الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
53 - من صور البركة
بركة مكة والمدينة والشام واليمن:
ومما جاء الشرع أيضًا ببركته مكة، وبيتُ الله الحرام مبارك ليس في بيوتِ العالمَ أبرك منه ولا أكثرَ خيرًا ولا أدوم ولا أنفعَ للخلائق، قال جلّ وعلا:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (آل عمران: 96).
ووجه البركة، أن الطواف بالبيت فيه مغفرة للذنوب فهذه بركة، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:«مَنْ طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ أُسْبُوعًا فَأَحْصَاهُ كَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ وَلَا يَضَعُ قَدَمًا وَلَا يَرْفَعُ أُخْرَى إِلَّا حَطَّ اللهُ عَنْهُ خَطِيئَةً وَكَتَبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةً» (رواه الترمذي، وصححه الألباني). طَافَ أُسْبُوعًا: أَيْ سَبْعَ مَرَّاتٍ.
والصلاة فيه بمائة ألف صلاة، وأي بركة أعظم من هذا، فعَنْ جَابِرٍ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ:«صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ» (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
وأيضًا مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدينة مباركة الصلاة في مسجدها بألف صلاة، فعَنْ جَابِرٍ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ:«صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
وصلاة ركعتين في مسجد قباء كأجر عمرة. فعن سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ سدد خطاكم أن رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ فَصَلَّى فِيهِ صَلَاةً كَانَ لَهُ كَأَجْرِ عُمْرَةٍ» (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمدينة بالبركة فعَنْ أَنَسٍ سدد خطاكم عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنْ الْبَرَكَةِ» (رواه البخاري
ومسلم). قَوْله: «اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْت بِمَكَّة مِنْ الْبَرَكَة» أَيْ مِنْ بَرَكَة الدُّنْيَا.
وأيضًا مما ورد في الشرع بركته أرض الشام، فأرض الشام أرض مباركة؛ قال عز وجل في شأن انتقال بني إسرائيل إلى الشام:{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} (الأعراف: 137)، وقال تعالى مخبرًاعن هجرة إبراهيم ولوط سدد خطاكم إلى الشام {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 71).وقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الإسراء: 1).
فأرض الشام أرض مباركة، ولقد دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم للشام واليمن بالبركة فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ:«اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِي يَمَنِنَا» (رواه البخاري).
وكون الرجل من غير هذه البلاد لا يستلزم أنه مذموم إذا كان صالحًا في نفسه، والعكس بالعكس. فكم في مكة والمدينة والشام من فاسق وفاجر، والفضيلة الدائمةُ في كلِّ زمانٍ ومكان بالإيمانِ والعمل الصّالح، وأيّ مكانٍ وعمل كان أعونَ للشّخص كان أفضلَ في حقِّه، فإن الْأَرْضَ لا تُقَدِّسُ أَحَدًا، وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الْمَرْءَ عَمَلُهُ.
بركة بعض الأزمنة:
لقد اصطَفى الله من الدهرِ أزمنةً، خصّها بالتشريف والبركة.
بركة البكور:
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم دعا لأمته بالبركةِ في البكور، فَعَنْ صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ سدد خطاكم عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ:«اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» ، قَالَ: وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلًا تَاجِرًا، وَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَثْرَى
وَكَثُرَ مَالُهُ. (رواه أصحاب السنن، وصححه الألباني). (فِي بُكُورهَا): أَيْ صَبَاحهَا وَأَوَّل نَهَارهَا. (قَالَ: وَكَانَ) أَيْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم. (إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا) السَّرِيَّةُ طَائِفَةٌ مِنْ الْجَيْشِ يَبْلُغُ أَقْصَاهَا أَرْبَعَمِائَةٍ تُبْعَثُ إِلَى الْعَدُوِّ جَمْعُهَا السَّرَايَا. (وَكَانَ يَبْعَث تِجَارَته): أَيْ مَالهَا. (فَأَثْرَى): أَيْ صَارَ ذَا ثَرْوَة أَيْ مَال كَثِير. (وَكَثُرَ مَاله): عَطْف تَفْسِير.
من الأزمنة المباركة شهر رمضان:
قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللهُ عز وجل عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ للهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» (رواه النسائي وحسنه الألباني).
ومن بركات هذا الشهر: أنه سبب لمغفرة الذنوب؛ قال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، ومَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه ِ، ومَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . (رواه البخاري ومسلم).
ليلةُ القدر ليلةٌ مباركة:
وشهر رمضان فيه ليلة القدر وهي ليلةٌ مباركة رفيعةُ القدر عظيمةُ المكانة، قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} (الدخان: 3).
