الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعالى بالنسبة للنحل، (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) وأضاف الإيحاء إلى الرب سبحانه، لأن ذلك الوحي فيه فائدة للإنسان، وهو من مقتضى الربوبية، ومن النعم التي أنعم اللَّه تعالى بها على عباده فيما تخرجه من بطونها من شفاء للناس.
(أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)، (أَن) تفسيرية، وما بعدها تفسير لما قبلها، فالوحي هو أمر الله تعالى لها أن تتخذ من الجبال بيوتا تعيش في كهوفها، وتبيض بيضها فيها، (وَمِنَ الشَّجَرِ)، أي تأخذ من فروع الأشجار بيوتا تصنع فيها ما يصنعه صاحب البيت فيه، (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)، أي مما يعرشون على سقوفهم، ومما يعرشونه لها من خلايا.
و (مِنَ) للتبعيض، أي يتخذون بعض الجبال وبعض الشجر وبعض مما يعرشون، وما يخصص لها من خلايا يكون كله لها بهذا التخصيص، ثم قال تعالى:
(ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
(69)
عطف سبحانه وتعالى بـ (ثُمَّ) للتراخي بين اتخاذ البيوت من الجبال والأشجار ومما يعرشون، وذلك إشارة إلى أنها تبذل في البيوت نظاما محكما دقيقا مما يأخذ وقتا طويلا، والله تعالى يأمرها بمقتضى الفطرة التي فطرها تعالى:(ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ) فلا تفرق بين الزهور فكلها طعام لها، فتأخذ من نوار كل زهرة، لَا فرق بين زهر مر، وزهر حلو، وتأخذ من كل الثمرات تأخذ البنفسج والبرتقال والخوخ، والقطن ثم ينساغ في بطنها، ثم تخرجه بعد ذلك عسلا حلوا، مشتبه طعمه ويختلف لونه، ويكون لونه على حسب المرعى، فلون البنفسج يبدو إذا كان غذاؤه من البنفسج، ورائحته تكون مثله، ولون البرتقال إذا كان كذلك، وقال تعالى:(فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا) وهي حال من السبل، أي أن طرائق الله التي ألهمك إياها مذللة سهلة غير مجهولة تغدو من هذه السبل، وتروح منها غير مجهولة لها، ولو ذهبت في طلب الرزق إلى آماد بعيدة.
وهذا كله على أن (ذُلُلًا) حال من السبل، ويصح أن تكون حالا من ضمير (فَاسْلُكِي) فيكون حالا من النحل، والمعنى اسلكي سبل ربك حال كونك مذللة لما خلقك اللَّه تعالى وهو أن تأخذي الثمرات وقد تمكنت منها ومن الطريق إليها، مسخرة لما خلقك اللَّه تعالى له سبحانه.
ويقول سبحانه: (يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مخْتَلِفٌ أَلْوَانهُ) فما بين أبيض وأصفر وبنفسجي ووردي، وذلك على حسب الغذاء الذي يتغذى به النحل، وعلى حسب سن النحلة التي تخرجه.
وقد قالوا: إن العسل تمجه لعابا، ولا يخرج من بطنها، والجواب عن ذلك أنه ينساغ في بطونها عسلا ثم تمجه لعابا، وهو يتكون أولا في البطن، ومع اختلاف ألوانه ورائحته يجتمع فيه وصف الحلاوة له.
وقال تعالى: (فِيهِ شِفَاءٌ للنَّاسِ) والتنكير هنا للتعظيم، أي فيه شفاء عظيم للناس، ولقد قال بعض العلماء إن فيه شفاء عاما، لأن التنكير للتعظيم لأن فيه شفاء لكل الأسقام، وعن ابن عمر أنه لَا يشكو قرحة إلا جعل عليه عسلا، حتى الدمل إذا خرج عليه طلى عليه عسلا.
وحكى عن بعض التابعين أنه كان يكتحل بالعسل ويتداوى بالعسل في كل مرض.
وإن النص القرآني يدل على أن فيه شفاء عظيما، ولكن لَا يدل على أنه تعالى يشفى به كل الأمراض، وحسبه أن يكون فيه شفاء عظيم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يداوي به أمراض البطن، روى البخاري ومسلم أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه، فقال صلى الله عليه وسلم:" اسقه عسلًا "، فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال: يا رسول اللَّه سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا، قال:" اذهب فاسقه عسلًا " ثم جاء فقال: يا رسول اللَّه ما زاده إلا استطلاقا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: " صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلًا فبرأ (1).
(1) رواه البخاري: الطب - الدواء بالعسل (5252)، ومسلم، واللفظ له: الطلام - التداوى بسقي العسل (4107).
وهذا نصه في مسلم:
" جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «اسْقِهِ عَسَلًا» فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي سَقَيْتُهُ عَسَلًا فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ لَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: «اسْقِهِ عَسَلًا» فَقَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَ اللهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ» فَسَقَاهُ فَبَرَأَ ".
ويقول ابن كثير في التعليق على هذا الحديث:
قال بعض علماء الطب: كان هذا الرجل عنده فضلات فلما سقاه عسلا وهو حار تحللت فأسرعت في الاندفاع فزاده إسهلاء فاعتقد الأعرابي أنه يضره، وهو مصلحة لأخيه، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع ثم سقاه فكذلك فلما اندفعت الفضلات الفاسدة استمسك بطنه وصلح مزاجه.
وختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، أي أن في خلق النحل وإلهامه وتدبيره وخروج العسلَ المصفى من بطونه لآية دالة على قدرة اللَّه وعظيم خلقه لقوم يتفكرون ويتدبرون في آياته وما تدل عليه، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
أطوار الإنسان وأحواله
قال تعالى:
(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
* * *
هذا بيان للأدوار التي يمر بها الإنسان وهي تدل على عظم قدرة اللَّه فيه، وفيها بيان واضح إلى قدرته على الإنشاء والإدبار وقدرته على الإخفاء، وتحلل جسم الإنسان شيئا فشيئا حتى يكون الموت، وفي ذلك إيماء إلى قدرته سبحانه على الإعادة (. . . كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).
قال تعالى:
(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَاكُمْ)، خلقكم أي أنشأكم من العدم، وجعل من الطين إنسانا في الخلق وفي عبارة (خَلَقَكُمْ) إشارة إلى إنشائه جنينا في بطن أمه من علقة فمضغة مخلقة وغير مخلقة، كما قال تعالى:(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15).
وإن هذا الخلق بعده الوفاة يعيش ما يعيش إن طويلا، وإن قصيرا والمآل الوفاة؛ ولذا قال تعالى:(ثُمَّ يتَوَفَاكُمْ)، (ثُمَّ) هنا للتفاوت بين الموت والحياة، ومنكم من يموت في صباه أو في شبابه أو كهولته، (وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ)، ومعنى الرد إلى أرذل العمر أن يرجع منكوسًا إلى ابتدائه، فهو في أرذل العمر يسير في السن إلى الأمام، ولكن في القوى يرد إلى الوراء فقواه تضعف، وتفنى بعض أجزاء جسمه شيئا فشيئا، كأنه من قبل الهرم كانت قواه تسير إلى الأمام حتى تقف، فإذا أرذل العمر أي أخسَّه وأعدم حمده يرجع إلى الصبا الذي لا يعلم شيئا.
قال تعالى: (لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا)، أي لتصير حاله ألا يعلم، بل ينسى، وأن يكون كل ما يعلمه من جديد مآله النسيان، فلا يزداد علمه، بعد أن كان عالما شيئا، وقد لوحظ أن الذين يصيبهم أرذل العمر ينسون ما كسبوه من علم بعد الشيخوخة ولا ينسون ما كان لهم من حوادث قبل ذلك، فهم يتكلمون عن الماضي ولا يتذكرون ما كان من حوادث بعد أن تصيبهم الشيخوخة، ونلاحظ هنا أمرين: