الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
64 - خصائص الشريعة الإسلامية
أيا عجبًا لأمتنا عُجابَا
…
فكم طرقَتْ من الأفكارِ بابَا
تظنُّ به من الخيراتِ فيضًا
…
وتنْشُدُ فيه أنهارًا عِذَابَا
فَقَدْ جرَّبْتُمُوا شرقًا وغربًا
…
مناهجَ للصلاحِ غدَتْ خرابَا
فمنكم قائلٌ: “ رأسٌ لمالٍ “ (1)
…
به تَحْلو الحياةُ لمن أجابَا
ومنكم قائلٌ: بل “ لاشتراكٍ “ (2)
…
ومنكم قائلٌ نرجُو “ انقلابَا”
فررْتُم من شِراكِ الظالمينَ
…
وصافَحْتُم بأيديكُم ذئابَا
فلَا فِي الشرقِ بُغْيَتُكم ولَا فِي
…
بلادِ الغربِ تلقَوْن انتسابَا
فنِسْبَتُكم إلى الإسلامِ فخرٌ
…
“ أبي الإسلام “ أفدِيه احتسابَا
خزايَا الغربِ شاهدةٌ عليهِمْ
…
ضلالُ الشرقِ بالإلحادِ آبَا
فما في النارِ للظمآنِ ماءٌ
…
وهل يُمسِي اللهيبُ بها شرابَا
ومَن يَرْجُ الحياةَ بغيرِ وَحْيٍ
…
فهل يلقَى بها إلا السَّرابَا
ومَن يركَنْ لغيرِ الله يومًا
…
فقدْ ضلّتْ مساعيهِ وخابَا
فطَاعةُ ربِّنا شرْط النجاةِ
…
يقينًا ما عرفْتُ لَهُ ارْتِيابَا
(1) أي الرأسمالية.
(2)
أي الاشتراكية.
سِئِمْنَا قَولَ أشباهِ الرجالِ
…
رويبضةٍ (1)
…
فما يدْرِي الخِطابَا
مسيلمةٌ لنا في كُلِ عصرٍ
…
يُنادينا ويَنْتَحِبُ انْتِحَابَا
ويُقْسِمُ مثل إبليسٍ بخيرٍ
…
ويُقْسمُ أنَّ في الدينِ اضطرابَا
فيا عُقَلاءَ أمتِنَا أفيقوا
…
سيُفلحُ مَن تَوكلَ واستجابا
فدِينُ الله لم يمسَسْهُ شَكٌ
…
وشَرُّ القومِ مَن أزرَى وعابَا
فيَا ليْتَ الرشادَ لنَا دليلٌ
…
فيهدينا الحقيقةَ والصوابَا
فقدْ قال الإلهُ به شفاءٌ
…
لأمّتِنَا إذا عانَتْ مُصَابَا
به الرَّحَمَاتُ تشمَلُ كلَّ حَيٍّ
…
به البركاتُ تنْسكِبُ انسكابَا
أما علِمَتْ بأنَّ الشّرْعَ نورٌ
…
ومَن يُعرضْ فقد ذاق العذابا؟
فدينُ اللهِ منصورٌ لزامًا
…
كَنُورِ الشمسِ يخترقُ السحابَا
ومَن في الناسِ يُطفِئُ نورَ ربّي
…
ومَن يُرْخِي عَلَى الحقِّ الحجَابَا؟!
(1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ» ، قِيلَ:«وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟» قَالَ: «الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ» . (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
وفي رواية: «السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ» ) رواه الإمام أحمد في المسند، وحسنه الأرنؤوط). وفي رواية:
«الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وحسنه الأرنؤوط).
(سَنَوَاتٌ) جَمْعُ سَنَةٍ، (خَدَّاعَاتُ) الخداع المكر والحيلة، وإضافة الخداعات إلى السنوات مجازية. والمراد أهل السنوات. (الرُّوَيْبِضَةُ) تضغير رابضة. وهو العاجز الذي ربض عن معالي الأمور وقعد عن طلبها، وَالتَّافِهُ الْحَقِيرُ الْيَسِيرُ، أَيْ: قَلِيلُ الْعِلْمِ» (بتصرف من حاشية السندي على سنن ابن ماجه، ومن تعليق محمد فؤاد عبد الباقي عليها).
