الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
388/ 2/ 74 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخلت هند بنت عتبة -امرأة أبي سفيان- على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، إلَّا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل عليَّ في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك" (1).
الكلام عليه من وجوه:
الأول: في التعريف براويه، وقد سلف في الطهارة.
وهند هذه أم معاوية لها ذكر ونفس وابقة أسلمت عام الفتح بعد إسلام [زوجها أبي سفيان](2) فأقرا علي نكاحهما وشكته
(1) البخاري (2211)، ومسلم (1714)، والنسائي (8/ 246، 247)، وابن ماجه (2293)، وأبو داود (3532)، والبغوي (2149، 2397)، وأحمد (6/ 50، 206)، والدارمي (2/ 159)، والبيهقي (7/ 466، 477)(10/ 141، 269، 270).
(2)
بياض بالأصل، وما أثبت من ن هـ.
[ذلك](1) اليوم لرسول الله - صلي الله عليه وسلم -[وشهدت أحدًا كافرة مع](2) زوجها أبي سفيان وقصتها في البيعة مشهورة، ماتت في خلافة عمر في اليوم الذي مات فيه أبو قحافة والد الصديق سنة أربع عشرة في المحرم.
وأما أبو سفيان: فهو صخر بن حرب الأموى والد معاوية ويزيد وعتبة، ولد قبل الفيل بعشر سنين، وكان من أشراف قريش في الجاهلية وأفضلهم، ومن التجار، وكانت إليه راية الرؤساء المعروفة بالعقاب، وكانت لا يجلسها إلَّا رئيس، فإذا حميت الحرب اجتمعت قريش فوضعت تلك الراية بيد الرئيس. أسلم يوم الفتح، وقال عليه الصلاة والسلام يومئذٍ "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" وشهد حنينًا وأعطى من غنائمها مائة بعير وأربعين أوقية، وزنها له بلال، وأعطى ابنيه يزيد، ومعاوية. وشهد الطائف، وفقئت عينه يومئذٍ وشهد اليرموك، ومات في خلافة عثمان سنة ثلاث وثلاثين ابن بضع وسبعين على أحد الأقوال فيها، وصلى عليه ابنه معاوية وقيل عثمان. ودفن بالبقيع. وممن قتل من أولاده يوم بدر كافرًا ابنه حنظلة، وبه كان يكنى كنيته فانتبه وترجمته موضحة فيما أفردته في الكلام على رجال هذا [الكتاب](3) وكذلك ترجمة هند.
الوجه الثاني: في الكلام على ألفاظه:
(1) بياض بالأصل، وما أثبت من ن هـ.
(2)
بياض بالأصل، وما أثبت من ن هـ.
(3)
زيادة من ن هـ.
قولها: "رجل شحيح" هو مبالغة في الشح، وهو البخل مع حرص، كما قاله الجوهري (1)، يقال: شحيح وشحاح بفتح الشين، وقال القاضي: الشح عندهم في كل شيء فهو [أعم](2) من البخل وقيل: الشح لازم كالطبع.
قال الجوهري: يقول شححت بالكسر أشح يشح وتشح.
واعلم أن هذا الحديث ورد بثلاثة ألفاظ:
إحداها: شحيح.
ثانيها: ممسك.
ثالثها: مسيّك، واختلف في ضبط هذين اللفظين على وجهين:
أحدهما: فتح الميم وتخفيف السين.
وثانيهما: كسر الميم وتشديد السين، وهذا أشهر من روايات المحدثين، والأول أصح عند أهل العربية ومعناها شحيح وبخيل، وكلاهما للمبالغة (3).
قال القرطبي (4): ولم يرد أنه شحيح مطلقًا فتذمه بذلك وإنما وصفت حاله معها، فإنه كان يقتر عليها، وعلى أولادها، كما سلف، وهذا لا يدل على البخل مطلقًا، فقد يفعل الإِنسان هذا مع أهل بيته،
(1) مختار الصحاح (405).
(2)
في ن هـ (الأعم).
(3)
انظر: شرح مسلم (12/ 11).
(4)
المفهم (5/ 159).
لأنه يرى غيرهم أحوج وأولى، فيعطي غيرهم. وعلى هذا فلا يجوز أن يستدل بهذا الحديث على بخله، فإنه لم يكن معروفًا بهذا.
وقوله لها: "خذي" هذا الأمر على جهة الإِباحة بدليل الرواية الأخرى في الصحيح " [لا حرج] (1) عليك أن تنفقي عليهم بالمعروف". [ومعنى بالمعروف](2) القدر الذي عرف بالعادة أنه كفاية، وهذه الإِباحة وإن كانت مطلقة لفظًا فهي مفيدة معنى. كأنه قال: إن صح أو ثبت ما ذكرت فخذي.
الوجه الثالث: في أحكامه وفوائده:
الأولى: وجوب نفقة الزوجة وهو إجماع.