يقول سبحانه وتعالى في مطلع سورة الدخان: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)} (الدخان:1 - 7). وتلك الليلة المباركة هي ليلة القدر، نعلم ذلك من قوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)} (القدر:1 - 5).
البركة في السحور:
عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» (رواه البخاري ومسلم).
والْبَرَكَةَ فِي السُّحُورِ تَحْصُلُ بِجِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَهِيَ اِتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَمُخَالَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالتَّقَوِّي بِهِ عَلَى الْعِبَادَة، وَالزِّيَادَةُ فِي النَّشَاطِ، وَمُدَافَعَةُ سُوءِ الْخُلُقِ الَّذِي يُثِيرُهُ الْجُوعُ، وَالتَّسَبُّبُ بِالصَّدَقَةِ عَلَى مَنْ يَسْأَلُ إِذْ ذَاكَ أَوْ يَجْتَمِعُ مَعَهُ عَلَى الْأَكْلِ، وَالتَّسَبُّبُ لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَقْتَ مَظِنَّةِ الْإِجَابَةِ، وَتَدَارُكُ نِيَّةِ الصَّوْمِ لِمَنْ أَغْفَلَهَا قَبْلَ أَنْ يَنَامَ.
بركة شجرة الزيتون:
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
قَوْلُهُ: (كُلُوا الزَّيْتَ) أَيْ مَعَ الْخُبْزِ وَاجْعَلُوهُ إِدَامًا. (وَادَّهِنُوا بِهِ) أَمْرٌ مِنْ الِادِّهَانِ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَهُوَ اِسْتِعْمَالُ الدُّهْنِ. يقال ادَّهَنَ رأسَه: أي طلاه بالدهن وتولى ذلك بنفسه، ولا يخفى أنه لا يختص بالرأس ولا يشترط التولي بالنفس.
(فَإِنَّهُ) أَيْ الزَّيْتَ يَحْصُلُ. (مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) يَعْنِي زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ، ثُمَّ وَصَفَهَا بِالْبَرَكَةِ لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهَا وَانْتِفَاعِ أَهْلِ الشَّامِ بِهَا كَذَا قِيلَ. وَالْأَظْهَرُ لِكَوْنِهَا تَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكَ اللهُ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ. وَيَلْزَمُ مِنْ بَرَكَةِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ بَرَكَةُ ثَمَرَتِهَا وَهِيَ الزَّيْتُونُ وَبَرَكَةُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَهُوَ الزَّيْتُ.
بركة الخيل:
وهذه البركة لارتباطها بالجهاد في سبيل الله، قال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال: 60). وعن عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ سدد خطاكم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ» (رواه البخاري). وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «الْبَرَكَةُ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ» (رواه البخاري).
(اَلْبَرَكَة فِي نَوَاصِي اَلْخَيْلِ) اَلْخَيْل اَلْمُرَادُ بِهَا مَا يُتَّخَذُ لِلْغَزْوِ بِأَنْ يُقَاتَلَ عَلَيْهِ أَوْ يُرْتَبَط لِأَجْلِ ذَلِكَ لِقَوْلِه ِ صلى الله عليه وآله وسلم: «الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ.
فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، وَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ أَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ حَسَنَاتٍ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَسِتْرًا وَتَعَفُّفًا وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَظُهُورِهَا فَهِيَ لَهُ كَذَلِكَ سِتْرٌ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ وِزْرٌ» (رواه البخاري).
(اَلْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ) وَجْه اَلْحَصْرِ فِي اَلثَّلَاثَةِ أَنَّ اَلَّذِي يَقْتَنِي اَلْخَيْل إِمَّا أَنْ يَقْتَنِيَهَا لِلرُّكُوبِ أَوْ لِلتِّجَارَةِ وَكُلّ مِنْهُمَا إِمَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ فِعْلُ طَاعَة اَللهِ، وَهُوَ اَلْأَوَّلُ وَمَعْصِيَتُهُ وَهُوَ اَلْأَخِيرُ أَوْ يَتَجَرَّدُ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ اَلثَّانِي. (فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ) شَكٌّ مِنْ اَلرَّاوِي، وَالْمَرْج مَوْضِع اَلْكَلَأ، وَأَكْثَر مَا يُطْلَقُ عَلَى اَلْمَوْضِعِ اَلْمُطَمَئِنِّ وَالرَّوْضَةُ أَكْثَر مَا يُطْلَقُ فِي اَلْمَوْضِعِ اَلْمُرْتَفِعِ. (فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا) هُوَ اَلْحَبَل اَلَّذِي تُرْبَطُ بِهِ وَيُطَوَّلُ لَهَا لِتَرْعَى. وَيُقَالُ لَهُ طُوَلٌ بِالْوَاو اَلْمَفْتُوحَةِ أَيْضًا.
وَقَوْله: «وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا» فِيهِ أَنَّ اَلْإِنْسَانَ يُؤَجَرُ عَلَى اَلتَّفَاصِيلِ اَلَّتِي تَقَعُ فِي فِعْل اَلطَّاعَة إِذَا قَصَدَ أَصْلهَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ تِلْكَ اَلتَّفَاصِيل.
(تَغَنِّيًا) أَيْ اِسْتِغْنَاء عَنْ اَلنَّاسِ. (تَعَفُّفًا) أَيْ عَنْ اَلسُّؤَالِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَطْلُبُ بِنِتَاجِهَا أَوْ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ أُجْرَتِهَا مِمَّنْ يَرْكَبُهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ اَلْغِنَى عَنْ اَلنَّاسِ وَالتَّعَفُّف عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ. (وَلَمْ يَنْسَ حَقّ اَللهِ فِي رِقَابِهَا) قِيلَ اَلْمُرَاد حُسْنُ مِلْكِهَا وَتَعَهُّد شِبَعِهَا وَرِيِّهَا وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهَا فِي اَلرُّكُوبِ. (فَخْرًا) أَيْ تَعَاظُمًا. (وَرِيَاءً) أَيَّ إِظْهَارًا لِلطَّاعَة وَالْبَاطِن بِخِلَافٍ ذَلِكَ. (وَنِوَاءً لِأَهْلِ اَلْإِسْلَامِ) نَاوَأَتُ اَلرَّجُلَ نَاهَضْتُهُ بِالْعَدَاوَةِ.
وَفِي هَذَا اَلْحَدِيثِ بَيَان أَنَّ اَلْخَيْلَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي نَوَاصِيهَا اَلْخَيْر وَالْبَرَكَة إِذَا كَانَ اِتِّخَاذُهَا فِي اَلطَّاعَةِ أَوْ فِي اَلْأُمُورِ اَلْمُبَاحَةِ وَإِلَّا فَهِيَ مَذْمُومَة.
بركة النخلة:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم جُلُوسٌ إِذَا أُتِيَ بِجُمَّارِ نَخْلَةٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ؟» . فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِي النَّخْلَةَ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ الْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشَرَةٍ أَنَا أَحْدَثُهُمْ؛ فَسَكَتُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم:«هِيَ النَّخْلَةُ» (رواه البخاري).
وَبَرَكَة النَّخْلَة مَوْجُودَة فِي جَمِيع أَجْزَائِهَا، مُسْتَمِرَّة فِي جَمِيع أَحْوَالهَا، فَمِنْ حِين تَطْلُع إِلَى أَنْ تَيْبَس تُؤْكَل أَنْوَاعًا، ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ يُنْتَفَع بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، حَتَّى النَّوَى فِي عَلْف الدَّوَابّ وَاللِّيف فِي الْحِبَال وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْفَى، وَكَذَلِكَ بَرَكَة الْمُسْلِم عَامَّة فِي جَمِيع الْأَحْوَال، وَنَفْعه مُسْتَمِرّ لَهُ وَلِغَيْرِهِ حَتَّى بَعْد مَوْته.
الغنم بركة:
فقد سُئِلَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، فَقَالَ:«صَلُّوا فِيهَا، فَإِنَّهَا بَرَكَةٌ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وأبو داود، وصححه الألباني والأرنؤوط).
ومن وجوه البركة في الغنم: ما فيها من اللباس والطعام والشراب وكثرة الأولاد؛ فإنها تلد في العام ثلاث مرات، إلى ما يتبعها من السكينة، وتحمل صاحبها عليه من خفض الجناح، ولين الجانب.
بركة الرزق:
وإذا أراد الله بالعبد خيرًا بارك له في رزقه، وكتب له الخير فيما أوْلاه من النعم: البركة في الأموال، والبركة في العيال، والبركة في الشؤون والأحوال، فإذا أراد الله بالعبد خيرًا بارك له في رزقه وقوته، إنها البركة التي يصير بها القليل كثيرًا، ويصير حال العبد إلى فضل ونعمة وزيادة وخير، فالعبرة كل العبرة بالبركة ، فكم من قليل كثَّره الله، وكم من صغير كبَّره الله ، وإذا أراد الله أن يبارك للعبد في ماله هيأ له الأسباب وفتح في وجهه الأبواب.
والمالُ المبارَك ما كثُر خيرُه وتعدّدَت منافعه وبُذِل في طُرقِ البرّ والإحسان ابتغاءَ مرضاته، ومن قنِع بربحٍ حلال قليل وتحرّى الصدقَ في معاملاته ظهرتِ البركة في ماله وفي أولاده.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ، مَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ» (رواه البخاري). “ فَنِعْمَ الْمَعُونَة “ فِيهِ حَذْف تَقْدِيره إِنْ عَمِلَ فِيهِ بِالْحَقِّ. وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى عَكْسه، وَهُوَ بِئْسَ الرَّفِيق هُوَ لِمَنْ عَمِلَ فِيهِ بِغَيْرِ الْحَقّ.
وَقَوْله: «كَاَلَّذِي يَأْكُل وَلَا يَشْبَع» ذُكِرَ فِي مُقَابَلَة: «فَنِعْمَ الْمَعُونَة هُوَ» .
وَفِي هَذَا الْحَدِيث تَشْبِيه الْمَال بِالصَّاحِبِ الَّذِي لَا يُؤْمَن أَنْ يَنْقَلِب عَدُوًّا، فَإِنَّ الْمَال مِنْ شَأْنه أَنْ يُحْرَز وَيُشَدّ وَثَاقه حُبًّا لَهُ وَذَلِكَ يَقْتَضِي مَنْعه مِنْ مُسْتَحِقّه فَيَكُون سَبَبًا لِعِقَابِ مُقْتَنِيه. وفيه تَشْبِيه آخِذه بِغَيْرِ حَقّ بِاَلَّذِي يَأْكُل وَلَا يَشْبَع.
وَمَثَل الْمَال مَثَل الْحَيَّة الَّتِي فِيهَا تِرْيَاق نَافِع وَسُمّ نَاقِع، فَإِنْ أَصَابَهَا الْعَارِف الَّذِي يَحْتَرِز عَنْ شَرّهَا وَيَعْرِف اِسْتِخْرَاج تِرْيَاقهَا كَانَ نِعْمَة، وَإِنْ أَصَابَهَا الْغَبِيّ فَقَدْ لَقِيَ الْبَلَاء الْمُهْلِك. وَفِي الْحَدِيث أَنَّ الْمُكْتَسِب لِلْمَالِ مِنْ غَيْر حِلّه لَا يُبَارَك لَهُ فِيهِ لِتَشْبِيهِهِ بِاَلَّذِي يَأْكُل وَلَا يَشْبَع.
الرجل المبارك:
الرجلُ المبارَك هو الذي يُنْتَفَع به حيثُما حلّ، وإذا قرُب العبد من ربّه بورِك في وقته وعمِل أعمالًا كثيرةً في زمنٍ يسير. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟» . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: «أَنَا» . قَالَ: «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟» . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: «أَنَا» . قَالَ: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟» .قَالَ أَبُو بَكْرٍ: «أَنَا» . قَالَ: «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟» . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: «أَنَا» . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (رواه مسلم).
الصحبة المباركة:
وخير الصُّحبةِ صُحبةُ الصالحين، وأزكى المجالس مجالسُ الذّكر، تحضرُها الملائكة، ويُغفَر لجليسها وهذا من بركَتهم على نفوسهم وعلى جليسهم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ لِلهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ - وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ -: «مَا يَقُولُ عِبَادِي؟» . قَالُوا: «يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ» .
فَيَقُولُ: «هَلْ رَأَوْنِي؟» . فَيَقُولُونَ: «لَا وَاللهِ مَا رَأَوْكَ» . فَيَقُولُ: «وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟» . يَقُولُونَ: «لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا» . يَقُولُ: «فَمَا يَسْأَلُونِي» . قَالُوا: «يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ» . قَالَ: «وَهَلْ رَأَوْهَا؟» . قَالُوا: «لَا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا» . قَالَ: «فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟» . قَالُوا: «لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً» .
قَالَ: «فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟» . قَالُوا: «مِنْ النَّارِ» . قَالَ: «وَهَلْ رَأَوْهَا؟» . قَالُوا: «لَا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا» . قَالَ: «فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟» . قَالُوا: «لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً» . فَيَقُولُ: «فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ؛ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا
وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا». فَيَقُولُونَ: «رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ، إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ» . فَيَقُولُ: «وَلَهُ غَفَرْتُ؛ هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» . (رواه البخاري ومسلم).
(فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) أَيْ يَدْنُونَ بِأَجْنِحَتِهِمْ حَوْل الذَّاكِرِينَ. (هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ) فِي هَذِهِ الْعِبَارَة مُبَالَغَة فِي نَفْي الشَّقَاء عَنْ جَلِيس الذَّاكِرِينَ، فَلَوْ قِيلَ:«لَسَعِدَ بِهِمْ جَلِيسهمْ» لَكَانَ ذَلِكَ فِي غَايَة الْفَضْل، لَكِنَّ التَّصْرِيح بِنَفْيِ الشَّقَاء أَبْلَغ فِي حُصُول الْمَقْصُود.
وَفِي الْحَدِيث فَضْل مَجَالِس الذِّكْر وَالذَّاكِرِينَ، وَفَضْل الِاجْتِمَاع عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ جَلِيسهمْ يَنْدَرِج مَعَهُمْ فِي جَمِيع مَا يَتَفَضَّل الله تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِمْ إِكْرَامًا لَهُمْ وَلَوْ لَمْ يُشَارِكهُمْ فِي أَصْل الذِّكْر.
وَفِيهِ مَحَبَّة الْمَلَائِكَة بَنِي آدَم وَاعْتِنَاؤُهُمْ بِهِمْ، وَفِيهِ أَنَّ السُّؤَال قَدْ يَصْدُر مِنْ السَّائِل وَهُوَ أَعْلَم بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ مِنْ الْمَسْئُول لِإِظْهَارِ الْعِنَايَة بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ وَالتَّنْوِيَة بِقَدْرِهِ وَالْإِعْلَان بِشَرَفِ مَنْزِلَته.
وَفِيهِ بَيَان كَذِب مَنْ اِدَّعَى مِنْ الزَّنَادِقَة أَنَّهُ يَرَى الله تَعَالَى جَهْرًا فِي دَار الدُّنْيَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:«تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عز وجل حَتَّى يَمُوتَ» .
تنبيه: ليس في هذا الحديث ولا في غيره أن مجالس الذكر هذه فيها أحد الأشخاص يذكر الله وبقية المجلس يرددون وراءه، وليس فيه أنهم يرددون بصوت جماعي.
فهذه الحديث لا يدل على الذكر الجماعي واستحبابه، وإنما يدل على استحباب الاجتماع على ذكر الله، وهناك فرق كبير بين هذا وذاك فالاجتماع على ذكر الله مستحب مندوب إليه بمقتضى الأحاديث الواردة في فضله، ولكن على الوجه المشروع.
والذكر الجماعي: هو ما يفعله بعض الناس من الاجتماع في أدبار الصلوات المكتوبة أو في غيرها من الأوقات والأحوال ليرددوا بصوت جماعي أذكارًا وأدعية وأورادًا وراء شخص معين، أو دون قائد، لكنهم يأتون بهذه الأذكار في صيغة جماعية وبصوت واحد.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللهَ تَعَالَى مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ أَرْبَعَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَلَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللهَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مَنْ أَنْ أَعْتِقَ أَرْبَعَةً» . (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
قد يفهم البعض من هذا الحديث استحباب الذكر الجماعي، وليس هذا بصحيح، وإنما فيه استحباب الاجتماع على الذكر، بمعنى أن يُعِينَ بعضُنا بعضًا عليه بالتواجد في مكان واحد، ويوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما طبّق ذلك عمليًا لم يكن يذْكُر الله عز وجل مع أصحابه ذكرًا جماعيًّا، فعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ سدد خطاكم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسَنًا (رواه مسلم).
ورواه أبو داود بلفظ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ تَرَبَّعَ فِي مَجْلِسِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسْنَاءَ» ، وفي رواية لمسلم عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ سدد خطاكم: «أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم؟ قَالَ: «نَعَمْ، كَثِيرًا. كَانَ لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِذَا طَلَعَتْ قَامَ. وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ صلى الله عليه وآله وسلم.
فكان صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الله عز وجل ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم يرددون خلفه أومعه صلى الله عليه وآله وسلم.
ويكون فائدة الاجتماع عندئذ أنه أنشط للنفس لكونها مجبولة على التأسي، كما قالت الخنساء:
وَلَولا كَثرَةُ الباكينَ حَولي
…
عَلى إِخوانِهِم لَقَتَلتُ نَفسي
وقد ذكر ذكر الإمام الشاطبي المالكي أن البدعة مضادة للطريقة الشرعية من عدة أوجه، وذكر منها:«التزام الكيفيات والهيئات المعينة كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد» (الاعتصام (1/ 44).