان المناسبين له؛ فلا يعاتب بحضرة أناس آخرين، كما لا يعاتب في حال فرح أو حزن أو انشغال؛ فهذا مما يزيد الأمر سوءًا وقد أحسن القائل:

ولو كان هذا موضعُ العَتْبِ لاشْتَفَى

فُؤادِي ولكنْ للعتابِ مواضعُ

ص: 608

وقيل:

حُجَجِي عليكَ إذا خلوتُ كثيرةٌ

وإذا حضرتَ فإنني مخصومُ

لا أستطيعُ أقولُ أنتَ ظلمْتَنِي

واللهُ يعلمُ أنني مظلومُ

وقال حاتم الأصم رحمه الله: «إذا رأيتَ من أخيك عيبًا فإن كتمْتَه عليه فقد خُنْتَه، وإن قُلْتَه لغيرِه فقد اغْتَبْتَه، وإنْ واجَهْتَه به فقد أوْحَشْتَه» ؛ قيل له: «كيف أصنع؟» قال: «تُكَنِّي عنه، وتعَرِّض به وتجعله في جملة الحديث» .

الثاني والعشرون: استحضار الأضرار المترتبة على فساد ذات البين في الدنيا والآخرة:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: “ تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الإِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ. فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا. إِلَاّ رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ. فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هاذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا. أَنْظِرُوا هاذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا. أَنْظِرُوا هاذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا “ (رواه مسلم).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ؛ فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ» (رواه أبو داود، وصححه الألباني). (فَمَاتَ): أَيْ عَلَى تِلْكَ الْحَالَة مِنْ غَيْر تَوْبَة. (دَخَلَ النَّار): أَيْ اِسْتَوْجَبَ دُخُول النَّار.

وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ؛ يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» (رواه البخاري ومسلم، ولفظه:«لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» .

(أَخَاهُ) أَيْ الْمُسْلِمَ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أُخُوَّةِ الْقَرَابَةِ وَالصَّحَابَةِ.

ص: 609

(فَوْقَ ثَلَاثٍ) الْمُرَادُ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا. قَالَ الْعُلَمَاءُ: «فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ الْهَجْرِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ لَيَالٍ وَإِبَاحَتُهَا فِي الثَّلَاثِ الْأُوَلُ بِنَصِّ الْحَدِيثِ، قَالُوا: «وَإِنَّمَا عَفَا عَنْهَا فِي الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَجْبُولٌ مِنْ الْغَضَبِ وَسُوءِ الْخُلُقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَعَفَا عَنْ الْهَجْرِ الثَّلَاثَ لِيَذْهَبَ ذَلِكَ الْعَارِضُ» .

(يَلْتَقِيَانِ) أَيْ يَتَلَاقَيَانِ. (فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا) مَعْنَى (يَصُدُّ) يُعْرِضُ أَيْ يُوَلِّيهِ عُرْضَهُ - بِضَمِّ الْعَيْنِ - وَهُوَ جَانِبُهُ، وَالصُّدُّ بِضَمِّ الصَّادِ، وَهُوَ أَيْضًا الْجَانِبُ وَالنَّاحِيَةُ.

(وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ) أَيْ هُوَ أَفْضَلُهُمَا.

الثالث والعشرون: العفو والصفح:

قال تعالى: {

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} (الشورى:40). ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية مراتب العقوبات، وأنها على ثلاث مراتب: عدل وفضل وظلم. فمرتبة العدل: جزاء السيئة بسيئةٍ مثلها، لا زيادة ولا نقص، فالنفس بالنفس، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها، والمال يُضْمَنُ بمِثْله.

ومرتبة الفضل: العفو والإصلاح عن المسيء، ولهذا قال:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ، يجزيه أجرًا عظيمًا، وثوابًا كثيرًا، وشرط الله في العفو الإصلاح فيه، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورًا به.

وفي جَعْلِ أجر العافي على الله ما يُهَيِّجُ على العفو، وأنْ يعامل العبدُ الخلقَ بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل.

ومن علامة العفو الدعاء لإخوانك، خاصةً من كان بينك وبينه جفوة أو شحناء، حاول أن تدعو له مع أن البعض قد يقول إن هذا لا يطاق، لكن جرب

ص: 610

وحاول أن تدعو لإخوانك، وأرغم نفسك والشيطان على الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة والتوفيق والهداية.

والعجب أن ينام المسلم ملء جفنيه، وبينه وبين أخيه شحناء أو جفوة، وقد تأتيه المنية تلك الليلة، وما أجمل قول المقنع الكندي:

وإن الذي بينِي وبينَ بَنِي أبِي

وبينَ بنِي عمِّي لمُختلفٌ جِدّا

فإنْ أكلُوا لحمِي وفَرْتُ لحومَهُم

وإنْ هدمُوا مجْدِي بنيْتُ لهُم مجْدَا

وإن ضيَّعوا غيبِي حفظْتُ غُيوبَهم

وإنْ هُم هَوَوْا غَيِّي هوَيْتُ لهمْ رُشْدَا

ولا أحملُ الحقدَ القديمَ عليهِم

وليسَ كريمُ القومِ مَن يحملُ الحِقْدَا

ص: 611