الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)، (ذَلِكَ) الإشارة إلى إخراجهم من الظلمات إلى النور والآيات الدالة على رسالته، والأيام باشتمالها على النعم التي جاءت إليهم وأفاضها عليهم، والشدائد التي نزلت بغيرهم، (لآيَاتٍ) أي لأمارات هادية مرشدة (لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكورٍ)، وجاء ذكر الصبر بصيغة المبالغة، وذكر الشكر بصيغة المبالغة أيضا، للدلالة على أن من يعرف هذه الآيات ويدركها هو الذي صار الصبر بتمرسه له صفة كالجبلة فيه، وصار شكر النعمة والقيام بحقها كذلك، وقالوا: إن المراد الصبر على البلاء، والشكر على النعماء، وإلى أن الصبر كما يكون في النقمة يكون أيضا في النعمة، والصر بالنعمة ألا تدفعه إلى الغرور، والأشر والبطر، كما قال تعالى:(. . . وَنَبْلُوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً. . .)، والنقمة أيضا تحتاج إلى الشكر، إذ تذكر بما أنعم وأكرم في حال البلاء والاختيار، فيكون الشكر على ما أسلف على رجاء الإنقاذ مما أوقع، ثم يكون الشكر على الماضي والحاضر.
ولقد أشار سبحانه وتعالى إلى بعض ما أنعم، فقال تعالى:
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ
(6)
(إِذْ) ظرف زمان للماضي، والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم يذكر بنعم الله تعالى على المظلومين، وأنه سبحانه ينقذهم من أذى طاغية الدنيا في عصره، وهو فرعون، وإن هذا إيذان بأنه ينقذ النبي ومن معه من المشركين، وجاعلا لهم السلطان عليهم، وقوم موسى هنا متعين أن يكون لبني إسرائيل، وإن كان قوله:(أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) لَا يخصهم، بل يشملهم وغيرهم.
يقول لهم رسول اللَّه الذي أنقذهم على يديه: (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ)، أي أصحاب فرعون ونصرائه ومعاونيه على الشر، ونرى
أن فرعون في أكثر الآيات المثبتة لظلمه القاسي الغاشم لَا يذكر فرعون وحده، إنما يذكر ملؤه أو آله، أو غير ذلك مما يدل على المؤازرين له، وهذا ينبئ بمعنى أن سنة اللَّه تعالى في خلقه أن الطغاة لَا يطغون بذات أنفسهم، ولكن بمؤازرة من الأشياع والأتباع، ولو كانوا مرشدين ما كان منهم ذلك الظلم الغاشم فهم آثمون معهم.
وقد كانت النجاة أو الإنجاء من أقسى المظالم الإنسانية، بشاعة وقسوة، كما حاول من ساروا على دأبه - أسكنهم اللَّه معه في السعير، فهم وهو على سواء، إلا أنهم أشد؛ لأنهم جاءوا بعد أن جاءتهم البينات.
و (إِذْ) بدل من الأولى، وقد بين اللَّه تعالى ما أنجى منه فقال:
(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَستحْيُونَ نِسَاءَكُمْ).
(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ)، أي يذيقونكم أشد العذاب سوءا من استرقاق، وإذلال وتكليفكم المشاق الغلاظ الشداد، أو استباحة لكرامتكم، وإبعادكم عن أماكن السلطان وجعلكم أرذالا تابعين، ولم يجعل منكم سادة متبوعين، حتى أنقذكم اللَّه من هذا فجعلكم سادة أنفسكم، وعبر عن ذلك سبحانه وتعالى بقوله:(. . . وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا. . .)، أي مسيطرين على أنفسكم ولستم خاضعين لغير اللَّه تعالى، وقال سبحانه وتعالى مع هذا الإذلال والاسترقاق (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُم) في سورتي البقرة والأعراف (. . . يسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيسْتحْيُونَ نِسَاءَكُمْ. . .)، من غير (واو)، فكان هذا تفسيرا لسومهم العذاب، وهو بيان بأفصح أحواله، وهنا جمع بين الاسترقاق والذل والتكليف بالمشاق والأهوال، وبين ذبح الأبناء واستحياء النساء.
وعبَّر عن قتل الأبناء هنا بالذبح للإشارة إلى أنهم فعلوا ذلك، وهم آمنون سالمون غير ثائرين ولا ناقمين، فهم في غير اندفاعة ثورة، ولكن في أمن ودعة، يأتون إلى الطفل من حجر أمه أو بين لداته ويذبحونه ذبحا، وحسبك أن تعلم أن أم موسى رضيت - بإلهام من اللَّه - أن تلقيه في اليم مع رجاء اللَّه تعالى، عن أن تراه يذبح بين يديها.