الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقلت أصف رجلا خبيثا غفر الله لي وله «1» : [الطويل]
وذي حيل يعيى التّقيّة أمرها «2»
…
مكايده في لجّة الليل تسبح
يدبّ شبول الليث والليث ساهر
…
ويسرق ناب الكلب والكلب ينبح
وقلت في نزعات المشارقة «3» : [الوافر]
أقول لعاذلي لمّا نهاني
…
وقد وجد الملامة «4» إذ جفاني
علمت بأنه مرّ التّجنّي
…
وفاتك أنه حلو اللسان
ومن أغراض الإشارات الصوفية وغيرها من الوعظ والجدّ والحكم، ولعلّ ذلك ماحيا لما تقدّمه بفضل الله
قلت: وربما ثبتت في كتاب «المحبة» من تأليفي: [الطويل]
تعدّدت الألفاظ واتّحد المعنى
…
وأصبح فردا ما مررت به مثنى
وعادت لعين الجمع وهي كثيرة
…
محا كلّ فرق مجتلى وجهك الأسنى
تعبّدت الأفكار آثارك العليا «5»
…
وقيّدت الأبصار روضتك الغنّا
وقصّرت الألفاظ عن نيل غاية
…
ببعض الذي أبدته ذاتك من معنى
وقلت «6» : [الكامل]
لا تنكروا «7» إن كنت قد أحببتكم
…
أو أنني استولى عليّ هواكم
طوعا وكرها ما ترون فإنني
…
طفت الوجود فما وجدت سواكم
وقلت: [السريع]
والكون أشراك نفوس الورى
…
طوبى لنفس حرّة فازت
إن لم تحز معرفة الله قد
…
أورطها الشيء الذي حازت
وقلت أيضا في المشيب وما في معناه «1» : [الكامل]
أنّى لمثلي بالهوى من بعد ما
…
للوخط بالفودين «2» أيّ دبيب
لبس البياض وحلّ ذروة منبر
…
منّي ووالى الوعظ فعل خطيب
وقلت في تعلّل يناقض ذلك «3» : [الخفيف]
قلت للشّيب: لا يربك جفائي
…
في اختصاري لك البرور ومقتك
أنت بالعتب يا مشيبي أولى
…
جئتني فجأة «4» وفي غير وقتك
وقلت «5» : [الرمل]
طال حزني لنشاط ذاهب
…
كنت أسقى دائما من خانه «6»
وشباب كان يندى نضرة
…
نزل الثلج على ريحانه
ونظرت يوما إلى ولدي فأعجبتني شيبته فقلت «7» : [الرمل]
سرق الدهر شبابي من يدي
…
ففؤادي مشعر بالكمد
وحملت «8» الأمر إذ أبصرته
…
باع ما أفقدني من ولدي
وقلت وهو الحقّ: [المنسرح]
انظر لخضّاب «9» الشّيب قد نصلا
…
ورائد العيش بعده انفصلا
ومطلبي والذي كلفت به
…
قد رمت تحصيله فما حصلا
لا أمل مسعف ولا عمل
…
ونحن «10» في ذا والموت قد وصلا
وقلت: [الوافر]
قحطنا ثم صاب الغيث رحمى
…
فشكرا يا حمام، إذا غططتا «11»
ويا غيث الرّضا، عنّا انسكابا
…
فأنت على الخبير به سقطتا
وقلت لمّا أخذت في طريقة أبي الفرج: [الطويل]
قعدت لتذكير ولو كنت منصفا
…
لذكّرت نفسي فهي أحوج للذّكرى
إذا لم يكن مني لنفسي زاجرا
…
فيا ليت شعري كيف نفعل في أخرى
وقلت، وأنا بسلا، وقد أحسست غفلة، والحال كلّه كذلك «1» :[الطويل]
أيا أهل هذا القطر، ساعده القطر
…
دهيت «2» فدلّوني لمن يرفع الأمر؟
تشاغلت بالدنيا ونمت مفرّطا
…
وفي شغلي أو نومتي سرق العمر
وقلت في منكانة الرّمل وهو بديع: [البسيط]
منكانة الرّمل فيها عبرة ونهى
…
وشاهد أنّ كلّا منقض كمدا
لباب عمر الفتى يجري بجريتها
…
كأنما العمر لمّا أطلقت فصدا
ولما ارتجلت ذلك، استزاد الحاضرون فقلت «3» :[البسيط]
تأمّل الرّمل في المنكان «4» منطلقا
…
يجري وقدره عمرا منك منتهبا
والله لو كان وادي الرّمل ينجده
…
ما طال «5» طائله إلّا وقد ذهبا
وقلت في قريب منه: [الطويل]
حمى الفلك الدوّار جفني عن الكرى
…
لشتّى هموم منه فكري يجنيها
أراه رحى قين وعمري صفيحة
…
يكرّ عليها بالمدار فيفنيها
وقلت في الوصايا: [الوافر]
إذا ما النّفس مالت نحو حسن
…
فقد خطرت على خطر الولوع
فإن أحسّت ميله «6» أدركها
…
فما بعد المميل سوى الوقوع
وقلت في المعنى: [الرجز]
إذا صرفت نحو وجه حسن
…
طرفك واستهداك للحين الطّمع
فلا تمل قلبك ما اسطعت «7» له
…
فالقلب كالحائط إن مال وقع
وقلت: [المتقارب]
أخي، لا تقل كذبا إن نطقت
…
فللناس في الصّدق فضل وضح
وخف إن كذبت طروّ افتضاح
…
فما كذب الفجر إلّا افتضح
وقلت منحيا على عالم الكون والفساد: [الكامل]
والله لو كانت حياتي في يدي
…
مع جهل وعد الله أو لقياه
في خفض عيش لا تكلّف منّة ال
…
إنسان مطعمه ولا سقياه
ما كان هذا العالم الجمّ الأذى
…
مما يؤمّل عاقل بقياه
وكتبت في بعض الحيطان لما اجتزت على مدينة سبتة «1» : [الوافر]
أقمنا برهة ثم ارتحلنا
…
كذلك الدهر حال بعد حال
وكلّ بداية فإلى انتهاء
…
وكلّ إقامة فإلى ارتحال
ومن سام الزمان بعام أمر «2»
…
فقد وقف الرجاء على المحال
ولنختم غرض هذه المقطوعات بقولي، ولا حول ولا قوة إلّا بالله «3» :[مجزوء الرمل]
عدّ عن كيت وكيت
…
ما عليها غير ميت
كيف ترجو «4» حالة البقا
…
ء «5» لمصباح وزيت؟
ومن الموشحات التي انفرد باختراعها الأندلسيون، وقد طمس اليوم رسمها، قولي «6» :
ربّ ليل ظفرت بالبدر
…
ونجوم السماء لم تدر
حفظ الله ليلنا ورعى
…
أيّ شمل من الهوى جمعا
غفل الدهر والرقيب معا
ليت نهر النهار «1» لم يجر
…
حكم الله لي على الفجر
علّل النّفس يا أخا الطّرب «2»
…
بحديث أحلى من الضّرب
في هوى من وصاله أربي «3»
كلّما مرّ ذكر من أدري «4»
…
قلت: يا برده على صدري
صاح لا تهتمم «5» بأمر غد
…
وأجز صرفها يدا بيد
بين نهر وبلبل غرد
وغصون تميل «6» من سكر
…
أعلنت: يا غمام «7» ، بالشّكر
يا مرادي ومنتهى أملي
…
هاتها عسجديّة الحلل
حلّت الشمس منزل الحمل
وبرود «8» الربيع في نشر
…
والصّبا عنبرية النّشر
غرّة الصبح هذه وضحت
…
وقيان الغصون قد صدحت
وكأنّ الصّبا إذا نفحت
وهفا «9» طيبها عن الحصر
…
مدحة في علا بني نصر
هم ملوك الورى بلا ثنيا
…
مهّدوا الدين زيّنوا الدّنيا
وحمى الله منهم العليا
بالإمام «10» المرفّع الخطر
…
والغمام المبارك القطر
إنما يوسف إمام هدى
…
جاز في المعلوات كلّ مدى
قل لدهر بملكه سعدا
افتخر واجبا «1» على الدهر
…
كافتخار الربيع بالزّهر
يا عماد العلاء والمجد
…
أطلع العيد طالع السّعد
ووفى الفتح فيه بالوعد
وتجلّت فيه على القصر «2»
…
غرر من طلائع النّصر
فتهنّأ من حسنه البهج
…
بحياة النفوس والمهج
واستمعها ودع مقال شجي
قسما بالهوى لذي حجر
…
ما لليل المشوق من فجر
ومن ذلك قولي أيضا «3» :
زمن الأنس كلّما ولّى ردّه معوز
…
فاغتنم منك ريق العمر وهو مستوفز
اطرد الهمّ بابنة العنب
…
وأحل غيم الثّرى
عن شموس عكفن في حجب
…
عن عيون الورى
هي كنز من خالص الذّهب
…
حلّ عند العرا
كم فقير أتى على وعد فيه يستنجز
…
والوعيد الشديد معروف للذي يكنز
أضحك الفجر مبسم الشّرق
…
فاستراب الظّلام
وانتضى الأفق صارم البرق
…
من قراب الغمام
وتحلّت ترائب الورق
…
درّ زهر الكمام
ولجيش الصباح في الأفق راية تركز
…
وخيول السّحاب بالبرق أبدا تنهز «4»
وقدود الغصون ترتاح
…
للقاء النسيم
وشميم الرياض نفّاح
…
كثناء الكريم
ومحيّا الصباح يلتاح
…
في الجمال الوسيم
وخطيب الحمام في الغصن مسهب موجز
…
ينكر النّوم فهو بالعتب مفصح ملغز
للهوى قدوة من الناس
…
ذات نهج قويم
لا ترى في المدام من باس
…
وارتشاف النديم
بحديث الغرام والكاس
…
في الزّمان القديم
طوّر واصفح كلّ ديوان وبه طرّز
…
ما لا تجز في شريعة الظّرف غير ما جوّز
قف ركاب المدائح الغرّ
…
بأهل برّ الهدى
يوسف الملك نخبة الأمر
…
غيث أفق النّدى
من لأسلافه بني نصر
…
في جهاد العدى؟
وكتبت عن السلطان أبي الحجاج ابن السلطان أبي الوليد بن نصر، رحمه الله، إلى التّربة المقدّسة، تربة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من أوليات ما صدر عني في هذه الأغراض «1» :[الطويل]
إذا فاتني ظلّ الحمى ونعيمه
…
فحسب «2» فؤادي أن يهبّ نسيمه
ويقنعني أنّي به متكيّف «3»
…
فزمزمه دمعي وجسمي حطيمه «4»
يعود فؤادي ذكر من سكن الغضا
…
فيقعده فوق الغضا «5» ويقيمه
ولم أر يوما «6» كالنسيم إذا سرى
…
شفى سقم القلب المشوق سقيمه «7»
نعلّل بالتّذكار نفسا مشوقة
…
يدير عليها كأسه ويديمه «8»
وما شفّني «1» بالغور قدّ مرنّم «2»
…
ولا شاقني من وحش «3» وجرة «4» ريمه
ولا سهرت عيني لبرق ثنيّة
…
من الثّغر يبدو موهنا فأشيمه «5»
براني شوق للنبيّ محمد
…
يسوم فؤادي برحه «6» ما يسومه
ألا يا رسول الله، ناداك ضارع
…
على البعد «7» محفوظ الوداد سليمه
مشوق إذا ما الليل مدّ رواقه
…
تحثّ «8» به تحت الظلام همومه
إذا ما حديث عنك جاءت به الصّبا
…
شجاه من الشوق الحديث «9» قديمه
أيجهر بالنّجوى وأنت سميعها
…
ويشرح ما يخفي وأنت عليمه «10» ؟
وتعوزه السّقيا وأنت غياثه
…
وتتلفه البلوى وأنت رحيمه «11» ؟
بنورك، نور الله، قد أشرق الهدى
…
فأقماره وضّاحة ونجومه
لك «1» انهلّ فضل الله بالأرض «2» ساكبا
…
فأنواؤه ملتفّة وغيومه «3»
ومن فوق أطباق السماء بك اقتدى
…
خليل الذي أوطاكها «4» وكليمه «5»
لك الخلق الأرضى الذي جلّ ذكره «6»
…
ومجدك «7» في الذّكر الحكيم «8» عظيمه
يجلّ مدى علياك عن مدح مادح
…
فموسر «9» درّ القول فيك عديمه
ولي، يا رسول الله، فيك وراثة
…
ومجدك لا ينسى الذّمام «10» كريمه
وعندي إلى أنصار دينك نسبة
…
هي الفخر لا يخشى انتقالا مقيمه
وكان بودّي أن أزور مبوّأ
…
بك افتخرت أطلاله ورسومه
وقد يجهد الإنسان طرف اعتزامه
…
ويعوزه من بعد ذاك مرومه
وعذري في تسويف عزمي ظاهر
…
إذا ضاق عذر العزم عمّن يلومه
عدتني بأقصى الغرب عن تربك العدا «11»
…
جلالقة الثّغر الغريب ورومه
أجاهد منهم في سبيلك أمّة
…
هي البحر يعيي أمرها من يرومه
فلولا اعتناء منك يا ملجأ الورى «1»
…
لريع حماه واستبيح حريمه
فلا تقطع الحبل الذي قد وصلته
…
فمجدك موفور النّوال عميمه
وأنت لنا الغيث الذي نستدرّه
…
وأنت لنا الظّلّ الذي نستديمه
ولمّا نأت داري وأعوز مطمعي
…
وأقلقني شوق يشبّ «2» جحيمه
بعثت بها جهد المقلّ معوّلا
…
على مجدك الأعلى الذي جلّ خيمه
وكلت بها همّي وصدق قريحتي
…
فساعدها «3» هاء الرّويّ وميمه
فلا تنسني يا خير من وطئ الثّرى
…
فمثلك لا ينسى لديه خديمه
عليك صلاة الله ما ذرّ «4» شارق
…
وما راق من وجه الصّباح وسيمه
إلى «5» رسول الحقّ، إلى كافّة الخلق، وغمام الرحمة الصادق البرق، والحائز «6» في ميدان اصطفاء الرحمن قصب السّبق، خاتم الأنبياء، وإمام ملائكة السماء، ومن وجبت له النبوّة وآدم بين الطّين والماء، شفيع أرباب الذنوب، وطبيب أدواء
القلوب، ووسيلة «1» الخلق إلى علّام الغيوب، نبيّ الهدى الذي طهر قلبه، وغفر ذنبه، وختم به الرسالة ربّه، وجرى في النفوس مجرى الأنفاس حبّه، المشفّع «2» يوم العرض، المحمود في ملإ السماوات «3» والأرض، صاحب اللّواء المنشور «4» ، والمؤتمن على سرّ الكتاب المسطور، ومخرج الناس من الظّلمات إلى النور، المؤيّد بكفاية الله وعصمته، الموفور حظّه من عنايته ونعمته «5» ، الظّلّ الخفّاق على أمّته، من لو حازت الشمس بعض كماله ما عدمت إشراقا، أو كانت للآباء رحمة قلبه ذابت نفوسهم إشفاقا، فائدة «6» الكون ومعناه، وسرّ الوجود الذي بهر «7» الوجود سناه، وصفيّ حضرة القدس الذي لا ينام قلبه إذا نامت عيناه، البشير «8» الذي سبقت له البشرى، ورأى من آيات ربّه الكبرى، ونزل عليه «9» سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى
«10» . الأنوار «11» من عنصر «12» نوره مستمدّة، والآثار «13» من آثاره مستجدّة.
من طوي بساط الوحي لفقده، وسدّ باب النبوّة «14» والرسالة من بعده، وأوتي جوامع الكلم فوقف «15» البلغاء حسرى دون حدّه، الذي انتقل في الغرر الكريمة نوره، وأضاءت لميلاده مصانع الشام وقصوره، وطفقت الملائكة تحيّيه «16» وفودها وتزوره. وأخبرت الكتب المنزّلة على الأنبياء بأسمائه وصفاته، فجاء بتصديق الخبر ظهوره «17» وأخذ عهد الإيمان «18» به «19» على من اتصلت بمبعثه منهم أيام حياته، المفزع الأمنع يوم الفزع الأكبر، والسّند المعتمد عليه «20» في أهوال المحشر، ذو «21» المعجزات التي أثبتتها المشاهدة والحسّ، وأقرّ بها الجنّ والإنس، من جماد يتكلّم، وجذع لفراقه يتألّم، وقمر له ينشقّ، وشجر «22» يشهد أنّ ما جاء به هو الحقّ،
وشمس بدعائه عن مسيرها تحبس، وماء من أصابعه الكريمة «1» ينبجس «2» ، وغمام باستسقائه يصوب، وركيّة «3» بصق في أجاجها «4» فأصبح ماؤها وهو العذب المشروب، المخصوص بمناقب الكمال وكمال المناقب، المسمّى بالحاشر «5» العاقب «6» ذو المجد البعيد المراقي «7» والمراقب «8» ، أكرم من رفعت «9» إليه وسيلة المعترف المتغرب «10» ، سيّد الرسل محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، الذي فاز بطاعته المحسنون، واستنقذ بشفاعته المذنبون، وسعد باتباعه الذين «11» لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، صلى الله عليه وسلم، ما لمع برق، وهمع ودق «12» ، وطلعت شمس، ونسخ اليوم أمس. من عتيق شفاعته، وعبد «13» طاعته، المعتصم بسببه، المؤمن بالله ثم به، المستشفي بذكره كلّما تألّم، المفتتح بالصلاة عليه «14» كلما تكلّم، الذي «15» إن ذكر تمثّل طلوعه بين أصحابه وآله، وإن هبّ النسيم العاطر وجد فيه طيب خلاله، وإن سمع الأذان تذكّر صوت بلاله «16» ، وإن ذكر القرآن استشعر «17» تردّد جبريل بين معاهده وخلاله «18» ، لاثم تربه، ومؤمّل قربه، ورهين طاعته وحبّه، المتوسّل به إلى رضى الله ربّه «19» ، يوسف بن إسماعيل بن نصر «20» . كتبه إليك يا رسول الله، والدّمع ماح، وخيل الوجد ذات جماح، عن شوق يزداد كلّما نقص الصّبر، وانكسار لا يتاح له إلّا بدنوّ مزارك الجبر، وكيف
لا يعيي «1» مشوقك الأمر، وتوطأ على كبده الجمر «2» ، وقد مطلت الأيام بالقدوم على تربتك «3» المقدّسة اللّحد، ووعدت الآمال ودانت بإخلاف الوعد، وانصرفت الرّفاق والعين بإثمد «4» ضريحك ما اكتحلت، والركائب إليك ما ارتحلت «5» ، والعزائم قالت وما فعلت، والنواظر في تلك المشاهد الكريمة لم تسرح، وظهور «6» الآمال عن ركوب «7» العجز لم تبرح. فيا لها من «8» معاهد فاز من حيّاها، ومشاهد ما أعطر ريّاها! بلاد نيطت بها عليك التّمائم «9» ، وأشرقت بنورك منها النّجود والتّهائم. ونزل في حجراتها عليك الملك، وانجلى بضياء فرقانك فيها الحلك «10» ، مدارس الآيات والسّور، ومطالع المعجزات السّافرة الغرر «11» ، حيث قضيت الفروض وحتمت، وافتتحت سور «12» الوحي «13» وختمت، وابتدئت «14» الملّة الحنيفية وتمّمت، ونسخت الآيات وأحكمت. أما والذي بعثك بالحقّ هاديا، وأطلعك للخلق نورا باديا، لا يطفئ غلّتي إلّا شربك، ولا يسكّن لوعتي إلّا قربك، فما أسعد من أفاض من حرم الله إلى حرمك، وأصبح بعد أداء ما فرضت عن الله ضيف كرمك، وعفّر الخدّ في معاهدك ومعاهد أسرتك، وتردّد ما بين داري بعثتك وهجرتك «15» . وإني لما عاقتني عن زيارتك العوائق وإن كان شغلي عنك بك، وصدّتني «16» الأعداء فيك عن وصل سببي بسببك، وأصبحت بين «17» بحر تتلاطم أمواجه، وعدوّ تتكاثف أفواجه، ويحجب الشمس عند الظّهيرة عجاجه، في طائفة من المؤمنين بك وطّنوا على الصبر نفوسهم، وجعلوا التوكّل على الله وعليك لبوسهم «18» ، ورفعوا إلى مصارحتك رؤوسهم، واستعذبوا في مرضاة الله «19» ومرضاتك بوسهم «20» ، يطيرون من هيعة إلى أخرى،
ويلتفتون «1» والمخاوف «2» عن «3» يمنى ويسرى، ويقارعون وهم الفئة القليلة جموعا كجموع قيصر وكسرى، لا يبلغون من عدوّ هو «4» الذّرّ عند «5» انتشاره، عشر «6» معشاره، قد باعوا من الله تعالى «7» الحياة الدّنيا؛ لأن تكون كلمة الله هي العليا، فيا له من سرب مروع، وصريخ إلّا منك «8» ممنوع، ودعاء إلى الله «9» وإليك مرفوع. وصبية حمر الحواصل، تخفق فوق أوكارها «10» أجنحة المناصل، والصليب قد تمطّى يمدّ «11» ذراعيه، ورفعت الأطماع بضبعيه، وقد حجبت بالقتام السماء، وتلاطمت أمواج الحديد، والبأس الشّديد، فالتقى الماء، ولم يبق إلّا الذّماء «12» . وعلى ذلك فما ضعفت البصائر ولا ساءت الظنون، وما وعد به الشهداء تعتقده القلوب حتى تكاد تشاهده «13» العيون، إلى أن نلقاك «14» غدا إن شاء الله وقد أبلينا العذر «15» ، وأرغمنا الكفر، وأعملنا في سبيل الله وسبيلك البيض والسّمر «16» ، استنبت «17» رقعتي هذه لتطير إليك من شوقي «18» بجناح خافق، وتشعر «19» نيّتي التي تصحبها لرفيق موافق، فتؤدّي «20» عن عبدك وتبلّغ، وتعفّر الخدّ في تربك «21» وتمرّغ، وتطيّب بريّا «22» معاهدك الطاهرة وبيوتك، وتقف وقوف الخشوع «23» والخضوع تجاه تابوتك، وتقول بلسان التملّق، عند التّشبّث بأسبابك والتّعلّق، منكسرة الطّرف، حذرا بهرجها «24» من عدم الصّرف: يا غياث الأمة، وغمام الرحمة، ارحم غربتي وانقطاعي، وتغمّد بطولك
قصر باعي، وقوّ على هيبتك خور «1» طباعي. فكم جزت من لجّ مهول، وجبت من حزون وسهول، وقابل بالقبول نيابتي، وعجّل بالرّضا إجابتي. ومعلوم من كمال تلك الشّيم، وسخاء «2» تلك الدّيم، أن لا يخيب «3» قصد من حطّ بفنائها، ولا يظمأ وارد أكبّ على إنائها «4» . اللهمّ، يا من جعلته أوّل الأنبياء بالمعنى وآخرهم بالصّورة، وأعطيته لواء الحمد يسير آدم فمن دونه تحت ظلاله المنشورة، وملّكت أمّته ما زوي له من زوايا البسيطة المعمورة، وجعلتني من أمّته المجبولة على حبّه المفطورة «5» ، وشوّقتني إلى معاهده المبرورة، ومشاهده المزورة، ووكلت لساني بالصلاة عليه، وقلبي بالحنين إليه، ورغّبتني في التماس «6» ما لديه، فلا تقطع عنه أسبابي، ولا تحرمني في «7» حبّه أجر ثوابي، وتداركني بشفاعته يوم أخذ كتابي. هذه يا رسول الله وسيلة من بعدت داره، وشطّ مزاره، ولم يجعل بيده اختياره. فإن لم تكن «8» هذه «9» للقبول أهلا فأنت للإغضاء «10» والسمح «11» أهل، وإن كانت ألفاظها وعرة فجنابك للقاصدين سهل، وإذا «12» كان الحبّ يتوارث كما أخبرت، والعروق تدسّ حسبما إليه أشرت، فلي بانتسابي إلى سعد «13» عميد أنصارك مزيّة، ووسيلة أثيرة حفيّة «14» ، فإن «15» لم يكن لي عمل ترتضيه «16» فلي نيّة. فلا تنسني ومن بهذه الجزيرة التي افتتحت «17» بسيف كلمتك، على أيدي خيار «18» أمّتك، فإنما نحن بها «19» وديعة تحت بعض أقفالك «20» ، نعوذ بوجه ربّك من إغفالك، ونستنشق من ريح عنايتك نفحة، ونرتقب من محيّا «21» قبولك لمحة، ندافع بها عدوّا ظغى وبغى، وبلغ من مضايقتنا ما ابتغى. فمواقف التّمحيص قد أعيت من كتب وأرّخ «22» ، والبحر قد
أصمتت «1» بواعث لججه من استصرخ، والطّاغية في العدوان مستبصر، والعدوّ محلّق والوليّ مقصّر «2» . وبجاهك نستدفع «3» ما لا نطيق، وبعنايتك نعالج سقيم الدّين فيفيق، فلا تفردنا ولا تهملنا، وناد ربّك فينا، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا
«4» ، وطوائف أمّتك حيث كانوا، عناية منك تكفيهم، وربّك يقول لك «5» ، وقوله الحقّ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ
«6» . والصلاة والسلام عليك يا خير من طاف وسعى، وأجاب داعيا إذا دعا، وصلّى الله «7» على جميع أحزابك وآلك، صلاة «8» تليق بجلالك، وتحقّ «9» لكمالك، وعلى ضجيعيك وصديقيك، وحبيبيك ورفيقيك، خليفتك في أمّتك «10» ، وفاروقك المستخلف بعده على ملّتك «11» ، وصهرك ذي النّورين المخصوص ببرّك ونحلتك «12» ، وابن عمّك، سيفك المسلول على حلتك، بدر سمائك ووالد أهلّتك.
والسلام الكريم عليك وعليهم كثيرا أثيرا «13» ، ورحمة الله تعالى وبركاته. وكتب «14» بحضرة «15» جزيرة الأندلس غرناطة، صانها الله تعالى «16» ووقاها، ودفع عنها ببركتك كيد عداها.
وكتبت عن ولده أمير المسلمين أبي عبد الله «17» إلى ضريح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضمّنت ذلك ما فتح الله عليه من الفتوحات السّنيّات إليه
وفي أوائل عام أحد وسبعين وسبعمائة «18» : [الطويل]
دعاك بأقصى المغربين غريب
…
وأنت على بعد المزار قريب
مدلّ بأسباب الرجاء وطرفه
…
غضيض على حكم الحياء مهيب «19»
يكلّف قرص البدر حمل تحيّة
…
إذا ما هوى والشمس حين تغيب
ليرجع «1» من تلك المعالم غدوة
…
وقد ذاع من ورد «2» التحيّة طيب
ويستودع «3» الريح الشمال شمائلا
…
من الحبّ لم يعلم بهنّ رقيب
ويطلب في جيب الجيوب جوابها
…
إذا ما أطلّت والصباح منيب «4»
ويستفهم الكفّ الخضيب ودمعه
…
غراما بحنّاء النّجيع خضيب
ويتبع آثار المطيّ مشيّعا «5»
…
وقد زمزم الحادي وحنّ نجيب
إذا أثر الأخفاف «6» لاحت محاربا
…
يخرّ عليها راكعا وينيب
ويلقي ركاب الحجّ وهي قوافل
…
طلاح وقد لبّى النداء «7» لبيب
فلا قول إلّا أنّة وتوجّع
…
ولا حول إلّا زفرة ونحيب
غليل ولكن من قبولك منهل
…
عليل ولكن من رضاك طبيب
ألا ليت شعري والأمانيّ ضلّة
…
وقد تخطىء الآمال ثم تصيب
أينجد نجد بعد شطّ «8» مزاره
…
ويكثب «9» بعد البعد منه كثيب «10» ؟
وهل ينقضي ديني «11» فيسمح طائعا «12»
…
وأدعو بحظّي مسمعا فيجيب؟
ويا ليت شعري هل لحومي مورد «13»
…
لديك؟ وهل لي في رضاك نصيب؟
ولكنّك المولى الجواد وجاره
…
على أيّ حال كان ليس يخيب
وكيف يضيق الذّرع يوما بقاصد
…
وذاك الجناب المستجار رحيب «14» ؟
وما هاجني إلّا تألّق بارق
…
يلوح بفود الليل منه مشيب
ذكرت به ركب الحجاز وجيرة
…
أهاب بها نحو الحبيب مهيب
فبتّ وجفني من لآلىء دمعه
…
غنيّ وصبري للشّجون سليب «1»
ترنّحني «2» الذكرى ويهفو بي الهوى
…
كما مال غصن في الرياض رطيب
وأحضر تعليلا لشوقي بالمنى
…
ويطرق وجد غالب فأغيب
مناي «3» ، لو اعطيت الأمانيّ، زورة
…
يبثّ غرام عندها ووجيب
فقول حبيب إذ يقول تشوّقا
…
عسى وطن يدنو إليّ حبيب
تعجّبت من سيفي وقد سابق القضا
…
وقلبي فلم يسكبه منه مذيب «4»
وأعجب «5» أن لا يورق الرمح في يدي
…
ومن فوقه غيث المشوق «6» سكيب
فيا سرح ذاك «7» الحيّ لو أخلف الحيا
…
لأغناك من صوب الدموع صبيب
ويا هاجر الجوّ الجديب تلبّثا
…
فعهدي رطب الجانبين خصيب
ويا قادح الزّند الشّحاح «8» ترفّقا
…
عليك فشوقي الخارجيّ شبيب
أيا خاتم الرسل المكين مكانه
…
حديث الغريب الدّار فيك غريب
فؤادي على جمر البعاد مقلّب
…
يماح عليه للدموع قليب
فو الله ما يزداد إلّا تلهّبا «9»
…
أأبصرت «10» ماء ثار عنه لهيب؟
فليلته ليل السليم ويومه «11»
…
إذا شدّ للشوق العصاب عصيب
هواي «12» هدى فيك اهتديت بنوره
…
ومنتسبي للصّحب منك نسيب
وحسبي على «13» أنّي لصحبك منتم
…
وللخزرجيّين الكرام نسيب
عدت عن مغانيك المشوقة للعدا
…
عقارب لا يخفى لهنّ دبيب
حراص على إطفاء نور قدحته
…
فمستلب من دونه «14» وسليب
تمرّ الرياح الغفل فوق كلومهم
…
فتعبق من أنفاسها وتطيب
بنصرك «1» عنك الشّغل من غير منّة
…
وهل يتساوى مشهد ومغيب؟
فإن صحّ منك الحظّ طاوعت «2» المنى
…
ويبعد مرمى السّهم وهو مصيب
ولولاك لم يعجم «3» من الرّوم عودها
…
فعود الصّليب الأعجميّ صليب
وقد كانت الأحوال لولا مراغب
…
ضمنت ووعد بالظّنون «4» تريب «5»
منابر عزّ أذّن الفتح فوقها
…
وأفصح للعضب الطّرير خطيب «6»
نقود «7» إلى هيجائها كلّ صائل
…
كما ريع مكحول اللّحاظ ربيب
ونجتاب من سرد «8» اليقين مدارعا
…
يكفّتها «9» من يجتني ويثيب
إذا اضطرب «10» الخطيّ حول غديرها
…
يروقك منها لجّة وقضيب
فعذرا وإغضاء ولا تنس صارخا
…
بعزّك يرجو أن يجيب مجيب
وجاهك بعد الله نرجو وإنّه
…
لحظّ مليء «11» بالوفاء رغيب
عليك صلاة الله ما طيّب الفضا
…
عليك مطيل بالثّناء مطيب
وما اهتزّ قدّ للغصون مرنّح
…
وما افترّ ثغر للبروق شنيب
إلى «12» حجّة الله تعالى المؤيد «13» ببراهين أنواره، وفائدة الكون ونكتة أدواره، وصفوة نوع البشر ومنتهى أطواره. إلى المجتبى وموجود الوجود لم يغن بمطلق الوجود عديمه، والمصطفى «14» من ذرّية آدم قبل أن يكسو العظام أديمه، المحتوم في القدم، وظلمات العدم، عند صدق القدم، تقديمه وتفضيله «15» إلى وديعة النّور المنتقل في الجباه الكريمة والغرر، وغمام الرحمة الهامية الدّرر. إلى مختار الله المخصوص باجتبائه، وحبيبه الذي له المزيّة على أحبّائه، من «16» ذرّية أنبياء الله تعالى
آبائه. إلى الذي شرح صدره وغسله، ثم بعثه واسطة بينه وبين العباد وأرسله، وأتمّ عليه إنعامه الذي أجزله، وأنزل عليه من النّور والهدى «1» ما أنزله. إلى بشرى المسيح والذّبيح، ومن لهم التّجر الرّبيح، المنصور بالرّعب والرّيح، المخصوص بالنّسب الصّريح. إلى الذي جعله في المحول غماما، وللأنبياء إماما، وشقّ صدره لتلقّي روح أمره غلاما، وأعلم به في التّوراة والإنجيل إعلاما، وعلّم المؤمنين صلاة عليه وسلاما. إلى الشّفيع الذي لا تردّ في العصاة شفاعته، والوجيه الذي قرنت بطاعة الله طاعته، والرؤوف الرّحيم الذي خلصت إلى الله في أهل الجرائم ضراعته.
صاحب الآيات التي لا يسع ردّها، والمعجزات التي أربى على الألف عدّها، فمن «2» قمر شقّ «3» ، وجذع حنّ له وحقّ، وبنان يتفجّر بالماء، فيقوم بريّ الظماء، وطعام يشبع الجمع الكثير يسيره، وغمام يظلّل به مقامه ومسيره «4» ، خطيب المقام المحمود إذا كان العرض، وأول من تنشقّ «5» عنه الأرض، ووسيلة الله تعالى التي لولاها «6» ما أقرض القرض، ولا عرف النّفل «7» والفرض، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف المحمود الخلال، من ذي الجلال، الشاهدة بصدقه صحف الأنبياء وكتب الإرسال، وآياته التي أثلجت القلوب ببرد اليقين السّلسال، صلى الله عليه وسلم، ما ذرّ شارق «8» ، وأومض بارق، وفرّق بين اليوم الشامس والليل الدامس فارق، صلاة تتأرّج عن «9» شذى الزهر «10» ، وتنبلج عن سنا الكواكب الزّهر، وتتردد بين السّرّ والجهر، وتستغرق ساعات النهار «11» وأيام الشهر، وتدوم بدوام الدهر، من عبد هداه، ومستقري «12» مواقع نداه، ومزاحم أبناء «13» أنصاره في منتداه، وبعض سهامه المفوّقة «14» إلى نحور عداه. مؤمّل العتق من النّار بشفاعته، ومحرز طاعة الجبّار بطاعته، الآمن باتصال رعيه من إهمال الله وإضاعته، متّخذ الصلاة عليه وسائل نجاة، وذخائر في الشدائد مرتجاة «15» ، ومتاجر «16»
بضائعها غير مزجاة «1» ، الذي ملأ بحبّه جوانح صدره، وجعل فكره هالة لبدره، وأوجب حقّه «2» على قدر العبد لا على قدره، محمد بن يوسف بن نصر الأنصاري الخزرجي نسيب سعد بن عبادة من أصحابه، وبوارق سحابه، وسيوف نصرته، وأقطاب دار هجرته، ظلّله الله يوم الفزع الأكبر من رضاك عنه بظلال الأمان، كما أنار قلبه من هدايتك بأنوار الهدى والإيمان، وجعله من أهل السّياحة في فضاء حبّك والهيمان. كتبه إليك يا رسول الله واليراع يقتضي «3» مقام الهيبة صفرة لونه، والمداد يكاد أن يحول سواد جونه، وورقة «4» الكتاب يخفق فؤادها حرصا على حفظ اسمك الكريم وصونه، والدمع يقطر فتنقط به الحروف وتفصّل الأسطر، وتوهّم المثول بمثواك المقدّس لا يمرّ بالخاطر سواه ولا يخطر، عن قلب بالبعد عنك قريح «5» ، وجفن بالبكاء جريح، وتأوّه عن تبريح «6» ، كلّما هبّ «7» من أرضك نسيم ريح.
وانكسار ليس له إلّا جبرك «8» ، واغتراب لا يؤنس فيه إلّا قربك، وإن لم «9» يقض فقبرك. وكيف لا يسلم في مثلها الأسى، ويوحش الصباح والمسا، ويرجف جبل الصّبر بعد ما رسى، لولا لعلّ وعسى. فقد سارت الرّكبان «10» إليك ولم يقض مسير، وحوّمت الأسراب عليك والجناح كسير، ووعدت الآمال فأخلفت، وحلفت العزائم فلم تف بما حلفت، ولم تحصل النفس من تلك المعاهد ذات الشّرف الأثيل، إلّا على التّمثيل، ولا من المعالم المتناهية «11» التّنوير، إلّا على التّصوير، مهبط «12» وحي الله ومتنزّل أسمائه، ومتردّد ملائكة سمائه، ومرافق «13» أوليائه، وملاحد أصحاب خيرة أنبيائه، رزقني الله الرضا بقضائه، والصّبر على جاحم البعد ورمضائه.
من حمراء غرناطة، حرسها الله تعالى، دار ملك الإسلام بالأندلس قاصية سيلك «14» ، ومسلحة «15» رجلك يا رسول الله وخيلك، وأنأى مطارح دعوتك
ومساحب ذيلك، حيث مصافّ الجهاد في سبيل الله وسبيلك، قد ظلّلها القتام، وشهبان الأسنّة أطلعها «1» منه الإعتام، وأسواق بيع النفوس من الله قد تعدّد بها «2» الأيامى «3» والأيتام، حيث الجراح قد تحلّت بعسجد نجيعها النحور، والشّهداء تحفّ بها الحور، والأمم الغريبة قد قطعتها «4» عن المدد البحور، حيث المباسم المفترّة، تجلوها المصارع البرّة، فتحييها بالعراء «5» ثعور الأزاهر، وتندبها صوادح الأدواح برنّات تلك المزاهر «6» ، [وتحمل «7» السحاب أشلاءها المعطّلة من ظلّها «8» بالجواهر،]«9» حيث «10» الإسلام من عدوّه المكايد بمنزلة قطرة من عارض غمام، وحصاة من ثبير «11» أو شمام «12» ، وقد سدّت الطريق، وأسلم الفراق الفريق «13» ، وأغضّ الريق، ويئس من الساحل الغريق، إلّا أن الإسلام بهذه الجهة المتمسكة بحبل الله وحبلك، المهتدية بأدلّة سبلك، سالم والحمد لله من الانصداع، محروس بفضل الله من الابتداع، مقدود من جديد الملّة، معدوم فيه وجود الطوائف المضلّة، إلّا ما يخصّ الكفر من هذه العلّة، والاستظهار على جمع الكثرة من جموعه بجمع القلّة.
ولهذه الأيام، يا رسول الله، أقام الله أوده «14» برّا بوجهك الوجيه ورعيا، وإنجازا لوعدك «15» وسعيا «16» ، وهو الذي لا يخلف وعدا ولا يخيب سعيا، وفتح لنا فتوحا «17» أشعرتنا برضاه عن وطننا الغريب، وبشّرتنا منه تعالى بتغمّد «18» التقصير ورفع التّثريب «19» ، ونصرنا وله المنّة على عبدة الصليب، وجعل لألفنا الرّدينيّ «20»
ولا منا «1» السّردي حكم التغليب. وإذا كانت الموالي التي طوّقت «2» الأعناق مننها، وقرّرت العوائد الحسنة «3» سيرها وسننها، تبادر إليها نوّابها الصّرحاء «4» ، وخدّامها النّصحاء، بالبشائر، والمسرّات التي تشاع في العشائر، وتجلو لديها نتائج أيديها، وغايات مباديها، وتتاحفها وتهاديها، بمجاني جنّاتها وأزاهر غواديها، وتطرف محاضرها بطرف بواديها، فبابك يا رسول الله أولى بذلك وأحقّ، ولك الحقّ الحقّ، والحرّ منا عبدك المسترقّ، حسبما سجّله الرّق. وفي رضاك من كل من يلتمس رضاه المطمع، ومثواك المجمع، وملوك الإسلام في الحقيقة عبيد سدّتك «5» المؤمّلة، وخول مثابتك «6» المحسّنة بالحسنات المجمّلة «7» ، وشهب تعشو «8» إلى بدورك المكمّلة، ومحض «9» سيوفك المقلّدة في سبيل الله المحمّلة، وحرمة «10» مهادك، وسلاح جهادك، وبروق عهادك «11» . وإنّ مكفول احترامك الذي لا يخفر، وربيّ إنعامك الذي لا يكفر «12» ، وملتحف جاهك «13» الذي يمحى ذنبه بشفاعتك إن شاء الله ويعفر، يطالع روضة الجنّة المفتّحة أبوابها بمثواك، ويفاتح صوان «14» القدس الذي أجنّك «15» وحواك، وينثر بضائع الصلاة عليك بين يدي الضّريح الذي يهواك «16» ، ويعرض جنى ما غرست وبذرت، ومصداق ما بشّرت به لمّا بشّرت وأنذرت، وما انتهى إليه طلق جهادك، ومصبّ عهادك «17» ، لتقرّ عين نصحك الذي «18» أنام العيون السّاهرة هجوعها، وأشبع البطون وروّاها ظمؤها من 1»
الله وجوعها. وإن كانت الأمور بمرأى من عين عنايتك، وغيبها متعرّف بين إفصاحك وكنايتك «20» . ومجمله «21» يا رسول الله، صلّى الله عليك، وبلّغ وسيلتي إليك، هو «22» أنّ الله سبحانه لمّا عرّفني لطفه الخفيّ في التّمحيص، المقتضي عدم المحيص، ثم في التّخصيص، المغني بعيانه
عن التّنصيص، وفّق «1» ببركتك السّارية رحماها «2» في القلوب، ووسائل محبّتك العائدة بنيل المطلوب، إلى استفادة عظة واعتبار، واغتنام إقبال بعد إدبار، ومزيد استبصار، واستعانة بالله تعالى وانتصار «3» ، فسكن هبوب الكفر بعد إعصار، وحلّ مخنّق الإسلام بعد حصار، وجرت على سنن السّنة بحسب الاستطاعة والمنّة اليسيرة، وجبرت بجاهك القلوب الكسيرة، وسهّلت «4» المآرب العسيرة، ورفع بيد العزّة الضّيم، وكشف بنور البصيرة الغيم، وظهر القليل على الكثير، وباء الكفر بخطّة التّعثير، واستوى الدّين الحنيف على المهاد الوثير، فاهتبلنا يا رسول الله غرّة العدوّ وانتهزناها، وشمنا «5» صوارم عزّة الغدوّ «6» وهززناها، وأزحنا «7» علل الجيوش وجهّزناها، فكان مما ساعد عليه القدر، والحظّ «8» المبتدر، والورد الذي حسن منه «9» الصّدر، أننا عاجلنا مدينة برغة «10» ، وقد جرّعت «11» الأختين؛ مالقة ورندة، من مدائن دينك، وخزائن «12» ميادينك، أكواس «13» الفراق، وأذكرت مثل من بالعراق، وسدّت طرق التّزاور على «14» الطّراق، وأسالت المسيل بالنّجيع «15» المراق، في مراصد المراد والمراق «16» ، ومنعت المراسلة مع هدي «17» الحمام، لا بل مع طيف المنام عند الإلمام «18» ، فيسّر الله اقتحامها، وألحمت بيض الشّفار في رؤوس «19» الكفار إلحامها، وأزال «20» بشر السيوف من بين تلك الحروف إقحامها، فانطلق المسرى، واستبشرت القواعد الحسرى، وعدمت بطريقها المخيف مصارع الصّرعى ومثاقف «21» الأسرى، والحمد لله على فتحه الأسنى ومنحه الأسرى، ولا
إله إلّا «1» هو منفّل قيصر وكسرى، وفاتح مغلقاتهما «2» المنيعة قسرا، واستولى الإسلام منها على قرار جنّات، وأمّ بنات، وقاعدة حصون، وشجرة غصون، طهّرت «3» مساجدها المغتصبة المكرهة «4» ، وفجع فيها «5» الفيل الأفيل وأبرهة «6» ، وانطلقت بذكر الله الألسنة المدرهة «7» ، وفاز بسبق ميدانها الجياد «8» الفرهة. هذا وطاغية الرّوم على توفّر جموعه، وهول مرئيه ومسموعه، قريب جواره، بحيث يتّصل خواره، [وقد حرّك إليها الحنين حواره.]«9» ثم نازل المسلمون بعدها شجا الإسلام الذي أعيا النّطاسيّ علاجه، وكرك «10» هذا القطر الذي لا تطاول «11» أعلامه ولا تصاول «12» أعلاجه، وركاب الغارات التي تطوي المراحل إلى مكايدة المسلمين طيّ البرود، وجحر الحيّات التي لا تخلع على اختلاف الفصول جلود الزرود، ومنغّص الورود في العذب المورود «13» ، ومقضّ المضاجع، وحلم الهاجع، ومجهّز الخطب الفاجىء الفاجع، ومستدرك فاتكة الراجع، قبل هبوب الطائر السّاجع، حصن آشر «14» ، حماه الله دعاء لا خبرا، كما جعله للمتفكرين في قدرته معتبرا، فأحاطوا به إحاطة القلادة بالجيد، وأذلّوا عزّته بعزّة ذي العرش المجيد، وحفّت به الرايات يسمها وسمك، ويلوح في صفحاتها اسم الله تعالى واسمك، فلا ترى إلّا نفوسا تتزاحم على موارد «15» الشهادة أسرابها، وليوثا يصدق طعانها في الله وضرابها «16» ، وأرسل الله عليها رجزا إسرائيليا من جراد السّهام، تشذّ آيته «17» عن الأفهام، وسدّد إلى الجبل النفوس القابلة للإلهام، من بعد الاستغلاق والاستبهام،
وقد عبثت جوارح صخوره في قنائص الهام، وأعيا صعبه على الجيش اللهام، فأخذ مسائغه «1» النّقض والنّقب «2» ، ورغا فوق أهله السّقب «3» ، ونصبت المعارج والمراقي، وقرعت «4» المناكب والتّراقي، واغتنم الصّادقون من «5» الله الحظّ الباقي، وقال الشهيد المسابق «6» : يا فوز استباقي، ودخل البلد فالتحم «7» السّيف، واستلب البحت والزّيف، ثم استخلصت القصبة فعلت أعلامك في أبراجها المشيّدة، وظفر ناشد دينك منها بالنّشيدة «8» ، وشكر الله في قصدها مساعي النصائح الرّشيدة، وعمل ما يرضيك يا رسول الله في سدّ ثلمها، وصون مستلمها، ومداواة ألمها، حرصا على الاقتداء في مثلها بأعمالك، والاهتداء بمشكاة كمالك، ورتّب فيها الحماة تشجي العدو، وتواصل «9» في مرضاة الله تعالى ومرضاتك الرّواح والغدوّ «10» . ثم كان الغزو إلى مدينة أطريرة «11» ، بنت حاضرة الكفر إشبيلية، التي أظلّتها بالجناح السّاتر، وأنامتها «12» في ضمان الأمان للحسام الباتر، وقد وتر الإسلام من «13» هذه المومسة «14» البائسة بوتر الواتر، وأحفظ منها بأذى «15» الوقاح المهاتر، لما جرّته على أسراه «16» من عمل الخاتل الخاتر، حسب المنقول لا بل المتواتر، فطوى إليها المسلمون المدى النازح، ولم تشك المطيّ الروازح «17» ، وصدق في «18» الجدّ جدّها المازح، وخفقت فوق أوكارها أجحنة الأعلام، وغشيتها «19» أفواج الملائكة الموسومة «20» وظلال «21» الغمام، وصابت من السهام
ودق الرّهام «1» ، وكاد يكفي السماء «2» على الأرض ارتجاج أطوادها «3» بكلمة الإسلام، وقد صمّ خاطب عروس الشهادة عن الملام، وسمح بالعزيز المصون مبايع «4» الملك العلّام، وتكلّم لسان الحديد الصّامت وصمت إلّا بذكر الله لسان الكلام، ووفّت «5» الأوتار بالأوتار، ووصل بالخطّيّ «6» ذرع «7» الأبيض البتّار، وسلّطت النار على أربابها، وأذن الله في تبار تلك الأمة وتبابها «8» ، فنزلوا «9» على حكم السيف آلافا، بعد أن أتلفوا بالسلاح إتلافا، واستوعبت «10» المقاتلة أكنافا «11» ، وقرنوا في الجدل «12» أكتافا أكتافا، وحملت العقائل والخرائد، والولدان والولائد، إركابا من فوق الظهور وإردافا، وأقلّت منها أفلاك الحمول بدورا تضيء من ليالي المحاق أسدافا «13» ، وامتلأت الأيدي من المواهب والغنائم، بما لا يصوّره حلم النّائم، وتركت العوافي تتداعى إلى تلك الولائم، وتفتنّ «14» من مطاعمها في الملائم، وشنّت الغارات على حمص «15» فجلّلت خارجها مغارا، وكست كبار الرّوم بها صغارا، وأجحرت أبطالها إجحارا «16» ، واستاقت من النعم ما لا يقبل الحصر استبحارا، ولم يكن إلّا أن عدل القسم، واستقلّ بالقفول «17» العزيز الرّسم، ووضح من التوفيق الوسم، فكانت الحركة إلى قاعدة «18» جيّان قيعة «19» الظلّ الأبرد، ونسيجة المنوال المفرد، وكناس الغيد الخرّد، وكرسيّ الإمارة، وبحر العمارة، ومهوى هوى الغيث الهتون، وحزب التّين والزيتون، حيث خندق الجنّة المعروف «20» تدنو لأهل النار مجانيه، وتشرق بشواطئ الأنهار إشراق الأزهار زهر «21» مبانيه، والقلعة التي تختّمت بنان شرفاتها بخواتم النّجوم،
وهمت من دون سحابها البيض سحائب الغيث السّجوم، والعقيلة التي أبدى الإسلام يوم طلاقها، وهجوم فراقها، سمة الوجوم لذلك الهجوم فرمتها البلاد المسلمة بأفلاذ أكبادها الوادعة، وأجابت منادي دعوتك الصّادقة الصّادعة، وحبتها «1» بالفادحة الفادعة، فغصّت الرّبى والوهاد بالتّكبير والتّهليل، وتجاوبت الخيل بالصّهيل، وانهالت الجموع المجاهدة في الله تعالى انهيال الكثيب المهيل. وفهمت نفوس «2» العباد المجاهدة في الله حقّ الجهاد معاني التّيسير من ربّها والتّسهيل، وسفرت الرايات عن المرأى الجميل، وأربت المحلّات المسلمة «3» على التأميل. ولمّا صبحتها النواصي «4» المقبلة الغرر، والأعلام المكتتبة الطّرر، برز حاميتها مصحرين «5» ، وللحوزة «6» المستباحة مستنصرين، فكاثرهم «7» من سرعان الأبطال رجل الدّبى «8» ، ونبت «9» الوهاد والرّبى، فأقحموهم من وراء السّور، وأسرعت أقلام الرّماح في بسط عددهم المكسور، وتركت صرعاهم ولائم للنّسور. ثم اقتحموا ربض المدينة الأعظم فافترعوه «10» ، وجدّلوا من دافع عن أسواره وصرعوه، وأكواس «11» الحتوف جرّعوه، ولم يتصل أولى الناس بأخراهم، ويحمد «12» بمخيّم النصر العزيز سراهم، حتى خذل الكفّار «13» الصبر وأسلم الجلد، وأنزل «14» على المسلمين النصر فدخل البلد، وطاح في السيل الجارف الوالد منه «15» والولد، وأتهم «16» المطرف منه «17» والمتلد، فكان هولا بعيد الشّناعة، وبعثا «18» كقيام الساعة، أعجل المجانيق عن الركوع والسجود، والسلالم عن مطاولة النّجود، والأيدي عن ردم الخنادق والأغوار، والأكبش عن مناطحة الأسوار، والنّفوط عن إصعاق الفجّار «19» ، وعمد الحديد، ومعاول «20» البأس
الشديد، عن نقب الأبراج ونقض الأحجار، فهيلت الكثبان، وأبيد الشّيب والشّبّان، وكسرت الصلبان، وفجع بهدم «1» الكنائس الرّهبان، وأهبطت النّواقيس من مراقيها العالية، وصروحها المتعالية، وخلعت ألسنتها الكاذبة، ونقل ما استطاعته الأيدي المجاذبة «2» ، وعجزت عن الأسلاب ذوات الظّهور، وجلّل الإسلام شعار العزّ «3» والظّهور، بما خلت عن مثله سوالف الدهور «4» ، والأعوام والشهور، وأعرست الشهداء بالحور، ومنّوا «5» النفوس المبيعة من الله بحلّ «6» الصدقات الصّادقة «7» والمهور. ومن بعد ذلك هدم السور، ومحيت من «8» مختطّه «9» المحكم السطور، وكاد يسير ذلك الجبل الذي اقتعدته تلك «10» المدينة ويدكّ ذلك الطّور. ومن بعد ما خرب الوجار، وعقرت «11» الأشجار، عفّر «12» المنار، وسلّطت على بنات التراب والماء «13» النّار، وارتحل عنها المسلمون وقد عمّتها المصائب، وأصمى لبّتها «14» السّهم الصّائب، وظلّلتها «15» القشاعم العصائب، فالذّئاب في الليل البهيم تعسل «16» ، والضّباع من الحدب البعيد تنسل، وقد ضاقت الجدل عن المخانق، وبيع العرض الثمين بالدّانق، وسبكت أسورة الأسوار، وسوّيت الهضاب بالأغوار، واكتسحت الأحواز القاصية سرايا الغوار «17» ، وحجبت بالدخان مطامع الأنوار، وتخلّفت قاعتها عبرة للمعتبرين، وعظة للناظرين، وآية للمستبصرين، ونادى لسان الحميّة، يا لثارات الإسكندرية، فأسمع آذان المقيمين والمسافرين، وأحقّ الله الحقّ بكلماته وقطع دابر الكافرين.
ثم كانت الحركة إلى أختها الكبرى، ولدتها الحزينة عليها العبرى، مدينة أبدة «1» ، ذات «2» العمران المستبحر، والرّبض الخرق «3» المصحر، والمباني الشّمّ الأنوف، وعقائل المصانع الجمّة الحلي والشّنوف، والغاب «4» الأنوف، وبلد «5» التّجر، والعسكر المجر، وأفق الضّلال الفاجر الكاذب «6» على الله الكذب الفجر، فخذل «7» الله حاميته «8» التي يعيي الحسبان عدّها، وسجر «9» بحورها التي لا يرام مدّها، وحقّت عليها كلمة الله «10» التي لا يستطاع ردّها. فدخلت لأول وهلة، واستوعب جمعها «11» والمنّة لله في نهلة، ولم يك «12» للسيف من عطف «13» عليها ولا مهلة. ولما «14» تناولها العفاء والتّخريب، واستباحها «15» الفتح القريب، وأسند عن عواليها حديث النّصر الحسن القريب «16» ، وأقعدت أبراجها من بعد القيام والانتصاب، وأضرعت مسايفها «17» لهول المصاب، انصرف عنها المسلمون بالفتح الذي عظم صيته، والعزّ الذي سما طرفه واشرأبّ ليته، والعزم «18» الذي حمد مسراه ومبيته، والحمد لله ناظم الأمر وقد رأب شتيته، وجابر الكسر وقد أفات الجبر مفيته. ثم كان الغزو إلى أمّ البلاد، ومثوى الطارف والتّلاد، قرطبة، وما قرطبة «19» ؟ المدينة التي على عمل أهلها في القديم بهذا الإقليم كان العمل، والكرسي الذي بعصاه «20» رعي الهمل، والمصر الذي له في خطّة المعمور النّاقة والجمل، والأفق الذي هو لشمس الخلافة العبشميّة «21» الحمل، فخيّم الإسلام بعقوتها «22» المستباحة، وأجاز نهرها
المعيي على السّباحة، وعمّ دوحها الأشب «1» بوارا، وأدار الكماة «2» بسورها سوارا، وأخذ «3» بمخنّقها حصارا، وأعمل النّصر «4» بشجر نصلها اجتناء ما شاء واهتصارا، وجدّل من أبطالها من لم يرض انجحارا «5» ، فأعمل إلى المسلمين إصحارا «6» ، حتى فرع «7» بعض جهاتها غلابا جهارا، ورفعت الأعلام إعلاما بعزّ الإسلام وإظهارا، فلولا استهلال الغوادي، وإن أتى الوادي، لأفضت إلى فتح «8» الفتوح تلك المبادي، ولقضى تفثه «9» العاكف والبادي، فاقتضى الرأي- ولذنب الزّمان «10» في اغتصاب الكفر إيّاها متاب، تعمل ببشراه بفضل الله «11» أقتاد وأقتاب، ولكلّ أجل كتاب- أن يراض صعبها حتى يعود ذلولا، وتعفّى معاهدها الآهلة فتترك طلولا. فإذا فجع الله بمارج النار طوائفها المارجة، وأباد بخارجها «12» الطائرة والدّراجة، خطب السيف منها أمّ خارجة «13» . فعند ذلك أطلقنا بها ألسنة النار ومفارق الهضاب بالهشيم «14» قد شابت، والغلّات المستغلّة «15» قد دعاها «16» القصل «17» فما ارتابت، وكأنّ صحيفة نهرها لما أضرمت النار حفافي «18» ظهرها ذابت، وحيّته «19» فرّت أمام الحريق فانسابت، وتخلّفت لغمائم الدّخان عمائم تلويها برءوس الجبال أيدي الرياح، وتنشرها «20» بعد الرّكود أيدي الاجتياح. وأغريت «21» بأقطارها الشاسعة، وجهاتها
الواسعة، جنود الجوع، وتوعّدت بالرجوع، فسلب «1» أهلها لتوقع الهجوم منزور الهجوع، فأعلامها خاشعة خاضعة، وولدانها لثديّ البؤس راضعة، والله سبحانه يوفد بخبر فتحها القريب ركاب البشرى، وينشر رحمته قبلنا نشرا. [ولهذا العهد يا رسول الله صلّى الله عليك، وبلّغ وسيلتي إليك، بلغ «2» عن هذا القطر المرتدي بجاهك الذي لا يذلّ من ادّرعه، ولا يضلّ بالسبيل «3» الذي يشرعه، إلى أن لاطفنا ملك الروم بأربعة من البلاد كان الكفر قد اغتصبها، ورفع التّماثيل ببيوت الله ونصبها، فانجاب عنها بنورك الحلك، ودار بإدالتها إلى دعوتك الفلك، وعاد إلى مكاتبها القرآن الذي نزل به على قلبك الملك]«4» . ثم «5» تنوعت يا رسول الله لهذا العهد أحوال العدوّ تنوّعا يوهم إفاقته من الغمرة «6» ، وكادت فتنته تؤذن بخمود الجمرة، وتوقّع الواقع، وحذر ذلك السمّ الناقع، وخيف الخرق الذي يحار فيه الرّاقع، فتعرّفنا عوائد الله سبحانه ببركة هدايتك، وموصول عنايتك، فأنزل النصر والسّكينة، ومكّن العقائد المكينة، فثابت «7» العزائم وهبّت، واطّردت «8» عوائد الإقدام واستتبّت، وما راع العدوّ إلّا خيل الله تجوس خلاله، وشمس الحقّ تقلّص «9» ظلاله، وهداك الذي هديت «10» يدحض ضلاله.
ونازلنا حصني قنبيل والحوائر «11» ، وهما معقلان متجاوران يتناجى منهما السّاكن سرارا، وقد اتّخذا بين النّجوم قرارا، وفصل بينهما حسام النهر يروق غرارا، والتفّ معصمه في حلّة العصب «12» وقد جعل الجسر سوارا، فخذل الصّليب بذلك الثغر من تولّاه، وارتفعت أعلام الإسلام بأعلاه، وتبرّجت عروس الفتح المبين بمجلاه، والحمد لله على ما أولاه. ثم تحرّكنا على تفيئة «13» تعدّي ثغر الموسطة على عدوّه المساور في المضاجع، ومصبحه بالفاجىء الفاجع، فنازلنا حصن روطة الآخذ
بالكظم، المعترض بالشّجا اعتراض العظم، وقد شحنه العدوّ مددا بئيسا، ولم يأل اختياره رأيّا ولا رئيسا «1» ، فأعيا داؤه، واستقلّت بالمدافعة أعداؤه. ولما أتلع إليه جيد المنجنيق، وقد برك عليه برك «2» الفنيق، وشدّ عصاب «3» العزم «4» الوثيق، لجأ أهله إلى التماس العهود والمواثيق، وقد غصّوا بالريق، وكاذ يذهب بأبصارهم لمعان البريق، فسكّنّاه من حامية المجاهدين بمن يحمي ذماره، ويقرّر اعتماره، واستولى أهل الثغور إلى هذا الحد على معاقل كانت مستغلقة ففتحوها، وشرعوا أرشية «5» الرماح إلى قلب قلوبها فمتحوها «6» . ولم تكد الجيوش المجاهدة تنفض عن الأعراف متراكم الغبار، وترخي عن آباط خيلها شدّ حزم المغار، حتى عاودت النفوس شوقها، واستتبعت ذوقها، وخطبت التي لا فوقها، وذهبت بها الآمال إلى الغاية القاصية، والمدارك المتصاعبة على الأفكار المتعاصية، فقصدنا الجزيرة الخضراء، باب هذا الوطن الذي منه طرق وادعه، ومطلع الحقّ الذي صدع الباطل صادعه، وثنيّة الفتح التي «7» برق منها لامعه، ومسرب «8» الهجوم الذي لم تكن لتعثر على غيره مطامعه، وفرضة المجاز التي لا تنكر، ومجمع البحرين في بعض ما يذكر، حيث يتقارب الشّطّان، [وتتقاطر ذوات الأشطان]«9» ، ويتوازى الخطّان، ويكاد «10» أن تلتقي حلقتا البطان. وقد كان الكفر قدّر قدر هذه الفرضة التي طرق منها حماه، ورماه الفتح الأول بما رماه، وعلم أن لا تتّصل أيدي المسلمين بإخوانهم إلّا من تلقائها، وأنه لا يعدم المكروه مع بقائها، فأجلب عليها برجله وخيله، وسدّ أفق البحر من أساطيله، ومراكب أباطيله، بقطع ليله. وتداعى المسلمون بالعدوتين إلى استنفاذها من لهواته، أو إمساكها من دون مهواته، فعجز الحول، ووقع بملكه إياها القول، واحتازها «11» قهرا، وقد صابرت الضّيق ما يناهز ثلاثين شهرا، وأطرق الإسلام بعدها إطراق الواجم، واسودّت الوجوه لخبرها الهاجم، وبكتها حتى دموع الغيث السّاجم «12» ، وانقطع المدد إلّا من رحمة من ينفّس الكروب، ويغري بالإدالة الشروق والغروب.
ولمّا شككنا «1» بشبا الله نحرها، وأغصصنا بجيوش الماء وجيوش الأرض تكاثر نجوم السماء برّها وبحرها، ونازلناها نذيقها شديد النّزال، ونجحنا «2» بصدق الوعيد في غير «3» سبيل الاعتزال، رأينا بأوا لا يظاهر «4» إلّا بالله ولا يطال، ومنعة «5» يتحاماها الأبطال، وجنابا روّضه الغيث الهطّال. أمّا أسوارها «6» فهي التي أخذت النّجد والغور، واستعدت بجدال «7» الجلاد عن البلاد فارتكبت الدّور «8» ، تحوز بحرا من الاعتمار «9» ثانيا، وتشكّك أن يكون الإنس لها بانيا. وأمّا أبراجها فصفوف وصنوف، تزيّن صفحات المسايف «10» منها أنوف، وآذان لها من دوافع الصخر شنوف «11» . وأمّا خندقها فصخر مجلوب، وسور مقلوب، فصدقها «12» المسلمون القتال بحسب محلّها من نفوسهم، واقتران اغتصابها ببوسهم، وأفول شموسهم، فرشقوها من النبال بظلال تحجب الشمس فلا يشرق سناها، وعرّجوا في المراقي البعيدة يفرعون مبناها، ونقبوها «13» أنقابا، وحصبوها «14» عقابا، ودخلوا مدينة إلبنة «15» بنتها غلابا، وأحسبوا السيوف استلالا والأيدي اكتسابا «16» ، واستوعب القتل مقاتلتها السابغة الجنن «17» ، البالغة المنن، فأخذهم الهول المتفاقم، وجدّلوا كأنهم الأراقم، لم تفلت منهم عين تطرف، ولا لسان يلبّي من يستطلع «18» الخبر أو يستشرف. ثم سمت الهمم الإيمانية إلى المدينة الكبرى فداروا سوارا «19» على سورها، وتجاسروا على اقتحام أودية الفناء
من فوق جسورها، وأدنوا «1» إليها بالضّروب، من حيل الحروب، بروجا مشيدة، ومجانيق توثّق حبالها منها نشيدة، وخفقت بنصر الله عذبات الأعلام، وأهدت الملائكة مدد الإسلام «2» ، فخذل الله كفّارها، وأكهم «3» شفارها، وقلّم بيد قدرته أظفارها، فالتمسوا الأمان للخروج، ونزلوا عن «4» مراقي العروج، إلى الأباطح والمروج، من سمائها ذات البروج، فكان بروزهم إلى العراء من الأرض «5» ، تذكرة بيوم العرض، وقد جلّل المقاتلة الصّغار «6» ، وتعلّق بالأمّهات النّشء الصّغار «7» .
وبودرت المدينة بالتّطهير، ونطقت المآذن العالية بالأذان الشهير، والذّكر الجهير، وطرحت كبار «8» التماثيل عن المسجد الكبير، وأزرى «9» بألسنة النواقيس لسان التّهليل والتّكبير، وأنزلت عن الصروح أجرامها، يعيي الهندام مرامها، وألفي منبر الإسلام بها مجفوّا فأنست غربته، وأعيد إليه قربه وقربته، وتلا واعظ الجمع المشهود، قول منجز الوعود، ومورق العود وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
«10» إلى آخرها «11» ، فكاد «12» الدّمع يغرق الآماق، والوجد يستأصل الأرماق، وارتفعت الزّعقات، وعلت الشّهقات «13» ، وجيء بأسرى المسلمين يرسفون في القيود الثّقال، وينسلون من أجداث «14» الاعتقال، ففكّت عن سوقهم أساود1»
الحديد، وعن أعناقهم فلكات البأس الشّديد، وظلّلوا بجناح اللّطف العريض المديد، وترتّبت في المقاعد الحامية، وأزهرت بذكر الله المآذن السّامية، فعادت «16» المدينة لأحسن أحوالها، وسكنت من بعد أهوالها، وعادت الجالية إلى أموالها، ورجع إلى القطر شبابه، وردّ على دار
هجرة «1» الإسلام بابه، واتّصلت بأهل لا إله إلّا الله أسبابه، فهي اليوم في بلاد الإسلام قلادة النّحر، وحاضرة البرّ والبحر، أبقى الله عليها وعلى ما وراءها من بيوت أمّتك، ودائع الله في ذمّتك، [ظلال عنايتك الواقية، وأمتعها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها]«2» بكلمة دينك الصّالحة الباقية، وسدل عليها أستار عصمته الواقية. وعدنا والصلاة عليك شعار البروز والقفول، وهجيري الشّروق والأفول.
والجهاد يا رسول الله الشأن المعتمد، ما امتدّ بالأجل الأمد، والمستعان الواحد «3» الفرد الصمد «4» .
فوجبت مطالعة مقرّك النبويّ بأحوال هذه الأمة المكفولة في حجرك، المفضّلة بإرادة تجرك، المهتدية بأنوار فجرك. وهل هو إلّا ثمرة «5» سعيك، ونتائج رعيك، وبركة حبّك، ورضاك الكفيل برضا ربّك، وغمام رعدك، وإنجاز وعدك، وشعاع من نور سعدك، وبذر «6» يجنى ريعه من بعدك، ونصر رايتك، وبرهان آيتك «7» ، وأثر حمايتك ورعايتك؟
واستنبت هذه الرسالة مائحة «8» بحر النّدى الممنوح «9» ، ومفاتحة باب الهدى بفتح الفتوح، وفارعة «10» المظاهر والصّروح، وملقية «11» الرّحل بمتنزّل الملائكة والرّوح، لتمدّ إلى قبولك «12» يد استمناح، وتطير «13» إليك من الشّوق الحثيث بجناح، ثم تقف بموقف الانكسار، وإن كان تجرها آمنّا من الخسار، وتقدم بأنس القربة «14» ، وتحجم «15» بوحشة الغربة، وتتأخّر بالهيبة، وتجهش لطول الغيبة، وتقول ارحم بعد داري، وضعف اقتداري، وانتزاح أوطاني، وخلوّ «16» أعطاني، وقلّة زادي،
وفراغ مزادي، وتقبّل وسيلة اعترافي، وتغمّد هفوة «1» اقترافي، وعجّل بالرضا انصراف متحملي لانصرافي «2» . فكم جبت من بحر زاخر، وقفر بالرّكاب ساخر، وحاش لله أن يخيب قاصدك، أو تتخطّاني «3» مقاصدك، أو تطردني موائدك، أو تضيق عنّي عوائدك، ثم تمدّ مقتضية «4» مزيد رحمتك، مستدعية دعاء من حضر من أمّتك. وأصحبتها يا رسول الله عرضا من النّواقيس التي كانت بهذه البلاد المفتتحة تعيّن الإقامة والأذان، وتسمع الأسماع الضّالة والآذان، ممّا قبل الحركة، وسالم المعركة، ومكّن من نقله الأيدي المشتركة، واستحقّ بالقدوم عليك، والإسلام بين يديك، السابقة في الأزل البركة، وما سواها فكانت جبالا عجز عن حملها «5» الهندام «6» ، فنسخ وجودها الإعدام. وهي يا رسول الله جنى من جنانك، ورطب من أفنانك، وأثر ظهر عليها «7» من مسحة «8» حنانك. هذه هي الحال «9» والانتحال، والعائق أن تشدّ إليك «10» الرّحال، ويعمل «11» التّرحال، إلى أن نلقاك في عرصات «12» القيامة شفيعا، ونحلّ بجاهك إن شاء الله محلّا رفيعا، ونقدّم في زمرة الشّهداء الدامية كلومهم من أجلك، الناهلة غللهم في سجلّك «13» ، ونبتهل إلى الله الذي أطلعك في سماء الهداية سراجا، وأعلى لك في السّبع الطّباق معراجا، وأمّ الأنبياء منك بالنّبي الخاتم، وقفّى على آثار نجومها المشرقة بقمرك العاتم، أن لا يقطع عن هذه الأمة الغريبة أسبابك، ولا يسدّ في وجوهها أبوابك، ويوفقها لاتّباع هداك، ويثبّت أقدامها على جهاد عداك. وكيف تعدم «14» ترفيها، أو تخشى «15» بخسا وأنت موفيها؟ أو يعذّبها الله وأنت فيها؟ وصلاة الله وسلامه تحطّ بفنائك رحال طيبها، وتهدر «16» في ناديك شقاشق خطيبها، ما أذكر الصباح الطّلق هداك، والغمام السّكب نداك، وما حنّ مشتاق يلثم «17» ضريحك، وفليت «18» نسمات الأسحار عمّا استرقت «19» من ريحك، وكتب في كذا «20» .
وصدر عني قبل هذه الرسالة عن السلطان «1» ، رضي الله عنه، رسالة بهذه الفتوح إلى صاحب تونس «2» نصها «3» :
الخلافة التي ارتفع في «4» عقائد فضلها الأصيل القواعد الخلاف، واستقلّت مباني فخرها الشائع وعزّها الذائع على ما أسّسه الأسلاف، ووجب لحقّها الجازم وفرضها اللّازم الاعتراف، ووسعت الآملين لها الجوانب الرّحيبة والأكناف، فامتزاجنا بعلائها المنيف وولائها الشريف كما امتزج الماء والسّلاف «5» ، وثناؤنا على مجدها الكريم وفضلها العميم كما تأرّجت الرياض الأفواف، لمّا زارها الغمام الوكّاف، ودعاؤنا بطول بقائها واتصال علائها يسمو به إلى قرع أبواب السّماوات العلا الاستشراف، وحرصنا على توفية حقوقها العظيمة وفواضلها العميمة لا تحصره الحدود ولا تدركه الأوصاف، وإن عذر في التّقصير عن نيل ذلك المرام الكبير الحقّ والإنصاف. خلافة وجهة تعظيمنا إذا توجّهت الوجوه، ومن نؤثره إذا همّنا «6» ما نرجوه، ونفدّيه ونبدّيه إذا استمنح المحبوب واستدفع «7» المكروه، السلطان الخليفة «8» ، الجليل، الكبير، الشهير، الإمام، الهمام، الأعلى، الأوحد، الأصعد، الأسعد، الأسمى، الأعدل، الأفضل، الأسنى، الأطهر، الأظهر، الأرضى، الأحفل، الأكمل، أمير المؤمنين أبي إسحاق ابن الخليفة الإمام البطل الهمام، عين الأعيان، وواحد الزمان، الكبير، الشهير، الطّاهر، الظّاهر، الأوحد، الأعلى، الحسيب، الأصيل، الأسمى، العادل، الحافل، الفاضل، المعظّم، الموقّر، الماجد،
الكامل، الأرضى، المقدّس، أمير المؤمنين أبي يحيى أبي بكر، ابن السلطان الكبير، الجليل، الرّفيع، الماجد، الظاهر، الطاهر، المعظّم، الموقّر، الأسمى، المقدّس، المرحوم أبي زكريا، ابن الخليفة الإمام، المجاهد، الهمام، الكبير «1» ، الشهير، الخطير، بطل الميدان، مفخر الزمان، الطاهر الظاهر، الأمضى، المقدّس، الأرضى، أمير المؤمنين أبي إسحاق، ابن الخليفة الهمام الإمام، ذي الشهرة الجامحة، والمفاخر الواضحة، علم الأعلام، فخر السيوف والأقلام، المعظّم الممجّد، المقدّس، الأرضى، أمير المؤمنين، المستنصر بالله أبي عبد الله ابن أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص، أبقاه الله. ومقامه مقام إبراهيم رزقا وأمانا، لا يخصّ جلب الثمرات إليه وقتا ولا يعيّن زمانا، وكان على من يتخطّف الناس من حوله مؤيّدا بالله معانا، معظّم قدره العالي على الأقدار، ومقابل داعي حقّه بالابتدار، المثنى على معاليه المخلّدة الآثار، في أصونة النّظام والنّثار، ثناء الرّوضة المعطار على الأمطار، الداعي إلى الله بدوام «2» بقائه في عزّة «3» منسدلة الأستار، وعصمة «4» ثابتة المركز مستقيمة المدار، وأن يختم له بعد بلوغ غايات الآجال ونهايات الأعمار، بالزّلفى وعقبى الدّار.
سلام كريم كما حملت نسمات الأسحار، أحاديث الأزهار، وروت ثغور الأقاحي والبهار، عن مسلسلات الأنهار، وتجلّى على منصّة الاشتهار، وجه عروس النهار، يخصّ خلافتكم الكريمة النّجار، العزيزة الجار، ورحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله الذي أخفى حكمته البالغة عن أذهان البشر، فعجزت عن قياسها، وجعل الأرواح كما ورد في الخبر «5» ، تحنّ إلى أجناسها، منجد هذه الملّة، من أوليائه الجلّة، بمن يروض الآمال بعد شماسها، وييسّر الأغراض قبل التماسها، ويعنى بتجديد المودّات في ذاته، وابتغاء مرضاته، على حين إخلاق لباسها، الملك الحقّ واصل الأسباب بحوله بعد انتكاث «6» أمراسها، ومغني النفوس بطوله بعد إفلاسها، حمدا يدرّ أخلاف النّعم بعد إبساسها، وينشر «7» رمم الآمال من أرماسها، ويقدّس النفوس بصفات ملائكة السماوات بعد إبلاسها «8» .
والصلاة «1» على سيدنا ومولانا محمد رسوله سراج الهداية ونبراسها، عند اقتناء الأنوار واقتباسها، مطهّر الأرض من أوضارها وأدناسها، ومصطفى الله من بين ناسها، وسيّد الرّسل الكرام ما بين شيثها وإلياسها، الآتي «2» مهيمنا على آثارها في حين فترتها ومن بعد نصرتها واستئناسها «3» ، مرغم الضّراغم في أخياسها «4» ، بعد افترارها وافتراسها، ومعفّر أجرام الأصنام ومصمت أجراسها. والرّضا عن آله وأصحابه «5» ، وعترته وأحزابه، حماة شرعته البيضاء وحرّاسها، وملقّحي غراسها، ليوث الوغى عند احتدام مراسها، ورهبان الدّجى «6» تتكفّل مناجاة «7» السّميع العليم، في وحشة الليل البهيم، بإيناسها، وتفاوح نواسم الأسحار عند الاستغفار بطيب أنفاسها، والدّعاء لخلافتكم العليّة المستنصريّة بالصّنائع «8» التي تشعشع أيدي «9» العزّة القعساء من أكواسها، ولا زالت العصمة «10» الإلهية كفيلة باحترامها واحتراسها «11» ، وأنباء الفتوح المؤيدة بالملائكة والرّوح ريحان جلّاسها، وآيات المفاخر التي ترك الأول للآخر مكتتبة الأسطار «12» بأطراسها، وميادين الوجود مجالا لجياد جودها وباسها، والعزّ والعدل منسوبين لفسطاطها وقسطاسها، وصفيحة «13» النصر العزيز تفيض كفّها المؤيدة بالله على رياسها، عند اهتياج أضدادها وشرّة «14» انتكاسها «15» ، لانتهاب البلاد وانتهاسها «16» ، وهبوب رياح رياحها وتمرّد مرداسها.
فإنّا كتبناه إليكم- كتب الله لكم من كتائب نصره أمدادا تذعن أعناق الأنام «17» لطاعة ملككم المنصور الأعلام عند إحساسها، وآتاكم من آيات العنايات آية تضرب الصّخرة الصّماء ممن عصاها بعصاها فتبادر بانبجاسها «18» - من حمراء غرناطة حرسها الله وأيام الإسلام بعناية الملك العلّام تحتفل وفود الملائكة الكرام لو لائمها وأعراسها، وطواعين الطّعان في عدوّ الدّين المعان تجدّد عهدها «19» بعام عمواسها، والحمد لله
حمدا معادا يقيّد «1» شوارد النّعم ويستدرّ مواهب الجود والكرم ويؤمّن من انتكاب الجدود وانتكاسها، وليّ الآمال ومكاسها. وخلافتكم هي المثابة التي يزهى الوجود بمحاسن مجدها زهوّ الرياض بوردها وآسها، وتستمدّ أضواء الفضائل من مقباسها «2» ، وتروي رواة الإفادة والإبادة «3» غريب الوجادة «4» عن ضحّاكها وعبّاسها. وإلى هذا أعلى الله معارج قدركم وقد فعل، وأنطق بحجح فخركم «5» من احتفى وانتعل، فإنه وصلنا كتابكم الذي حسبناه على صنائع الله لنا «6» تميمة لا تلقع «7» بعدها عين، وجعلناه على حلل مواهبه قلادة لا يحتاج معها زين، ودعوناه من جيب الكنانة «8» آية بيضاء الكتابة لم يبق معها شكّ ولا مين «9» ، وقرأنا منه وثيقة ودّ هضم فيها عن غريم الزمان دين. ورأينا منه إنشاء، خدم اليراع بين يديه [وشّاء، واحتزم «10» بهيمان عقدته]«11» مشّاء، وسئل عن معانيه الاختراع فقال: إنّا أنشأناهنّ إنشاء، فأهلا به من عربي أبيّ «12» يصف السانح والبانة، ويبين فيحسن «13» الإبانة، أدّى الأمانة، وسئل عن حيّه فانتمى «14» إلى كنانة، وأفصح وهو لا ينبس، وتهلّلت قسماته وليل حبره يعبس، وكأنّ خاتمة المقفل على صوانه، المتحف بباكر الورد في غير أوانه، رعف من مسك عنوانه. ولله من قلم دبّج تلك الحلل، ونقع بمجاج الدّواة المستمدّة من عين الحياة الغلل. فلقد تخارق في الجود، مقتديا بالخلافة التي خلّد فخرها في الوجود، فجاد بسرّ البيان ولبابه، وسمح في سبيل الكرم حتى بماء شبابه، وجمح لفرط بشاشته وفهامته، بعد شهادة السّيف بشهامته، فمشى من الترحيب في الطّرس الرّحيب على أمّ هامته.
وأكرم به من حكيم أفصح بملغوز الإكسير، في اللّفظ اليسير، وشرح بلسان الخبير، سرّ صناعة التدبير، كأنما خدم الملكة السّاحرة بتلك البلاد، قبل اشتجار «15» الجلاد، فآثرته بالطّارف من سحرها والتّلاد، أو عثر «16» بالمعلّقة، وتيك «17» القديمة
المطلّقة، بدفينة «1» دار، أو كنز تحت جدار، أو ظفر لباني الحنايا، قبل أن تقطع «2» به عن أمانيّه المنايا، ببديعة «3» ، أو خلف جرجير الروم قبل منازلة القروم «4» على وديعة «5» ، أو أسهمه ابن أبي سرح، في نشب للفتح وسرح، أو ختم «6» له روح بن حاتم ببلوغ المطلب، أو غلّب الحظوظ بخدمة آل الأغلب، أو خصّه زيادة الله بمزيد، أو شارك الشّيعة في أمر أبي يزيد «7» ، أو سار على منهاج في مناصحة بني صنهاج، وفضح بتخليد أمداحهم كلّ هاج.
وأعجب له وقد عزّز منه مثنى البيان بثالث، فجلب سحر الأسماع واسترقاق الطّباع بين مثان للإبداع «8» ومثالث. كيف اقتدر على هذا المحيد «9» ، وناصح مع التّثليب مقام التّوحيد؟ نستغفر الله وليّ العون، على الصّمت «10» والصّون، فالقلم هو الموحّد قبل الكون، والمتّصف من صفات السّادة أولي العبادة بضمور الجسم وصفرة اللون. إنما هي كرامة فاروقيّة، وأثارة «11» من حديث سارية وبقيّة، سفر وجهها في الأعقاب، بعد طول الانتقاب، وتداول الأحقاب، ولسان مناب عن كريم جناب.
وإصابة السّهم لسواه محسوبة، وإلى الرّامي الذي يسدّده «12» منسوبة، ولا تنكر على الغمام بارقة، ولا على المتحقّقين «13» بمقام التّوحيد كرامة خارقة، فما شاءه «14» الفضل من غرائب برّ وجد، ومحاريب خلق كريم ركع الشّكر فيها وسجد، حديقة بيان استثارت نواسم الإبداع «15» من مهبّها، واستزارت «16» غمائم الطّباع من مصبّها، فآتت أكلها مرّتين بإذن ربّها، لا بل كتيبة عزّ طاعنت بقنا الألفات سطورها، فلا يرومها النّقد ولا يطورها، ونزعت عن قسيّ النّونات خطوطها، واصطفّت من بياض الطّرس وسواد النّقس «17» بلق «18» تحوطها. فما كأس المدير على الغدير، بين
الخورنق «1» والسّدير «2» ، تقامر «3» بنرد الحباب، عقول ذوي «4» الألباب، وتغرق كسرى في العباب «5» ، وتهدي وهي الشّمطاء نشاط الشباب. وقد أسرج ابن سريح «6» وألجم، وأفصح الغريض «7» بعد ما جمجم، وأعرب النّاي الأعجم، ووقّع معبد «8» بالقضيب، وشرعت في حساب العقد بنان الكفّ الخضيب، وكأنّ الأنامل فوق مثالث العود ومثانيه، وعند إغراء الثّقيل بثانيه، وإجابة صدى الغناء بين مغانيه.