خصائص الشريعة الإسلامية (خصائص الإسلام):
الخصيصة الأولى: أنه من عند الله:
مصدر الإسلام، ومشرع أحكامه ومناهجه، هو الله سبحانه وتعالى فهو وحْيُه إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم باللفظ والمعنى (القرآن الكريم) وبالمعنى دون اللفظ (السنة النبوية). فالإسلام بهذه الخصيصة يختلف اختلافًا جوهريًا عن جميع الشرائع الوضعية لأن مصدرها الانسان، أما الإسلام فمصدره رب الانسان، إن هذا الفرق الهائل بين الإسلام وغيره لا يجوز إغفاله مطلقًا ولا التقليل من أهميته.
قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (النساء:105).
يخبر تعالى أنه أنزل على عبده ورسوله الكتاب بالحق، أي: محفوظًا في إنزاله من الشياطين، أن يتطرق إليه منهم باطل، بل نزل بالحق، ومشتملًا أيضًا على الحق، فأخباره صدق، وأوامره ونواهيه عَدْل، قال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} (الأنعام: 115)، وأخْبَرَ أنه أنزلَه ليَحْكُمَ بين الناس. وفي الآية الأخرى: قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44).فيحتمل أن هذه الآية في الحكم بين الناس في مسائل النزاع والاختلاف، وتلك في تبيين جميع الدين وأصوله وفروعه، ويحتمل أن الآيتين كلتيهما معناهما واحد، فيكون الحكم بين الناس هنا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأعراض والأموال وسائر الحقوق وفي العقائد وفي جميع مسائل الأحكام.
{بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} أي: لا بِهَوَاك، بل بما علَّمك الله وألهمك، كقوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3 – 4). وفي هذا دليل على عصمته صلى الله عليه وآله وسلم فيما يُبَلِّغ عن الله من جميع الأحكام وغيرها، وأنه يشترط في القاضي: العلم والعدل لقوله: {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} ولم يقل: بما رأيت. ورتب أيضًا الحكم بين الناس
على معرفة الكتاب، ولما أمر الله بالحكم بين الناس المتضمن للعدل والقسط نهاه عن الجور والظلم الذي هو ضد العدل فقال:{وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} أي: لا تخاصم عن مَن عرفت خيانته، مِن مُدَّعٍ ما ليس له، أو مُنكرٍ حقًّا عليه، سواء علم ذلك أو ظنه. ففي هذا دليل على تحريم الخصومة في باطل، والنيابة عن المبطل في الخصومات الدينية والحقوق الدنيوية. ويدل مفهوم الآية على جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن لم يُعرَف منه ظُلم.
ما يترتب على كون الإسلام من عند الله:
أولًا: كماله وخلوه من النقائص:
يترتب على كون الإسلام من عند الله كماله وخلوه من معاني النقص والجهل والهوى والظلم، لسبب بسيط واضح هو أن صفات الصانع تظهر في ما يصنعه. ولما كان الله تعالى له الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله ويستحيل في حقه خلاف ذلك، فان أثر هذا الكمال يظهر في ما يشرعه من أحكام ومناهج وقواعد، وبالتالي لا بد أن يكون كاملا.
وهذا بخلاف ما يصنعه الانسان ويشرعه فإنه لا ينفك عن معاني النقص والهوى والجهل والجَوْر؛ لأن هذه المعاني لاصقة بالبشر ويستحيل تجردهم عنها كل التجرد وبالتالي تظهر هذه النقائص في القوانين والشرائع التي يصنعونها.
ثانيًا: ويترتب أيضا على كون الإسلام من عند الله، أنه يظفر بقدر كبير جدًا من الهيبة والاحترام مِن قِبَل المؤمنين به، مهما كانت مراكزهم الاجتماعية وسلطاتهم الدنيوية؛ لأن هذه السلطات وتلك المراكز لا تُخْرِجُهم من دائرة الخضوع لله تعالى واحترام شرعه، وطاعة هذا الشرع طاعة اختيارية تنبعث من النفس وتقوم على الإيمان ولا يقسر عليها المسلم قسرًا.
وفي هذا ضمان عظيم لحسن تطبيق القانون الإسلامي وعدم الخروج عليه ولو مع القدرة على هذا الخروج.
أما القوانين والمبادئ الوضعية التي شرعها الإنسان فإنها لا تظفر بهذا المقدار من الاحترام والهيبة، إذ ليس لها سلطان على النفوس ولا تقوم على أساس من العقيدة والايمان كما هو الحال بالنسبة للإسلام ولهذا فان النفوس تجرؤ على مخالفة القانون الوضعي كلما وجدت فرصة لذلك وقدرة على الإفلات من ملاحقة القانون وسلطان القضاء ورأت في هذه المخالفة اتباعًا لأهوائها وتحقيقًا لرغباتها.
