الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عاصيا يتفحش في المعاصي لَا كرامة له، وإن ظهر بين الناس متغطرسا طاغيا، فإن الكرامة ليست هي السلطان، إنما هي الحق، فإن كان مع السلطان الحق توافرت الكرامة، وإن خلا منها فهو المهين المتغطرس، وهذا يشير إلى أن المشركين في إشراكهم لَا كرامة لهم، وإن تعصبوا وغلبت عليهم العنجهية الجاهلية.
ولذا قال تعالى:
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ).
" الواو " لوصل الكلام، إذ إنهم يتغطرسون ويطيعون الشيطان فيبين اللَّه أنهم إذ يطيعونه يذهبون بالتكريم الذي كرمهم اللَّه تعالى، وينزلون برءوسهم وأجسامهم، إلى كرامة أبيهم آدم، و " إذ " متعلقة بمحذوف، ويذكر اللَّه تعالى أمره للملائكة بالسجود مضيفا الأمر إلى ذاته العلية بيانا لمركز آدم، واللَّه تعالى بذاته العلية وجه الأمر إلى الملائكة بالسجود، وإن إبليس كان يدخل في عموم المخاطبين بهذا الأمر أكان من الملائكة أم كان من الجن، كما صرحِ بأنه من الجن في آية أخرى، إذ قال:(. . . إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. . .)، والسجود كان لآدم بوصف الآدمية، فكأن الآدمية مكرمة لذاتها، والمهانة تعتريها من المعصية، (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ)، أي أطاعوا، وخروا ساجدين إِلَّا إِبْلِيسَ، فقد تمرد، وفسق عن أمر ربه، وقال متمردا متعاليا من غير علو، كشأن أتباعه (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ) الاستفهام هنا إنكاري بمعنى إنكار الوقوع أي النفي، أي: لَا أسجد، معترضا على ربه، كما قال سبحانه في آية أخرى:(قَالَ أَنَا خَيْرٌ منْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)، وقوله:(أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا)، أي لمن خلقته من طين، ولكنه أتى بكلمة (طينا) على أنه حال، أي: أأسجد لمن خلقته من طين، أي أنه ينكر أن اللَّه سوَّاه، وكأنه إلى وقت السجود كان طينا حتى إلى هذه الحال، وكان هذا من مظاهر الاستكبار.
وقد بين نية الشر الذي دفع إليه الحسد، وسبب ذلك الحسد، قال:
(أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ
…
(62)
الكاف لتأكيد الخطاب، ويقول بعض اللغويين، لَا محل لها من الإعراب، وأرى أنه لَا مانع من أن تكون في موضع
المفعول لرأى، والهمزة للاستفهام، ومعنى الكلام أخبرني أهذا الذي كرمت على، وفى هذا معنى التصغير لآدم، والاستكبار عليه، كأنه يقول ما هذا الذي كرمت عليَّ، أي كرمته مفضلا له عليَّ، وأنه لَا يستحق التكريم دوني، ويقول إبليس: أنا الجدير بالتكريم، كما توهم أن كونه من نار يجعله أكرم ممن هو من طين، وذلك من فرط الغرور؛ لأن الذي أمر بذلك الأمر الجازم هو الذي جعلك من نار وجعله من طين، وذلك من تغفيله، واستعلائه بالباطل، وكان قياسه هذا باطلا، واستدل نفاة القياس على بطلانه بقياس إبليس.
ثم يقول متوعدا آدم وذريته، ومتحديا ربه عن جهالة:
(لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا)
اللام للقسم، ولأحتنكن جواب القسم، ودخلته نون التوكيد الثقيلة، وهو يؤكد ذلك، كقوله في آية أخرى:(. . . وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)، والاحتناك: الاستئصال، من احتنك الجراد الزرع إذا لم يبق منه شيئا، وكقولك: الرجل احتنك شاتين أي أكلهما، ويصح أن يكون من احتنكت الفرس وضعت في فمها الرسن أو الحبل، يجرها منه، والمعنيان يصلحان، إذ يكون المعنى استأصلهم بالإغراء والإغواء حتى يجرهم كما يجر الرجل دابته، ويجعلهم له تبعا، وقد استثنى من ذريته فقال:(إِلَّا قَلِيلًا)، أي إلا عددا قليلا، وهو كقوله:(إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)، وفي هذه الآية قال: إلا قليلا، وباجتماع يكون المخلصون من عباد اللَّه عددا قليلا.
وكيف علم ذلك؟، نقول: إنه اعتزم أن يفعل ذلك، ويريد أن يكون أتباعه عددا كبيرا، وأطمعه في ذلك أن الملائكة عندما قال الله تعالى لهم:(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ. . .)، ولأنه أدرك أنه يؤتى من قبل شهوته وهواه وأنه أوتي غِرَّة بحيث يكون قابلا للانخداع لَا يستمسك، كما قال اللَّه تعالى في آدم:(. . . ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا).