الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بي شيئا، وتسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع قضاءها " (1).
هذه صلة من أمر اللَّه به.
وأما خشية اللَّه تعالى فهي امتلاء القلب باللَّه، وخشية عقابه، ورجاء ثوابه، وأن يكون ذاكرا للَّه، شكورا لنعمه، راجيا قبول طاعته (. . . إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ. . .)، فهم أعم الناس به ذاتا، وصفاتٍ، وقدرا، وإكبارا.
ومنها خوف سوء الحساب، فهو خوف نتائج السر الذي كان في الدنيا، واللَّه عْفور رحيم.
الوصف الخامس والسادس والسابع والثامن من صفات المؤمنين، وهو من مقتضيات الإيمان: الصبر، وما بعده، قال تعالى:
(1) رواه أحمد: مسند الكثرين من الصحابة - مسند عبد الله بن عباس (6282).
(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ
(22)
ذكرت هذه الآية أربع خصال للمؤمنين، أولها: الصبر ابتغاء وجه اللَّه تعالى، وإقامة الصلاة والإنفاق من رزق اللَّه تعالى، ودرء السيئة بالحسنة.
أما الصفة أو الخصلة الأولى: وهي الصبر ابتغاء وجه اللَّه، فإن معناها ضبط النفس عن الشهوات، وتسيطر على منازع النفس فتقوى الإرادة، وتكون الأهواء أمةً لها، ولا تكون سيدا عليه، وإن الصبر في المصائب التي تنزل، والإصرار على الوقوف عند أمر اللَّه تعالى ونهيه، ولقد فسر ابن كثير الصبر ابتغاء وجه ربهم بقوله:" الصبر عن المحارم والمآثم، فقطعوا أنفسهم عنها للَّه عز وجل ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه " وفسره الزمخشري بقوله: " (صَبَروا) مطلق فيما يصبر عليه من
المصائب في النفوس والأموال، ومشاق التكليف ابتغاء وجه اللَّه، لَا ليقال ما أصبره، وأحمله للنوازل، وأوقره عند الزلازل، ولا لئلا يعاب بالجزع، ولا لئلا يشمت به الأعداء كقول القائل:(وتجلدي للشامتين أريهم)(1)، ولا لأنه لَا طائل تحت الهلع، ولا مر فيه للفائت كقول القائل:
ما إن جزعت ولا هلعـ
…
ـت ولا يردُّ بكاي زندًا
فكل عمل له وجوه، فعلى المؤمن أن ينوي منها ما كان حسنا عند اللَّه، وإلا لم يستحق ثوابا، وكان فعلا كلا فعل " اهـ (2). قيل هذا الكلام بليغ، وفيه بيان متى يكون الصبر ابتغاء وجه ربه، ومتى لَا يكون، وإنه بلا ريب كلام حق، ولكني أزيد عليه، بأن كلمة:(وَالَّذِينَ صَبَروا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) لابد أن يكون في موضع معين يكون الصبر فيه ابتغاء وجه اللَّه، أي يبيع المؤمن نفسه للَّه تعالى صابرا محتسبا، وهو الجهاد، فهذه الجملة السامية أو الخصلة الكريمة مع أنها تفيد أن الصبر في كل أحواله خير، وخصوصا إذا لم تقصد به المفاخرة، كما جاء على لسان بعض الشعراء، فإن الأخص هو الصبر في الجهاد، يدفع نوازع النفس، وبالتقدم للميدان رجاء ما عند اللَّه تعالى، والصبر في كل أحواله خير.
ومعنى (ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) أن يطلب رضا ذات اللَّه تعالى العلية عليه.
وعبر بالوجه عن الذات؛ لأنه في أصل معناه اللغوي ما يواجه الإنسان.
والخصلة الثانية: إقامة الصلاة، أي الإتيان بها مستوفية الأركان، وبخشوع وخضوع، وبأداء حقيقة معناها الناهية عن الفحشاء والمنكر، كما قال تعالى:
(. . . إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ. . .).
(1) يعني إظهار الصبر مراءاة كي لَا يشمت الشامتون.
(2)
الكشاف للزمخشري: ج 2/ 357، وتتمة البيت كما ذكره البيضاوي ج 6/ 376:
وتجلدي للشامتين أريهم
…
أني لريب الدهر لَا أتضعفع
البيت لأبى ذؤيب قاله يرثي بنيه.
