الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكذوب تكون في اضطراب مستمر ولا تملك نفسها كما لَا تنضبط في ذاتها، ودأبها على الكذب يؤدي إلى ضلال الفكر فيها حتى يصيبها خرف الكذب وفساده.
(وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) بعد هذا المتاع الضئيل وهو عذاب دائم ليس له وقت محدود بل هو محدود بحدود اللَّه، وما من قارئ يقرأ هذه الهداية إلا امتنع عن الهجوم بقوله حلال وحرام إلا إذا كان النص على التحريم من قرآن أو أحاديث النبوة، ولقد كان إبراهيم النخعي، وهو من أئمة فقه الرأي كان إذا وصل برأيه إلى حكم يفيد التحريم لَا يقول: حرام، ولكن يقول أكره، وإذا وصل بقياسه إلى حكم يفيد الحل قال ليس من بأس، أو استحسن هذا متحرجا أن يقول حرامًا أو حلالاً لكي لَا يكون ممن دخلوا في حكم هذه الآية.
وقال ابن العربي: " كره مالك وقوم أن يقول المفتي: هذا حلال، وهذا حرام في المسائل الاجتهادية، فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومئ هذا "، وقد رأينا في هذا الزمان من يقول في أمور هي حرام بالنص إنها حلال، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلى العظيم.
بين اللَّه ما أحل وما حرم، ثم حرم اللَّه تعالى على اليهود بعض أمور، وكان التحريم خاصا بهم دون غيرهم فطْمًا لنفوسهم الشهوانية الظالمة، وقد أشار سبحانه إلى هذه المحرمات في قوله تعالى:
(وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
(118)
وقوله تعالى: (مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبلُ)، أي ما أخبرناك بتحريمه من قبل، وهذا يدل على أن هذه الآية في سورة النحل متأخرة عن التحريم على اليهود في سورة الأنعام، وذلك النص في سورة الأنعام:
(وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146).
وفى هذه الآية التي سبقت في سورة الأنعام ذكر سبحانه أن ذلك كان فَطْمًا لأهوائهم وشهواتهم وبغيهم، فكان التحريم تأديبا لهذه النفوس أو تقوية لإراداتهم ومنعا لأهوائهم وشهواتهم، ولذا قال في الآية الكريمة التي نتولى ذكر معانيها الحكيمة (ومَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، أي وما ظلمنا بذلك المنع الجزئي، بل هم الذين بغوا، وأكثروا فيها الفساد، وأدى ذلك إلى ظلمهم؛ ولذا قال تعالى:(ولَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلمُونَ)، الاستدراك هنا لتأكيد نفي الظلم، وإثبات الظلم عليهم هم، وتقديم (أَنفُسَهُمْ) على (يَظْلِمُونَ) للدلالة على الاختصاص، أي لَا يظلمون أحدا غير أنفسهم.
* * *
التوبة بعد العصيان ومكانة إبراهيم
قال اللَّه تعالى:
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
* * *
إن اللَّه تعالى يغفر الذنوب جميعا لمن تاب وآمن وعمل صالحا؛ ذلك أن بتوبته في وقتها عبادة، وقد قال تعالى:
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا).
(إِنَّ رَبَّكَ) الذي خلق الناس أجمعين ورباهم وهذبهم (لِلَّذِينَ عَمِلُوا)، أي هو لهم يمنعهم من الاسترسال في الشرور والفساد، كما تقول: السلطان لفلان هو ينصره، ويحميه من أعدائه ولا يسلمه لهم، وقد ذكر أنه سبحانه لهؤلاء الذين عملوا السوء، بشرطين:
الشرط الأول - أن يكون بجهالة.
والشرط الثاني - أن يتوبوا ويعملوا الصالح بأن يصلحوا في ذات أنفسهم، بأن يزول من نفوسهم، كل أدران السوء، وترحض عن قلوبهم كل ما عملوا من آثام مبطنة، وأن يذهب ما اربدت به نفوسهم، وتطهُر.
والسوء كل ما هو في ذاته ليس بطيب، ويسوء النفس وغيره، والجهالة هي عدم تدبير الأمر، وعدم تعرف عواقبه بأن يندفع تحت تأثير شهوة جامحة، أو هوى متبع، فإذا تدبر تاب من قريب، وهذا قوله تعالى:(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18).
وقال تعالى في الشرط الثاني: (ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا)، أي قاموا بحق التوبة النصوح، وهي تقتضي أمورا ثلاثة:
الأمر الأول - الندم على ما حصل من سوء، وذلك علم بالحق بعد الجهالة، وثوب إلى اللَّه تعالى بعد الابتعاد.
والأمر الثاني - العزم على ألا يعود إلى ذنب أبدا، ذلك لأجل غسل ما اعترى القلب من أدران، وتنظيفه من السيئات وآثارها.
والأمر الثالث - أن يكون ذلك من قريب؛ لأن القدم يثبت الشر في النفس، ويجعل إزالة درنه ليس يسيرا.
ثم بعد هذه التوبة بشروطها لَا بد من العمل الصالح، لأنه لَا يزيل عمل السوء إلا العمل الصالح فيحل الخير محل الشر، وإنه عند تحقق هذه الأمور، وتوَّجها العمل الصالح كان الغفران وكانت الرحمة، ولذا قال:(إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفورٌ رحِيمٌ) وهنا عدة أمور بيانية:
الأمر الأول - التعبير بـ (ثُمَّ) في أول الآية لما بين الذين يصرون على الذنوب ويعاندون الحق، ويسرفون على أنفسهم، وبين الذين يتوبون من قريب عن فعل فعلوه بجهالة، فكان لـ (ثُمَّ) موضعها في هذا، وكذلك الأمر في (ثُمَّ) الثانية، (ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رحِيمٌ) في التعبير بـ (ثُمَّ) يفيد التراخي بين التوبة والغفران؛ لأنه ليس كل توبة توجب الغفران، بل لابد من زمن تعتاد النفس فيه فعل الخير حتى يكون الخير منها حالا من أحوالها.
الأمر الثاني - في قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ)(اللام) تفيد اختصاص اللَّه بهم وأنه قريب منهم.
وإن في ذلك تشجيعا للتوبة لمن يقعون في معصية، كما قال تعالى:(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا. . .)، وقال تعالى:(غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ. . .)، الأمر الثالث - في قوله تعالى:(إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رحِيمٌ) ذ كر البعدية في هذه الحال فيه معنى الفورية، وأن اللَّه يحب توبة عبده ليغفر له، فإن اللَّه يحب التوبة ويحب المغفرة.
وقد ذكر اللَّه بعد ذلك أبا الأنبياء إبراهيم لأنه أبو العرب وعزهم، ويعيشون ببركة دعائه، ولأنه تواب أواه حليم، فقال سبحانه:
(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
(أُمَّةً) إما أن تكون بمعنى إمام، أي أنه عليه السلام كان إمام الموحدين المقتدى بهم أو مذهبا متبعا، كقول الله تعالى:(. . . إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ).
وفسره الزمخشري بأنه وحده أمة كأنه جماعة جمعت الفضائل كلها، وقد قال في ذلك:(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كانَ أُمَّةً) لكماله واستجماعه فضائل لَا تكاد توجد إلا متفرقة في أشخاص كثيرة، كقوله:
ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد وهو رئيس الموحدين وقدوة المحققين الذي جادل في المشركين، وأبطل مذاهبهم الزائفة بالحجج الدامغة، وهذا وجه وقال الزمخشري: والثاني أن يكون أمة بمعنى مأموم أي يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير، أو بمعنى مؤتم كأمة كالرُحْلة والنخبة وما أشبه ذلك مما جاء من فُعله بمعنى مفعول، فيكون مثل قوله تعالى:
(. . . إنِّي جَاعِلُكَ لِلناسِ إِمَامًا. . .)، ويروى الشعبي عن نوفل الأشجعي عن ابن مسعود أنه قال: إن معاذًا كان أمة قانتا لله، فقلت: غلطت إنما هو إبراهيم، فقال: الأمة الذي يعلم الخير، والقانت المطيع لله ورسوله وكان معاذ كذلك. وعن عمر رضي الله عنه أنه قال حين قيل له استخلف: لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته، ولو كان معاذ حيا لاستخلفته، ولو كان سالم حيا لاستخلفته، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" أبو عبيدة أمين هذه الأمة، ومعاذ أمة قانتا لله ليس بينه وبين الله يوم القيامة إلا المرسلون وسالم شديد الحب لله لو كان لا يخاف الله لم يعصه "، وهو ذلك المعنى أي كان إماما في الدين؛ لأن الأئمة معلمو الخير.
ونقول: إن الوجهين اللذين ذكرهما الزمخشري يصح أن يوادا معا، فهو في ذاته أمة لأنه جامع لكل صفات الكمال البشري، ومستجمع لكل أسباب الرفعة عند الله، وهو مع ذلك إمام يؤتم ويقصد إذ هو إمام الموحدين والله أعلم؛ ولذلك عقب ذكره بتزييف مذاهب المشركين من الشرك والطعن والنبوة، وتحريم ما أحله الله، ولأنه كان وحده أمة موحِّدا، وكان سائر الناس مشركا.