الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد الملك بن سعيد. ونهض بعد هذه الكائنة إلى غرناطة، وهي آخر ما تبقى للمرابطين من القواعد ليجمع بها أعيان لمتونة ومسّوفة، في شأن صرف الأمر إلى الموحدين.
وفاته: ولما وصل الأمير يحيى بن غانية إلى غرناطة أقام بها شهرين، وتوفي عصر يوم الجمعة الرابع عشر من شعبان عام ثلاثة وأربعين وخمسمائة، ودفن بداخل القصبة في المسجد الصغير، المتصل بقصر باديس بن حبّوس «1»
، مجاورا له في مدفنه، وعليه في لوح من الرخام تاريخ وفاته، والناس يقصدوه للتبرك به.
يوسف بن تاشفين بن إبراهيم بن توقورت بن وريابطن ابن منصور بن مصالة بن أمية بن وايامى الصنهاجي ثم اللمتوني
«2»
يكنى أبا يعقوب ويلقب بأمير المسلمين.
أوليته: ذكروا أن يحيى بن إبراهيم بن توقورت حجّ، وهو كبير قبيل الصحراويين في عشر الأربعين وأربعمائة، واجتاز على القيروان وهي موفورة بالعلماء، وتعرّف بالفقيه أبي عمران الفاسي، ورغب إليه أن ينظر له في طلب من يستصحبه، ليعلّم قومه ويفقههم، فخاطب له فقيها من فقهاء المغرب الأقصى اسمه واجاج، واختار له واجاج عبد الله بن ياسين القائم بدولتهم، البادي نظم نشرهم، وتأليف كلمتهم، فاجتمع عليه سبعون شيخا من نبهائهم ليعلمهم، فانقادوا له انقيادا كبيرا، وتناسل الناس، فضخم العدد، وغزا معهم قبائل الصحراء. ثم التأثت حاله معهم، فصرفوه، وانتهبوا كتبه، فلجأ إلى أمير لمتونة يحيى بن عمر بن تلايكان اللمتوني، فقبله، وأعاد حاله، وثابت طاعته، فأمضى القتل على من اختلف عليه.
وكان يحيى بن عمر يمتثل أمر عبد الله امتثالا عظيما. ثم خرج بهم إلى سجلماسة، فتملّكوها، وتملّكوا الجبل. ثم ظهروا على المغرب، ثم قتل الأمير يحيى بن عمر، فقدّم عبد الله أخاه أبا بكر بن عمر بدرعة، ونهد به، فتملّك
جبال المصامدة، واحتلّ بأغمات وريكة واستوطنها. ولعبد الله أخبار غريبة وشذوذ في الأحكام، الله أعلم بصحتها. وقتل عبد الله بن ياسين برغواطة. ولم يزل الأمير أبو بكر بن عمر حتى أخذ ثأره، وأثخن القتل فيهم، وقدّم ابن عمه يوسف بن تاشفين بن إبراهيم على عسكر كبير، فيهم أشياخ لمتونة، وقبائل البرابرة والمصامدة، واجتاز على بلاد المغرب، فدانت له. وطرق الأمير أبا بكر خبر من قومه من الصحراء انزعج له، فولّى يوسف بن تاشفين على مملكة المغرب، وترك معه الثلث من لمتونة، إخوانه، وأوصاه، وطلّق زوجته زينب، وأمره يتزوّجها؛ لما بلاه من يمنها، فبنى يوسف مدينة مراكش وحصّنها، وتحبّب إلى الناس، واستكثر من الجنود والقوة، وجبى الأموال، واستبدّ بالأمر. ورجع الأمير أبو بكر من الصحراء سنة خمس وستين وأربعمائة، فألفى يوسف مستبدّا بأمره، فسالمه، وانخلع له عن الملك، ورجع إلى صحرائه، فكان بها تصله هدايا يوسف إلى أن قتله السّودان. واستولى يوسف على المغرب كله، ثم أجاز البحر إلى الأندلس، فهزم الطاغية الهزيمة الكبرى بالزلّاقة، وخلع أمراء الطّوائف، وتملّك البلاد إلى حين وفاته.
حاله: قال أبو بكر بن محمد بن يحيى الصيرفي: كان، رحمه الله، خائفا لربّه، كتوما لسرّه، كثير الدعاء والاستخارة، مقبلا على الصلاة، مديما للاستغفار، أكثر عقابه لمن تجرأ أو تعرض لانتقامه الاعتقال الطويل، والقيد الثّقيل، والضرب المبرّح، إلّا من انتزى أو شقّ العصا، فالسيف أحسم لانتثار الداء. يواصل الفقهاء، ويعظّم العلماء، ويصرف الأمور إليهم، ويأخذ فيها بآرائهم، ويقضي على نفسه وغيره بفتياهم، ويحضّ على العدل، ويصدع بالحق، ويعضّد الشّرع، ويحزم في المال، ويولع بالاقتصاد في الملبس والمطعم والمسكن، إلى أن لقي الله، مجدّا في الأمور، ملقنا للصواب، مستحبّا حال الجد، مؤدّيا إلى الرعايا حقّها، من الذّب عنها، والغلظة على عدوها، وإفاضة الأمن والعدل فيها. يرى صور الأشياء على حقيقتها، تسمّى بأمير المسلمين لما احتل الأندلس وأوقع بالروم، وكان قبل يدعى الأمير يوسف، وقامت الخطبة فيها جميعا باسمه، وبالعدوة، بعد الخليفة العباسي. وكان درهمه فضّة، ودنيره تبر محض، في إحدى صفحتي الدّنير «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» ، وتحت ذلك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وفي الداير:«ومن يتّبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين» . وفي الصفحة الأخرى:
«الإمام عبد الله أمير المسلمين» ، وفي الداير: تاريخ ضربه وموضع سكّته، وفي جهتي الدرهم ما حمله من ذلك.
بعض أخباره: في سنة سبعين وأربعمائة وردت عليه كتب الأندلس، يبثّون حالهم، ويحرّكونه إلى نصرهم. وفي سنة اثنتين بعدها ورد عليه عبد الرحمن بن أسباط من ألمرية يشرح حال الأندلس. وفي سنة خمس وسبعين بعدها وجّه إلى شراء العدد فيها واستكثر منها. وفي سنة ستّ بعدها فتح مدينة سبتة ودخلها عنوة على الثّائر بها سقوت البرغواطي. وفي سنة ثمان اتصل به تملّك طاغية قشتالة مدينة طليطلة، وجاز إليه المعتمد بن عباد بنفسه، وفاوضه واستدعاه لنصرة المسلمين، وخرج إليه عن الجزيرة الخضراء. وعلم بذلك الأدفنش، فاخترق بلاد المسلمين معرضا عن رؤساء الطوائف، لا يرضى أخذ الجزية منهم، حتى انتهى إلى الخضراء، ومثل على شاطىء البحر، وأمر أن يكتب إلى الأمير يوسف بن تاشفين، والموج يضرب أرساغ فرسه، بما نسخته:
«من أمير الملتين أذفونش بن فردلند إلى الأمير يوسف بن تاشفين. أمّا بعد، فلا خفاء على ذي عينين أنك أمير الملّة المسلمة، كما أنا أمير الملّة النصرانية. ولم يخف عليكم ما عليه رؤساؤكم بالأندلس من التّخاذل، والتواكل، وإهمال الرعية، والإخلاد إلى الراحة، وأنا أسومهم سوء الخسف، وأضرب الدّيار، وأهتك الأستار، وأقتل الشبّان، وأسبي الولدان، ولا عذر لك في التّخلّف عن نصرتهم، إن أمكنتك قدرة.
هذا وأنتم تعتقدون أن الله، تبارك وتعالى، فرض على كل منكم، قتال عشرة منّا، ثم خفّف عنكم فجعل على كل واحد منكم قتال اثنين منّا، فإنّ قتلاكم في الجنة، وقتلانا في النار، ونحن نعتقد أن الله أظهرنا بكم، وأعاننا عليكم، إذ لا تقدرون دفاعا، ولا تستطيعون امتناعا. وبلغنا عنك أنك في الاحتفال على نيّة الإقبال، فلا أدري إن كان الحين يبطئ بك أمام التكذيب لما أنزل عليك. فإن كنت لا تستطيع الجواز فابعث إليّ ما عندك من المراكب لأجوز إليك، وأنا جزك في أحبّ البقاع، فإن غلبتني، فتلك غنيمة جاءت إليك، ونعمة مثلت بين يديك. وإن غلبتك، كانت لي اليد العليا، واستكملت الإمارة. والله يتمّ الإرادة» .
فأمر يوسف بن تاشفين أن يكتب في ظهر كتابه: «جوابك يا أذفونش، ما تراه، لا ما تسمعه إن شاء الله» . وأردف الكتاب ببيت أبي الطيب «1»
: [الطويل]
ولا كتب إلّا المشرفيّة والقنا «2»
…
ولا رسل إلّا الخميس العرمرم
وعبر البحر، وقد استجاش أهل الأندلس. وكان اللقاء يوم الجمعة منتصف «1»
رجب من عام تسعة وسبعين وأربعمائة. ووقعت حرب مرّة، اختلط فيها الفريقان، بحيث اقتحم الطاغية محلة المسلمين، وصدم يسارة جيوش الأندلس، واقتحم المرابطون محلّته للحين. ثم برز الجميع إلى مأزق، تعارفت فيه الوجوه، فأبلوا بلاء عظيما، وأجلت عن هزيمة العدو، واستئصال شأفته. وأفلت أذفونش في فلّ قليل، قد أصابته جراحة، وأعزّ الله المسلمين ونصرهم نصرا لا كفاء له، وأكثر شعراء المعتمد القول في ذلك، فمن ذلك قول عبد المجيد بن عبدون من قصيدة:
[الوافر]
فأين العجب يا أذفونش هلّا
…
تجنّبت المشيخة يا غلام؟
ستشملك «2» النساء ولا رجال
…
فحدّث ما وراءك يا عصام «3»
أقمت لدى الوغى سوقا فخذها
…
مناجزة وهون لا تنام
فإن شئت اللّجين فثمّ سام
…
وإن شئت النّضار فثمّ حام
رأيت الضّرب تطييبا فصلّب
…
فأنت على صليبك لا تلام
أقام رجالك الأشقون كلّا
…
وهل جسد بلا رأس ينام؟
رفعنا هامهم في كلّ جذع
…
كما ارتفعت على الأيك الحمام
سيعبد بعدها الظّلماء لمّا
…
أتيح له بجانبها اكتتام
ولا ينفكّ كالخفّاش يغضي
…
إذا ما لم يباشره الظلام
نضا إذ راعه واجتاب ليلا
…
يودّ لو انّ طول الليل عام
سيبقى حسرة ويبيد إن لم
…
أبادتنا القناة أو الحسام
وعاد إلى العدوة. ثم أجاز البحر ثانية إلى منازلة حصن ليّيط «1»
، وفسد ما بينه وبين أمراء الأندلس، وعاد إلى العدوة، ثم أجاز البحر عام ثلاثة وثمانين وأربعمائة، عاملا على خلعهم، فتملّك مدينة غرناطة في منتصف رجب من العام المذكور، ودخل القصر بالقصبة العليا منها، واستحسنه، وأمر بحفظه ومواصلة مرمّته، وطاف بكل مكان منه. ثم تملّك ألمرية وقرطبة وإشبيلية وغيرها، في أخبار يطول اقتضاؤها، والبقاء لله.
وفاته: توفي، رحمه الله، بمدينة مراكش يوم الاثنين مستهل محرم سنة خمسمائة. وممن رثاه أبو بكر بن سوّار من قصيدة أنشدها على قبره:[الكامل]
ملك الملوك، وما تركت لعامل
…
عملا من التّقوى يشارك فيه
يا يوسف، ما أنت إلّا يوسف
…
والكلّ يعقوب بما يطويه
اسمع، أمير المؤمنين، وناصر ال
…
دين الذي بنفوسنا نفديه
جوزيت خيرا عن رعيتك التي
…
لم ترض فيها غير ما يرضيه
أمّا مساعيك الكرام فإنها
…
خرجت عن التّكييف والتّشبيه
في كل عام غزوة مبرورة
…
تردي عديد الروم أو تفنيه
تصل الجهاد إلى الجهاد موفّقا
…
حتم القضاء بكل ما تقضيه
ويجيء ما دبّرته كمجيئه
…
فكأنّ كلّ مغيّب تدريه
متواضعا لله مظهر دينه
…
في كل ما تبديه أو تخفيه
ولقد ملكت بحقّك الدنيا وكم
…
ملك الملوك الأمر بالتّمويه
لو رامت الأيام أن تحصي الذي
…
فعلت سيوفك لم تكد تحصيه
إنا لمفجوعون منك بواحد
…
جمعت خصال الخير أجمع فيه
وإذا سمعت حمامة في أيكة
…
تبكي الهديل فإنها ترثيه
ومضى «2» قد استرعى رعيّة أمّه
…
فأقام فيهم حقّ مسترعيه
إذا هزبر الغاب صرّى شبله
…
في الغاب كان الشّبل شبه أبيه
وإذا عليّ كان وارث ملكه
…
فالسّهم يلقى في يدي باريه