الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد جاءت العبارة الضارعة التي تؤكد شكره للنعمة، فقال:(إِنَّ ربِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ)، والدعاء هنا هو الضراعة إلى الله تعالى، وطلبه منه الولد، فقد طلبه، ودعا ربه به، فقد جاء في سورة الصافات أنه قال:(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102).
فهذه بشراه لإسماعيل صلى الله عليه وسلم، وكانت استجابة لدعائه، وكانت بعد ذلك في نفس السورة بشراه بإِسحاق فقال سبحانه:
(وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113).
والبشارتان مختلفتان: فإسماعيل أكبر من إسحاق، فالذبيح إسماعيل لا إسحاق كما جاء في التوراة المحرفة.
ومهما يكن الأمر في هذا فقوله تعالى على لسان إبراهيم: (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) فيه ما يدل على أن ذلك كان بدعاء من الخليل واستجابة من الله تعالى، فقد أكد أن اللَّه سميع الدعاء أولا: بالجملة الاسمية، وثانيا بـ (إنَّ) المؤكدة، وثالثا باللام في قوله:(لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) وعبر بقوله: (إِنَّ رَبِّي) فيه أيضا شعور بالشكر الجزيل لربه؛ لأنه الذي ربَّه وكونه وقام على شئونه واستجاب دعاءه.
لقد كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم صورة سامية للفطرة الإنسانية، وأوضح هذه الفطرة حب الذرية والحدب عليها وإكرامها وتوجيهها إلى الحق وإلى عبادة الله تعالى؛ ولذا قال اللَّه تعالى على لسانه:
(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ
(40)
النداء إلى اللَّه سبحانه وتعالى بوصف أنه رئه الذي كونه وأنشاه، وربَّه وقام على شئونه يدعوه إلى أن تكون نفسه للعبادة، يفديه بروحه وبالإيمان، وإقامة
الصلاة، كما غذاه في بدنه وعموم أحواله، وحاجاته البدنية، فيطلب غذاءه الروحي بعد غذائه الجسدي.
ويقول عليه السلام مخاطبا ربه: (اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ)، أي صيرني وحولني ووجهني إلى أن أكون مقيم الصلاة، أي مؤديا لها أداء مقوما مستقيما كاملا، بأن تكون أركانها الحسية مستوفاة، ومنها الخشوع والخضوع المطلق، والصلاة رمز إلى القيام بحق الدين كاملا من غير التواء، ولم يكتف بالدعاء لنفسه بل أضاف إلى ذلك الدعاء لذريته، ولكن اللَّه تعالى أشار إلى أنه سيكون من ذريته من لَا يشكر اللَّه تعالى، ومن يعصيه، ولذا قال:(وَمِن ذُرِّيَّتِي)، و (مِن) هنا للتبعيض، أي اجعل من ذريتي مقيم الصلاة ليكون حبل العبادة متصلا إلى يوم القيامة لَا ينقطع التوحيد، وإقامة شعائره، بل تتصل إلى يوم القيامة، ومن ذريته قائمون على الحق يهتدون بهديه، ويسيرون في طريق الحق، وهو الطريق المستقيم.
(رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ)(الواو) عاطفة على (اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ)، وجاء قوله:(رَبَّنَا) كالجملة تكون بين متلازمين، وهما هنا المعطوف والمعطوف عليه، وذكر (الدعاء) للضراعة والابتهال إلى اللَّه تعالى، وذكر بضمير المتكلم (رَبِّ)، والجمع (رَبَّنَا) للإشارة إلى أنه يتكلم عن نفسه، وعن الصالحين من ذريته، والدعاء هنا هو العبادة، إذ هي دعاء للَّه تعالى وضراعة إليه، ومن يدعون الأنداد إنما يعبدونها، وهي لَا تضر ولا تنفع، فهم بدعوتهم من دون اللَّه سبحانه وتعالى يعبدون ما لَا يضر ولا ينفع، ولقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الدعاء مخ العبادة "(1) فالدعاء من العبادة، وهو ذاته عبادة.
وقال: (تَقَبَّلْ دُعَاءِ) والتقبل شدة القبول، وتقبل العبادة من اللَّه تعالى قبولها مع الرضوان، ومحبة القائم بها.
(1) سبق تخريجه.