الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم قال تعالى (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)، أي رجاء أن يشكرو هذه النعم، أي تكون حالهم حال شكر، لَا حال كفر فلا يعبدوا إلا اللَّه تعالى العزيز الحكيم.
والرجاء من العباد لَا من اللَّه، أي ليكونوا في حال رجاء الشكر دائمة بدوام هذه الخيرات التي يسوقها اللَّه سبحانه وتعالى إليهم وتجيء إليهم في واد (قفر) ليس فيه زرع ولا ثمر، وذلك بدعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم فجعله حرما آمنا تجيء إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنه وفضله، بهذا الخير يتوافر أصناف الثمار ما لَا يوجد كله في أخصب الأرض وريف الأمصار، وفي بلد من بلاد الشرق والغرب، إجابة لدعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: وليس ذلك من أيامه بعجيب متعنا اللَّه بسكنى حرمه، ووفقنا لشكر نعمه، وأدام لنا الشرف بالدخول تحت دعوة إبراهيم، ورزقنا طرفا من سلامة ذلك القلب ". تلك كلمات جار اللَّه في مكة المكرمة - الزمخشري (1).
وقد أحسَّ إبراهيم خليل اللَّه بالخشوع أمام ربه والضراعة إليه بعد أن دعا لولده وذريته بما دعا، وأدرك أن دعاءه فيه معنى التطاول مع علم ربه، وهو العليم بكل شيء فقال:
(1) الكشاف: ج 2/ 380.
(رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ
(38)
نادى ربه بضمير الجمع، فقال:(رَبَّنَا)، أي أنه ربه ورب ذريته، ورب الوجود كله. وأنه أعلم بحالهم، سرهم وعلانيتهم، وأن العلم على سواء يستوي فيه المغيب والمعلن وما غاب وما حضر، وكأنه يستدرك على دعائه؛ لأنه سبحانه هو الذي أسكنهم في ذلك الوادي الجدب، وهو الذي أقامهم بجوار بيته المحرم الذي يحرم فيه ما يباح في غيره من صيد وقتال لو كان عادلا، إلا أن يكون دفاعا، يعلم كل ذلك، بل إنه ما كان له أن يتطاول على مقام الألوهية بهذا الدعاء، وقد ابتدأ الدعاء بذكر حالهم من العلم بسرهم وجهرهم، ثم عمم علمه سبحانه
فقال: (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْء فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ)، و (مِن) هنا لعموم النفي، أي ما يخفى على اللَّه شيء في الأرض من خيرها وجدبها وزرعها، وقحطها، وطبقاتها، وما فيها من معادن سائلة وجامدة، والسماء وما فيها من نجوم وكواكب، وسحب ثقال تأتي بالدر الوفير والخير الكثير.
ولقد قال الزمخشري في هذه الآية كلاما قيما ننقله عنه فيما يلي:
" والمعنى أنك أعلم بأحوالنا، وما يصلحنا وما يفسدنا منَّا، وأنت أرحم منا بأنفسنا ولها، فلا حاجة إلى الدعاء والطلب وإنما ندعوك إظهارا للعبودية لك وتخشعا لعظمتك، وتذللا لعزتك، وافتقارا إلى ما عندك، واستعجالا لنيل أياديك وقربا إلى رحمتك، وكما يتملق العبد بين يدي سيده رغبةً في إصابة معروفه، مع توفر السيد على حُسْن المِلكة "(1).
وقوله تعالى: (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْء فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) ذكرت الأرض أولا؛ لأن الكلام في جدبها وخصبها، وذكرت السماء؛ لأنها تمدها بالسقي والماء.
وظاهر القول أن ذلك من ضراعة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وهو ما نراه، وقيل: إن ذلك من قول الله، والحق أن كله من قوله تعالى ما جاء على لسان إبراهيم وغيره.
* * *
شكر النعمة
قال اللَّه تعالى:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)
(1) الكشاف: ج 2/ 381.
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
* * *
يقول تعالى: (. . . لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) فاستدامة النعمة بالشكر؛ لذلك بادر إبراهيم بشكر النعمة التي أنعم اللَّه بها عليه.
إن اللَّه تعالى وهب له وهو كبير طاعن ولديه إبراهيم وإسحاق، وكانت أمرا خارقا للعادة، وعندما بُشرت بذلك امرأة إبراهيم:(قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وأَنَا عَجُوز وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا. . .)، فأعلن بالحمد إبراهيم الذي كان مثلا للإنسان الفطري الكامل:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ).
ابتدأ كلامه بالحمد إشعارا بشكر النعمة وتقديرها، إذا أعطاه ولدا حيث يستحيل ذلك عادة وعلى مجرى الأسباب المعروفة؛ إذ أم إسحاق عجوز وزوجها شيخ هرم، حتى قيل: إن سنه عند البشارة بإسحاق كانت فوق المائة، وقوله:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) فيه معنى القصر، أي أن الحمد للَّه تعالى وحده، فهو مانح النعم ومجريها وحده، وهو الذي وهبه في هذا الكبر العتي، وقوله تعالى:(عَلَى الْكِبَرِ)، (عَلَى) هنا بمعنى مثلها في قول الشاعر:
إني على ما ترين كِبرَى
…
أعلم من حبث تؤكل الكتف
وقوله: (عَلَى الْكِبَرِ) تدل على جلال الشعور بالنعمة، إن ذلك واضح أنه إكرام من اللَّه تعالى بخرق الأسباب، وإن شكر النعمة بذكر إسماعيل وإسحاق فيه معنى جليل؛ لأنهما ولدا أبي الأنبياء الذين جاءوا بعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فكان النبوة انحصرت في ذريته صلى الله عليه وسلم، كما يبدو من قصص القرآن الكريم الصادق في ذاته.