وإن الصلاة إذا أقيمت لقويت النفس، وناجى المؤمن ربه حق المناجاة، وقرب من ربه، وامتلأت نفسه به، وصار قلبه نورا، وفكره نورا، واستقامت نفسه وقلبه.
الخصلة الثالثة: كما قال تعالى: (وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً)، وقوله تعالى:(مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) معناها: إنفاق بعض ما رزقناهم، أي من حلال مكاسبهم، فالكسب الحلال رزق من اللَّه، وإضافة الرزق إلى اللَّه تعالى يقتضي أولا ما ذكرنا وهو أن يكون حلالا، ويعتبر ثانيا أن المال مال اللَّه تعالى فهو الذي رزق، وما تكلف من إنفاق إنما هو مما أعطاك، فقد أعطاك لتنفق، فهو ابتلاك بالمال لتنفقه وتشكر، وابتلى غيرك بالفقر ليصبر، واللَّه فضل بعضكم على بعض في الرزق.
وقوله: (سِرًّا وَعَلانِيَةً) ولكل حال فضلها، ففضل السر الستر على من يعطيه، وألا يكون تفاخرا، وأن يكون العطاء لوجه اللَّه لَا رياء فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من تصدق يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك "(1)، وفي العلانية فضل أحيانا كأن تحرض الناس على العطاء، وأن يمنع الاتهام بالشح ليقي نفسه والخصلة الرابعة: بينها سبحانه وتعالى بقوله: (وَيَدْرَءونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ).
(درأ) بمعنى دفع، ومن ذلك قوله تعالى في اللعان:(وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ).
ودرء السيئة بالحسنة فسرها المفسرون بأنه دفع الإساءة بالإحسان، ومقابلة الحرمان بالإعطاء، والقطيعة بالوصل، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:" ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها "(2)، وقد روي عن ابن عباس أنه
(1) رواه أحمد، وقد سبق تخريجه.
(2)
رواه البخاري: الأدب - ليس الواصل بالمكافئ (5532). كما رواه الترمذي: البر والصلة (1831)، وأبو داود: الزكاة (1446)، وأحمد: مسند المكثرين (6238).
قال في معنى هذه الآية: يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيئ غيرهم، وعن الحسن البصري: إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قُطعوا وصلوا.
وجملة هذه المعاني تتجه إلى نشر التسامح، ومنع مبادلة السوء بالسوء حتى لا يؤدي ذلك إلى التقاطع والتدابر، وأن يكون بأس المسلمين بينهم شديدا، وهذا هو ما أمر اللَّه تعالى به منعا للعداوة، فقد قال تعالى:(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34).
هذا معنى سليم مستقيم، ويصح أن نقول: إن معنى قوله تعالى:
(وَيَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ)، أن الإكثار من الحسنات يدفع السيئات، ذلك أن.
الحسنات طهارة للنفس، والطهارة تزيل أخباث النفس، كما قال تعالى:(. . . إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. . .) فإن السيئات تخط في القلب خطوطا، والحسنات تزيلها، أو تذهب بنكتها السوداء، ويصح أن يراد المعنيان. ولقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن الحسنة تمحو السيئة، فقال صلى الله عليه وسلم:" وأتبع السيئة الحسنة تمحها "(1).
وقد بين اللَّه تعالى جزاء المؤمنين الذين اتصفوا بهذه الصفات السامية المطهرة للنفوس وللجماعات، وهي تدل على أن هذه الصفات هي سبب الجزاء العظيم، (أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) وعقبى الدار (الجنة)، ولذا بينها سبحانه وتعالى بقوله:
(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
(1) رواه الترمذي: البر والصلة - ما جاء في معاشرة النساء (1910)، كما أخرجه أحمد في مسند الأنصار (20392)، والدارمى: الرقاق (2671).
(جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل أو بيان لمعنى عقبى الدار، أو الدار نفسها التي تكون عاقبة العاملين عملا صالحا، والذين صبروا في الجهاد ابتغاء وجه ربهم، و (عَدْنٍ) يعني إقامة، أي جنات يقيمون فيها إقامة دائمة وهي الفردوس، وتكون في وسط الجنة، وفوقها عرش الرحمن الذي يحكم في عباده بما يشاء، وهذا تصوير بياني رائع لبيان النعيم المقيم الذي يختص به الأبرار المجاهدون الأطهار.
يدخلونها، لَا عائق يعوقهم، ولا حائل بينهم وبينها، ويُدخلون معهم من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. ذكر هؤلاء الذين يكوِّنون الأسرة، والمؤمن في حنان مستمر إلى هؤلاء، من آباء وأمهات وأبناء وأحفاد. فاللَّه سبحانه وتعالى يطمئنه عليهم، وبأن الأسرة الدنيوية تكون معه في الآخرة يأنس بها وتأنس به، وقيد هؤلاء بأنهم الصالحون، وغير الصالحين ليسوا منه، وليس هو منهم كابن نوح، إذ قال ربه:(. . . إِنَّهُ لَيْسَ مِن أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ. . .)، وهذا يشير إلى أن الجنة جزاء للأعمال، لَا للأنساب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأحبابه من بني هاشم:" يا معشر بني هاشم، لَا يأتيني الناس بالأعمال وتأتوني بالأنساب، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى "(1). وقد فهم بعض المفسرين أن أولئك ألحقوا به إكراما له، ولكن اشتراط الصلاح يقيِّد دخولهم (وَمَنْ صَلَحَ)، إنما كان استقلالا لعملهم بدليل ذكر الصلاح، ولكن ذكروا معه لبيان أنسه بأحبابه في الدنيا أولا ولاطمئنانه على من يحدب عليهم ثانيا.
وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى أنس المجاهدين الصابرين المتقين بذوي الصلات بهم في الدنيا إذا صلحوا - ذكر أُنسا روحانيا كريما، وهو إيناسهم بالملائكة الأطهار، فقال تعالت كلماته:(وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّنْ كُلِّ بَابٍ) أي يحفون بهم، يجيئون إليهم من كل ناحية، فهم في أنس روحي، كما أنهم في متعة الجنة، وهي نعيم مادي، (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرمَّان)، وفيها كل ما تشتهي النفس، وفيها ما لَا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب
(1) رواه أبو يعلى مرسلا، ووثقه ابن حبان وغيره، مجمع الزوائد (29672): ج 10/ 390.
بشر، وأولئك الملائكة الأبرار يقولون ما يملأ نفوسهم بالأمن والبشر والاطمئنان؛
(سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ)، (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ. . .)، وهذا يتضمن معنى الإيناس بإقراء السلام، فإقراء السلام في ذاته إيناس، وفيه مع ذلك بث الاطمئنان وطيب الإقامة، وذلك بسبب الصبر، أي بسبب صبركم في الجهاد، وصبركم على الطاعات وتجنب الشهوات، وصبركم على تحمل المكاره، وصبركم على البعد عن الأحبة، وقد روى عبد اللَّه بن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله؟ "، قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال:" المجاهدون الذين تسد بهم الثغور، وتتقى بهم النار، فيموت أحدهم وحاجته في نفسه لَا يستطيع لها قضاء، فتأتيهم الملائكة فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار "(1).
ولقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي على قبور الشهداء كل حول فيقول: " السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار "(2)، وكان أبو بكر وعمر وعثمان يفعلون ذلك، ولم يذكر عليّ مع أنه بطل الجهاد الأول بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو أعرف الناس بعد الرسول بحق الجهاد وهو القائل:(الجهاد باب من أبواب الجنة).
وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الجهاد ماض إلى يوم القيامة "(3)، وإن المسلمين هانوا على أنفسهم يوم بث أعداؤهم التخاذل عن الجهاد، فأطاعوهم، فخذلهم اللَّه تعالى، ولا تزال تطلع على المتخاذلين من المسلمين عن الجهاد، فقد ساروا وراء أذيال النعم، وصاروا عاملين لأعدائهم يقدمون لهم أسباب المال الذي يستخدمونه ضدهم.
ثم بين سبحانه أن هذا الجزاء هو خير الجزاء، فقال:(فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ).
الفاء للإفصاح، أي إذا كان ذلك هو العقبى والنتيجة، فنعم هذه العقبى، وتلك النهاية.
* * *
(1) سبق قريبا.
(2)
انظر ما جاء في البداية والنهاية - ج 4/ 218.
(3)
رواه أبو داود: في الغزو مع أئمة الجور (2170).
أوصاف الضالين
قال اللَّه تعالى:
(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
* * *
هذه أوصاف الذين عتوا عن أمر ربهم، وخرجوا عن جادة الحق، وأوصافهم في مقابلة أوصاف المؤمنين، وهم متصفون بصفات ثلاث، جعلتهم يمردون على الكفر والطغيان، وهذه الصفات الثلاث هي: نقض عهد اللَّه، والثانية: قطعهم ما أمر اللَّه به أن يوصل، والثالثة: الفساد في الأرض.
