الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومعالم العار والخزي من أتباع محمد الذين يدينون بدين العزة والكرامة، والبعد عن الذل والمهانة، وليدخلوا المسجد كما دخلوه، أي ليدخلوه بعد أن أخرجوا منه، إذ أخرجهم الرومان، وأخرجهم المؤمنون فكان من عهد عمر لأهل إيلياء ألا يدخل عليهم اليهود، وقد دخلوه أول مرة حتى أفسدوا فيه، فأخرجهم منه على أيدي النصارى والمسلمين، (وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) التتبير: التخريب، أي مدة علوهم وغلبهم يخربون كل قائم، ويحرقون ويدمرون مدة علوهم وبقائهم في أرض الله المقدسة، ما بقوا فيها.
وقد قال اللَّه تعالى:
(عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا
(8)
الخطاب أيضا للمؤمنين ولا يتصور أن يكون لليهود لأنه دعوة إلى الهمة، والأخذ في أسباب النصر واستنقاذ أرض الله المقدسة من أيدي طغمة اليهود، ومن يعاونونهم من وحوش الأرض الذين لَا دين لهم ولا خُلُق، ولا أية ناحية من النواحي الإنسانية، والرجاء في (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يرْحَمَكُمْ) من الناس، ومعنى الرجاء منهم أن يتخذوا الجهاد سبيلا، ويعدوا القوة، ويتسربلوا بالصبر والإقدام، عندئذ يرحمكم اللَّه تعالى بالنصر والتأييد، (وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا)، أي وإن عدتم بالإيمان والصبر وإخلاص النية والجهاد لاستنقاذ الأرض الطاهرة عدنا إليكم بالنصر والتأييد والله معكم ولن يترككم أعمالكم.
ثم ذكر أن اليهود الذين كفروا بالله وقتلوا الأنبياء لهم جهنم فقال تعالت كلماته: (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) أي بساطا مفروشا يتقلبون عليه من جانب إلى جانب، فهو فراش لهم يتقلبون عليه بجنوبهم وفي مضاجعهم، وهو جزاؤهم، وللمؤمنين النصر إن أخذوا في أسبابه.
* * *
القرآن يهدي
قال اللَّه تعالى:
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
* * *
ذكر اللَّه تعالى قصة الإسراء، وهي في ذاتها معجزة حسية مادية لَا تقل عن معجزة إحياء الموتى بإذن اللَّه، وقارنها في الزمن معجزة شق القمر، وإنه انشق قسمين رآه أهل مكة، ورآه المسافرون، ومع ذلك ازدادوا كفرا، وقالوا:(. . . سِحْرٌ مسْتَمِرٌّ)، وفي معجزة الإسراء ازدادوا كفرا.
ودل هذا على الخوارق التي تحدث ثم تنقضى ولا تدوم لَا تكون لخاتم النبيين الذي تكون حجته دائمة بدوام دعوته، واستمرار هدايته، ولا يكون ذلك إلا لقرآن يتلى، ويكون حجة دائمة لَا تنقضي؛ لأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين يتحدى الإنسانية كلها بالمعجزة الكبرى التي تتضاءل عندها كل المعجزات من قبل، وهي القرآن، فقال تعالى يعد الإسراء وما تبعه:
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
الإشارة (هَذَا) كانت بالقريب، ولم تكن بالبعيد للإشارة إلى قربه من المؤمنين، وقربه إلى أذهان الذين يجادلون في آيات اللَّه تعالى؛ لأنه من وقت البعثة وابتداء نزوله، والمشركون يفتلون الذروة والغارب (1) ليردوا دعوته، وهو مع ذلك يسري في أوساطهم سريان النور المبصر في وسط الضلال المظلم فهو قريب من أذهانهم، وإن لم يؤثر في قلوبهم لغلبة الهوى والجاهلية.
وقد ذكر سبحانه الأثر لهذا القرآن الذي يكون وصفا ملازما له فقال تعالى (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) أقوم أي أعدل وأكثر استقامة وتوجيها دليلا، فيحمل في نفسه برهان صدقه، والموصوف محذوف ويقدره القارئ بكل ما يكون قويا في ذاته خيرا في نتيجته وهدايته، وقال الزمخشري: إن حذفه يجعل الكلام أعظم وأفخم من ذكره. ونقول: إنه لم يذكر لهذه الإشارة التي أشار إليها إمام البلاغة، ولم يذكر لعموم المحذوف لكل أنواع مناهج الخير والرشاد، فيشمل المحذوف الشريعة التي تهدى للتي هي أقوم، وملة التوحيد التي هي أقوم، ومناهج الخير التي هي أقوم في سلوك الإنسان، وهكذا يشمل تقدير المحذوف كل ما هو خير في ذاته، وخير في دلالته، وقد قدره بعض العلماء بما يقرب من هذا الشمول، فقال يهدي للحال التي هي أقوم لتشمل الحال حال المجتمع، وحال الأسرة، وحال الإنسانية، وكل حال هي خير للإنسان في عاجلته وآخرته، معاشه ومعاده.
هذا هو الوصف المؤثر في التوجيه الإنساني للقرآن، وفيه وصف إيجابي هو السبب في هدايته مع إعجازه، وهو أنه مبشر ومنذر فهو مبشر للمؤمنين ومنذر للكافرين، فقال تعالى:(وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) ذكر سبحانه وتعالى حالتين أولاهما: الإيمان، وثانيتهما: العمل الصالح، وقرن الإيمان بالعمل الصالح لتلازمهما، وإن الإيمان الكامل والإذعان الصادق
(1) مثل يضرب في الخداع والمماكرة، والذروَة: أعلى السَّنام، وأعلى كل شَىء. أصل فتلَ الذَّروة في البعير: هو أن يَخْدَعه صاحبهُ ويتلطف له بفَتْل أعلى سَنامه حكّا ليسكن إليه فيتسلقَ بالزمام عليه، قَاله أبو عبيدة، معجم الأمثال - الميداني - الباب العشرون - فصل الفاء (2730).