الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والسبب الثاني - أن اللَّه تعالى ذكر متعة النظر والبهجة، وطيب النعمة في آية أخرى، فقال تعالى:(أَثَاثًا وَمَتَاعًا)، أي يتخذون من الأصواف والأوبار والأشعار أثاثا وزينة، والزينة ليست حراما، كما قال تعالى:(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ. . .).
ولعله مما يرشح لهذا المعنى ويقويه تعالى: (إِلَى حِينٍ)، أي أن ذلك الاستمتاع بهذه النعم، وخصوصا الأثاث والمتاع إلى حين حتى يجيء وعد اللَّه تعالى فيكون الحساب والعقاب والثواب.
كما أن البيوت تتخذ من الآجر والأحجار، ومن الأصواف والأوبار والأشعار والجلود تتخذ أيضا أكنان من الجبال ولذا قال تعالى:
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ
(81)
واللَّه سبحانه وتعالى (جَعَلَ) بمعنى صيَّر، بأن خلق لنا أشجارا تظل الناس في الحرور، وبيوتا يكون ظلها دافعا لوهج الشمس وفي الصحارى تجد الأشجار المظلة، والسحاب المطل، وقال سبحانه وتعالى مما خلق، ولم يذكر شيئا بعينه؛ لأن أنواع ما خلق وكان منه الظلال كثيرة، فالجنات تتفيأ ظلالها بالغدو والآصال والبيوت فيها ظلال، لمن يكون بجوارها، والغمام يكف وهج الشمس وحرارتها، والسحاب تظلل، والنبي صلى الله عليه وسلم، وهو في رحلته إلى الشام كانت السحاب تظله في سيره، وحيثما انتقل انتقلت معه، وإن هذه الظلال نعمة من اللَّه تعالى في أرض صحراوية جدباء لَا ماء يرطب جوها، ولا نسيم عليل يطفئ حرها؛ ولذلك كانت من نعم اللَّه التي أنعم بها على سكانها الذين آتاهم اللَّه تعالى مع ذلك جلدًا وقوة احتمال، فكانت هذه نعما أنعم اللَّه بها عليهم ليستطيعوا أن يعيشوا وأن ينعموا في خيراتها.
وإن هذه ظواهر طبيعية قد يقول قائل: ما النعمة فيها؟، ونقول في الجواب عن ذلك: إنها نعم تغمرنا وتغمر سكان الصحارى ولا يحسون، ولكن إذا
حرموها يعرفون مقدار الإنعام، وهي أفعال مختارة يريد وضع الأمور في مواضعها، وكل شيء عند اللَّه تعالى بمقدار وبميزان محكم.
وقال تعالى: (وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكنَانًا)، وهي الكهوف والمغارات، وأكنان جمع كن، وهو ما يتقى بالاستتار فيه تتبع الأعداء، وتربص المتربصين، كما كمن النبي صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه أبو بكر في غار ثور ثلاث ليال سويا، وكما كان صلى الله عليه وسلم قبل البعثة يتعبد في غار حراء الليالي ذوات العدد، وإن هذا كله يدل على أنها أكنان، إما استتارًا للعبادة، أو فرارا من عدو متربص، أو كن من مطر غامر، أو استظلال، ولماذا سماها اللَّه تعالى أكنانا، ولم يسمها بيوتا؛ لأن الناس لم يتخذوها بيوتا يسكنون فيها تكون مطمأنا وسكنا لهم تسكن فيها نفوسهم، ويطمئنون بعد تعب ومكان راحة، لأن جبال البلاد العربية لم تكن موضع اطمئنان كالجبال الخضراء، فلم تكن مساكن تكون لسترة حالهم، بل كانت أكنانا للاستتار من عدو أو مطر منهمر، أو اتقاء لحرارة الشمس أو نحو ذلك، وإذا كان من العرب من ينحتون من الجبال بيوتا فارهين كما جاء ذلك في قصص القرآن الحكيم، فإن ذلك لم يكن عند أهل الحجاز ونجد ونحوها.
وقد مَنَّ اللَّه تعالى بما هيأهم به ومكنهم منه، وهو ما ذكره بقوله تعالى:
(وَجَعَلَ لَكمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَر وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأسَكُمْ)، و (جعل) بمعنى صيَّر وهيأ بأن مكنكم من أن تصنعوا ذلك لأنفسكم، و (السرابيل) جمع سربال وهو القميص، وذكر أن هذه السرابيل نوعان نوع يتقى به الحر، فلا يكون عاريا يتعرض للجو اللافح، كما يتعرض العراة من الزنوج الذين لم يتمكنوا من قمصان يتقون بها الحر، وقد قيل إن السرابيل يتقى بها الحر والبرد، فكيف ذكر الحر فقط، والجواب عن ذلك أن ذكر اتقاء الحر تستدعي لَا محالة ذكر اتقاء البرد، وإن لم يذكر بالنص فقد فهم بالاقتضاء، وقد ذكر سبحانه الدفء من قبل في قوله تعالى، (لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأكلُونَ) وإجابة الزمخشري بأن ذكر الحر يناسبهم
دون البرد لأنهم لَا يحتاجون إلى اتفاء البرد، وعندي أن البلاد التي جوها قارِّي كبلاد العرب يكون بردها شديدا قارسًا.
والواقع أن الكلام - كله في اتقاء الحر، فذكر الظلال والبيوت والأكنان كل هذا في سياق اتقاء الحر فكان المناسب أن يذكر في مزايا السرابيل أن تقي من الحر.
والنوع الثاني من السرابيل وهو ما يتقى به البأس، وهو دروع الحرب، إذ البأس هو الحرب، كما في قوله:(. . . وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَاسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأسِ. . .)، وأضاف سبحانه وتعالى الباس إليهم، لأنهم في الجاهلية هم الذين كانوا يثيرونها حروبا شعواء، تدعو إليها العصبية الجاهلية، وتدفع الحمية غير المدركة العاقلة كحرب البسوس، وعبس وذبيان، وغيرهما مما كانوا يثيرونه من حروب، فلم تكن حروبا عادلة؛ ولذا أضيفت إليهم.
وإن هذه النعم كلها بتسخير هذه الأمور لهم، وتهيئتهم بالفطرة لها، وإن نعم اللَّه تعالى لَا تخص، وختم اللَّه تعالى الآية بقوله تعالت حكمته:(كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)، أي كذلك التي هيأ سبحانه وتعالى لكم ومكنكم، وهداكم بفطرتكم إليه من جعل بيوتكم سكنا ومطمئنا، وعن اتخاذكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم وإقامتكم، ومن اتخاذكم من أصوافها وأوبارها وأشعارها، أثاثا يكون زينة ومتعة، ومن اتخاذكم الظلال مما خلق، ومن جعل البيوت ومن اتخاذكم السرابيل والدروع.
كذلك الذي هيأ لكم تكون نعمه الكلية عليكم دائما (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)، أي تسلمون وجوهكم للَّه تعالى، وتتركون عبادة الأوثان لهذه النعم المتوالية عليكم، وأفرد سبحانه النعمة، وهي متعددة لأن المفرد المضاف يعم، ولأنها واحدة باعتبار مصدرها، وهو الله سبحانه وتعالى.
وقال تعالى بعد ذلك:
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)
تقدير القول فإن علموا هذه النعم التي أسبغت عليهم، ومع ذلك كفروا فما عليك من كفرهم من شيء، و (الفاء) ما بعدها ترتب على ما قبلها، (تَولَّوْا)، أي أعرضوا ونأوا بجانبهم، وأنكروا هذه النعم المتضافرة، فإن العذاب نازل بهم لا محالة، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، لأنك قد بلغت وأنذرت، وإنما عليك التبليغ البين الواضح الذي لَا يماري فيه عاقل مدرك، و (الفاء) في (فَإِنَّمَا) واقعة في جواب الشرط، و (إنما) من أدوات القصر، (عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)، أي ليس عليك إلا البلاغ الواضح، وإنك لَا تهدي من أحببت، ولكن اللَّه يهدي من يشاء.
* * *
جزاء الكفر بنعمة الله
قال تعالى:
(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
* * *
ساق الله تعالى ذكر ما أنعم به عليهم، والإنسان كله في فيض نعمة اللَّه تعالى من يوم حمله جنينا في بطن أمه إلى أن يولد، ومن بعد أن يولد هو في حياطة اللَّه تعالى ورحمته، إن مرض كشف عنه الضر، ومنحه العافية، وإذا كان