الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8).
وفى الآية الكريمة التي نتكلم في معناها رد الله تعالى قولهم بقوله تعالت كلماته:
(مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ
(8)
قوله تعالى: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ) في هذا إشارة إلى إمكان إنزال الملائكة، وإنه ليس ثمة أمر يتعذر على الله خلقه، وقد نزل الملائكة إلى أرض قوم لوط فجعلوا عاليها سافلها، وعبر بـ (نُنَزِّلُ) إشارة إلى أن نزولها لَا يكون دفعة واحدة بل تتوالى النزول، وقتا بعد آخر.
وقوله تعالى: (إِلَّا بِالْحَقِّ)، أي إلا بسبب باعث من الحق في ذاته بأن تكون حكمة في نزولهم، ومصلحة في خطابهم، فالله تعالى ما خلق شيئا عبثا، وما جعل الأمور سدى تنزل الملائكة حيث يبتغي المشركون ويريد الكافرون، وإن لم يكن جدوى من نزولهم، وإن حالهم حال إنكار، لَا تحتاج إلى دليل، فإن نزلوا قالوا هؤلاء رجال لَا ملائكة كما تلونا قوله تعالى:(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ).
وإنهم إن أنزلوا كما طلبوا لكانت القاضية عليهم، ولذا قال تعالى:(وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ)، أي ما كانوا مؤجلين إلى يوم القيامة إذا نزلوا، والله تعالى بحكمته العالية قدر للمشركين من العرب أن يكون من ذريتهم ومن الجاحدين أنفسهم أمة مؤمنة تحمل عبء التبليغ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن شريعته - وهو خاتم النبيين - يجب أن تكون معجزته باقية ببقاء شريعته الخالدة، ورسالته الدائمة التي لا تنقطع، ولذا كانت معجزة القرآن آي من نوع الذكر الدائم الذي يحمل دلائل إعجازه، ويتحدى الأجيال إلى يوم القيامة، فقال تعالى:
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
أضاف سبحانه وتعالى القرآن العظيم إلى الذات العلية المقدسة فاستفاد بهذه الإضافة شرفا إضافيا فوق شرفه الذاتي الذي جعله اللَّه تعالى كذلك، واستفاد بهذه الإضافة أيضا أنه نزله بالحق الذي وعد به وقال:(مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ)، فما نزله إلا بالحق والأمر الثابت، وهو أنه باق ما دامت الشريعة والرسالة باقيتين، وإنهما لباقيتان.
وقد ذكرنا في مواضع كثيرة أن معجزة القرآن من نوع الكلام؛ لأنه ليس حادثة تنتهي بانتهاء زمانها، بل هو كتاب محفوظ قائم تقرأه الأجيال، ويتحداها جميعا، ولقد روينا من قبل قول النبي صلى الله عليه وسلم:" ما من نبي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وكان الذي أوتيته وحيا، وإني لأرجو أن اكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ".
وقد تعهد اللَّه العلي الكبير بحفظه ليخاطب الأجيال إلى يوم القيامة، فقال:
(وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) أضاف الحفظ إليه سبحانه، فكان ذلك تمكينا وتوكيدًا.
وقد حفظه اللَّه تعالى كما وعد من التغيير والتبديل والتحريف والتصحيف فأوجب حفظه مرتلا، كما قال تعالى:(. .، وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)،
وقال تعالى: (. . . وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم صحابته ترتيله، وعلموه من بعدهم، واقتضى ذلك أن يعتمد في حفظ القرآن على الصدور، ولا يكون الاعتماد على السطور وحدها؛ لأنه يمكن فيها التغيير والتبديل، والصدور تمنع ذلك، ولا تزال تطلع على طائفة من اليهود، تريد أن تجعله كغيره من الكتب، فيبين حفظةُ القرآن الكريم إفساد فعلهم الدنيء. وحفظت شريعته من التغيير والتبديل، فهي قائمة وإن حاول بعض المنافقين الذين يدهنون للحكام تحريفها عن مواضعها بتحليل ما حرم اللَّه، واللَّه من ورائهم محيط.
* * *
الكفر كله ملَّة واحدة
قال اللَّه تعالى:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
* * *
إن حقيقة الكفر واحدة، وإن تعددت الأجناس والأنواع واختلفت الألوان، فالإنسان هو الإنسان لَا تختلف حقيقته، وإن اختلفت الصور، فالمؤمن حقيقته واحدة، وإن اختلفت الأزمان، والكفر ملة واحدة، وإن اختلف الأقوام، فما تراه في مشركي مكة يرى في غيرهم ممن مضوا.
ولقد قال مسليًا نبيه:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَع الأَوَّلِينَ) هنا اسم مفعول محذوف دلت عليه كلمة أرسلنا رسلا من قبلك، وقد كان لهم ما يكون لك من الذين يعتقدون اعتقادا باطلا، ويستمسكون به ويكونون فرقًا وشيعًا يتشيعون لها، فقوله في (شِيَعِ الأَوَّلِينَ)، أي في جماعات متشيعة لفكرة واحدة، يتعصبون لها ولا يخرجون عنها، وأصل الشيعة من الشياع، وقد قال البيضاوي في ذلك:" جميع شيعة، وهي الفرقة المتفقة على طريق ومذهب، من شاعه إذا اتبعت، وأصله الشياع، وهو الحطب الصغار توقد به الكبار ".
وعبر سبحانه وتعالى بشيع الأولين؛ للإشارة إلى أنهم لم تكن خالية أذهانهم، بل كانت مملوءة، ولكن بزور من الفكر والقول، يتعصبون له على غير بينة، ويشيع بينهم من غير تفكر، ويتبعوه خلفا عن سلف، ويقولون: (. . . بَلْ