أما الأولى فقد بينها سبحانه وتعالى:
(وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) وعهد اللَّه تعالى بَدَهي تدركه البديهة السليمة؛ لذا سمي دين التوحيد، فطرة اللَّه تعالى التي فطر الناس عليها. وهي إدراكها حقيقة، حتى إن بعض
العلماء المسلمين قال: إن إدراك اللَّه تعالى تدركه البديهة السليمة، لذا سمي دين التوحيد، فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها. وقد نص على عهد اللَّه في قوله تعالى:(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174).
ولم يشرك الناس بعد هذا العهد الذي أخذ بمقتضى الفطرة، بل وثَّقه بميثاق، ولذا قال تعالى:(مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِه) وهذا الميثاق الذي وثق به الرسل الذين أرسلهم مبشرين ومنذرين (. . . وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِير)، وقال تعالى:
(. . . وَمَا كنَّا مُعَذِّبِين حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
ولقد جاءت النذر بهلاك الأمم التي فسقت عن عهدها، فكان ذلك توثيقا بعد توثيق، وإنذارًا بعد إنذار، ومع ذلك نقضوا عهد اللَّه من بعد ميثاقه. الصفة الثانية: قطعهم ما أمر اللَّه به أن يوصل من الأرحام، والعلاقات الاجتماعية الفاضلة على ما بينا في معنى قوله تعالى في صفات المؤمنين:
(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يوصَلَ).
الصفة الثالثة: أشار إليها سبحانه وتعالى بقوله: (وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ) الفساد في الأرض ألا يقوم فيها النظام الاجتماعي على التكافل بين الآحاد، ومعاونة بعضهم، وألا يستعلي قوي على ضعيف، وألا يندغم الضعفاء في الجماعة، وألا يراعى لهم حق، وأن يكون التفاوت الظالم بين الآحاد، وألا يكون ضابط يحمي الضعفاء من الأقوياء والأغنياء من الفقراء، وأن يسود الظلم من الحكام لرعاياهم، فإن ذلك فسادا أي فساد، وقد رأينا حكاما ظالمين يقتلون الرعية بغير حق إلا أن يقولوا ربنا اللَّه، واللَّه أكبر، ويدعون أنهم يصلحون وهم المفسدون، لأن أساس كل نظام العدل. إفساد أي حكم بالظلم أولا، وما يتبعه
تحسس وتجسس وسعاية ثانيا، وما يجري وراءه من نفاق ثالثا: وإذا جاء النفاق عمَّ الفساد. ولقد قال أبو العالية: " ست صفات في المنافقين، إذا كانت الظهرة (أي السيطرة) على الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا، ونقضوا عهد اللَّه بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر اللَّه به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا ثلاث خصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا ".
وإن النفاق دائما وليد الاستبداد الغاشم، والظلم الطاغي، وقد رأينا وشاهدنا.
وقد بين اللَّه سبحانه الجزاء الأوفى للذين لايؤمنون، فقال تعالى:(أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) اللعنة هي الطرد، وقد ذكرت غير مقيدة، فإنها في الدنيا أو الآخرة، أما لعنتهم في الدنيا فالمقت الشديد والبغض والكراهية، وسوء الأحدوثة، واقتران حياتهم بالخوف من الناس، والاضطراب النفسي حتى يموتوا بغيظهم، وسوء الحديث عنهم تتوارثه الأجيال جيلا بعد جيل. ويقال فيهم ما قاله الشاعر البطل محمود سامي البارودى:
زالوا فما بكت الدنيا لطلعتهم
…
ولا تعطلت الأعياد والجمع
واللعنة في الآخرة: الطرد من رحمة اللَّه ورضوانه، فلا ينظر إليهم ولا يكلمهم اللَّه ولا يزكيهم (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) والدار هي الآخرة وسوءها جهنم وبئس المهاد.
وإن المشركين كانوا يغترون بمالهم ونفوذهم، والمؤمنون كانوا في أكثرهم فقرا وضعفا وكانوا يعقدون ملازمة بين رضا اللَّه والفقر، فمن كان غنيا فهو موضع رضا اللَّه، ومن كان فقيرا ضعيفا فهو موضع مقت اللَّه تعالى، فازدادوا بذلك كفرا وطغيانا، فبين اللَّه سبحانه أنه لَا ارتباط بين الغنى والإيمان، ولا بين الضعف والكفر.