الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنزل بهم في حياتك، أو نتوفينك قبل أن ينزل بهم ما نعدهم به، كيفما كانت الحال، فإنه نازل بهم جزاؤهم في الدنيا ما استقام أهل الإيمان على الطريقة، فإن حادوا عنها، حيد لهم.
وقد تأكد الشرط بما الدالة على التوكيد، وبنون التوكيد الثقيلة التي تلازم " ما " غالبا، وتوكيد الشرط توكيد للتعليق كله، أي أن الارتباط بين الشرط والجواب مؤكد، فإنه إذا لم تر بعض ما وعدهم الله به من عقاب بوفاتك قبله، أو تراه فإنه نازل بهم، وقد أديت ما وجب عليك من تبليغ وبقي أن ينفذ وعيد الله تعالى فيهم، ونعدهم أي الإنذار الذي أنذرهم الله تعالى به، فوعد بمعنى أوعد.
وأحسب أن القرآن عبر عن الإيعاد بالوعد في جملة ما جاء به من إنذار.
وقوله تعالى: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) ليس هو جواب الشرط، وإنما يدل عليه والجواب مثلا، أنزلنا بهم ما وعدنا، وأريناك مصارعهم، وما عليك أي تبعة من أمورهم (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ)، إنما للقصر، أي ليس عليك إلا البلاغ، وقد بلغت، وعلينا الحساب، العقاب، وعبر عن العقاب بالحساب، لأنه جزاء لما فعلوا، ويفعلون، وهو ذاته حساب لهم على ما آذوا المؤمنين وهم مستمرون في غلوائهم، وذلك كقوله تعالى:(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26).
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى بعض ما ينزل بهم من وعده الذي أنذرهم به.
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
(41)
قال ابن عباس في معنى ذلك النص الكريم: " أو لم يروا أنا نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم الأرض بعد الأرض ونقصان الأرض من أطرافها، اقتطاعها جزءًا جزءًا من سلطانهم، وذلك بحروبهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإن عذاب الله تعالى الذي ينزله في
الكافرين جزاء كفرهم يكون بأحد أمرين، إما اجتثاثهم من الأرض، وأخذهم من حيث لَا يحتسبون بريح عاصف أو بخسف يجعل عالي ديارهم سافلها، أو بطرق يحيط بهم فلا يبقي ولا يذر، وحيث لَا يكون من أصلابهم من يعبد الله، وقد أوقع الله تعالى هذا بالذين بعث فيهم الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم من نوح وهود، وصالح، وشعيب.
والأمر الثاني: أن يكون ذلك بالمغالبة، يقاتلون، فيقتلون، ويقتلون، والعاقبة للمتقين، وإن ما نزل بمشركي مكة، واليهود كان من الثاني لَا من الأول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إني لأرجو أن يكون من أصلابهم من يؤمن بالله واليوم الآخر ".
ويقول تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) الاستفهام إنكاري لإنكار الوقوع بمعنى النفي، ونفي النفي إثبات، فالاستفهام الإنكاري داخل على " لم " والمعنى التنبيه على ما هو واقع بهم، والواقع أنهم يرون أن الله أتى الأرض ينقصها من أطرافها عليهم، وإسناد الإتيان للأرض إلى الله تعالى للدلالة على أن الله تعالى مع جيش المسلمين الذي يأتي الأرض التي لهم النفوذ، والسلطان فيها، ويتلاقون مع سكانهم في الشرك الذي يجمعهم و (نَنْقُصُهَا) نأخذها جزءًا فجزءًا من دائرة الكفر، حتى تضيق حوزتهم، وتضيق الدائرة عليهم شيئًا فشيئًا حتى يحيط بهم، ويصلح الرسل من الأرض، وكذلك كان الأمر، فقد كانت الغزوات والسرايا تنزل بالمشركين، وقد ذهبت إلى ما حول مكة وأطراف الجزيرة داعية إلى الله تعالى مجاهدة، فكانت الأرض تنقص من نفوذهم من أطرافها، بسببين:
أولهما: وهو أن دعوة الإسلام تدخل إلى قلوبهم من يسري إليهم ثلة من جنود المسلمين، وفي ذلك نقص من سلطانهم، وخروج من نفوذ مكة وأهلها.
ثانيهما: أنه يقتل من المشركين عدد، وإن لم يكن كثيرًا، إلا أنه يبعدهم عن مكة وأهلها.
وإن إتيان الله للأرض إتيان لقوة الله قوة الحق والإيمان فهو سبحانه يأتي القلوب فتزمن، ويعمرها بالإيمان، وكل عمران بالإيمان، نقص للأرض من سلطان الكفار.
وإذا دخل الإسلام أرضا كان هو الحكم وحده، لَا معقب لحكمه، أي لا يخرج منه ويجيء عقبه حكم غيره، فالإيمان الصادق إذا دخل النفوس لَا يخرج منها لأنه يكون به سكونها واطمئنانها وقرارها.
وقد قال الزمخشري، وهو ابن نجدتها (لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) لا راد لِحُكْمِهِ، والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله، وحقيقة الذي يعقبه بالرد والإبطال، ومنه قيل لصاحب الحق، معقب لأنه يعفى غريمه بالاقتضاء والطلب؛ لذا قال لبيد:" طلب المعقب حقه المظلوم "، والمعنى أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس.
ومعنى قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ)، أي الله وحده يكون الحاكم للنفوس، وليست الأهواء المتحكمة، ولا قهر الأقوياء للضعفاء، إنما هو الرحمة والعدل، ولا حكم يتعقبه.
ويكون للذين كانوا يسيطرون الحساب، وإنه لقريب، وإنه لسريع؛ ولذا قال تعالى:(وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)، أي أن الحساب آت لَا ريب، وكل آت فهو سريع، لأنه مؤكد الوقوع، وعدد السنين والشهور لَا قيمة له ما دام مؤكد الوقوع، وما يكون سريع الحساب يكون شديد؛ لأنه يفاجئ المنكرين من حيث لا يحتسبون؛ ولأن سرعة الحساب يكون لأجل غرض العقاب، ولتحقيق معنى الجزاء، وذلك يكون على قدر ما ارتكب المسيء، والله عزيز ذو انتقام.
* * *
قال اللَّه تعالى:
(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
* * *
المكر العمل على صرف غيره عن مقصده بحيلة، وأنه يأخذ وصف الذم والحمد، من المقصد الذي قصد الصرف، فإن كان ذلك القصد مذمومًا، فالصرف عنه خير، ما لم يكن السبيل ذاته شرا، وإن كان القصد محمودا، فالصرف عنه مذموم؛ لأن الصرف عن المحمود يوجب الذم.
وعلى ذلك يكون معنى قوله تعالى:
(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) الضمير يعود إلى المشركين، أي مكر الذين من قبلهم الذين ساروا هم على سننهم، وضلوا ضلالا بعيدا مثلهم، ولا شك أن من هذه حالهم مكرهم يكون لتحويل الناس عن إطاعة النبيين، وصرف النبيين لهم عن اتباعهم، وذلك بطرق التدبير السيئ المختلفة من اضطهاد وأذى وسخر بهم، وقيل لهم أحيانا، والشتم والذم في أكثر الأحيان، فقد سخر قوم نوح منه وممن تبعه، وقالوا ما اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي، وكذلك قوم هود وقوم صالح، وآل مدين قوم شعيب.
وذكر هذا الخبر للمشركين لبيان أنهم لن يضيروا النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه مكرهم إلى هباء، ولا يعد شيئًا بجوار مكر الله تعالى، والتدبير للمؤمنين لينجوا من شرهم؛ ولذا قال تعالى:(فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا)، أي لله وحده التدبير الذي يحول القلوب، وقد دل هذا النص السامي على ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن مكرهم لَا اعتداد به، ولا ثمرة له في تحقيق الغاية التي أرادوها، وهو تحويل الناس عن عقائدهم إذا آمنوا بها.
الأمر الثاني: أن القلوب بيد الله، وهو الذي يهديها، وهو الذي يتركها تسير في مهواة الضلالة، حتى تنهوي فيها.
الأمر الثالث: أن الله مذهب كيدهم، وجعلها في هباء، وناصر أهله.
وإن الله تعالى تدبيره منتج مثمر لَا محالة؛ لأنه يعلم ما تكسب كل نفس من خير أو شر، وتتحدث به النفوس، وما تكسبه الجوارح، وهو وحده مقلب القلوب.
قلنا: إن ذكر مكر السابقين لبيان العبرة للمشركين الذين عاندوا النبي صلى الله عليه وسلم، ومحاولتهم فتنة المؤمنين لتحويلهم عن دينهم الذين ارتضوه، وفيه إشارة إلى بطلان مكرهم، وإلى أن مكر الله فوقهم، وأنهم إذ يمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم، إنما يقاومون بمكرهم مكر الله وتدبيره للمؤمنين أوليائه؛ ولذا قال تعالى مهددا لهم:(وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) الكفار (ال) فيها للعهد، أي كفار العرب من مشركين ويهود، ومن لفَّ لفهم، والسين لتأكيد وقوع الخبر في المستقبل، والعلم الذي سيعلمونه علم معاينة، لَا علم خبر وإخبار، إن تتوالى عليهم الهزائم هزيمة بعد هزيمة حتى تصير الأرض العربية كلها تحت ظل الإسلام الظليل، ويخرج المشركون من رجس الوثنية، والفساد اليهودي المنحرف، وتكون الكلمة العليا لله ولرسوله، وللمؤمنين، ومن بقي على كفره يعلم علما آخر بعقبى الدار في جهنم للكافرين، والجنة للمؤمنين.
وقوله: (لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) لِمَنْ جار ومجرور، والمعنى لمن تكون عقبى الدار، أي عاقبة هذه الحياة الدنيا التي تكون فيها هذه المغالبة بين الحق والباطل، والكفر والإيمان، وإن العقبى هي غلب الإيمان في الدنيا، والجنة لمن آمن في الآخرة، والنار لمن عصى، والله سبحانه وتعالى أعلم.