الثانية: أنها مقدرة بالكفاية، وهو قول الشافعي رحمه الله، وله قول ثان أن الاعتبار بالقاضي يجتهد [ويقدر](3) حكاه الرافعي عن صاحب "التقريب"(4)، وعبارة الإِمام في حكايته عنه يقتضي أنه إنما يرجع إلى اجتهاد القاضي في الزيادة على الموفى حق المتوسط وفي نفقة الخادم فقط إلَّا في أصل النفقة، والصحيح في مذهبه أنها مقدرة
(1) في ن هـ ساقطة.
(2)
في ن هـ ساقطة.
(3)
زيادة من ن هـ.
(4)
التقريب شرح على المختصر يستكثر فيه من الأحاديث ومن نصوص الشافعي باللفط لا بالمعنى بحيث يستغني من هو عنده غالبًا عن كتب الشافعي كلها. مؤلفه القاسم بن القفال الكبير الشاسي محمَّد بن علي انظر: طبقات الشافعية لابن شهية (1/ 188).
أقول: سبق كتاب التقريب لنصر بن محمَّد بن نصر المقدسي.
بالأمداد على الموسر كل يوم مدان وعلى المعسر مد وعلى المتوسط مد ونصف. وقال ابن خيران (1) وغيره من أصحابنا: المعتبر عرف الناس في البلد.
وعند أبي حنيفة ومالك: الاعتبار بحال المرأة ويختلف القدر برغبتها وزهادتها. ويقال: النظر عند أبي حنيفة إلى شرفها وحسنها.
وعند أحمد: ينظر إلى حال الزوجين جميعًا، فيجب على الموسر للفقيرة نفقة متوسطة. ومحل الخوض في ذلك كتب الخلاف، وهذا الحديث شاهد للقول منها كما أسلفناه.
الثالثة: وجوب نفقة الأولاد الصغار.
الرابعة: أنها مقدرة بالكفاية، وهو الصحيح عندنا، خلافًا لابن خيران، فإنه قال: إنها [تتقدر بتعدد نفقة الزوجة](2).
الخامسة: جواز سماع كلام الأجنبية عند الإِفتاء والحكم، وكذا ما في معنى ذلك.
السادسة: ذكر الإِنسان بما يكرهه إذا كان للاستفتاء والشكوى
(1) هو الحسن بن صالح بن خيران أبو علي البغدادي، أحد أئمة المذهب، مات في ذي الحجة سنة عشرين وثلاثمائة.
ترجمته في طبقات الشافعية للعبادي (67) شذرات الذهب (2/ 287)، ابن قاضي شهبة (1/ 92).
(2)
في ن هـ (يتقدر نفقة الزوجة).
ونحوهما، وهذا مستثنى [من المنع](1) من الغيبة (2).
السابعة: أن من له على غيره حق وهو عاجز عن استيفائه يجوز له أن يأخذ من له قدر حقه بغير إذنه ومراجعته، وهذا مذهب الشافعي، وأصحابه، وتسمى "مسألة الظفر" ومنع ذلك أبو حنيفة (3) ومالك (4) كما حكاه النووي في "شرحه لمسلم"(5) عنها.
قال القرطبي (6): وهو مشهور مذهب مالك، وحكى غيره عن أبي حنيفة أنه يأخذ جنس حقه، ولا يأخذ غيره إلَّا أنه يأخذ الدراهم بدلًا من الدنانير وبالعكس. وعن أحمد (7) أنه لا يأخذ الجنس ولا غيره. وعن مالك إن لم يكن على المديون دين آخر فله أخذه، وإن كان عليه فلا يأخذ إلَّا قدر حصته. وحكى المازري عن مالك ثلاثة أقوال:
ثالثها: الجواز لمن ظفر بجنس حقه، وإلَّا فلا.
الثامنة: أنه يجوز الأخذ من الجنس ومن غيره، كما هو ظاهر الإِطلاق، والأصح عند أصحابنا أنه لا يأخذ غير الجنس إلَّا إذا تعذر الجنس.
(1) في ن هـ ساقطة.
(2)
انظر: كتاب الأذكار للنووي رحمه الله (292)، وقد سبق التعليق على هذا في (8/ 373) من هذا الكتاب المبارك.
(3)
انظر: فتح القدير (4/ 236)، رد المحتار والدر المختار (3/ 319).
(4)
القوانين الفقهية لابن جزي (359)، الشرح الكبير للدردير (4/ 335).
(5)
(12/ 7).
(6)
المفهم (5/ 161).
(7)
المغني (8/ 254).
التاسعة: جواز إطلاق الفتوى من غير تقييد بثبوت كما [أطلقه](1) عليه الصلاة والسلام.
وإن قلنا بالثاني: فلابد من إذنه.
[الحادية عشرة](2): جواز اعتماد العرف في الأمور التي ليس فيها تحديد شرعي.
الثانية عشرة: جواز خروج الزوجة من بيتها لحاجتها من محاكمة واستفتاء وغيرهما، إذا أذن لها زوجها في ذلك، أو علمت رضاه به (3).
الثالثة عشرة: أن ما يذكر في الاستفتاء لأجل ضرورة معرفة الحكم إذا تعلق به أذى الغير لا يوجب تعزيرًا.
الرابعة عشرة: جواز القضاء على الغائب، كذا استدل به جماعة من أصحابنا، وترجم عليه البخاري (4) في صحيحه، وفيه قولان لأهل العلم:
(1) في الأصل مطموسة، وما أثبتناه من ن هـ.
(2)
هكذا في المخطوط الحادية عشرة. والترقيم خطأ. العاشرة وهكذا إلى آخر الأحكام.
(3)
في ن هـ زيادة: لكن هند خرجت عام الفتح متقدمة على سائر النساء لما نزل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} ، فقال عليه الصلاة والسلام أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئًا فقالت هند: لو أشركنا بالله شيئًا ما دخلنا في الإِسلام إلى أن قال أبايعكن على أن لا تسرقن شيئًا فقالت هند أن أبا سفيان رجل شحيح الحديث، وظاهر هذا السياق يدل على أن خروجها لم يكن للاستفتاء فتنبه له.
(4)
الفتح (13/ 171) ح (7180)، باب: القضاء على الغائب.
أحدهما: لا يقضي عليه بشيء، وهو قول أبي حنيفة وسائر الكوفيين.
وثانيهما: يقضي عليه في حقوق الآدميين دون حقوق الله تعالى. وهو قول الشافعي والجمهور، ذلك أن يمنع الدلالة من هذا الحديث لما نحن فيه، لأن القصة كانت بمكة، وكان أبو سفيان حاضرًا بها، وشرط القضاء على الغائب أن يكون غائبًا عن البلد على الأصح أو مستترًا لا يقدر عليه أو متعذرًا. ولم يكن هذا الشرط في أبي سفيان موجودًا، فلا يكون قضاء على الغائب، بل هو إفتاء، وبهذا كان السؤال على سبيل الاستفتاء لا في معرض الدعوى، وقد يقال قوله عليه الصلاة والسلام لها:"خذي" دال على أنه كان قضاء، إذ لو كان فتوى لقال: لا بأس عليك ونحوه. وقام علمه عليه الصلاة والسلام بأنها زوجته مقام البينة. ويجوز أن يكون مسافرًا وقت سؤالها وترك عندها ما لا يكفيها، ولهذا قالت: لا يعطيني. ولم تقل: ما ينفق عليّ فإن الغالب في حضور الزوج يتولى النفقة بنفسه.
الخامسة عشرة: أنه لا يتوقف أخذ الحق من مال من عليه على تعذُّر الإِثبات عند الحاكم، وهو وجه لأصحابنا، لأن هندًا كان يمكنها الرفع إلى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وأخذ الحق بحكمه.
السادسة عشرة: أن للمرأة ولاية على ولدها من حيث أن صرف المال [على](1) المحجور عليه أو تملكه له يحتاج إلى ولاية،
(1) في ن هـ (إلى).
وفيه نظر، لأن الأب كان موجودًا، إلَّا أن يقال: إن تعذر استيفاء الحق من الأب أو غيره مع تكرر الحاجة دائمًا يجعله كالمعدوم وليس بطائل.
السابعة عشرة: أن القول قول الزوجة في قبض النفقة، كما قاله أصحابنا، لأنه لو كان القول قوله كما قاله مالك لكلفها إثبات عدم الدفع. وأجاب عنه المازري (1) أن ذلك من باب تعليق الفتيا.
الثامنة عشرة: من تراجم البخاري (2) على هذا الحديث من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر الناس إذا لم يخف الظنون والتهمة، وذلك إذا كان أمرًا مشهورًا. وستمر بك المذاهب في المسألة في الحديث الآتي بعد إن شاء الله. واستدل به البيهقي في "سننه"(3) على أن له عليه الصلاة والسلام أن يحكم بعلمه.
التاسعة عشرة: أن النفقة واجبة على الأب كما سلف.
العشرون: أن المرأة لا يجوز لها أن تأخذ من مال زوجها شيئًا إلَّا بإذنه وإن قل، ورواية البخاري (4) "فهل عليّ [من] (5) حرج أن أطعم من الذي له [عيالنا] (6)؟ قال: لا [أراه إلَّا](7) بالمعروف" ولم
(1) المعلم (2/ 404).
(2)
الفتح (13/ 138) ح (7161).
(3)
السنن (10/ 142).
(4)
البخاري (3825)، باب: ذكر هند بنت عتبة رضي الله عنها.
(5)
زيادة من البخاري.
(6)
زيادة من المرجع السابق.
(7)
زيادة من المرجع السابق.
تذكر من تطعم محمولة على باقي الروايات أن المراد نفسها وبنيها. ورواية العيال محمولة على هذا وعلى من يلزمه نفقته من خادم.
الحادي بعد العشرين: أن مال الغير على الغير محظور، لا يجوز التصرف فيه إلَّا بإذن صاحبه أو بأمر شرعي، [واستنبط القاضي حسين منه أيضًا ذكر المرء بالكنية عند العظيم من الناس وجواز الإِمام لا حد الخصمين دون الآخر](1).
(1) زيادة من ن هـ.