المراود تشرع في الوشي، أو العناكب تسرع في المشي، فما المخبر «9» بنيل الرّغائب، أو قدوم الحبيب الغائب، لا بل إشارة البشير، بكمّ المشير على العشير، بأجلب للسّرور من زائره «10» المتلقّى بالبرور، وأدعى للحبور من سفيره المبهج للسّفور «11» . فلم نر مثله من كتيبة كتاب تجنب الجرد تمرح في الأرسان، وتتشوّف مجالي ظهورها إلى عرائس الفرسان، وتهزّ معاطف الارتياح من صهيلها الصّراح بالنّغمات الحسان. إذا أوجست «12» الصّريخ نازعت «13» إثناء الأعنّة، وكاثرت بأسنّة آذانها مشرعة الأسنّة، فإن ادّعى الظّليم إثكالها «14» فهو ظالم، أو نازعها «15» الظّبي هواديها وأكفالها فهو هاذ «16» أو حالم. وإن سئل الأصمعي «17» عن عيوب الغرر والأوضاح، قال مشيرا إلى وجوهها الصّباح: جلدة بين العين والأنف سالم من كلّ عبل الشّوى، مسابق للنّجم إذا ما «18» هوى، سامي التّليل، عريض ما تحت الشّليل، ممسوحة «19» أعطافه بمنديل النّسيم البليل، من أحمر كالمدام، تجلى على النّدام عقب الفدام، أتحف لونه بالورد، في زمن البرد، وحيّي «20» أفق محيّاه
بكوكب السّعد، وتشوّف الواصفون إلى عدّ محاسنه فأعيت على «1» العدّ، بحر يساجل البحر عند المدّ، وريح تباري الريح عند الشّدّ، بالذّراع الأشدّ، حكم له مدبّر فلك «2» الكفل باعتدال فصل القدّ، وميّزه قدره المميّز يوم الاستباق، بقصب السّباق، عند اعتبار الجدّ «3» ، وولّد مختطّ غرّته أشكال الجمال على الكمال بين البياض والحمرة ونقاء الخدّ، وحفظ رواية الخلق الوجيه، عن جدّه الوجيه، ولا تنكر الرواية على الحافظ ابن الجدّ. وأشقر أبيّ «4» الخلق، والوجه الطّلق، أن يحقّر كأنما صيغ من العسجد، وطرف بالدّرّ وأنعل بالزبرجد. ووسم في الحديث بسمة اليمن والبركة، واختصّ بفلج الخصام عند اشتجار «5» المعركة، وانفرد بمضاعف السّهام، المنكسرة على الهام، في الفرائض المشتركة، واتّصف «6» فلك كفله بحركتي الإرادة والطّبع من أصناف الحركة. أصغى إلى السماء بأذن الملهم، وأغري «7» لسان الصّهيل «8» عند التباس معاني المهمز «9» والتّسهيل ببيان المبهم، وفتنت العيون من ذهب جسمه ولجين نجمه بحبّ الدّنيّر «10» والدّرهم، فإن انقضّ فرجم، أو ريح لمّا «11» هجم، وإن «12» اعترض فشفق لاح به للنّجم نجم. وأصفر قيّد الأوابد الحرّة، وأمسك المحاسن وأطلق الغرّة، وسئل من أنت في قوّاد الكتائب، وأولي الأخبار العجائب، فقال: أنا المهلّب بن أبي صفرة، نرجس هذه الألوان، في رياض الأكوان، تحيا به محيّا «13» الحرب العوان. أغار بنخوة الصّائل على معصفرات الأصائل فارتداها، وعمد إلى خيوط شعاع الشمس عند جانحة الأمس فألحم «14» منها حلّتة وأسداها، واستعدت عليه ملك «15» المحاسن فما أعداها، فهو أصيل تمسّك بذيل الليل عرفه وذيله، وكوكب يطلعه من القتام ليله، فيحسده فرقد الأفق وسهيله. وأشهب تغشى «16» من لونه مفاضة «17» ، وتسربل منه لأمة «18» فضفاضة، قد احتفل زينه، لمّا رقم بالنّبال لجينه، فهو الأشمط، الذي حقّه لا
يغمط، والدّراع «1» المسارع، والأعزل الذّراع «2» ، وراقي الهضاب الفارع، ومكتوب الكتيبة البارع، وأكرم به من مرتاض سالك، ومجتهد على غايات السّابقين الأوّلين «3» متهالك. وأشهب يروي من الخليفة، ذي الشّيم المنيفة، عن مالك. وحباريّ كلّما سابق وبارى، استعار جناح الحبارى «4» ، فإذا أعملت هذه «5» الحسبة، قيل من هنا جاءت النّسبة، طرد النّمر لما عظم أمره وأمر، فنسخ وجوده بعدمه، وابتزّه الفروة ملطّخة «6» بدمه. وكأنّ مضاعف الورد نثر عليه من طبقه أو الفلك، لما ذهب الحلك، مزج فيه «7» بياض صبحه بحمرة شفقه، وقرطاسيّ حقّه لا يجهل، متى ما ترقى العين فيه تسهل «8» ، إن نزع عنه جلّه، فهو نجم كلّه، انفرد بمادة الألوان، قبل أن تشوبها «9» يد الأكوان، وتمزجها أقلام الملوان «10» ، يتقدم منه الكتيبة «11» لواء ناصع، أو أبيض مماصع «12» ، لبس وقار المشيب «13» ، في ريعان العمر القشيب، وأنصتت الآذان من صهيله المطيل المطيب، لما ارتدى بالبياض إلى نغمة الخطيب، وإن تعتّب منه للتأخير المتعتّب «14» ، قلنا: الواو لا ترتّب، ما بين فحل وحرّة، وبهرمانة «15» ودرّة، ويا لله من ابتسام غرّة، ووضوح يمن في طرّة، وبهجة للعين وقرّة. وإن ولع الناس بامتداح القديم، [وخصّوا الحديث بفري الأديم، وأوجب المتعصّب وإن أبى المنصب مزية «16» التّقديم،]«17» وطمح إلى رتبة المخدوم طرف الخديم، وقورن المثري بالعديم، وبخس في سوق الكسد «18» الكيل، ودجا الليل، [وظهر في فلك الإنصاف الميل، لمّا تذوكرت الخيل،]«19» فجيء بالوجيه والخطّار، والذائد «20» وذي الخمار «21» ، وداحس والسّكب، والأبجر «22» وزاد الركب، والجموح واليحموم،
والكميت ومكتوم، والأعوج والحلوان «1» ، ولاحق والغضبان، وعفزر «2» والزّعفران، والمحبّر واللّعاب، والأغرّ والغراب، وشعلة «3» والعقاب، والفيّاض واليعبوب، والمذهّب واليعسوب، والصّموت «4» والقطيب، وهيدب والصبيب، وأهلوب وهدّاج، والحرون وخرّاج «5» ، وعلوى «6» والجناح والأحوى ومجاج «7» ، والعصا والنّعامة، والبلقاء والحمامة، وسكاب والجرادة، وخوصاء «8» والعرادة. فكم «9» بين الشّاهد والغائب، والفروض والرغائب، وفرق ما بين الأثر والعيان، غنيّ عن البيان، وشتّان ما بين الصّريح والمشتبه، ولله درّ القائل في «10» مثلها:«خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به» . والنّاسخ يختلف به الحكم، وسرّ الدواب عند التفضيل بين هذه الدواب «11» الصّم البكم «12» ، إلّا ما ركبه نبيّ، أو كان له يوم الافتخار برهان خبيّ «13» ، ومفضّل ما سمع على ما رأى غبيّ، فلو أنصفت محاسنها التي وصفت لأقضمت حبّ القلوب علفا، وأوردت ماء الشبيبة «14» نطفا، واتّخذت لها من عذر الخدود الملاح عذر موشيّة، وعلّلت بصفير ألحان القيان كلّ عشيّة. وأنعلت «15» بالأهلّة، وغطّيت بالرياض بدل الأجلّة.
إلى الرّقيق، الخليق بالحسن الحقيق، تسوقه إلى مثوى الرعاية روقة الفتيان رعاته، ويهدي «16» عقيقها من سبجه «17» أشكالا تشهد للمخترع سبحانه بإحكام مخترعاته، وقّفت ناظر الاستحسان لا يريم، لمّا بهره «18» منظرها الكريم، وتخامل «19» الظّليم، وتضاءل الرّيم، وأخرس «20» مفوّه «21» اللسان، وهو «22» بملكة التّبيان «23» ، الحفيظ العليم. وناب لسان الحال عن لسان المقال، عند الاعتقال، فقال يخاطب
المقام الذي أطلعت أزهارها غمائم جوده، واقتضت اختيارها بركة وجوده. لو علمنا أيها الملك الأصيل، الذي كرم منه الإجمال والتّفصيل، أنّ الثناء يوازيها، لكلنا لك بكيلك، أو الشّكر يعادلها ويجازيها «1» ، لتعرّضنا بالوشل «2» إلى نيل نيلك، أو قلنا:
هي «3» التي أشار إليها مستصرخ سلفك المستنصر «4» بقوله: «أدرك بخيلك» «5» حين شرق بدمعه «6» الشرق، وانهزم الجمع واستولى الفرق، واتسع فيه والحكم لله الخرق، ورأى أنّ مقام التوحيد بالمظاهرة على التّثليث، وحزبه الخبيث، هو الأولى والأحقّ.
والآن قد أغنى الله بتلك النّيّة، عن إنجاد «7» الطّوال الرّدينيّة، وبالدّعاء من تلك المثابة الدينيّة، إلى ربّ البنيّة، عن الأمداد السّنيّة، والأجواد تخوض بحر الماء إلى بحر المنيّة، وعن الجرد العربية في مقاود الليوث الأبيّة، فجدّد «8» برسم هذه الهديّة، مراسم العهود الودّية، والذّمم الموحّدية، لتكون علامة على الأصل، ومكذّبة لدعوى الوقف والفصل، وإشعارا بالألفة التي لا تزال ألفها بحول الله «9» ألف الوصل، ولامها حراما على النّصل.
وحضر بين يدينا رسولكم فلان فقرّر من فضلكم ما لا ينكره من عرف علوّ مقداركم، وأصالة داركم، وفلك إبداركم، وقطب مداركم، وأجبناه «10» عنه بجهد ما كنّا لنقنع من جناه المهتصر، بالمقتضب المختصر، ولا لنقابل «11» طول طوله بالقصر، لولا طروء الحصر. وقد كان بين الأسلاف رحمة الله عليهم ورضوانه «12» ودّ أبرمت من أجل الله معاقده، ووثّرت للخلوص الجليّ النصوص مضاجعه القارّة ومراقده،
وتعاهد بالجميل توجّع لفقده فيما سلف «1» فاقده، أبى الله إلّا أن يكون لكم الفضل في تجديده، والعطف بتوكيده. ونحن الآن لا ندري أيّ مكارمكم نذكر «2» ، أو أيّ فواضلكم نشرح أو نشكر، أمفاتحتكم التي هي في الحقيقة عندنا «3» فتح، أم هديّتكم وفي وصفها للأقلام سبح، ولعدوّ الإسلام بحكمتها «4» كبح. إنما نكل الشكر لمن يوفّي جزاء الأعمال البرّة، ولا يبخس مثقال الذّرّة، ولا أدنى من مثقال الذّرة، ذي الرّحمة الثّرّة، والألطاف المتصلة المستمرة، لا إله إلّا هو.
وإن تشوفتم إلى الأحوال الراهنة، وأسباب الكفر «5» الواهية بقدرة الله الواهنة، فنحن نطرفكم بطرفها، [ونطلعكم على سبيل الإجمال بطرفها،]«6» وهو أننا لمّا أعادنا «7» الله من التمحيص، إلى مثابة التخصيص، من بعد المرام العويص، كحلنا بتوفيق الله بصر البصيرة، ووقفنا على سبيله مساعي الحياة القصيرة، ورأينا كما نقل إلينا، وكرّر على «8» من قبلنا وعلينا، أن الدّنيا وإن غرّ الغرور، وأنام على سرر الغفلة السّرور، فلم ينفع الخطور على أجداث الأحباب «9» والمرور، جسر يعبر، ومتاع لا يغبط من حبي به ولا يجبر «10» ، إنما هو خبر به يخبر، [وأن الحسرة بمقدار «11» ما على تركه تجبر]«12» ، وأن الأعمار أحلام، وأن الناس نيام، وربما رحل الراحل عن الخان، وقد جلّله بالأذى والدّخان، أو ترك به طيبا، وثناء يقوم بعده للآتي خطيبا، فجعلنا العدل في الأمور ملاكا، والتفقّد للثّغور مسواكا، وضجيع «13» المهاد، حديث الجهاد، وأحكامه مناط الاجتهاد، وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ
«14» دليل «15» الاستشهاد، وبادرنا رمق «16» الحصون المضاعة وجنح التّقية دامس، [وعوراتها «17» لا تردّيد لامس]«18» ، وساكنها بائس، والأعصم في شعفاتها «19» من العصمة آيس «20» ، فزيّنا «21» ببيض الشّرفات ثناياها، وأفعمنا بالعذب
الفرات ركاياها، وغشّينا بالصّفيح المضاعف أبوابها، واحتسبنا عند موفيّ الأجور ثوابها، وبيّضنا بناصع الكلس أثوابها، فهي اليوم توهم حسّ «1» العيان، أنها قطع من بيض العنان، تكاد تناول قرص البدر بالبنان، متكفّلة للمؤمن من فزع «2» الدنيا والآخرة بالأمان. وأقرضنا الله قرضا، وأوسعنا مدوّنة الجيش عرضا، وفرضنا أنصافه مع الأهلّة فرضا، واستندنا من التوكّل على الله الغنيّ الحميد إلى ظلّ لواء، ونبذنا إلى الطاغية عهده على سواء، وقلنا: ربّ «3» أنت العزيز، وكلّ جبّار لعزّك ذليل، وحزبك هو الكثير وما سواه فقليل، أنت الكافي، ووعدك الوعد الوافي، فأفض علينا مدارع الصابرين، واكتبنا من الفائزين، بحظوظ رضاك الظافرين، وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
فتحرّكنا أولى الحركات، وفاتحة مصحف البركات، في خفّ من الحشود، واقتصار على من «4» بحضرتنا من العساكر المظفّرة والجنود، إلى حصن أشر «5» البازي «6» المطلّ، وركاب العدو الضّالّ المضلّ، ومهدي نفثات الصّلّ، على امتناعه وارتفاعه، وسموّ «7» يفاعه، وما بذل العدوّ فيه من استعداده، وتوفير أسلحته وأزواده، وانتخاب أنجاده. فصلينا «8» بنفسنا ناره، وزاحمنا عليه الشّهداء نصابر أواره، ونلقى بالجوارح العزيزة سهامه المسمومة وجلامده «9» الملمومة وأحجاره، حتى فرعنا بحول «10» من لا حول ولا قوة إلّا به أبراجه المنيعة وأسواره، وكففنا عن البلاد والعباد «11» أضراره، بعد أن استضفنا إليه حصن السّهلة «12» جاره، ورحلنا عنه بعد أن شحنّاه رابطة وحامية، وأزوادا «13» نامية، وعملنا بيدنا في رمّ ما ثلم القتال، وبقر من بطون مسابقة «14» الرجال، واقتدينا بنبيّنا صلوات الله وسلامه عليه في الخندق لمّا حمى ذلك المجال، ووقع الارتجاز المنقول خبره والارتجال «15» ، وما كان ليقرّ الإسلام مع تركه القرار، وقد كتب الجوار، وتداعى الدّعرة وتعاوى الشّرار.
وقد «1» كنّا أغزينا الجهة الغربية من المسلمين بمدينة «2» برغة «3» التي سدّت بين القاعدتين؛ رندة ومالقة «4» الطريق، وألبست ذلّ الفراق ذلك الفريق، ومنعتهما أن تسيغا «5» الرّيق، فلا سبيل إلى الإلمام لطيف المنام، إلّا «6» في الأحلام، ولا رسالة إلّا في أجنحة هديّ الحمام، فيسّر الله فتحها، وعجّل منحها، بعد حرب انبتّت فيها النّحور، وتزيّنت الحور، وتبع هذه الأمّ بنات شهيرة، وبقع للزرع والضّرع خيرة، فشفي الثّغر من بوسه، وتهلّل وجه الإسلام بتلك الناحية بعد عبوسه.
ثم أعملنا الحركة إلى مدينة الجزيرة «7» ، على بعد المدى، وتغلغلها في «8» بلاد العدا، واقتحام هول الفلا «9» وغول الرّدى، مدينة تبنّتها «10» حمص فأوسعت الدّار، وأغلت الشّوار، وراعت الاستكثار، وبسطت الاعتمار، رجّح إلينا قصدها على البعد، والطريق الجعد، ما أشقت «11» به المسلمين، من استئصال طائفة من أسراهم مرّوا بها آمنين، وبطائرها «12» المشؤوم متيمّنين، قد أنهكهم الاعتقال، والقيود الثّقال، وأضرعهم الإسار، وجلّلهم الانكسار، فجدّلوهم في مصرع واحد، وتركوهم عبرة للرائي والمشاهد، وأهدوا بوقيعتهم إلى الإسلام ثكل الواجد، وترة «13» الماجد، فكبسناها كبسا، وفجأناها بإلهام من لا يضلّ ولا ينسى، فصبّحتها الخيل، ثم تلاحق الرّجل لما «14» جنّ الليل «15» ، وحاق بها الويل، فأبيح منها الذّمار1»
، وأخذها الدّمار، ومحقت من مصانعها البيض «17» الأهلّة وخسفت الأقمار، وشفيت من دماء أهليها «18» الضّلوع الحرار «19» ، وسلّطت على هياكلها النار، واستولى على الآلاف «20» العديدة من سبيها الإسار، وانتهى إلى إشبيلية الثّكلى المغار، فجلّل وجوه من بها من
كبار النصرانية الصّغار، واستولت الأيدي على ما لا يسعه الوصف ولا تقلّه الأوقار.
وعدنا والأرض تموج سبيا، لم تترك «1» بعفرّين «2» شبلا ولا بوجرة «3» ظبيا، والعقائل حسرى، والعيون يبهرها «4» الصّنع الأسرى، وصبح السّرى قد حمد من «5» بعد بعد المسرى، فسبحان الذي أسرى، ولسان الحميّة ينادي في تلك الكنائس المخزية «6» والنّوادي: يا لثارات الأسرى.
ولم يكن إلّا أن نفّلت «7» الأنفال، ووسمت بالإيضاح «8» الأغفال، وتميّزت الهوادي والأكفال، وكان إلى غزو مدينة جيّان الاحتفال، قدنا إليها الجرد تلاعب الظّلال نشاطا، والأبطال تقتحم الأخطار رضى بما عند الله واغتباطا، والمهنّدة الدّلق «9» تسبق إلى الرّقاب استلالا واختراطا، والرّدينيّة السّمر تسترط حيّاتها «10» النفوس استراطا، [واستكثرنا من عدد القتال احتياطا،]«11» وأزحنا «12» العلل عمّن أراد جهادا منجيا غباره من دخان «13» جهنّم ورباطا، ونادينا الجهاد الجهاد، يا أمة [الجهاد راية]«14» النبيّ الهاد، الجنّة الجنّة تحت ظلال السيوف الحداد، فهزّ النداء إلى الله تعالى كلّ عامر وغامر، وائتمر الجمّ من دعوة الحقّ إلى أمر آمر، وأتى الناس من الفجوج العميقة رجالا وعلى كلّ ضامر، وكاثرت الرايات «15» أزهار البطاح لونا وعدّا، وسدّت الحشود مسالك الطرق «16» العريضة سدّا، ومدّ بحرها الزاخر مدّا، فلا يجد لها الناظر ولا المناظر حدّا. وهذه المدينة هي الأمّ الولود، والجنّة التي في النار لسكّانها من الكفّار «17» الخلود، وكرسيّ الملك، ومجنّبته الوسطى من ذلك السّلك «18» ، باءت بالمزايا العديدة ونجحت، وعند الوزان بغيرها من أمّات البلاد «19» رجحت، غاب الأسود، وجحر الحيّات السّود، ومنصب التماثيل الهائلة، ومعلق النواقيس الصّائلة.
وأدنينا إليها المراحل، وعيّنّا لبحار «1» المحلّات المستقلّات منها الساحل. ولمّا أكثبنا «2» جوارها، وكدنا نلمح «3» نارها، تحرّكنا ووشاح الأفق المرقوم بزهر النجوم قد دار دائره، والليل من خوف الصّباح على سرحه المستباح قد شابت غدائره، والنّسر يرفرف باليمن طائره، والسّماك الرامح «4» يثأر بعزّ «5» الإسلام ثائره، والنّعائم راعدة فرائص الجسد، من خوف الأسد، والقوس يرسل سهم السعادة، بوتر العادة، إلى أهداف «6» النّعم المعادة، والجوزاء عابرة نهر المجرّة، والزّهرة تغار من الشّعرى العبور بالضّرّة، وعطارد يسدي في حبل «7» الحروب، على البلد المحروب ويلحم، ويناظر على أشكالها الهندسيّة «8» فيفحم، والأحمر يبهر، والعلم الأبيض يفري وينهر، والمشتري يبدي في فضل الجهاد ويعيد، ويزاحم في الحلقات»
على ما للسعادة من الصفات ويزيد، وزحل عن الطالع منزحل، [وعن العاشر مرتحل]«10» ، وفي زلق السّقوط وحل، والبدر يطارح حجر المنجنيق، كيف يهوي إلى النّيق، ومطلع الشمس يرقب، وجدار الأفق يكاد بالعيون عنها ينقب.
ولمّا فشا سرّ الصباح، واهتزّت أعطاف الرّايات لتحيّات مبشّرات الرّياح، أطللنا «11» عليها إطلال الأسود على الفرائس، والفحول على العرائس، فنظرنا منظرا يروع بأسا ومنعة، ويروق وضعا وصنعة، تلفّعت معاقله الشّمّ للسّحاب ببرود، ووردت من غدير «12» المزن في برود، وأسرعت لاقتطاف «13» أزهار النجوم، والذّراع بين النطاق معاصم رود، وبلدا «14» يعيي الماسح والذارع «15» ، وينتظم المحاني والأجارع. فقلنا اللهمّ نفّله أيدي عبادك «16» ، وأرنا فيه آية من آيات جهادك، فنزلنا بساحتها العريضة المتون، نزول الغيث الهتون، وتيمّنّا من فحصها الأفيح بسورة التّين والزيتون، متبرّية «17» من أمان الرحمن للبلد المفتون، وأعجلنا الناس بحميّة نفوسهم النّفيسة، وسجيّة شجاعتهم البئيسة، عن أن نبوّئ للقتال المقاعد، وندني بإسماع
شهير النّفير منهم الأباعد، وقبل أن يلتقي الخديم بالمخدوم، ويركع المنجنيق ركعتي القدوم، فدافعوا «1» من أصحر إليهم من الفرسان، وسبق إلى حومة الميدان، حتى أحجروهم في البلد، وسلبوهم لباس الجلد، في موقف يذهل الوالد عن الولد، صابت «2» السّهام فيه غماما، وطارت كأسراب الحمام تهدي حماما، وأضحت القنا قصدا، بعد أن كانت شهابا رصدا. وماج بحر القتام بأمواج النّصول، وأخذ الأرض الرّجفان لزلزال الصباح «3» الموصول. فلا ترى إلّا شهيدا تظلّل مصرعه الحور، وصريعا تقذف به إلى السّاحل أمواج «4» تلك البحور، ونواشب تبأى بها الوجوه الوجيهة عند الله والنّحور، فالمقضب فوده يخصب «5» والأسمر غصنه سيثمر «6» ، والمغفر حماه يخفر، وظهور القسيّ تقصم «7» ، وعصم الجند الكوافر تفصم. وورق «8» اليلب في المنقلب يسقط، والبتّر تكتب «9» ، والسّمر تنقط، فاقتحم الرّبض الأعظم لحينه، وأظهر الله لعيون المبصرين والمستبصرين عزّة دينه، وتبرّأ الشيطان من خدينه «10» ، وبهت «11» الكفّار وخذلوا، وبكلّ مرصد «12» جدّلوا، ثم دخل البلد بعده غلابا، وجلّل قتلا واستلابا، فلا تسل، إلّا الظّبا والأسل، عن قيام ساعته، وهول يومها وشناعته، وتخريب المبائت والمباني، وغنى الأيدي من خزائن تلك المغاني، ونقل الوجود الأول إلى الوجود الثاني. وتخارق السيف فجاء «13» بغير المعتاد، ونهلت القنا الرّدينيّة من الدماء حتى كادت تورق كالأغصان المغترسة والأوتاد، وهمت أفلاك القسيّ وسحّت، وأرنّت «14» حتى بحّت، ونفدت موادّها «15» فشحّت، بما ألحّت، وسدّت المسالك جثث القتلى فمنعت العابر، واستأصل الله من عدوّه الشأفة «16» وقطع الدّابر، وأزلف الشهيد وأحسب الصابر، وسبقت رسل الفتح الذي لم يسمع بمثله في الزمن الغابر، تنقل البشرى من أفواه المحابر، إلى آذان المنابر.
أقمنا بها أياما نعقر الأشجار، ونستأصل بالتّخريب الوجار «17» ، ولسان الانتقام من عبدة الأصنام، ينادي يا لثارات الإسكندرية تشفّيا من الفجّار، ورعيا لحقّ الجار.
وقفلنا وأجنحة الرايات برياح العنايات «1» خافقة، وأوفاق التوفيق الناشئة من خطوط الطريق موافقة «2» ، وأسواق العزّ بالله نافقة، وحملاء الرفق مصاحبة والحمد لله مرافقة، وقد ضاقت ذروع الجبال، عن أعناق الصّهب السّبال «3» ، ورفعت على الأكفال، ردفاء «4» كرائم الأنفال، وقلقلت من النواقيس أجرام الجبال، بالهندام والاحتيال، وهلك «5» بمهلك هذه الأمّ بنات كنّ يرتضعن ثديّها الحوافل، ويستوثرن حجرها الكافل، شمل التخريب أسوارها، وعجّلت النار بوارها «6» .
ثم تحرّكنا بعدها حركة الفتح، وأرسلنا دلاء»
الأدلّاء «8» قبل المتح «9» ، فبشّرت بالمنح. وقصدنا مدينة «10» أبّدة «11» وهي ثانية الجناحين، وكبرى الأختين، ومساهمة جيّان في حين الحين، مدينة أخذت عرض «12» الفضاء الأخرق، وتمشّت في «13» أرباضها تمشّي الكتابة الجامحة في المهرق «14» ، المشتملة على المتاجر والمكاسب، والوضع المتناسب، والفلح «15» المعيي ريعه «16» عمل الحاسب، وكوارة «17» الدير «18» اللاسب، المتعددة اليعاسب، فأناخ العفاء بربوعها العامرة، ودارت كؤوس عقار الحتوف ببنان السيوف على متديّريها المعاقرة، وصبّحتها طلائع الفاقرة، وأغريت ببطون أسوارها عوج المعاول الباقرة، ودخلت مدينتها عنوة السيف، في أسرع من خطرة الطّيف، ولا تسل «19» عن الكيف. فلم يبلغ العفاء من مدينة حافلة، وعقيلة في حلل المحاسن رافلة، ما بلغ من هذه البائسة التي سجدت لآلهة النيران أبراجها، وتضاءل بالرّغام معراجها، وضفت على أعطافها ملابس الخذلان، وأقفر من كنائسها كناس الغزلان.
ثم تأهّبنا لغزو أمّ القرى الكافرة، وخزائن المزاين «1» الوافرة، وربّة الشّهرة السافرة، والأنباء المسافرة، قرطبة، وما أدراك ما هيه؟ ذات الأرجاء الحالية الكاسية، والأطواد الرّاسخة الرّاسية، والمباني المباهية، والزّهراء الزاهية «2» ، والمحاسن غير المتناهية، حيث هالة بدر السماء قد استدارت من السّور المشيد البناء دارا «3» ، ونهر المجرّة من نهرها الفيّاض المسلول حسامه من غمود «4» الغياض قد لصق بها جارا، وفلك الدّولاب المعتدل الانقلاب قد استقام مدارا، ورجّع الحنين اشتياقا إلى الحبيب الأوّل وادّكارا، حيث الطّود كالتّاج يزدان بلجين العذب المجاج فيزري بتاج كسرى ودارا، حيث قسيّ الجسور المديرة «5» كأنها عوج المطيّ الغريرة تعبر النهر قطارا، حيث آثار العامريّ المجاهد تعبق بين تلك المعاهد شذى معطارا، حيث كرائم السّحاب «6» تزور «7» عرائس الرّياض الحبايب فتحمل لها من الدّر نثارا، حيث شمول الشّمال «8» تدار على الأدواح بالغدوّ والرّواح فترى الغصون سكارى، وما هي بسكارى، حيث أيدي الافتتاح تفتضّ من شقائق البطاح أبكارا، حيث ثغور الأقاح «9» الباسم تقبّلها بالسّحر زوّار النّواسم فتخفق قلوب النجوم الغيارى، حيث المصلّى العتيق قد رحب مجالا وطال منارا، وأزرى ببلاط الوليد احتقارا، حيث الظّهور المثارة بسلاح الفلاح تجبّ عن مثل أسنمة المهارى، والبطون كأنها لتدميث الغمائم بطون العذارى، والأدواح العالية تخترق أعلامها الهادية بالجداول الخيارى «10» . فما شئت من جوّ صقيل، ومعرّس للحسن «11» ومقيل، ومالك للعقل وعقيل، وخمائل كم فيها للبلابل من قال وقيل، وخفيف يجاوب بثقيل، وسنابل تحكي من فوق سوقها، وقضب بسوقها، الهمزات فوق الألفات، والعصافير البديعة الصّفات، فوق القضب المؤتلفات، تميل لهبوب «12» الصّبا والجنوب، مالئة «13» الجيوب، بدرر الحبوب، وبطاح لا تعرف عين المحل، فتطلبه بالذّحل، ولا تصرف «14» في خدمة بيض قباب الأزهار، عند افتتاح السّوسن والبهار، غير العبدان من سودان النّحل «15» وبحر الفلاحة
الذي لا يدرك ساحله، ولا يبلغ الطّيّة «1» البعيدة راحله، إلى الوادي، وسمر النوادي، وقرار دموع الغوادي، المتجاسر على تخطّيه عند تمطّيه الجسر العادي، والوطن الذي ليس من عمرو ولا زيد، والفرا الذي في جوفه كلّ صيد «2» ، أقلّ كرسيّه خلافة الإسلام، وأغار «3» بالرّصافة والجسر دار السلام، وما عسى أن تطنب في وصفه ألسنة الأقلام، أو تعبّر به عن ذلك الكمال فنون الكلام، فأعملنا إليها السّرى والسّير، وقدنا إليها النخيل وقد عقد الله «4» في نواصيها الخير.
ولمّا وقفنا بظاهرها المبهت المعجب، واصطففنا بخارجها المنبت المنجب، والقلوب تلتمس الإعانة من منعم مجزل، وتستنزل مدد «5» الملائكة من منجد منزل، والركائب واقفة من خلفنا بمعزل، تتناشد في معاهد الإسلام:«قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل «6» » برز من حاميتها المحامية، ووقود النار الحامية، وبقية السيف الوافرة على الحصاد النامية، قطع الغمائم الهامية، وأمواج البحور الطامية، واستجنّت بظلال أبطال المجال أعداد الرجال النّاشبة والرّامية. وتصدّى للنّزال من صناديدها الصّهب السّيال «7» أمثال الهضاب الراسية، يجنّها «8» جنن السّوابغ الكاسية، وقواميسها المفادية «9» للصّلبان يوم بؤسها بنفوسها المواسية، وخنازيرها التي عدتها عن قبول حجج الله ورسوله ستور الظّلم الغاشية، وصخور القلوب القاسية، فكان «10» بين الفريقين أمام جسرها الذي فرق البحر، وحلي بلجينه ولآلىء زينه منها النّحر، حرب لم تنسج الأزمان «11» على منوالها، ولا أتت الأيام «12» الحبالى بمثل أجنّة أهوالها، من قاسها بالفجار أفك وفجر، أو مثّلها بجفر «13» الهباءة خرف وهجر، ومن شبّهها بحرب داحس «14» والغبراء فما عرف الخبر، فليسأل من جرّب «15» وخبر. ومن
نظّرها بيوم شعب جبله، فهو ذو بله، أو عادلها ببطن عاقل، فهو «1» غير عاقل، أو احتجّ بيوم ذي قار، فهو إلى المعرفة ذو افتقار، أو ناضل بيوم الكديد، فسهمه غير السديد. إنما كان مقاما غير معتاد، ومرعى نفوس لم يف بوصفه لسان مرتاد، وزلزال جبال أوتاد، ومتلف مذخور لسلطان الشيطان وعتاد، أعلم فيه البطل الباسل، وتورّد «2» الأبيض الباتر وتأوّد الأسمر العاسل، ودوّم الجلمد المتكاسل، وانبعث «3» من حدب الحنيّة إلى هدف الرّميّة الناشر الناسل، ورويت لمرسلات السّهام المراسل. ثم أفضى أمر الرّماح إلى التّشاجر والارتباك، ونشبت «4» الأسنّة في الدّروع نشب «5» السّمك في الشّباك، ثم اختلط المرعى بالهمل، وعزل الرّدينيّ عن العمل، وعادت السيوف من فوق المفارق تيجانا، بعد أن شقّت غدر السوابغ خلجانا، واتّحدت جداول الدروع فصارت بحرا، وكان التّعانق فلا ترى إلّا نحرا يلازم نحرا، عناق وداع، وموقف شمل ذي انصداع، وإجابة مناد إلى فراق الأبد وداع.
واستكشفت مآل «6» الصبر الأنفس الشفّافة، وهبّت بريح النصر الطلائع المبشّرة الهفّافة. ثم أمدّ السيل ذلك العباب، وصقل الاستبصار الألباب، واستخلص العزم صفوة اللّباب، وقال لسان النّصر «7» ادخلوا عليهم الباب، فأصبحت طوائف الكفّار، حصائد مناجل الشّفار، فمغافرهم «8» قد رضيت حرماتها بالإخفار «9» ، ورؤوسهم محطوطة في غير مقام «10» الاستغفار، وعلت الرايات من فوق تلك الأبراج المستطرفة والأسوار «11» ، ورفرف على المدينة جناح البوار «12» ، لولا الانتهاء إلى الحدّ والمقدار، والوقوف عند اختفاء سرّ الأقدار «13» .
ثم عبرنا نهرها، وشددنا «14» بيدي «15» الله قهرها، وضيّقنا حصرها، [وأدرنا بلآلئ القباب البيض خصرها]«16» ، وأقمنا بها أياما تحوم عقبان البنود على فريستها حياما وترمي «17» الأدواح «18» ببوارها، ونسلّط «19»
النيران «1» على أقطارها، فلولا عائق «2» المطر، لحصلنا من فتح ذلك الوطن على الوطر، فرأينا أن نروضها بالاجتثاث والانتساف، ونوالي على زروعها وربوعها كرّات رياح الاعتساف، حتى يتهيّأ للإسلام لوك طعمتها، ويتهنّأ بفضل الله إرث نعمتها. ثم كانت عن موقفها الإفاضة من «3» بعد نحر النّحور، وقذف جمار الدّمار على العدوّ المدحور «4» ، وتدافعت خلفنا السّيقات المتّسقات «5» تدافع أمواج البحور. وبعد أن ألححنا على جنّاتها المصحرة، وكرومها المستبحرة «6» ، إلحاح الغريم، وعوّضناها المنظر الكريه من المنظر الكريم، وطاف عليها طائف من ربّك «7» فأصبحت كالصّريم «8» ، وأغرينا حلاق «9» النار بحمم الجحيم، وراكمنا «10» في أجواف أجوائها غمائم الدّخان، تذكّر طيّبة البان، بيوم الغميم، وأرسلنا رياح الغارات لا «11» تذر من شيء أتت عليه إلّا جعلته كالرّميم، واستقبلنا الوادي يهول مدّا، ويروع «12» سيفه الصقيل حدّا «13» ، فيسّره «14» الله من بعد الإعواز، وانطلقت على الفرضة بتلك الفرصة «15» أيدي الانتهاز، وسألنا من ساءله أسد بن الفرات «16» فأفتى برجحان الجواز، فعمّ الاكتساح والاستباح جميع الأحواز، فأديل المصون، وانتهبت القرى وهدّمت الحصون، واجتثّت الأصول وحطّمت الغصون، ولم نرفع عنها إلى اليوم «17» غارة تصافحها بالبوس، وتطلع عليها غررها الضّاحكة باليوم العبوس. فهي الآن مجرى السّوابق ومجرّ العوالي، على التّوالي، والحسرات تتجدّد في أطلالها البوالي، وكأنّ بها قد صرعت، وإلى الدّعوة المحمّدية قد أسرعت، بقدرة من أنزل القرآن على الجبال فخشعت «18» ، من خشية الله وتصدّعت، وعزّة «19» من أذعنت الجبابرة لعزّه وخنعت. وعدنا والبنود لا يعرف اللفّ «20» نشرها، والوجوه المجاهدة
لا يخالط التّقطّب «1» بشرها، والأيدي بالعروة الوثقى معتلقة، والألسن بشكر نعم «2» الله منطلقة، والسيوف في مضاجع الغمود قلقة، وسرابيل الدّروع خلقة، والجياد من ردّها إلى المرابط والأواري «3» ردّ العواري حنقة، وبعبرات الغيظ المكظوم مختنقة، تنظر إلينا نظر العاتب، وتعود من ميادين المراح والاختيال تحت حلل السّلاح عود الصّبيان إلى المكاتب، والطّبل بلسان العزّ هادر، والعزم إلى منادي العود الحميد مبادر، ووجود نوع الرّماح من بعد ذلك الكفاح نادر، والقاسم «4» ترتّب بين يديه من السّبي النوادر، ووارد مناهل «5» الأجور غير المحلّإ ولا المهجور غير «6» صادر، ومناظر الفضل الآتي عقب «7» أخيّه المتأتي «8» على المطلوب المواتي «9» مصادر، والله على تيسير الصّعاب وتخويل المنن الرّغاب قادر، لا إله إلّا هو فما أجمل لنا صنعه الخفيّ، وأكرم بنا لطفه الحفيّ، اللهمّ لا نحصي ثناء «10» عليك، ولا نلجأ منك إلّا إليك، ولا نلتمس خير الدنيا والآخرة إلّا لديك، فأعد علينا عوائد نصرك يا مبدي يا معيد، وأعنّا من وسائل شكرك على ما ينثال «11» به المزيد، يا حيّ يا قيّوم يا فعّال «12» لما يريد.
وقارنت رسالتكم الميمونة لدينا حذق «13» فتح بعد «14» صيته، مشرئبّ ليته، وفخر من فوق النجوم العوائم «15» مبيته، عجبنا من تأتّي أمله الشّارد، وقلنا البركة في قدوم الوارد. وهو أنّ ملك النصارى «16» لاطفنا بجملة من الحصون كانت من مملكة «17» الإسلام قد غصبت، والتّماثيل فيها ببيوت الله قد نصبت، أدالها الله بمحاولتنا الطّيّب من الخبيث، والتّوحيد من التّثليث، وعاد إليها الإسلام عودة الأب الغائب، إلى البنات الحبائب، يسأل عن شؤونها، ويمسح دموع «18» الرّقّة عن جفونها. وهي للرّوم خطّة خسف قلّ ما ارتكبوها فيما
نعلم «1» من العهود، ونادرة من نوادر الوجود، وإلى الله علينا وعليكم عوارف الجود، وجعلنا في محاريب الشكر من الرّكّع السّجود.
عرّفناكم بمجملات أمور تحتها تفسير، ويمن من الله وتيسير، إذ استيفاء الجزئيات عسير، لنسرّكم بما منح الله دينكم، ونتوّج بعزّ الملّة الحنيفية جبينكم، ونخطب بعده دعاءكم وتأمينكم، فإنّ دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب سلاح ماض، وكفيل بالمواهب «2» المسؤولة من المنعم الوهّاب «3» متقاض «4» ، وأنتم أولى من ساهم في برّ، وعامل الله بخلوص سرّ، وأين يذهب الفضل عن بيتكم وهو صفة «5» حيّكم، وتراث ميتكم، ولكم مزية القدم، ورسوخ القدم، والخلافة مقرّها إيوانكم، وأصحاب الإمام مالك، رضي الله عنه، مستقرّها قيروانكم «6» ، وهجير المنابر ذكر إمامكم، والتوحيد إعلام أعلامكم، والوقائع الشهيرة في الكفر منسوبة إلى أيّامكم، والصحابة الكرام فتحة أوطانكم، وسلالة الفاروق عليه السلام وشائج «7» سلطانكم، ونحن نستكثر من بركة خطابكم، ووصلة جنابكم، ولولا الأعذار لوالينا بالمتزيّدات تعريف أبوابكم. والله، عز وجل، يتولّى عنّا من شكركم المحتوم، ما قصّر «8» المكتوب منه «9» عن المكتوم، ويبقيكم لإقامة الرّسوم، ويحلّ محبّتكم من القلوب محلّ الأرواح من الجسوم، وهو سبحانه يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، [ويوالي نعمه عندكم.]«10» والسلام الكريم الطّيّب [الزاكي «11» المبارك]«12» البرّ العميم يخصّكم كثيرا أثيرا، ما أطلع الصبح «13» وجها منيرا، بعد أن أرسل النّسيم سفيرا، وكان الوميض الباسم لأكواس الغمائم على أزهار الكمائم مديرا، ورحمة الله تعالى «14» وبركاته «15» .
وصدر عني في مخاطبة الشيخ الخطيب أبي عبد الله بن مرزوق جوابا عن كتابه «1» : [الوافر]
ولمّا أن نأت عنكم دياري «2»
…
وحال البعد بينكم وبيني
بعثت لكم سوادا في بياض
…
لأنظركم بشيء مثل عيني
بم أفاتحك يا سيدي، وأجلّ عددي؟ كيف أهدي سلاما، فلا أحذر ملاما؟ أو أنتخب لك كلاما، فلا أجد لتبعة التّقصير في حقّك الكبير إيلاما؟ إن قلت: تحيّة كسرى في الثّناء وتبّع، فكلمة في مربع العجمة تربع، ولها المصيف فيه والمربع، والجميم والمنبع، فتروى متى شاءت وتشبع. وإن قلت: إذا العارض خطر، ومهما همى أو قطر، سلام الله يا مطر «3» ، فهو في الشريعة بطر، ومركبه «4» خطر، ولا يرعى به وطن ولا يقضى وطر. وإنما العرق الأوشج، ولا يستوي البان والبنفسج، والعوسج والعرفج «5» :[الطويل]
سلام وتسليم وروح ورحمة
…
عليك وممدود من الظّلّ سجسج
وما كان فضلكم «6» ليمنعني الكفران أن أشكره، ولا لينسيني الشيطان أن أذكره، فأتّخذ في البحر سببا «7» ، أو أسلك غير الوفاء مذهبا، تأبى ذلك، والمنّة لله تعالى، طباع لها في مجال الرّعي باع، وتحقيق وإشباع، وسوائم «8» من الإنصاف لها مرعى «9» في رياض الاعتراف فلا يطرقها ارتياع، ولا تخفيها سباع. وكيف نجحد تلك الحقوق وهي شمس ظهيرة، وأذان عقيرة جهيرة «10» ، فوق مئذنة شهيرة، آدت الأكتاد «11» لها
ديون تستغرق الذّمم، وتسترقّ حتى الرّمم، فإن قضيت في الحياة فهي الخطّة التي نرتضيها، ولا نقنع من عامل الدهر المساعد إلّا أن «1» ينفّذ مراسمها ويمضيها، وإن قطع الأجل فالغنيّ الحميد من خزائنه التي لا تبيد يقضيها، ويرضي من يقتضيها.
وحيّا الله أيها العلم السّامي الجلال زمنا بمعرفتك المبرّة على الآمال أبرّ»
وأتحف، وإن أساء بفراقك وأجحف، وأعرى بعد ما ألحف، وأظفر باليتيمة المذخورة للشدائد والمزاين «3» ، ثم أوحش منها أصونة هذه الخزائن، فآب حنين الأمل بخفّيه «4» ، وأصبح المغرب غريبا يقلّب كفّيه، ونستغفر الله من هذه الغفلات، ونستهديه دليلا في مثل هذه الفلوات، وأي ذنب في الفراق للزمن أو لغراب الدّمن، أو للرّواحل المدلجة ما بين الشّام إلى اليمن، وما منها إلّا عبد مقهور، وفي رمّة القدر مبهور، عقد والحمد لله مشهور، وحجّة لها على النفس اللوّامة ظهور. جعلنا الله ممّن ذكر المسبّب في الأسباب، وتذكّر وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ
«5» قبل غلق الرّهن وسدّ الباب.
وبالجملة فالفراق ذاتيّ، ووعده مأتيّ، فإن لم يحن «6» فكأن قد، ما أقرب اليوم من الغد، والمرء في الوجود غريب، وكلّ آت قريب، وما من مقام إلا لزيال من غير احتيال، والأعمار مراحل والأيام أميال «7» :[الوافر]
نصيبك في حياتك من حبيب
…
نصيبك في منامك من خيال
جعل الله الأدب مع الحقّ شاننا، وأبعد عنا الفرق «8» الذي شاننا، وإني لأسرّ لسيدي بأن رعى الله صالح سلفه، وتداركه بالتّلافي في تلفه، وخلّص سعادته من كلفه، وأحلّه من الأمن في كنفه، وعلى قدرها تصاب العلياء، وأشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء. هذا والخير والشّرّ في هذه الدار، المؤسّسة على الأكدار، ظلّان مضمحلّان، فإذا «9» ارتفع، ما ضرّ أو ما نفع، وفارق المكان، فكأنّه ما كان، ومن كلمات المملوك البعيدة عن الشكوك، إلى أن يشاء ملك الملوك «10» :
خذ من زمانك ما تيسّر
…
واترك بجهدك ما تعسّر
ولربّ مجمل حالة
…
ترضى به ما لم يفسّر
والدهر ليس بدائم
…
لا بدّ أن سيسوء إن سرّ
واكتم حديثك جاهدا
…
شمت المحدّث أو تحسّر
والناس آنية الزّجا
…
ج إذا عثرت به تكسّر
لا تعدم التّقوى فمن
…
عدم التّقى في الناس أعسرّ
وإذا امرؤ خسر الإل
…
هـ فليس خلق منه أخسر
وإنّ لله في رعيك لسرّا، ولطفا مستمرّا مستقرّا، إذ ألقاك «1» بسرّ الرّوع إلى الساحل، وأخذ «2» بيدك من ورطة الواحل، وحرّك منك عزيمة الرّاحل، إلى الملك الحلاحل «3» ، فأدالك «4» من إبراهيمك سميّا، وعرفك بعد الوليّ وسميّا، ونقلك من عناية إلى عناية، وهو الذي يقول وقوله الحقّ ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ
«5» الآية. وقد وصل كتاب سيدي يحمد- والحمد لله «6» - العواقب، ويصف المراقي التي حلّها والمراقب، وينشر المفاخر الحفصيّة والمناقب، ويذكر ما هيّأه الله لديها من إقبال، ورخاء بال، وخصّيصى «7» اشتمال ونشور «8» آمال، وأنه اغتبط وارتبط، وألقى العصا بعد ما خبط.
ومثل تلك الخلافة العليّة من تزن الذوات، المخصوصة من الله بشريف «9» الأدوات، بميزان تمييزها، وتفرّق بين شبه المعادن وإبريزها، وشبه الشيء مثل معروف «10» ، ولقد أخطأ من قال: الناس ظروف، إنما هم شجرات مربع في بقعة ماحلة، وإبل مائة
لا تجد فيها راحلة «1» ، وما هو إلّا اتّفاق، ونجح للملك وإخفاق «2» ، وقلّما كذب إجماع وإصفاق، والجليس الصالح لربّ السّياسة «3» أمل مطلوب، وحظّ إليه مجلوب، وإن سئل أطرف، وعمر الوقت ببضاعة أشرف، وسرق الطّباع، ومدّ في الحسنات الباع، وسلّى في الخطوب، وأضحك في اليوم القطوب، وهدى إلى أقوم الطّرق، وأعان على نوائب الحقّ، وزرع له المودّة في قلوب الخلق، زاد الله سيدي لديها قربا أثيرا، وجعل فيه للجميع خيرا كثيرا، بفضله وكرمه. ولعلمي بأنّه أبقاه الله يقبل نصحي، ولا يرتاب في صدق صبحي، أغبطه بمثواه، وأنشده ما حضر من البديهة في مسارّة هداه ونجواه:[الكامل]
بمقام إبراهيم عذ واصرف له
…
فكرا تؤرّق عن بواعث تعتري «4»
فجواره حرم وأنت حمامة
…
ورقاء والأغصان عود المنبر
فلقد أمنت من الزمان وريبه
…
وهو المروّع للمسيء وللبري
وإن تشوّف سيدي للحال «5» ، فلعمر وليّه لو كان المطلوب دنيا لوجب وقوع الاجتزاء، ولاغتبط بما تحصّل في هذه الجزور، المبيعة في حانوت الزّور، من السّهام الوافرة الأجزاء، فالسلطان رعاه الله، يوجب ما فوق مزية التعليم، والولد، هداهم الله، قد أخذوا بحظّ قلّ أن ينالوه بغير هذا الإقليم، والخاصّة والعامة تعامل بحسب ما بلته من نصح سليم، وترك لما بالأيدي وتسليم، وتدبير عاد على عدوّهم «6» بالعذاب الأليم، إلّا من أبدى السلامة وهو من إبطان الحسد بحال السّليم، ولا ينكر ذلك في الحديث ولا في القديم. لكن «7» النفس منصرفة عن هذا الغرض، ونافضة «8» يدها من العرض، قد فوّتت الحاصل، ووصلت في الله القاطع وقطعت الواصل، وصدقت لما نصح الفود النّاصل «9» ، وتأهّبت للقاء الحمام الواصل، وقلت:[المنسرح]
انظر خضاب الشّباب قد نصلا «10»
…
وزائر الأنس بعده انفصلا
ومطلبي والذي كلفت به
…
حاولت تحصيله فما حصلا
لا أمل مسعف ولا عمل
…
ونحن «1» في ذا والموت قد وصلا
والوقت إلى الإمداد منكم بالدّعاء في الأصائل والأسحار، إلى مقيل العثار «2» ، شديد الافتقار، والله عز وجل يصل لسيدي رعي جوانبه، ويتولّى تيسير آماله من فضله العميم ومآربه، وأقرأ عليه من التّحيّات، المحمّلة من فوق رحال الأريحيّات، أزكاها، ما أوجع البرق الغمائم فأبكاها، وحسد الروض جمال النّجوم الزّواهر فقاسها بمباسم الأزهار «3» وحكاها، واضطبن «4» هرم اللّيل عند الميل عصا الجوزاء وتوكّاها، ورحمة الله تعالى وبركاته.
وخاطبت الفقيه الرئيس أبا زيد بن خلدون لما ارتحل من بحر ألمرية، واستقرّ ببسكرة عند الرئيس بها أبي العباس ابن مزنى صحبة رسالة خطّبها «5» أخوه أبو زكريا، وقد تقلّد كتابة الإنشاء لصاحب تلمسان، ووصل الكتب «6» عنه من إنشائه «7» :
[الطويل]
بنفسي وما نفسي عليّ بهينة
…
فينزلني عنها المكاس بأثمان «8»
حبيب نأى عنّي وصمّم لا يني «9»
…
وراش سهام البين عمدا فأصماني «10»
وقد كان همّ الشّيب، لا كان، كافيا
…
فقد آدني «11» لمّا ترحّل همّان
شرعت له من دمع عيني موردا
…
فكدّر «1» شربي بالفراق وأظماني «2»
وأرعيته من حسن عهدي حميمه «3»
…
فأجدب آمالي وأوحش أزماني
حلفت على ما عنده لي من رضى
…
قياسا بما عندي فأحنث أيماني
وإنّي على ما نالني منه من قلى
…
لأشتاق من لقياه نغبة ظمآن
سألت جنوني فيه تقريب عرشه
…
فقست بجنّ الشوق جنّ سليمان
إذا ما دعا داع من القوم باسمه «4»
…
وثبت وما استثبتّ «5» شيمة هيمان
وتالله ما أصغيت فيه لعاذل
…
تحاميته حتى ارعوى وتحاماني
ولا استشعرت نفسي برحمة عابد «6»
…
تظلّل يوما مثله عبد رحمان
ولا شعرت من قبله بتشوّق
…
تخلّل منها بين روح وجثمان
أمّا الشّوق فحدّث عنه ولا حرج، وأمّا الصّبر فاسأل «7» به أيّة درج، بعد أن تجاوز اللّوى «8» والمنعرج، لكنّ الشّدة تعشق الفرج، والمؤمن ينشق من روح الله الأرج، وأنّى بالصّبر على أبرّ الدّبر، لا بل الضرب الهبر «9» ، ومطاولة اليوم والشّهر، تحت حكم القهر؟ وهل للعين أن تسلو سلوّ المقصر، عن إنسانها المبصر، أو تذهل ذهول الزّاهد، عن سرّها الرّائي «10» والمشاهد؟ وفي الجسد بضعة يصلح «11» إذا صلحت، فكيف حاله إذا رحلت عنه ونزحت، وإذا كان الفراق وهو الحمام الأول، فعلام المعوّل؟ أعيت مراوضة الفراق، على الرّاق، وكادت لوعة الاشتياق، أن تفضي إلى السّياق «12» :[السريع]
تركتموني بعد تشييعكم
…
أوسع أمر الصّبر عصيانا
أقرع سنّي ندما تارة
…
وأستميح الدمع أحيانا
وربما تعلّلت بغشيان المعاهد الخالية، وجدّدت رسوم الأسى بمباكرة الرسوم البالية، أسأل نون النّوى «13» عن أهليه، وميم الموقد المهجور عن مصطليه، وثاء
الأثافي المثلّثة عن منازل الموحّدين، وأحار بين تلك الأطلال حيرة الملحدين، لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين. كلفت لعمر الله، بسال عن جفوني المؤرقة، ونائم عن همومي المتجمّعة «1» المتفرّقة، ظعن عن ملال «2» ، لا متبرّما مني بشرّ خلال، وكدّر الوصل بعد صفائه، وضرّج النّصل بعد عهد وفائه «3» :[الطويل]
أقلّ اشتياقا أيّها القلب ربّما «4»
…
رأيتك تصفي الودّ من ليس جازيا «5»
فها أنا أبكي عليه بدم أساله، وأنهل فيه أسى له «6» ، وأعلّل بذكراه قلبا صدعه، وأودعه من الوجد ما أودعه، لمّا خدعه، ثم قلاه وودّعه، وأنشق ريّاه أنف ارتياح قد جدعه، وأستعديه «7» على ظلم ابتدعه «8» :[الطويل]
خليليّ، هل أبصرتما أو سمعتما «9»
…
قتيلا بكى، من حبّ قاتله، قبلي؟
فلولا عسى الرجاء ولعلّه، لا بل شفاعة المحلّ الذي حلّه، لمزجت الحنين بالعتب «10» ، وبثثت كتائبه «11» كمناء في شعاب الكتب، تهزّ من الألفات رماحا خزر الأسنّة، وتوتّر «12» من النّونات أمثال القسيّ المرنّة «13» ، وتقود من مجموع الطّرس والنّقس «14» بلقا تردي «15» في الأعنّة. ولكنه أوى «16» إلى الحرم الأمين، وتفيّأ ظلال الجوار المؤمّن من معرّة العوار «17» عن الشمال واليمين، حرم الخلال «18» المزنيّة،
والظّلال اليزنيّة، والهمم السّنيّة، والشّيم التي لا ترضى بالدّون ولا بالدّنيّة، حيث الرّفد الممنوح، والطّير الميامن يزجر لها السّنوح، والمثوى الذي إليه مهما تقارع الكرام على الضّيفان حول جوابي الجفان الميل والجنوح «1» :[الكامل]
نسب كأنّ عليه من شمس الضّحى
…
نورا ومن فلق الصباح عمودا
ومن حلّ بتلك المثابة فقد اطمأنّ جنبه، وتغمّد بالعفو ذنبه. ولله درّ القائل «2» :
[الكامل]
فوحقّه لقد انتدبت لوصفه
…
بالبخل لولا أنّ حمصا داره
بلد متى أذكره تهتج لوعتي
…
وإذا قدحت الزّند طار شراره
اللهمّ غفرا، لا كفرا «3» ، وأين قرارة النّخيل، من مثوى الأقلف البخيل، ومكذبة المخيل؟ وأين ثانية هجر، من متبوّإ من ألحد وفجر؟ [المتدارك]
من أنكر غيثا منشؤه
…
في الأرض فليس «4» بمخلفها
فبنان بني مزنى مزن
…
تنهلّ بلطف مصرّفها
مزن مذ حلّ ببسكرة
…
يوما نطقت بمصحّفها «5»
شكرت حتى بعبارتها
…
وبمعناها وبأحرفها
ضحكت بأبي العباس من ال
…
أيام ثنايا زخرفها
وتنكّرت الدنيا حتى
…
عرفت منه بمعرّفها
بل نقول: يا محلّ الولد لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ
(2)
«6» ، لقد حلّ بينك عرى الجلد، وخلّد الشوق بعدك يا ابن خلدون في الصّميم من الخلد.
فحيّا الله زمنا شفيت برقى «7» قربك زمانته، واجتليت في صدف مجدك جمانته «8» ، ويا من لمشوق لم تقض من طول خلّتك لبانته، وأهلا بروض أظلّت أشتات معارفك بانته، فحمائمه بعدك تندب «9» ، فيساعدها الجندب، ونواسمه ترقّ فتتغاشى «10» ،
وعشيّاته تتخافت وتتلاشى، [ومزنه باك]«1» وأدواحه «2» [في ارتباك، وحمائمه]«3» في مأتم ذي اشتباك، كأن لم تكن قمر «4» هالات قبابه، ولم يكن «5» أنسك شارع بابه، إلى صفوة الظّرف ولبابه، ولم يسبح إنسان عينك في ماء شبابه. فلهفي عليك من درّة اختلستها يد النّوى، ومطل بردّها الدهر ولوى، ونعق الغراب ببينها في ربوع الجوى «6» ، ونطق بالزّجر فما نطق عن الهوى. وبأي شيء يعتاض «7» منك أيتها الرياض، بعد أن طمى نهرك الفيّاض، وفهقت الحياض؟ ولا كان الشّانىء المشنوء «8» ، والجرب «9» المهنوء، من قطع ليل أغار على الصّبح فاحتمل، وشارك في الذّمّ الناقة والجمل، واستأثر جنحه ببدر النادي لما كمل. نشر الشّراع فراع، وأعمل «10» الإسراع، كأنما هو تمساح النّيل ضايق الأحباب في البرهة، واختطف لهم من الشّطّ نزهة العين وعين النّزهة. ولجّج «11» بها والعيون تنظر، والغمر عن «12» الاتباع يحظر، فلم يقدر إلّا على الأسف، والتماح الأثر المنتسف «13» ، والرجوع بملء العيبة من الخيبة، ووقر «14» الجسرة من الحسرة. إنما «15» نشكو «16» إلى الله البثّ والحزن، ونستمطر من عبراتنا «17» المزن، وبسيف الرجاء نصول، إذا شرعت «18» لليأس أسنّة ونصول «19» :[البسيط]
ما أقدر الله أن يدني على شحط
…
من داره الحزن ممّن داره صول «20»
فإن كان كلم «21» الفراق رغيبا «22» ، لمّا نويت مغيبا، وجلّلت الوقت الهنيّ تشغيبا، فلعلّ الملتقى يكون قريبا، وحديثه يروي صحيحا غريبا. إيه شقّة
النّفس «1» كيف حال تلك الشّمائل، المزهرة الخمائل؟ والشّيم «2» ، الهامية الدّيم، هل يمرّ ببالها من راعت بالبعد باله؟ وأخمدت بعاصف البين ذباله «3» ؟ أو ترثي لشؤون شأنها سكب لا يفتر، وشوق يبتّ حبال الصّبر ويبتر، وضنى تقصر عن حلله الفاقعة صنعاء وتستر، والأمر أعظم والله يستر. وما الذي يضيرك؟ صين من لفح السّموم نضيرك، بعد أن أضرمت وأشعلت وأوقدت وجعلت، وفعلت فعلتك التي فعلت، أن تترفّق بذماء، أو تردّ بنغبة «4» ماء أرماق ظماء، وتتعاهد المعاهد بتحيّة يشمّ عليها شذا أنفاسك، أو تنظر إلينا على البعد بمقلة حوراء من بياض قرطاسك، وسواد أنفاسك «5» ، فربما قنعت الأنفس المحبّة بخيال زور، وتعلّلت بنوال منزور، ورضيت لمّا لم تصد العنقاء بزرزور:[الكامل]
يا من ترحّل والرياح «6» لأجله
…
تشتاق «7» إن هبّت شذا ريّاها
تحيي النفوس إذا بعثت تحية
…
فإذا عزمت اقرأ وَمَنْ أَحْياها
«8»
ولئن أحييت بها فيما سلف نفوسا تفديك، والله إلى الخير يهديك، فنحن نقول معشر مريديك «9» : ثنّ ولا تجعلها بيضة الدّيك «10» ، وعذرا فإنّي لم أجترىء «11» على خطابك بالفقر الفقيرة، وأدللت لدى حجراتك برفع العقيرة، عن «12» نشاط بعثت «13» مرموسه «14» ، ولا اغتباط بالأدب تغري بسياسته سوسه، وانبساط أوحى إليّ على الفترة ناموسه، وإنما هو اتفاق جرّته نفثة المصدور، وهناء الجرب المجدور، وخارق
لا مخارق «1» ، فثمّ قياس فارق، أو لحن غنّى به بعد البعد «2» مفارق «3» . والذي «4» هيّأ هذا القدر وسبّبه، وسوّغ «5» منه المكروه وحبّبه، ما اقتضاه الصّنو يحيى، مدّ الله حياته، وحرس من الحوادث ذاته- من خطاب ارتشف به لهذه القريحة بلالتها، بعد أن رضي علالتها، ورشّح إلى الصّهر الحضرمي سلالتها، فلم يسع إلّا إسعافه، بما أعافه، فأمليت مجيبا، ما لا يعدّ في يوم الرّهان «6» نجيبا، وأسمعت وجيبا، لمّا ساجلت بهذه التّرهات سحرا عجيبا، حتى إذا «7» ألف القلم العريان سبحه، وجمح برذون «8» الغرارة «9» فلم أطق كبحه، لم أفق من غمرة غلوّه، وموقف متلوّه، إلّا وقد تحيّز إلى فئتك «10» مغترّا، بل معترّا «11» ، واستقبلها ضاحكا مفترّا، وهشّ لها برّا، وإن كان لونه من الوجل «12» مصفرّا، وليس بأول من هجر، في التماس الوصل ممّن هجر، أو بعث التّمر إلى هجر، وأي نسب بيني اليوم وبين زخرف الكلام، وإجالة جياد الأقلام، في محاورة الأعلام، بعد أن حال الجريض دون القريض «13» ، وشغل المريض عن التّعريض، واستولى «14» الكسل، ونصلت «15» الشعرات البيض، كأنّها الأسل «16» ، تروع برقط الحيّات، سرب الحياة، وتطرق بذوات «17» الغرر والشّيات «18» ، عند البيات. والشّيب الموت العاجل، وإذا ابيضّ زرع صبّحته المناجل، والمعتبر الآجل. وإذا اشتغل الشيخ بغير معاده، حكم في الظاهر بإبعاده، وأسره في ملكة عاده، فأغض، أبقاك الله، واسمح، لمن قصّر عن المطمح، وبالعين الكليلة فالمح، واغتنم لباس ثوب الثّواب، واشف بعض الجوى بالجواب، تولّاك الله
فيما استضفت وملكت، ولا بعدت ولا هلكت، وكان لك آية سلكت، ووسمك من السعادة بأوضح السّمات، وأتاح لقاءك من قبل الممات. والسلام الكريم يعتمد جلال «1» ولدي، وساكن خلدي، بل أخي، وإن اتّقيت «2» عتبه وسيدي، ورحمة الله وبركاته. [من محبّه المشتاق إليه محمد بن عبد الله بن الخطيب، وفي الرابع عشر من شهر ربيع الثاني، من عام سبعين وسبعمائة]«3» .
وخاطبت الفقيه أبا زكريا بن خلدون، لما ولّي الكتابة عن السلطان أبي حمّو موسى بن زيّان «4» ، واقترن بذلك نصر وصنع غبطته به، وقصدت بذلك تنفيقه وإنهاضه لديه «5» :
نخصّ الحبيب الذي هو في الاستظهار به أخ وفي الشّفقة عليه ولد، والوليّ الذي ما بعد قرب مثله أمل ولا على بعده جلد، والفاضل الذي لا يخالف في فضله ساكن ولا بلد، أبقاه الله وفاز فوزه وعصمته لها من توفيق الله سبحانه «6» عمد، ومورد سعادته المسوغ لعادته لا غور ولا ثمد «7» ، ومدى إمداده من خزائن إلهام الله وسداده ليس له أمد، وحمى فرح قلبه بمواهب من «8» ربّه أن «9» يطرقه كمد. تحية محلّه، من صميم قلبه بمحلّه، المنشئ رواق الشّفقة مرفوعا بعمد المحبّة والمقة «10» فوق ظعنه وحلّه، مؤثره ومجله، المعتني بدقّ أمره وجلّه «11» ، ابن الخطيب «12» . من الحضرة الجهادية غرناطة صان الله خلالها «13» ، ووقى هجير هجر الغيوم ظلالها، وعمر بأسود الله أغيالها، كما أغرى بمن «14» كفر بالله صيالها «15» . ولا زائد إلّا منن من «16» الله تصوب، وقوة يستردّ بها المغصوب، ويخفض «17» الصّليب المنصوب، والحمد لله
الذي بحمده ينال المطلوب، وبذكره تطمئنّ القلوب. ومودّتكم المودّة التي غذّتها ثديّ الخلوص بلبانها، وأحلّتها حلائل المحافظة بين أعينها وأجفانها، ومهّدت مواتّ أخواتها «1» الكبرى أساس بنيانها، واستحقّت ميراثها مع استصحاب حال الحياة، إن شاء الله، واتصال أزمانها، واقتضاء عهود الأيام بيمنها وأمانها. ولله درّ القائل «2» :
[الطويل]
فإن لم يكنها أو تكنه فإنّه
…
أخوها غذته أمّه بلبانها
وصل الله ذلك من أجله وفي ذاته، وجعله وسيلة إلى مرضاته، وقربة تنفع عند اعتبار ما روعي من سنن الجبّار ومفترضاته. وقد وصل كتابكم الذي فاتح بالريحان والرّوح، وحلّ من مرسوم الحياة «3» محلّ البسملة من اللّوح، وأذن لنوافح الثناء بالبوح «4» ، يشهد عدله بأنّ البيان يا آل خلدون سكن من «5» مثواكم دار خلود، وقدح زندا غير صلود، واستأثر من محابركم السيّالة وقضب أقلامكم «6» الميّادة الميّالة بأب منجب وأمّ ولود، يقفو «7» شانيه غير المشنوّ، وفصيله غير الجرب ولا المهنوّ، من الخطاب السلطاني سفينة منوح «8» ، إن لم نقل سفينة نوح. ما شئت من آمال أزواج، وزمر من الفضل وأفواج «9» ، وأمواج كرم تطفو فوق أمواج، وفنون بشائر، وإهطاع «10» قبائل وعشائر، وضرب للمسرّات أعيا السّامر «11» . فلله هو «12» من قلم راعى نسب القنا «13» فوصل الرّحم، وأنجد الوشيج الملتحم «14» ، وساق بعصاه من البيان الذّود المزدحم، وأخاف من شذّ عن الطاعة مع الاستطاعة فقال: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ
«15» . ولو لم يوجب الحقّ برقه ورعده، ووعيده ووعده، لأوجبه يمنه «16» وسعده. فلقد ظهرت مخايل نجحه، علاوة على نصحه، ووضحت محاسن صبحه، في وحشة الموقف الصّعب وقبحه، وصل الله له عوائد منحه، وجعله إقليدا
كلما استقبل باب أمل وكّله الله بفتحه. أمّا ما قرّره ولاؤكم من حبّ زكا عن «1» حبّة القلب حبّه، وأنبته النبات الحسن ربّه، وساعده من الغمام سكبه، ومن النّسيم اللّدن مهبّه، فرسم ثبت عند الوليّ «2» نظيره، من «3» غير معارض يضيره، وربما أربى بتذييل مزيد، وشهادة ثابت ويزيد «4» . ولم لا يكون ذلك وللقلب على القلب شاهد؟ وكونها أجنادا مجنّدة لا يحتاج تقريره إلى ماهد «5» ، أو جهد جاهد. ومودّة الأخوّة سبيلها لاحب، ودليلها للدّعوى «6» الصادقة مصاحب، إلى ما سبق من فضل ولقاء، ومصاقبة «7» سقاء واعتقاد، لا يراع سربه بذئب انتقاد «8» ، واجتلاء شهاب وقّاد، لا يحوج إلى إيقاد. إنما عاق عن مواصلة ذلك نوى شطّ منها الشّطن، وتشذيب لم يتعيّن معه الوطن. فلمّا تعيّن «9» ، وكاد صبح «10» الحقّ أن يتبيّن، عاد الوميض ديجورا، والثّماد «11» بحرا مسجورا، إلى أن أعلق الله منكم اليد بالسّبب الوثيق «12» ، وأحلّكم بمنجى نيق «13» ، لا يخاف من منجنيق، وجعل يراعكم لسعادة موسى «14» معجزة تأتي على الخبر بالعيان «15» ، فتخرّ لثعبانها سحرة البيان:[المتقارب]
أيحيى، سقى، حيث لحت، الحيا «16»
…
فنعم الشّعاب ونعم الرّكون «17»
وحيّا يراعك من آية
…
فقد حرّك القوم بعد السّكون
دعوت لخدمة موسى عصاه
…
فجاءت تلقّف ما يأفكون
فأذعن من يدّعي السّحر رغما
…
وأسلم من أجلها المشركون
وساعدك السّعد «1» فيما أردت
…
فكان كما ينبغي أن يكون
فأنتم «2» أولى الأصدقاء بصلة السّبب، ورعي الوسائل والقرب. أبقاكم الله وأيدي الغبطة بكم عالية «3» ، وأحوال تلك «4» الجهات بدرككم المهمات حالية، وديم المسرّات من إنعامكم المدرّات «5» على معهود المبرّات متوالية «6» . وأما ما تشوّفتم إليه من حال وليّكم فأمل متقلّص الظّل، وارتقاب لهجوم جيش الأجل المطلّ، ومقام على مساورة الصّلّ، وعمل يكذّب الدعوى، وطمأنينة تنتظر الغارة الشّعوا.
ويد بالمذخور تفتح، وأخرى تجهد وتمنح، ومرض يزور فيثقل، وضعف عن الواجب يعقل «7» إلّا أنّ اللطائف تستروح، والقلب من باب الرجاء لا يبرح. وربما ظفر اليائس «8» ، ولم تطّرد «9» المقايس «10» ، تداركنا الله بعفوه، وأوردنا من منهل الرّضا والقبول على صفوه، وأذن لهذا الخرق في رفوه. وأمّا ما طلبتم من انتساخ ديوان، وإعمال بنان في الإتحاف ببيان، فتلك عهود لديّ مهجورة، ومعاهد «11» لا متعهّدة ولا مزورة، شغل عن ذلك خوض «12» يعلو لجبه، وحوض «13» يقضى «14» من لغط المانح عجبه، وهول جهاد تساوى جمادياه ورجبه، ولولا «15» التماس أجر، وتعلّل بربح تجر، لقلت: أهلا بذات النّحيين «16» . فلئن «17» شكت، وبذلت المصون بسبب ما أمسكت، فلقد ضحكت في الباطن ضعف ما بكت. ونستغفر الله من سوء انتحال، وإيثار المزاح بكلّ حال. وما الذي ينتظر مثلي ممّن عرف المآخذ والمتارك، وجرّب لما بلا المبارك، وخبر مساءة الدّنيا الفارك؟ هذا أيها الحبيب ما وسعه الوقت الضيق، وقد ذهب الشّباب الرّيّق «18» . فليسمح فيه معهود كمالك،
جعل الله مطاوعة آمالك، مطاوعة يمينك لشمالك، ووطّأ لك موطّأ العزّ بباب كلّ مالك، وقرن النّجح بأعمالك، [وحفظك في نفسك وأهلك ومالك، والسّلام من فلان]«1» .
وكتبت إلى الأولاد وهم بالمنكّب صحبة السلطان، رضي الله عنه «2» :[مخلع البسيط]
يا ساكني مرفا الشّواني
…
شوقي من بعدكم شواني
ولاهج «3» الشّوق قد هواني
…
من بعدكم فاقتضى «4» هواني
كأنّه مالكا عناني
…
أنموذج من أبي عنان
لقد كفاني لقد كفاني
…
باقي ذما ذاهب «5» كفاني
منّوا على الخوف بالأماني «6»
…
فأنتم جملة الأماني
إلى أيّ كاهن أتنافر، وفي أيّ ملعب أتجاول وأتظافر، وبين يدي أيّ حاكم أتظالم فلا أتغافر، مع هذا الجبل، الذي هو في الشكل «7» جمل، حفّ به من الثّعب «8» همل، سنامه التّامك أجرد، وذنبه الشابل «9» كأنه جمل يطرد، وعنقه إلى مورد البحر يتعرّج ويتعرّد، وكأنما البنية بأعلاه خدر فاتنة، أو برق غمامة هاتنة، استأثر غير ما مرّة بأنسي، وصارت عينه الحمئة مغرب شمسي، حتى كأن هذا الشّكل من خدر وبعير، وإن كان مجاز مستعير، يتضمن «10» شكوى البين، ويفرّق بين المحبّين:
ما فرّق الأحباب بعد الله إلّا الإبل
…
والناس يلحون «11» غراب البين لما جهل
وما على ظهر غراب البين تقضى «12» الرّحل
…
ولا إذا صاح غراب في الديار ارتحل
وما غراب البيت إلّا ناقة أو جمل
فأقسم لولا أنّ الله ذكر الإبل في الكتاب الذي أنزل، وأعظم الغاية «1» بها وأجزل، لسللت عليه سلاح الدّعاء، وأغريت بهجره نفوس الرّعاء. وقلت: أراني الله إكسارك من بعير، فوق سعير، ولا سمحت لك «2» عقبة الأندر «3» والسعير «4» ، ببرّ ولا شعير:[الوافر]
دعوت عليك لمّا عيل صبري
…
وقلبي قائل يا ربّ لا لا
نستغفر الله، وأيّ ذنب لذي ذنب شائل، وليث مائل، بإزاء لجّ هائل، يتعاوره «5» الوعد والوعيد، فلا يبدي ولا يعيد، وتمرّ الجمعة «6» والعيد، فلا يستدبر «7» ولا يستعيد «8» ، إنما الذّنب لدهر يرى المجتمع فيغار، ويشنّ منه على الشّمل المغار «9» ، ونفوس على هذا الغرض تسانده «10» ، وتعينه ليبطش ساعده، وتقاربه فيما يريد فلا تباعده:[الكامل]
ولقد علمت فلا تكن متجنّيا
…
إنّ الفراق هو الحمام الأول
حسب الأحبّة أن يفرّق بينهم
…
صرف الزمان «11» فما لنا نستعجل
لكن المحبّ جنيب «12» ، ولغرض المحبوب سليب «13» :[الطويل]
ويحسن قبح «14» الفعل إن جاء منكم
…
كما طاب عرف العود وهو دخان
وقد قنعت برسالة تبلّغ الأنّة، وتدخل بعد ذلك الصّراط الجنّة، ويعبّر «15» لسانها عن شوقي من دون عقله، وتنظر عيني «16» من بياض طرسها وسواد نفسها بمقله.
وإن «17» كان الجواب، فهو الأجر والثّواب، ولم أر مثل «18» شوقي من نار تخمد بطرس يلقى على أوارها، فيأمن عادية جوارها. لكنها نار الخليل ربما تمسّكت من
المعجزة بأثر، وعثرت على آثاره مع من عثر، جمع الله من الشّمل بكم ما انتثر، وأنسى بالعين الأثر، وحرس على الكل من مسوق وسائق «1» ، وموحش ورائق، سرّ القلوب، ومناخ الجوى المجلوب، ومثار الأمل المطلوب. ولا زالت العصمة تنسدل فوق مثواه قبابها، والسّعود تحمل «2» في أمره العليّ منانها «3» . فالمحبوب إليه حبيب وإن أساء، وأوحش الصباح والمساء:[البسيط]
إن كان ما ساءني ممّا يسرّكم
…
فعذّبوا فقد استعذبت تعذيبي
والسلام عليكم ما حنّ مشوق، وتأوّد لليراع في رياض الرّقاع قضيب «4» ممشوق، ورحمة الله وبركاته.
وأجاب عن ذلك الفقيه أبو عبد الله بن زمرك، كاتب الدولة، والولدان عبد الله وعلي «5» ، بما يستحسن في غرض الرسالة وأبياتها، فراجعت الثلاثة بما نصه «6» :
[مخلع البسيط]
أكرم بها من بناء بان «7»
…
أرسخ في الفخر «8» من أبان
أجنا «9» لديها الرّضا حنان «10»
…
من المعاني جنا جناني
أيّ جبي «11» للأكفّ دان «12»
…
ما للمباري «13» به يدان
أقسم بالذّكر والمثان
…
ما لك فيما سمعت ثان
مدامة بزّت «14» الأواني
…
تشطّ «15» للقول كلّ وان «16»
تقول أوضاعها الغواني «17»
…
بالعلم عن زينة الغوان
يا ربّ، بارك لمن بنان «1»
…
في الفكر والقلب والبنان
هكذا هكذا، وبعين الحسود القذا، تستشار «2» الدّرر الكامنة، وتهاج القرائح النّائمة، في حجر «3» الغفلة الآمنة، وتقتضى «4» الدّيون من الطباع الضامنة:[الرجز]
أعيذها بالخمس من ولائد
…
قد قلّدت بنخب القلائد
أعيذها بالخمس من حبايب
…
يغذّين بالمراضع الأطايب
أعيذها بالخمس من وجوه
…
يصونها الله من المكروه
ويا ماتح «5» قلب القلوب أرويت «6» ، وصدق ما نويت، البير بيرك، ذو «7» حفرت وذو طويت، وما رميت إذ رميت، ولو علمنا السّرائر، لأعددنا لهذا المكيل الغرائر، ولو تحقّقنا إجابة السؤال، والنّسيج على هذا المنوال، لفسحنا الظروف لهذا النّوال. ساجلنا الغيوث فشححنا، وبارزنا اللّيوث فافتضحنا، وصلّينا والحمد لله على السلامة بما قدحنا، لا بل التمسنا نقبة «8» ، فأقطعنا «9» تنوّرا، واقتبسنا جذوة، فأقبسنا نورا، وما كان عطاء ربّك محظورا «10» :[الكامل]
ملك الثلاث الآنسات عناني
…
وحللن من قلبي بكلّ مكان
هذي الهلال وتلك بنت المشتري
…
حسنا وهذي أخت غصن البان
متى كان أفق المنكّب، مطلعا لهذا الكوكب، وأجمة ذلك «11» الساحل الماحل، مرتبعا لهذا الذّمر الحلاحل «12» ، ومورد الجمل البادي «13» العرّ، مغاصا «14» لمثل هذا الدّرّ، إلّا أن يكون كنز هذا المرام، المستدعي للكلف «15» والغرام، من مستودعات
تلك الأهواء والأهرام، دفنه «1» الملك الغصّاب، بعد أن قدّست الأنصاب، وأخفى «2» الأثر فلا يصاب، أو تكون الأنوار هنالك تتجسّم، والحظوظ تعيّن وتقسّم، والحقائق تحدّ وترسم، أو تتوالد بتلك المغارات يوسانيا وروسم. أنا ما «3» ظننت بأن تثور من أجم الأقلام أسود، وتعبث بالسّويداوات من نتائج اليراع والدواة لحاظ سود. من قال في الإنسان عالما صغيرا فقد ظلمه، كيف والله بالقلم علّمه، ورفع في العوالم علمه.
لقد درّت حلمات تلك الأقلام «4» من رسل غزير، وما كان فحل تلك الأقلام بزير، ولا سلطان تلك الطّباع المديدة الباع ليستظهر بوزير. إنما هي مشاكي كمال «5» أوقدها الله وأسرجها، وملكات في القوة رجّحها «6» مرجّح القوة فأبرزها إلى العقل وأخرجها.
وأحر بها أن تحطّ بذرى «7» المدارك الإلهية رحالها، وتترك إلى الواجب الحقّ محالها، فتتجاوز أوحالها، مستنيرة بما أوحي لها. إيه بنيّة، أقسم بربّ البنيّة، وقاسم الحظوة السنيّة، لقد فزت من نجابتكم عند التماح إجابتكم بالأمنيّة، فما أبالي بعدها بالمنيّة. وقاه الله عين الكمال من كمال، صان سروجه من إهمال «8» ، واكتنفه بالمزيد من غير «9» يمين وشمال، كما سوّغ الفقير مثلي إلى فقرها زكاة جمال «10» ، لا زكاة جمال. ولعمري، وما عمري عليّ بهيّن، ولا الحلف في مقطع الحقّ بمتعيّن، لقد أحقب «11» منها إليّ ثلاث كتائب، قادها النّصر جنائب، ألفاتها العصي، ونوناتها القسيّ، وغاياتها المرام القصيّ «12» ، ورقومها الحلق «13» ، وجيادها قد فشا فيها البلق، بحيث لا استظهار للشيخ إلّا بشعب سدر «14» ، ولا افتراس إلّا لمرقة «15» قدر، ودريد هذا الفن يحمل في خدر:[الكامل]
سلّت عليّ سيوفها أجفانه
…
فلقيتهنّ من المشيب «16» بمغفر
فلولا تقدّم العهد بالسّلم، لخيف من كلمها وقوع الكلم. أما إحداهنّ ذات القتام «17» ، والدّلج بالإعتام، المستمدّ سوادها الأعظم من مسك الختام، فعلّلت «18»
فريضة نظامها بالزيادة، وعلت يدها بمنشور السّيادة، ورسم شنشنتها المعروفة لأخزم «1» ، وجادها من الطّبع السّماك والمرزم، وضفر أشجاعها «2» المضفّرة لزوم ما لا يلزم:[الكامل]
خدم اليراع بها فدبّجها «3»
…
وسألت مجتهدا عن الغرض «4»
فعلمت أنّ الصّلح مقصده
…
لتزول بعض عداوة الرّبض
وأما أختها التّالية، ولدّتها الحافلة الحالية «5» ، فنؤوم مكسال، ريقها برود سلسال، ومن دونها موارد ونسال «6» ، وذئب عسّال، وإن علّلت «7» بنقص في النّظم، وقد أخذت من البدائع بالكظم، وامتكّته «8» المعاني امتكاك العظم. وأمّا الثالثة فكاعب، حسنها بالعقول متلاعب، بنت لبون، لا لهمة «9» حرب زبون، حيّاها الله وبيّاها، فما أعطر ريّاها:[البسيط]
تشمّ أرواح «10» نجد من ثيابهم
…
عند القدوم لقرب العهد بالدّار
ولو قصّرت لتغمّد تقصيرها، وكثر بالحقّ نصيرها، فكيف وقد أجادت «11» ، وصابت غمامتها وجادت. وقد شكرت على الجملة والتّفصيل، وعرفت منّة الباذل وجهد الفصيل، وطالعت مسائل البيان والتّحصيل، وقابلت مفضّض الضّحى بمذهّب الأصيل. وأثرت يدي وكانت إلى تلك الفقر فقيرة، ونبهت في عيني الدّنيا وكانت حقيرة، ورجحت «12» أن لا تعدم هذه الأسواق مديرا، ولا تفقد هذه الآفاق روضة وغديرا. وسألت لجملتكم المحوطة للشّمل، الملحوظة بعين السّتر والحمل «13» ، عزّا أثيرا، وخيرا كثيرا، وأمنا تحمدون منه فراشا وثيرا. وعذرا أيها الأحباب، والصّفو اللّباب، عن كدح سنّ وكبرة، وفلّ استرجاع وعبرة، استرقته ولجّ الشّغب «14» ذو النظام، والخلق فراش يكبّون منّي على حطام، ورسل الفرنج قد غشي المنازل منثالها، ونبحتها «15» بالعشيّ أمثالها، والمراجعات تشكون اللّبث «16» ، والجباة تستشعر
المكيدة والخبث «1» : [الطويل]
ولو كان همّا واحدا لبكيته
…
ولكنّه همّ وثان وثالث
والله، عز وجل، يمتّع بأنسكم من عدم الاستمتاع بسواه، وقصر «2» عليه متشعّب هواه، ويبقي بركة المولى الذي هو قطب مدار هذه الأقمار، والأهلّة، لا بل مركز فلك الملّة، وسجلّ حقوقها المستقلّة، والسلام عليكم، ما حنّت النّيب إلى الفصال، وتعلّلت أنفس المحبّين بذكر أزمنة «3» الوصال، وكرّت البكر على الآصال، ورحمة الله وبركاته.
وكتبت إلى بعض الفضلاء، وقد بلغني مرضه أيام كان اللحاق بالمغرب:
وردت عليّ من فئتي التي إليها في معرك الدهر أتحيّز، وبفضل فضلها في الأقدار المشتركة أتميّز، سحاءة سرّت وساءت، وبلغت من القصدين ما شاءت، أطلع بها صنيعة ودّه من شكواه على كل عابث في السّويداء، موجب اقتحام البيداء، مضرم نار الشّفقة في فؤاد لم يبق من صبره إلّا القليل، ولا من إفصاح لسانه إلّا الأنين والأليل، ونوى مدّت لغير ضرورة يرضاها الخليل، فلا تسل عن ضنين تطرّقت اليد إلى رأس ماله، أو عابد موزع متقبّل أعماله، وأمل ضويق في فذلكة آماله. لكني رجّحت دليل المفهوم على دليل المنطوق، وعارضت القواعد الموحشة بالفروق، ورأيت الخطّ يبهر والحمد لله ويروق، واللفظ الحسن ومض في حبره للمعنى الأصيل بروق، فقلت: ارتفع الوصب، وردّ من الصّحة المغتصب، وكلّة الحسّ والحركة هو العصب. وإذا أشرق سراج الإدراك حمل على سلامة سليطه، والرّوح خليط البدن والمرء بخليطه، وعلى ذلك فبليد احتياطي لا يقنعه إلا الشّرح، فيه يسكن الظّمأ البرح. وعذرا عن التكليف فهو محلّ الاستقصاء والاستفسار، والإطناب والإكثار. وزند القلق في مثلها أورى، والشّفيق بسوء الظن مغرى.
والسلام.
وخاطبت بعضهم: كتبت إلى سيدي، والخجل قد صبغ وجه يراعي، وعقّم ميلاد إنشائي واختراعي، لمكارمه التي أعيت منّة ذراعي، وعجر في خوض بحرها سفيني وشراعي، فلو كان فضله فنّا محصورا، لكنت على الشكر معانا منصورا، أو على غرض مقصورا، لزارت أسدا هصورا، ولم يكن فكري عن عقائل البيان