الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رجفة، فأصبحوا في دارهم جاثمين، وقد عبر سبحانه وتعالى بكلمة رجفة في آية أخرى، فقال الله تعالى في سورة الأعراف:(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)، ويبدو من سياق الخبر في الآيات المختلفة أن رجفة قوم لوط أصابت قشرة الأرض، فجعلت عاليها سافلها، وأما رجفة ثمود فقد لمست حواسهم فأتتهم، وبئس المصير.
وما أغنت البيوت التي نحتوها، ولا الزروع التي كسبوها؛ ولذا قال تعالى:
(فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
(84)
من بناء نحتوه من الصخور، ولا ثمار جنوها، ولا زروع حصدوها فأضاع كل ذلك فسقهم.
ويلاحظ أولا: أن البيوت التي نحتوها من الصخر لم يذكر أنه سبحانه جعل عاليها سافلها، ولا أنهم أمطروا حجارة كقوم لوط الفاسقين.
ويلاحظ ئانيا: أن قصة شعيب ذكرت هنا بالإشارة، وذكر فيها جزاء عتوهم، وكذلك ثمود أشير فيها إلى العقاب وترك من القصة تفاصيل فلم يذكر ما دعا إليه شعيب من إيفاء الكيل والميزان وعبادة الله تعالى.
ولم يذكر في قصة ثمود وما جرى من مجاوبة بين ثمود وصالح، وهكذا تجد القصة كاملة في القرآن، ولكن متفرقة فيه لموضع العظة في كل جزء منها.
فقصة موسى ذكرت أجزاؤها في مواضعها من العظة والاعتبار، وإنك لو تتبعت أجزاء قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل لخرجت بقصص كاملة رائعة مصورة لأحوال النفوس المستضعفة للطغاة، ونفوس الطغاة، ونفوس الذين استمكن فيهم الخنوع، وذلت منهم النفوس، وكيف تبنى الأمم وتربى العزائم.
وقد يسأل سائل لماذا لم تذكر القصة كاملة؟ فنقول في الجواب عن ذلك:
أولا: إن القرآن ليس كتاب تاريخ، ولكنه كتاب عظة واعتبار، فكل جزء فيه عظة، ويذكر في موضعه مقرونا بما سبق في القرآن لأجله فيكون الاتعاظ سببه بين والوعظ أهدى سبيلا.
وثانيا: أنها لو ذكرت جملة ما عرفت مواضع العظات بالتفصيل.
وخلاصة القول أنه ليس في القرآن مكرر من القول قط، وما يبدو بادئ الرأي فيه تكرار في ذكر القصص في القرآن يبدو بطلانه إذا فحص القول، وعمق القارئ النظر فيه، واللَّه منزل الكتاب ومنزهه.
* * *
آية الله تعالى في خلقه
قال الله تعالى:
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
* * *
بعد أن ذكر جلت حكمته ما أصاب الذين فسقوا عن أمر ربهم، وارتكبوا أشد المفاسد ونزل بهم أشد المهالك ذكر أن الكون ما خلق عبثا إنما خلق لحكمة
أرادها فقال سبحانه:
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ)، مما خلق هذه الثلاث: سماوات ذات أبراج، وأرض ذات طبقات، وما بينهما من فضاء فيه عجائب، وفيه أحياء، وفيه أسرار للوجود التي لَا يدركها الذين يرتفعون وينخفضون، إنما يدركها المؤمنون برب هذا الوجود، ما خلق ذلك إلا بالحق إلا بأمر ثابت مؤكد الحصول هو غاية الوجود، ما خلق الناس ليتمتعوا، ويأكلوا، ويلهوا ويعبثوا، ما خلق الله ذلك بغير حكمة ظاهرة، ولا نهاية قاهرة، وإنما خلقها ليعمر هذا الوجود، وتسوده الفضيلة، وتبعد عنه الرذيلة، ويحكمه الخير، ولا يحكمه الشر، ويكون الحساب من بعد ذلك؛ ولذا قال:(وَإنَّ السَّاعَةَ لآتِيَة)، أي أن اللَّه يمنع الشر في الدنيا، بالقضاء على الأشرار الذين لَا يرجى منهم خيرا، بل يغلب عليهم الفساد، كما رأيت في عاد وثمود، ومن قبلهم قوم لوط، ومن بعدهم فرعون ذو الأوتاد.
وإنه بعد الدنيا سيجيء يوم القيامة، وعبر عنه بالساعة إشارة إلى أنها ساعة فاصلة بين حياة دنيا فيها لهو ولعب، وحياة فيها الحساب والجزاء، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، إنها للجنة أبدا، أو للنار أبدا، وهي الساعة التي لَا يدرك كنهها إلا عند نزولها، وهي الجديرة وحدها بأن تسمى ساعة، وقد أكد سبحانه وتعالى مجيئها باللام وبـ (أن).
(فَاصْفَح الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)، (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وجه هذا الترتيب أن العصاة ينالون العذاب والبوار وفي الآخرة الساعة تنتظرهم، وإذا كانت هذه حالهم، فلا يغيظك ما يفعلون، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، بل استمر في دعوتك معرضا عن إثمهم وإيذائهم، وفتنهم للمؤمنين، فإنهم ملاقو ذلك في دنياهم بالتغلب عليهم، وفي آخرتهم بالجزاء على ما صنعوا.
وقوله تعالى: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)، والصفح يتضمن الإعراض عن الإساءة وعدم التخلي عن الدعوة والاستمرار فيها، وتضمنت كلمة الجميل بيان أن
يلقاهم بقلب مفتوح ليفتحوا قلوبهم للاستجابة، أو ليفتح هو هذه القلوب التي أصابتها غشاوة.
وفى هذا إشارة إلى معنى جليل في الداعي، وخصوصا الرسول الأمين رسول رب العالمين، وهو أن الداعي لَا يستفزه غضب ولا يثيره أذى، ولا يمنعه تجهم وسوء معاملة، بل يجب أن يكون البشير النذير دائما في قرب للقلوب، وإدناء للنافر وإيناس للشارد؛ لأنه الطبيب المداوي، وليس الحاكم المسيطر (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ).
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ذا شخصية قوية عالية، من شأنها أن تعلو دائما، وهي تُرهب الفجار، ولكن لم يدعُ محمد صلى الله عليه وسلم في مكة إلا بقوة الدليل، وبالنفس الأليف التي تقرب ولا تبعد.
وكانت تلك الشخصية الجبارة تبدو من حين لحين تعلن عن وجودها، جاء رجل يطلب دينا من أبي جهل فاستعان بملأ من قريش، فأشاروا عليه بأن يستعين بصاحب هذه الدار مشيرين إلى دار النبي تهكما بالرجل وبالنبي معا، ولعل الذين استعانهم من أشكال أبي جهل فالرجل الغريب ذهب إلى النبي، فأشكاه الرسول القوي، وذهب به إلى دار أبي جهل، فصك داره صكة ارتعدت فرائص أبي جهل لها، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قوله الحازم الآمر:" أد الرجل دينه "، فدخل وأعطاه الدَّين صاغرا. وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليستخدم تلك الشخصية التي تفرض الحق على من يخاطبه، إنما تطامن، ورضي بأن يكون الداعي غير الغليظ إدناء للنفوس.
هذا معنى الصفح الجميل، أي الإعراض في قرب ومودة وإلف من جانبه؛ ولذا كان الإسلام، ينمو ويزيد، ولا ينقص ويقل.
ولقد أكد اللَّه سبحانه وتعالى الإخبار بخلقه لهذا الوجود بالحق، فقال عز من قائل:
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)