الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) وإن هذا الكلام فيه استعارة تمثيلية إذ شبه اللَّه تعالى حالهم بحال من بنوا صرحًا وشيدوه، وأقاموا قواعده على عمد وأسطوانات، وأحكموا بنيانه حاسبين أنه يبقى على مدى الأزمان، ولكن أتى اللَّه تعالى بنيانهم بأمره من قواعدها، فتداعت وانهارت فصارت هباءً منبثًا، فخر عليهم السقف من فوقهم، وماتوا تحت أنقاضه، وبذلك كان ما بنوه للحياة ومتعها، وتدبير الأمور للحق صار عليهم وبالا، وسببا لهلاكهم وأتاهم العذاب به؛ ولذا قال تعالى:(وَأَتَاهُم الْعَذَابُ مِنْ حيْثُ لَا يَشْعُرُونَ)، أي أتاهم من المكان الذي يشعرون أن فيه مأمنهم فكان فيه مهلكهم وفناؤهم.
وهذا يذكر المشركين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بأن ما يدبرونه ضد النبي صلى الله عليه وسلم من تدبير يريدون به إخفاقهم لهم سيكون من عوامل نصره، وإن اللَّه محيط بهم، وبما يدبرون.
وإن هذا عذاب الدنيا للمشركين، وقد تبين في عاد وثمود، ومدين، وفرعون وملئه، ثم يوم القيامة يكون الخزي والجزاء؛ ولذا قال تعالى:
(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ
(27)
(ثُمَّ) هنا في معناها، وهو الترتيب والتراخي، وهو هنا بمعنى الإمهال من غير إهمال، وذلك يطوي في نفسه التهديد والإنذار وهو في ذاته وعيد بالخزي يوم القيامة، وقوله تعالى:(يُخْزِيهِمْ) بإسناد الفعل إلى اللَّه تعالى فيه تعظيم لذلك الخزي، وذلك الخزي يشمل فضيحتهم على الأشهاد، لتذهب الكبرياء الآثمة، وتشمل الذل بعد الاستكبار، وتشمل العذاب؛ لأن العذاب خزي في ذاته، كما قال تعالى:(رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)، وقد كان من إخزاء اللَّه لهم أن كشف حالهم مع الأوثان التي أشركوها في العبادة مع اللَّه تعالى، وأنها لَا شيء وأنها تهرب منهم، ولا تجد لها مهربا؛ ولذا قال لهم:(أَيْنَ شُركَائِيَ الَّذِينَ كنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ).
وهنا نلاحظ ثلاثة أمور بيانية:
الأمر الأول - إضافة الشركاء إليه سبحانه وتعالى هو من باب الإضافة لأدنى ملابسة إذ هم قد عبدوها مع الله تعالى، فجعلوها للَّه شركاء بزعمهم، فكانت الإضافة أخذا بهذا الزعم تبكيتا لهم، إذ كيف يكون المخلوق شريكا للخالق، وكيف تكون الحجارة التي لَا تنفع ولا تضر شريكة للنافع الضار، رب السماوات والأرض، والحي القيوم القائم على كل ما في هذا الوجود.
الأمر الثاني - في قوله تعالى: (الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ)، أي تعادون الحق والأنبياء والدعاة المرشدين فيها، أي تكون في شق والحق في شق، و (في) هنا معناها المحل، أي محل المشاقة فيها، فيتنازعون، حيث لَا مكان للمنازعة؛ لأنها منازعة بين الخالق، وما هو أدنى المخلوقات، لأنها حجارة لَا تنفع ولا تضر.
الأمر الثالث - أن ثمة قراءة بكسر النون، والكسر يدل على ياء المتكلم، أي تشاقونني فيها أي تنازعونني أنا اللَّه الخالق رب الوجود فيها، ويكون في هذه القراءة معنى آخر جليل، وهو أن منازعة الرسل منازعة له سبحانه وتعالى.
ولقد شهد عليهم بهذا الخزي رسلهم الذين أرسلوا إليهم وأتباعهم، والملائكة (قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)، والذين أوتوا هم النبيون، فقد أوتوا علم النبوة، والذين اتبعوهم فقد اقتبسوا من علم النبوة، والملائكة، فقد أوتوا علم الرسالات بمقتضى تكوينهم، فهم عباد مكرمون لَا يعصون اللَّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
وشهادة أولو العلم: (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ)، أي الخزي والسوء على الكافرين بسبب كفرهم وعنادهم، ومشاقّتهم للَّه ولرسوله، وأهل الحق، وقد قال تعالى فيهم:
(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
(الَّذِينَ تَتَوَفَاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) هم الكافرون، فهذه الجملة عطف بيان أو بدل مما قبلها، وهذا يتضمن حالهم عند الوفاة، ووصفهم الأصلي الذي أرداهم في الجحيم، وهو أنهم ظالمون لأنفسهم، وذلك الظلم بشركهم، فالشرك في ذاته ظلم، وهو ظلم للنفس؛ لأنه انحراف فيها، وعوج في تكوينها يشبه عوج الأعضاء بعد استقامتها، وهو ظلم للعقل والفكر إذ يحطه من عبادة اللَّه إلى عبادة الأحجار، وهو يؤدي إلى ظلم الأبرار، والظلم يعود على الظالم، فمرتعه ونهايته عليه، فكأنه في الابتداء انتهى إليها.
وقوله تعالى: (فَألْقَوُا السَّلَمَ) وهو الاستسلام والخضوع والإخبات بعد أن عتوا واستكبروا، والفاء للتعقيب، أي أنهم بعد أن توفتهم الملائكة فوزا ألقوا السلم والخضوع، وانتقلوا من كبرياء ظلمة إلى ضعة صاغرة مستكينة، وعبَّر بـ (ألقوا) والإلقاء لَا يكون إلا للأجسام للإشارة إلى أنهم انحطوا كما تنحط الأجسام من أعلى إلى أسفل، ونسوا ما كانوا يعملون، وقالوا:(مَا كنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء)، و (مِنْ) لاستغراق النفي، أي ما كنا نعمل أي سوء، ونسوا أنفسهم ونسوا أعمالهم لقد زال كبرهم وغطرستهم، فزالت شخصيتهم الظالمة، وحسبوا أنهم لم يفعلوا سوءا.
(بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بلى تدل على الإضراب عن قولهم، والقائل هم الملائكة أو أهل العلم الذين أوتوه من النبيين أو أتباعهم، وعندي أن القائل هو الله تعالى، لأنه لم ينسب القول إلى غيره، وهو القائل المتولي أمرهم ابتداء وانتهاء.
وقد أكد اللَّه تعالى علمه بالوصف وبـ إن وبالجملة الاسمية وقوله تعالى: (بِمَا كنتُمْ تَعْمَلُونَ)(ما) فيه موصولة بمعنى الذي، أي بالذي كنتم تعملونه، وهو استحضار لهذا العمل كأنه حاضر مهيأ يرى، وقوله تعالى:(كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)، أي عملكم الذي استمررتم عليه، ولم تفارقوه حتى تستبين به خطاياكم.