الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإياكم والكذب فإنه يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابا " (1).
والكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة التي لا فائدة منها (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ)، أي أنها ليس لها جذوع ممتدة في باطن الأرض، بب هي على سطحها، ومعنى (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) أي ظهرت جثتها من فوق الأرض فليس لها جذور تمتد فيها كبعض أنواع النباتات التي ليس لها جذور تغوص في عروق الأرض، (مَا لَهَا مِن قَرَارٍ)، أي استقرار وثبات في باطن الأرض، والمؤدى من هذا التشبيه أن الكلمة الخبيثة لَا تعيش في الوجود، وليس لها بقاء فيه، بل إنها تنتهي بانتهاء زمانها وتنْزل من الأضرار بمقدار وقتها، كالسعاية والنميمة والكذب والخديعة والغيبة، وليس لها وجود إلا بمقدار زمانها وقد تضر، لكن عاقبتها وخيمة، وطعاصها وبيء، ولا تبقى إلا الكلمة الطيبة، وما يكون للَّه وللحق وحده. وعن قتادة رضي الله عنه أنه قيل لبعض العلماء ما تقول في كلمة خبيثة؛ فقال:" ما أعلم لها في الأرض مستقرا ولا في السماء مصعدا إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها ربه يوم القيامة "، اللهم جنبنا خبث القول، واجعلنا من الذين قلت فيهم:، (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24).
(1) سبق تخريجه.
(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ
(27)
يثبت اللَّه الذين آمنوا بأن يلقي في روعهم الاطمئنان إلى الحق والجزم به والنطق بمقتضاه، والثبات عليه لَا يحيد عن النطق بالحق والعمل به، والرضا بنتائجه؛ ولذا قال سبحانه:(بِالقَوْلِ الثَّابِت)، ولقد قرر العلماء أن صاحب النفس المطمئنة الراضية بحكم اللَّه المنفذة لتكليفه يلقى اللَّه فيها بالإخلاص، والإخلاص للَّه يجعل النفس تشرق بنور اللَّه، فتدرك فتؤمن فتقول الحق وتعمل
به، ويكون من بعد ذلك السلوك الاجتماعب المستقيم بأمر اللَّه ونهيه، فمعنى (بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ)، القول الذي يقوم على دعائم الحق، ولا يتزلزل لباطل، ويصح أن نقول إن الثبات صفة لصاحب القول، وأضيفت إلى القول؛ لأنه لَا يثبت القول إلا بثبات صاحبه الذي لَا تزلزله عوابث الهوى ولا أوهام الشيطان، وما أحكم ما قاله الزمخشري إذ يقول رضي الله عنه: " القول الثابت هو الذي يثبت بالحجة، والبرهان في قلب صاحبه، والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه، فاعتقده واطمأنت إليه نفسه. وتثبيتهم به في الدنيا: أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا، كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود، والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد، وكما ثبت جرجيس وشمسون وغيرهما. وتثبيتهم في الآخرة. أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم، لم يتلعثموا ولم يبهتوا، ولم تحيرهم أهوال الحشر.
هذا كلام صدق، وإن القول الثابت كما يشمل الصبر في العقيدة يدخل في عمومه الثبات على الحق في نصيحة الحاكم، والامتناع عن قول الباطل مداهنة له، ويقول للحاكم الظالم: اتق اللَّه، ويكررها كلما اقتضت الحال قولها في غير مواربة، إلا إذا كانت الحكمة أن يداور لأجل إيصال الحق إلى فلب الحاكم، وتسويغه في نفسه، فللقول سياسة، وللعلم سياسة، ومنها تسويغ الحق ليهضم معناه، وخصوصا في أزمان الفساد كالزمن الذي نعيش فيه، ولعل الإمام الزمخشري عاش في مثله، وما ضيع المسلمين إلا سكوتهم عن القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وقوله تعالى:(وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) معنى إضلال الظالمين؛ أنهم إذا ساروا في طريق الضلالة أوغلوا فيه ولا يردهم سبحانه وتعالى عنه بل يتركهم سبحانه يسيرون فيه إلى نهايته، ووصفهم بالظالمين فيه إشارة إلى أنهم يبدءون بالسير في طريق الظلم الذي يشمل الظلم في الاعتقاد بالإشرك، والظلم للنفس بارتضاء طريق الشر، والظلم للناس في معاملاتهم، وفتنة الناس في دينهم وإيذائهم في اعتقادهم.
(وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)؛ لأنه المختار المريد، (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ).
ويلاحظ أن لفظ الجلالة ذكر مرتين في جملتين متعاقبتين، ولم يكتف بالإضمار بل أظهر في موضعه، فقال سبحانه:(وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) وذلك لتربية المهابة أولا، ولبيان كمال سلطانه ثانيا، وتأكيد إرادته المختارة ومشيئته الحكيمة ثالثا، والله ولي الإنعام.
* * *
جزاءكفر النعمة وجزاء مكرها
قال تعالى:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
* * *
التبديل معناه، التحويل، أو جعل شيء بدل شيء، ومعنى تبديل نعمة اللَّه كفرا في قوله تعالى:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كفْرًا) أنهم جعلوا بدل النعمة التي تستوجب الشكر كفرا، فالذين أُعطوا نعمة بدل أن ينتفعوا بها في وضعها موضعها من الشكر عليها كفروا بها، وكثيرون من ذوي النعم الذي أنعم اللَّه عليهم بالثراء استعلوا به فجعلوه كفرا، ومن أنعم اللَّه تعالى عليه بجاه في الدنيا بدلوه كفرا، فاستغلظوا واستعلوا، وجعلوا جاههم غطرسة وكبرا، وبطروا معيشتهم.
وكذلك أهل مكة في الجاهلية أكرمهم اللَّه تعالى بمقامهم حول البيت الحرام، وتلك نعمة أنعم اللَّه بها عليهم، فبدل أن يقوموا على سدانته وطهارته وضعوا عليه الأوثان، فاستبدلوا بالنعمة كفرا، وكذلك أنعم اللَّه عليهم وعلى البشرية ببعث محمد صلى الله عليه وسلم، فبدلوا كفرا وعاندوه وآذوه وأصحابه، وأنعم اللَّه تعالى عليهم برحلتي الصيف والشتاء، وأن تكون مكة وسط البلاد العربية تغدو منها المتاجر وتروح إليها بين اليمن والشام فبدلوها كفرا، واتخذوها رِبَا الجاهلية، وأكلوا السحت، وكذلك اليهود بدلوا نعمة اللَّه إلى كفر، أعطاهم اللَّه تعالى علم الكتاب فغيروا وبدلوا واستطالوا على الناس، وقالوا نحن أبناء اللَّه وأحباؤه، وظلموا الناس وأكلوا أموالهم سحتا ورشوة، وقالوا:(. . . لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ. . .)، وهكذا.
ولذا نقول: إن الآية عامة تشمل كل من أنعم اللَّه عليه بنعمة، فبدل أن يضعها في موضعها يتخذها أداة للطغيان والضلال، فتكون كفرا، وأنهم بسب ذلك الطغيان الذي يستخدمون النعمة طريقا له ويكفرون (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)، أي الهلاك، أي ينزلون قومهم من عزة الإنسانية إلى الذل فيكون ذلك طريقا لانحدارهم إلى الهلاك، وأصحاب النعم التي يكفرونها هم الذين يفسدون أقوامهم، ويأخذونهم إلى حيث الفناء، وفناء الأمم والأقوام بشيوع الكفر والجحود فيها.