إن القانون لا يكفي أن يكون صالحًا بل لا بد له من ضمانات تكفل حسن تطبيقه، ومن أول هذه الضمانات، إيجاد ما يصل هذا القانون بنفوس الناس ويحملهم على الرضى به والانقياد له عن طواعية واختيار.
ولا يحقق مثل هذه الضمانة مثل الإسلام، لأنه أقام تشريعاته على أساس الإيمان بالله واليوم الآخر ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإن الالتزام الاختياري بهذه التشريعات واحترامها هو مقتضى هذا الايمان.
وللتدليل على صحة ما نقول نضرب مثلًا واحدًا بشأن واقعة معينة عالجها الإسلام بتشريعه ونجح في هذه المعالجة، وعالجت هذه الواقعة بالذات القوانين الوضعية وفشلت في هذه المعالجة.
من المعروف أن العرب قبل الإسلام كانوا مولعين بشرب الخمر لا يجدون فيه منقصة ولا منكرًا، وكانت زقاق الخمر ودنانه في البيوت كالماء المخزون في القِرَب. فلما أتى الإسلام بتحريم الخمر بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} (المائدة:90) كان لكلمة
…
{فَاجْتَنِبُوهُ} قوة هائلة تفوق قوة الجيش والشرطة وما يمكن أن تستعمله أي دولة لتنفيذ أوامرها بالقوة والجبر.
لقد قام المسلمون الى زقاق الخمر فأراقوها، وإلى دنانه فكسروها، وفطموا نفوسهم من شرب الخمر حتى غدوا وكأنهم لا يعرفون الخمر ولم يتذوقوها من قبل؛ لأن أمر الله ورد {فَاجْتَنِبُوهُ} ، وأوامر الله من شأنها الاحترام والطاعة.
وفي القرن العشرين أرادت الولايات المتحدة الأمريكية تخليص مواطنيها من الخمر، وقبل أن تُشَرِّعَ قانون تحريم الخمر، مهدت له بدعاية واسعة جدًا لتهيئة النفوس إلى قبول هذا القانون، وقد استعانت بجميع أجهزة الدولة وبذوي الكفاية في هذا الباب.
استعانت بالسينما ومسارح التمثيل وبالاذاعة وبنشر الكتب والرسائل والنشرات والمحاضرات والإحصائيات من قبل العلماء والأطباء والمختصين بالشؤون الاجتماعية. وقد قُدِّر ما أُنفِق على هذه الدعاية بـ (65) مليون من الدولارات وكُتبت تسعة آلاف صفحة في مضار الخمر ونتائجه وعواقبه. وأنفِقَ ما يقرب من عشرة ملايين دولار من أجل تنفيذ القانون.
وبعد هذه الدعاية الواسعة والمبالغ المنفقة شرعت الحكومة قانون تحريم الخمر لسنة 1930م وبموجبه حُرّم بيعُ الخمور وشراؤها وصنعها وتصديرها واستيرادها.
فماذا كانت النتيجة؟
لقد دلت الاحصائيات للمدة الواقعة بين تشريعه وبين سنة 1933م أنه قتل في سبيل تنفيذ هذا القانون مائتا نفس، وحُبس نصف مليون شخص، وغُرّم المخالفون له غرامات بلغت ما يقرب من أربعة ملايين دولار، وصودرت أموال بسبب مخالفته قدرت بألف مليون دولار.
وكان آخر المطاف أن قامت الحكومة الأمريكية بإلغاء قانون تحريم الخمر في أواخر سنة 1933م، ولم تستطِع تلك الدعايات الضخمة التي قامت بها الدولة أن توجد القاعدة التي يرتكز عليها القانون في نفوس المواطنين، وبالتالي قاموا بمخالفته مما
حمل الحكومة على إلغائه؛ لأن القانون لم يكن له سلطان على النفوس يحملها على احترامه وطاعته، ومن ثم فشل وأُلغِي.
أما كلمة {فَاجْتَنِبُوهُ} التي جاء بها الإسلام في جزيرة العرب فقد أثرت أعظم التأثير وطُبِّقَت فعلًا، وأريقت الخمور مِن قِبَل أصحابها وامتنعوا عنها، لا بقوة شرطي ولا بقوة جندي ولا رقيب ولكن بقوة الإيمان وطاعة المسلمين لشرائع الإسلام واحترامهم لها.
الخصيصة الثانية: الشمول:
الإسلام نظام شامل لجميع شؤون الحياة وسلوك الانسان. وهذا الوصف للإسلام وصف حقيقي ثابت للإسلام لا يجوز تجريده منه إلا بالافتراء عليه أو بسبب الجهل به.
وشمول الإسلام هذا لشؤون الحياة وسلوك الانسان لا يقبل الاستثناء ولا التخصيص، فهو شمول تام بكل معاني كلمة الشمول، وهذا بخلاف المبادئ والنظم البشرية فإن الواحد منها له دائرته الخاصة التي ينظم شؤونها، ولا شأن له فيما عدا ذلك.
وعلى هذا فلا يمكن للمسلم أن يقول إن هذا المجال لي أنظم أموري كما أشاء بمعزل عن تنظيم الإسلام، لا يمكن أن يقول المسلم هذا لأن الإسلام يحكمه من يافوخه إلى أخمص قدميه، وللإسلام في كل ما يصدر الانسان حكم خاص، كما له حكمه في كل ما يضعه في رأسه من أفكار وفي قلبه من ميول.
وعلى هذا لا يجوز للمسلم أبدًا أن يسمح لغير نظام الإسلام أن ينظم أي جانب من جوانب حياته لأنه إن فعل ذلك دخل في نطاق معنى قول الله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}
…
(البقرة: 85).
الخصيصة الثالثة: العموم:
من بديهيات الإسلام وصفاته الأصلية أنه جاء لعموم البشر ولم يأت لطائفة معينة منهم أو لجنس خاص من أجناسهم، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)} (سبأ: 28). وقال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158).
وعموم الإسلام هذا غير مقصور على فترة معينة من الزمن أو جيل خاص من البشر وإنما هو عموم في الزمان كما هو عموم في المكان، ولهذا فهو باق لا يزول ولا يتغير ولا يُنْسَخ، لأن الناسخ يجب أن يكون في قوة المنسوخ سواء أكان النسخ كليًّا أم جزئيًّا، وحيث أن الإسلام ختم الشرائع السابقة كلها وأن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين، فمعنى ذلك أن الشرائع الإلهية انقطعت وأن الوحي الإلهي لم يَعُدْ ينزل على أحد، قال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب:40).
وعلى هذا لا يُتَصَوَّرُ أن ينسَخَ الإسلامَ أو يغيّره شيءٌ.
وعموم الشريعة الإسلامية وبقاؤها وعدم قابليتها للنسخ والتبديل والتغيير بالتنقيص أو الزيادة كل ذلك يستلزم - عقلًا وعدلا - أن تكون قواعدها وأحكامها ومبادئها وجميع ما جاءت به على نحو يحقق مصالح الناس في كل عصر ومكان ويَفِي بحاجاتهم ولا يضيق بها ولا يتخلف عن أي مستوى عال يبلغه المجتمع البشري.
إن هذا والحمد لله متوافر في الشريعة الإسلامية؛ لأن الله تعالى، وهو العليم الخبير، إذْ جعلها عامة في المكان والزمان، وخاتمة لجميع الشرائع، جعل قواعدها وأحكامها صالحة لكل زمان ومكان، ومهيأة للبقاء والاستمرار لهذا العموم.
الخصيصة الرابعة: الجزاء في الإسلام:
أحكام الإسلام، ليست نصائح وارشادات خالية من الثواب والعقاب. إنها ارشادات ونصائح حقًا ولكن لها ثواب حسن ينال الملتزم بها، ولها عقاب يصيب المخالف لها، على درجات متفاوتة في العقاب والثواب.
والأصل في أجزية الإسلام وعقوباته أنها في الآخرة لا في الدنيا، ولكن مقتضيات الحياة وضرورة استقرار المجتمع وتنظيم علاقات الافراد على نحو واضح مؤثر وضامن لحقوق الناس كل ذلك دعا الى أن يكون مع الجزاء الأخروي جزاء دنيوي، أي مع العقاب الأخروي عقاب توقعه الدولة في الدنيا على المخالف لأحكام الإسلام.
ونطاق الجزاء في الإسلام واسع شامل شمول الإسلام لجميع شؤون الحياة ومِن ثَمّ فأجْزِيَةُ الإسلام تتعلق بأمور العقيدة والأخلاق والعبادات والمعاملات. فكل مخالفة لهذه الأمور لها جزاؤها في الآخرة وقد يكون لها جزاء في الدنيا أيضًا.
والجزاء في الدنيا لا يمنع الجزاء في الآخرة عن المخالف العاصي الا إذا اقترنت معصيته بالتوبة النصوح والتوبة النصوح تقوم على الندم على ما اقترفه الانسان، وعلى العزم الأكيد على عدم العودة إلى هذه المخالفة، وعلى التحلل من حقوق الغير إذا كانت معصية تتعلق بهذه الحقوق.
وقد ترتب على هذا الجزاء الأخروي خضوع المسلم لأحكام الشريعة خضوعًا اختياريًا في السر والعلن خوفًا من عقاب الله، وحتى لو استطاع الإفلات من عقاب الدنيا؛ لأن العقاب الأخروي ينتظره ولا يستطيع الإفلات منه.
وهكذا تنزجر النفوس من مخالفة القانون الإسلامي إما بدافع الاحترام له والحياء من الله سبحانه وتعالى، وإما بدافع الخوف من العقاب الآجل الذي ينتظر المخالفين، قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا
وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} (آل عمران: 30). وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7 - 8 (.وفي هذا وذاك أعظم ضمان لزجر النفوس عن المخالفة والعصيان.
الخصيصة الخامسة: المثالية والواقعية:
المثالية في الإسلام:
الإسلام يحرص على إبلاغ الانسان الكمال المقدور له، وهذا يكون بِجَعْل تصرفاته وأقواله وأفعاله وتروكه وقصوده وأفكاره وميوله وفق المناهج والأوضاع والكيفيات التي جاء بها الإسلام، وقد تحقق ذلك كله في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك أمرنا الله سبحانه وتعالى بالتأسي به، قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21).
وقوام هذه المثالية الاعتدال والشمول.
أولًا: الاعتدال:
والمقصود بالاعتدال عدم الإفراط والتفريط في أي شيء وإعطاء كل ذي حق حقه، يدل على ذلك قول الله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان: 67).
ثانيا: الشمول:
والمثالية في الإسلام تتصف بالشمول، لأن الإسلام يريد من المسلم أن يبلغ الكمال المقدور له بتناسق وفي جميع شؤونه، فلا يُقبِل على جانب واحد أو عدة جوانب ويبلغ فيها المستوى العالي من الكمال، بينما يهمل الجوانب الأخرى حتى ينزل فيها إلى دون المستوى المطلوب، إن مثله مثل من يقوي يديه ويترك سائر أعضائه رخوة هزيلة ضعيفة.
وعلى هذا الأساس فَهِمَ الصحابة الكرام مثالية الإسلام فلم تأسرهم عبادة ولم تقيدهم عادة، وإنما تقلبوا في جميع العبادات والأحوال، فلم يحبسوا نفوسهم في مكان ولا على نوع من العبادة ولا على نمط معين من الأعمال، وانما باشروا الجميع، فعند الصلاة كانوا في المسجد يصلون، وفي حلقات العلم يجلسون معلمين أو متعلمين، وعند الجهاد يقاتلون، وعند الشدائد والمصائب يواسون ويساعدون، وهكذا كان شأنهم في جميع الأحوال.
الواقعية في الإسلام:
الإسلام لا يغفل طبيعة الإنسان وتفاوت الناس في مدى استعدادهم لبلوغ المستوى الرفيع الذي يرسمه لهم، وفي ضوء هذا النظر الواقعي جعل الإسلام حدًا أدنى أو مستوى أدنى من الكمال لا يجوز الهبوط عنه لأن هذا المستوى ضروري لتكوين شخصية المسلم على نحو معقول، ولأنه أقل ما يمكن قبوله من المسلم ليكون في عداد المسلمين ولأنه وضع على نحو يستطيع بلوغه أقل الناس قدرة على الارتفاع إلى مستوى الكمال. إن هذا المستوى الأدنى يتكون من جملة من معانٍ يجب القيام بها وهي المسماة بالفرائض، كما يشمل جملة معانٍ يجب هجرها وهي المسماة بالمحرمات. إن هذه الفرائض والمحرمات جُعِلَتْ بقدر طاقة أقل الناس استعدادًا لفعل الخير وابتعادًا عن الشر، ومِن ثَمَّ يستطيع كل واحد الوفاء بمقتضاه، ولا يُعذَر في التخلف عنها.
ولكن بجانب هذا المستوى الإلزامي الواجب بلوغه على كل مسلم، وضعت الشريعة مستوى آخر أرفع منه وأوسع منه وحببت إلى الناس بلوغ هذا المستوى العالي، فإلزامهم به ارهاق لهم وحرج شديد، والحرج في شرع الإسلام مرفوع لأنه يخالف نظرة الإسلام الواقعية، قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78).وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: 286).
وهذا المستوى العالي يشمل المندوبات التي ترغب الشريعة في القيام بها، والمكروهات التي ترغب الشريعة في ترك المسلم لها.