الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قرّطت آذان من فيها بفاضحة
…
على الحسان حصا الياقوت والدّرر
سيّارة في أقاصي الأرض قاطعة
…
شقاشقا هدرت «1» في البدو والحضر
مطاعة الأمر في الألباب «2» قاضية
…
من المسامع ما لم يقض من وطر
ومن الغرباء
عثمان بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن
«3»
الدّائل بتلمسان، يكنى أبا سعيد.
حاله: كان شيخا مخيلا بسمة الخير، متظاهرا بالنّسف، بقية آل زيّان، متقدّما في باب الدهاء والذّكر، بالغا أقصى المبالغ في ذلك. سكن غرناطة ووادي آش، وولد بغرناطة. وكان أبوه ممن هلك في وقعة فرتونة، فارتزق مع الجند الغربي بديوانها في حجر أبيه وبعده، ثم ثنى عنانه إلى وطنه، وتخطّته المتالف عند تغلّب السلطان صاحب المغرب على بلده تلمسان، وغاص في عرض من تهنّأ الإبقاء من قبيله. وكان ممن شمله حصار الجزيرة، ووصل قبله ممدّا مع الجيش الغربي بجيش غرناطة عند منازلة القلعة. ولمّا جرت على واترهم السلطان أبي الحسن الهزيمة بظاهر القيروان، وبعد الطمع في انتشاله وجبره، ولحق كل بوطنه، حوم الفلّ من بني زيّان على ضعفهم، ومذ رحل عنه السلطان القائم بملك المغرب أبو عنان، إلى محل الأمر ودار الملك، وسدّ تلمسان بشيخ من قبيلهم يعرف بابن حرار له شهرة وانتفاخ لتنسيق رياح الاختلاف، فذ في إدارة الحيلة، وإحالة قداح السياسة، رأس الرّكب الحجازي غير ما مرة، وحلّ من الملوك ألطف محلّة. ولمّا نهد القوم إلى تلمسان، ناهضهم ابن الحرار بمن استركب من جنده، وانضمّ إليه من قومه، فدارت عليهم الهزيمة، وأحيط به، فتملّك البلد، وتحصّل في الثّقاف، إلى أن هلك به مغتالا، واستولى عثمان بن يحيى على المدينة، وانقاد إليه ما يرجع إليها من البلاد والقبائل، فثاب لهم ملك لم
تكد شعلته تقد حتى خبت، وعلى ذلك فبلغوا في الزمان القريب من وفور العدّة، واستجادة الآلة، وحسن السّيرة، ما يقضي منه العجب. وانفرد عثمان بالأمر، وعيّن أخاه أبا ثابت الزعيم إلى إمارة الجيش، فاستقام الصفّ، وانضمّ النّشر، وترتّبت الألقاب، واستأنفوا الدولة، وتلقّفوا الكرة، وقلّ ما أدبر شيء فأقبل. وبادر السلطان بالأندلس مفاتحته مهنّئا، وللحلف مجدّدا، بكتاب من إنشائي من فصوله:
«بعد الصّدر والتحميد، ولا زائد بفضل الله المرجو في الشّدائد، لجميل العوائد، إلّا ما شرح الصدور، وأكّد السرور، وبسط النفوس، وأضحك الرّسن العبوس، من اتّساق أمور ذلك الملك لديكم، واجتماع كلمته عليكم، وما تعرّفنا أن الدولة الزّيانيّة، وصل الله لبدورها استئناف الكمال، وأعلى أعلامها في هضاب اليمن والإقبال، تذكّرت الرسائل القديمة والأذمّة، وألقت إلى قومها بالأزمّة، وحنّت إلى عهدهم على طول النّوى، وأنشد لسان حالها: «نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى» ، فأصبح شتيتك بأهلها مجموعا، وعلم عليائها بأيدي أوليائها مرفوعا، وملابس اعتزازها بعد ابتزازها جديدة، وظلال سعودها على أغوارها ونجودها مديدة، وقبيلها قد أنجح الله في ائتلافه أمل الآمل، ومبتداها مرفوعا مع وجود العوامل، والكثير من أوطانها قد سلكت مسلكها في الطاعة، وتبادرت إلى استباق فضيلة الوفاق بحسب الاستطاعة، فعظم الاستبشار بأن كان لكم مالها، وفي إيالتكم انتيالها، من غير أن يعلق بأسبابها من ليس من أربابها، ويطمع في اكتسابها من لم يكن في حسابها. وقلنا موارث وجب، وعاصب حجب، وركب علج من بعد القفول، وشمس طلعت من بعد الأفول، وجيد حلّي بعد ما اشتكى العطل، وغريم قضى بعد ما مطل، وطرف تنبّه بعد ما سجع، ودرّيّ استقام سيره عقب ما رجع، وقضية انصرف دليلها عن حدود القواطع، وطرحت عليه أشعة السّعود السّواطع، لا بل عبد أبق، لقدر سبق، حتى إذا راجع نهاه، وعذله العقل ونهاه، جنح بعد هجره، إلى كنف من نشأ في حجره.
وعلمنا أن الدولة التي عرفنا مكارمها قد دالت، والغمامة التي شكرنا مواقعها قد انثالت، فجرينا في المسرّة ملء الأعنّة، وشاركنا في شكر هذه المنّة، وأصدرنا إليكم هذا الخطاب مهنّئا، وعن الود الكريم والولاء الصّميم منبيا، وفي تعزيز ما بين الأسلاف جدّد الله عليهم ملابس الرّضوان معيدا مبديا، وإن تأخّر منه الغرض، وقضى بهذا العهد واجبه المفترض، والأعذار واضحة، وأدلّتها راجحة، وللضّرار أحكام تمضى، والفروض للفوات تقضى، فكيف والاعتقاد الجميل مسيّر مسكّن، والوقت والحمد لله متمكن؟ وما برحنا في مناط اجتهاد، وترجيح استشهاد، والأخبار يضطرد مفهومها، والألفاظ لا يتخصّص عمومها، والأحاديث يجول في متعارضها النّظر، ولا
يلزم العمل ما لم يصحّ الخبر. فلمّا تحققنا الأمر من قصّه، وتعاضد قياسه بنصّه، لم نقدّم على المبادرة عملا، وبيّنا لكم من حسن اعتقادنا ما كان مجملا، فليهن تلك الإيالة ما استأنفته من شبابها، وتسربلته من جديد أثوابها، وليستقبل العيش خضرا، والدهر معتذرا، والسّعد مسفرا» .
وتمادى ملكه من الثامن والعشرين لجمادى الآخرة من عام تسعة وأربعين وسبعمائة إلى أن استوسق ملك المغرب للسلطان أبي عنان، واستأثر إليه أبيّه، وتحرك إلى منازلة تلمسان في جمادى الآخرة عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة، وكسر جمعهم، واستولى على ملكهم حسبما يأتي، وبرز إليه سلطانها المذكور مؤثرا الإصحار على الاجتحار، واللقاء على الانحصار، وكانت بين الفريقين حرب ضروس، ناشب الزّيّانيون محلّات المغرب القتال، بموضع يعرف بإنكاد، على حين غفلة، وبين يدي شروع في تنقّل وسكون، وتفرّق من الحامية في ارتياد الخلا، وابتغاء الماء، فلم يرع إلّا إطلال الرّايات، وطلوع نواصي الخيل، فوقع الصراخ، وعلا النّداء، وارتفع القتام، وبادر السلطان بمن معه من الخالصة، وروّم الركاب الصّدمة، ومضى قدما، وقد طاش الخبر بهزيمته، فعاثت العربان في محلّته، وكانوا على الأموال أعدى من عدوّه، وفرّ الكثير إلى جهة المغرب بسوء الأحدوثة.
ولمّا تقاربت الوجوه، وصدق المصاع، قذف الله في قلوب الزيّانيين الرّعب، واستولى عليهم الإدبار، فانهزموا أقبح هزيمة، وتفرّقوا شذر مذر، واختفى سلطانهم عثمان المترجم به، وذهب متنكرا وقد ترجّل، فعثر عليه من الغد، وأوتي به فشدّ وثاقه، وأسرع السلطان اللّحاق بتلمسان، وقد تلقّاه أهلها معلنين بطاعته ولائذين بجناب عفوه، وتنكّبها الجيش المفلول لنظر الأمير أبي ثابت، فاستقرّ بأحواز جزائر بني مزغناي. ودخل السلطان تلمسان في يوم الأحد الحادي عشر من ربيع الأول عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة، وتدامر بنومرين، واستدركوا دحض الوصمة في اتّباع أضدادهم المحروبين، فكان اللقاء بينهم وبين الجيش المفلول، وحكم الله باستئصالهم، فمضى عليهم السيف، وأوتي بزعيمهم الزعيم، فاحتمل مع أخيه في لمّة من أوليائهم، ونفذ الأمر لأقتالهم من بني حرار بأخذ حقهم، فقتل عثمان والزّعيم، رحمهما الله، بخارج تلمسان ذبحا، وألحق بهما عميد الدّولة يحيى بن داود بعد أن استحضر عثمان بين يدي السلطان، وأسمع تأنيبا، حسن عنه جوابه بما دلّ على ثبات وصبر. وانقضى أمر كرّتهم الثانية، وخلت منهم الأوطان، وخلصت لبني مرين الجهة، وصفت العمالة. والله يعطي ملكه من شاء سبحانه لا إله إلّا هو، وكان مقتل عثمان وأخيه في أوائل شهر ربيع الآخر عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة.