الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس
391/ 5/ 74 - عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر"[ثلاثا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "الإِشراك بالله، وعقوق الوالدين"، وكان متكئًا فجلس، فقال: "ألا وقول الزور، وشهادة الزور"، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت](1) " (2).
الكلام عليه من وجوه، واللفظ المذكور للبخاري بنحوه:
أحدها: في التعريف براويه، وقد سلف في الكلام على الحديث قبله، وأنه سلف في باب الربا.
ثانيًا: في معانيه: قوله "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثًا"، معناه قال: هذا الكلام ثلاث مرات وكرره للتأكيد وتنبيه السامع على إحضار قلبه وفهمه لما يخبرهم به. وفَهِمَ الفاكهيُّ من قوله "ثلاثًا" أن المراد به عدد الكبائر وهو عجيب.
(1) في ن هـ ساقطة.
(2)
البخاري (2653)، ومسلم (87)، والترمذي (2301)، وأحمد (5/ 36، 38)، والبيهقي (10/ 156)، والبغوي (1/ 83).
وقوله: "الإِشراك بالله"، يحتمل كما قال الشيخ تقي الدين أن يراد به مطلق الكفر، فيكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود، لاسيما في بلاد العرب، فذكر تنبيهًا على غيره قال [ويحتمل أن يراد به خصوصه، إلَّا أنه يرد على هذا الاحتمال (1) أن بعض الكفر أعظم قبحًا من الإِشراك](2). وهو التعطيل، أي لأنه نفي مطلق، والإِشراك إثبات مقيد، فهذا يرجح الاحتمال الأول.
وقوله: "وعقوق الوالدين"، قد تقدم الكلام عليه في الحديث الثاني من باب الذكر عقب الصلاة فراجعه منه.
وقوله: "وكان متكئًا"، فجلس جلوسه عليه الصلاة والسلام للاهتمام بهذا الأمر، وهو يفيد تأكيد تحريمه وعظم قبحه، وإنما تمنوا سكوته شفقة عليه وكراهية لما يزعجه ويغضبه واهتمامه بأمر شهادة الزور أو قول الزور [يحتمل](3)، كما قال الشيخ تقي الدين (4): أن تكون لأنها أسهل وقوعًا على الناس، والتهاون بها أكثرُ، فمفسدتها أيسر وقوعًا. ألا ترى أن المذكور معها هو الإِشراك بالله، ولا يقع فيه مسلم، وعقوق الوالدين، والطبع صارف عنه. وأما قول الزور فإن الحوامل عليه كثيرة، كالعداوة والحسد وغيرهما فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمها، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها -وهو الإِشراك- قطعًا.
(1) في إحكام الأحكام زيادة (أنه قد يظهر).
(2)
زيادة من ن هـ والمرجع السابق.
(3)
في ن هـ ساقطة.
(4)
إحكام الأحكام (4/ 444).
ويحتمل أن يكون اهتمامه عليه الصلاة والسلام بها لأن مفسدتها متعدية إلى غير الشاهد بخلاف الاشراك فإن مفسدته قاصرة على صاحبه.
وقوله: "وقول الزور شهادة الزور" يحتمل أن يكون من باب ذكر الخاص بعد العام، لأن كل شهادة زور قول زور بخلاف عكسه.
وقال الشيخ تقي الدين: ينبغي أن يحمل قول الزور على شهادة الزور، فإنا لو حمناه على الإِطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقًا كبيرة وليس كذلك، وقد نصَّ الفقهاء على أن الكذبة الواحدة وما يقاربها لا تُسقط العدالة، ولو كانت كبيرة لأسقطت. وقد نص الله تعالى على عظم بعض الكذب. [فقال تعالى] (1):{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (2)، وعِظمُ الكذب ومراتبه متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده، وقد نص في الحديث الصحيح على أن الغيبة والنميمة كبيرة، والغيبة عندي تختلف بحسب المعقول والمغتاب به، فالغيبة بالقذف كبيرة لإِيجابها الحد، ولا تساويها الغيبة بقبح الخلقة مثلاً، أو [نقص](3) الهيئة في اللباس مثلًا، وليس العقوق وقول الزور مساوياً للإِشراك بالله قطعاً إلَّا إذا فعل ذلك معتقداً حله، ومعلوم أن الكافر شاهد بالزور وقائل به.
(1) في الأصل (وقال)، وفي إحكام الأحكام (فقال)، وما أثبت ن هـ.
(2)
سورة النساء: آية 112.
(3)
في إحكام الأحكام (أو قبح بعض).
الوجه الثالث: في فوائده:
الأولى: عِظم الذنوب وانقسامها في ذلك إلى كبير وأكبر، ويلزم منه انقسامها [إلى كبائر وصغائر](1)، فإن أفعل التفضيل يدل على وجود مفضول غالبًا، ويدل عليه أيضًا قوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} (2)[الآية](3)، وقال الشيخ تقي الدين (4) وفي الاستدلال [به](5) على ذلك نظر، لأن من قال "كل ذنب كبيرة"[فالذنوب والكبائر](6) عنده [سواء، دال](7) على شيء واحد، فيصير كأنه قيل: ألا أنبئكم بأكبر [(8)] الذنوب. وعن ابن عباس (9) رضي الله عنهما أن كل ما نهى [الله](10) فهو كبيرة. وظاهر القرآن والحديث. بخلافه، ولعله أخذ "الكبيرة" باعتبار الوضع اللغوي، ونظر إلى عظيم المخالفة [للأجر](11) والنهي وسمى كل ذنب كبيرة، وبهذا المذهب أخذ الأستاذ أبو إسحق الإِسفرائيني، وقال: الذنوب
(1) في ن هـ تقديم وتأخير.
(2)
سورة النساء: آية 31.
(3)
في ن هـ ساقطة.
(4)
حكام الأحكام (4/ 438).
(5)
في المرجع السابق بهذا الحديث.
(6)
بين ن هـ والأصل تقديم وتأخير.
(7)
في إحكام الأحكام (متواردان).
(8)
في الأصل زيادة (الكبائر)، وهي غير موجودة في ن هـ والمرجع السابق.
(9)
في المرجع السابق وعن بعض السلف.
(10)
في المرجع السابق زيادة عز وجل عنه.
(11)
في ن هـ ساقطة، وموجودة في الأصل والمرجع السابق.
كلها كبائر. وحكاه القاضي عياض عن المحققين؛ لأن كل مخالفة فهي بالنسبة إلى جلال الله [تعالى](1) كبيرة، ولهذا قال السلف
رحمة الله عليهم: لا تنظر إلى الذنب، ولكن انظر إلى من عصيت. لكن جمهور السلف والخلف على الأول، وهو مروي عن ابن عباس أيضًا. قال الغزالي في "بسيطه": إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقه، وقد فُهِمَا من مدارك الشرع وقاله أيضًا غير الغزالي بمعناه. ولا شك في كون المخالفة قبيحة جدّا بالنسبة إلى جلال الله تعالى، ولكن بعضها أعظم من بعض، وتنقسم باعتبار ذلك إلى ما تكفره الصلوات الخمس أو صوم رمضان أو الحج أو العمرة أو الوضوء أو صوم عرفة أو صوم عاشوراء، أو فعل الحسنة أو غير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وإلى ما لا تكفره ذلك كما ثبت في الصحيح:"ما لم تغش الكبائر" فسمى الشرع ما تكفره الصلوات ونحوها صغائر وما لا تكفره كبائر [وهذا حسن بالغ](2) ولا يخرجها هذا عن كونها قبيحة بالنسبة إلى جلال الله تعالى،
فمانها صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها، لكونها أقل قبحًا، ولكونها ميسرة التكفير.
الثانية: درجات الكبائر متفاوتة بحسب تفاوت مفاسدها، ولا يلزم من كون هذا أكبر الكبائر استواء رُتبها أيضًا في نفسها، فإن الإِشراك بالله تعالى أعظم الكبائر، ويليه قتل النفس بغير حق، كما نص عليه الشافعي في "مختصر المزني"، واتفق عليه الأصحاب. قال
(1) في ن هـ ساقطة، وما أثبت يوافق شرح مسلم (1/ 84، 85).
(2)
في شرح مسلم (1/ 85)(ولا شك في حسن هذا).
عليه الصلاة والسلام: "لا يزال ابن آدم في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا"(1)، وأما ما سواهما من الزنا واللواط وعقوق الوالدين [والسحر](2) وقذف المحصنات والفرار يوم الزحف وأكل الربا وغير ذلك فلها تفاصيل وأحكام يعرف بها مراتبها، ويختلف أمرها باختلاف الأحوال والمفاسد المرتبة عليها، كما قدمناه وعلى هذا يقال في كل واحدة منها لم هي من أكبر الكبائر، وإن جاء في
موضع هي أكبر الكبائر، كما يقال في أفضل الأعمال.
الثالثة: اختلفوا في أن الكبائر كلها معروفة أم لا؟ على قولين وبالثاني قال الواحدي وجماعات وأنه الصحيح، وإنما ورد الشرع بوصف أنواع من المعاصي بأنها كبائر وأنواع بأنها صغائر وأنواع لم توصف وهي مشتملة على كبائر وصغائر. والحكمة في عدم بيانها أن يكون العبد ممتنعًا من جميعها مخافة أن تكون من الكبائر. وبالأول قال الأكثرون.
ثم اختلفوا في أنها معروفة بعد وضابط [أو](3) بالعدد على قولين وبالثاني قال جماعات وفي الصحيح أنها ثلاث وفي رواية "أربع" وفي أخرى "سبع".
(1) البخاري (6862) عن ابن عمر، ومن رواية ابن مسود في الكبير للطبراني (9071)، قال في الفتح (12/ 188): بسند رجاله ثقات إلَّا أن فيه انقطاعًا.
(2)
زيادة من ن هـ.
(3)
زيادة من ن هـ.
واختلف في عدد [ذلك](1) السبع أوعلى روايات، (2) وهذه الصيغة وإن كانت تقتضي الحصر فهو غير مراد، وإنما وقع الاقتصار
عليها لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها لا سيما فيما كانت عليه الجاهلية، ولم يذكر في بعضها ما ذكر في الأخرى، وذلك ظاهر في إرادة البعض، ويكون التقدير من الكبائر، ولهذا ثبت في الصحيح "إن من [أكبر] الكبائر شتم الرجل والديه"(3)، وإن منها عدم الاستبراء من البول، وإن منها النميمة. وجاء أن منها اليمين الغموس واستحلال بيت الله الحرام. وقد ذكر أصحابنا جملة مستكثرة. منها في الشهادات وتبعتهم في "شرح التنبيه". وروي عن ابن عباس أنه سئل عن الكبائر أسبع هي فقال: هي إلى السبعين، ويروى إلى سبعمائة أقرب.
والقول الثاني: أنها معروفة بعد وضابط واختلف فيه على آراء:
منها: ما روي عن ابن عباس أنه كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب.
ونحو هذا عن الحسن البصري.
ومنها: أنها ما أَوْعَدَ الله عليه بنارٍ أو حد في الدنيا.
(1) في ن هـ (تلك).
(2)
زيادة ن هـ.
(3)
البخاري (5973)، ومسلم (90)، وأبو داود (5141)، والترمذي (1902)، أحمد (2/ 195)، البغوي في السنة (3427). من رواية ابن عمرو وما بين القوسين زيادة من البخاري وبدل (شتم)(سب).
ومنها: عن ابن مسعود وإبراهيم النخعي هي جميع ما نهى الله عنه من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها. وهي: "إن تجتنبوا".
ومنها: أنها كل ما قرن به وعيد أو لعنة أو حد فتغيير منار الأرض كبيرة لاقتران اللعن به. وكذا قتل المؤمن لاقتران الوعيد به، والمحاربة والزنا والسرقة والقذف كبائر لاقتران الحدود بها واللعنة ببعضها.
ومنها: ما قاله الغزالي في "بسيطه" أنها كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار وخوف وحذر وندم كالمتهاون بارتكابها والمتجرىء عليها اعتيادًا؛ في أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة، وما يحمل على فلتات النفس وفترة مراقبة التقوى ولا ينفك عن ندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية فهذا لا يمنع العدالة، وليس هو بكبيرة.
ومنها ما قاله ابن الصلا في "فتاويه"(1) أنها كل ذنب وعظم عظمًا يصح معه أن يطلق عليه اسم الكبير ووصف بكونه عظميًا على الإِطلاق.
ولها أمارات [(2)] منها: إيجاب الحد.
ومنها: الإِيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة.
(1) الفتاوى لابن الصلاح (148).
(2)
في الأصل زيادة واو، وما أثبت من ن هـ، ويوافق شرح مسلم (1/ 85).
ومنها: وصف فاعلها بالفسق.
ومنها: اللعن.
ومنها: ما قال ابن عبد السلام في "قواعده"(1) إذا أردت الفرق بينهما فأعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر [المنصوص عليها؛ فإن نقصت عن أقلّ مفاسد الكبائر فهي من الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر](2) وأَرْبَتْ عليها فهي من الكبائر فمن شتم الرب سبحانه وتعالى أو رسوله أو استهان بالرسل أو كذب واحدًا منهم أو ضمَّخ الكعبة بالقذرة أو ألقى المصحف في القاذورات فهذا من أكبر الكبائر ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة (3)، وكذلك لو أمسك امرأة محصنة [ثم زنى](4) بها أو مسلمًا [ثم](5) يقتله فلا شك أن مفسدة ذلك أعظم من مفسدة [(6)] مال اليتيم مع كونه من الكبائر، وكذلك لو دل الكفار على عورة [المسلمين](7) مع علمه بأنهم يستأصلون بدلالته ويَسْبُون حرمهم وأطفالهم، ويغنمون أموالهم، فإن تسببه إلى هذه المفاسد أعظم من توليه يوم الزحف بغير عذر مع كونه من
(1) قواعد الأحكام (19).
(2)
زيادة من ن هـ، والمرجع السابق، وشرح مسلم (1/ 86).
(3)
مراد المؤلف -رحمنا الله وإياه-: أنه لم يرد نص خاص في هذا ومع ذلك فهو من أكبر الكبائر.
(4)
في المراجع السابقة (لمن يزني).
(5)
في المراجع السابقة (لمن).
(6)
في المراجع السابقة زيادة (أكل).
(7)
في ن هـ (المسلم)، وما أثبت يوافق المراجع السابقة.
الكبائر، وكذلك لو كذب على إنسان كذبًا يعلم أنه يقتل بسببه [أما إذا كذب عليه كذبًا] (1) يؤخذ منه بسببه تمرة فليس كذبه من الكبائر؛ قال: وقد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر. فإن وقعا في مال خطير (2) فظاهر، وإن وقعا في حقير [(3)] فيجوز أن يجعلا من الكبائر فطامًا عن هذه المفاسد، كما جعل شرب قطرة من خمر من الكبائر وإن لم تتحقق المفسدة، ويجوز أن يضبط ذلك بنصاب السرقة. قال: والحكم بغير الحق كبيرة، فإن شاهد الزور متسبب [فيه](4)، والحاكم مباشر، فإذا جعل التسبب كبيرة. فالمباشرة [أولى] (5) (6) قال: وقد ضبط بعض العلماء] الكبائر فإنها كل ذنب قرن به وعيد أو حدّ أو لعن، فعلى هذا كل ذنب علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به الوعيد أو الحد أو اللعن أو أكبر من مفسدته فهو كبيرة (7). ثم قال: الأولى أن تضبط الكبيرة بما يشعر بها ومن مرتكبها في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها. قالوا:
(1) في كتاب القواعد (ولو كذب على إنسان كذبًا يعلم أنه).
(2)
في المرجع السابق زيادة (فهذا).
(3)
في كتاب القواعد (كزبيبة وتمرة فهذا مشكل).
(4)
في ن هـ ساقطة، وفي كتاب القواعد (متوسل وفي شرح مسلم يوافق ن هـ.
(5)
في القواعد (فالمباشرة أكبر من تلك الكبيرة).
(6)
أسقط من كتاب القواعد قرابة صفحة وما أثبت يوافق نقله من شرح مسلم.
(7)
في أول ص 21 وما بعده في نهاية ص 22، من القواعد، وما أثبت يوافق نقله من شرح مسلم.
وهذا سببه بإخفاء ليلة القدر وساعة يوم الجمعة وساعة إجابة الدعاء في الليل واسم الله الأعظم ونحو ذلك مما أُخفي واعترض الشيخ
تقي الدين (1) فقال: سلك بعض المتأخرين طريقًا في معرفة الفرق بينها فأعرض مفسدة الذنب فذكره إلى قوله مع كونه من الكبائر،
وعنى به الشيخ عز الدين وهذا الدي قاله عندي داخل فيما نص عليه الشرع بالكفر إن جعلنا المراد بالإِشراك بالله مطلق الكفر على ما
سلف، ولا بد مع هذان أمرين:
أحدهما: أن المفسدة لا تؤخذ مجردة عما يقترن بها من أمر آخر. فإنه قد يقع الغلط في ذلك. ألا ترى أن السابق إلى الذهن أن مفسدة الخمر السكر وتشويش العقل، فإن أخذنا هذا بمجرده لزم منه أن لا يكون من شرب القطرة الواحدة كبيرة [(2)] لأنها -وإن خلت عن المفسدة المذكورة- إلَّا أنه يقترن بها مفسدة التجريء على شرب الخمر الكبير الموقع في المفسدة، فبهذا الاقتران تصير كبيرة.
الثاني: أَنا إذا سلكنا هذا المسلك فقد تكون مفسدة بعض الوسائل إلى بعض الكبائر مساوية لبعض الكبائر، أو زائدة عليها، فإن من أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها، أو مسلمًا معصومًا لمن يقتله، فهو كبيرة أعظم مفسدة من أكل مال الربا، أو أكل مال اليتيم، وهما منصوص عليهما. وكذلك لو دل على عورة من عورات المسلمين تُفضي إلى قتلهم وسبي ذراريهم، وأخذ أوالهم، كان
(1) إحكام الأحكام (4/ 441).
(2)
في المرجع السابق (لخلائها عن المفسدة المذكورة، لكنها كبيرة).
ذلك أعظم من فراره يوم الزحف [والفرار من الزحف](1) منصوص عليه دون هذه. وكذلك نفضل على هذا القول الذي حكيناه من أن الكبيرة ما رتب عليها اللعن، أو الحد، أو الوعيد. فتعتبر المفاسد بالنسبة إلى ما رتب عليه شيء من ذلك، فما ساوى أقلها فهو كبيرة، وما نقص عن ذلك فليس بكبيرة.
تذنيب: الإِصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة، وقد روي عن عمر وابن عباس وغيرهما "لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار"، ومعناه أن الكبيرة تمحى بالاستغفار، والصغيرة تصير كبيرة بالإِصرار، قال الشيخ عز الدين في ["قواعده"](2) والإِصرار أن يتكرر منه الصغيرة تكرارًا يشعر بقلة مبالاته بدينه إشعار ارتكاب الكبيرة، بذلك، قال: وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يشعر مجموعها بما يشعر به أصغر الكبائر.
وقال ابن الصلاح في "فتاويه" الإِصرار التلبس بضد التوبة باستمرار العزم على المعاودة. [واستدامة](3) الفعل بحيث يدخل (4)
به في حيز ما يطلق عليه الوصف بصيرورته كبيرًا [(5)] عظيمًا وليس [لزمان](6) ذلك وعدده حصر.
(1) في ن هـ ساقطة.
(2)
في الأصل ساقطة، وما أثبت من ن هـ. انظر: قواعد الأحكام (22، 23).
(3)
في الفتاوى (أو باستدامة)، وأيضًا في شرح مسلم.
(4)
في المراجع السابقة زيادة (ذنبه).
(5)
في الفتاوى (واو).
(6)
في المخطوط (لزمك)، وما أثبت من الفتاوى.
الرابعة. العقوق مأخوذ من العق وهو القطع وعدم وصله الرحم. قال صاحب (المحكم)(1): رجل عُقَقٌ وعُقُق وعَقٌ وعاقٌّ بمعنى واحد وهو الذي شق عصى الطاعة لوالديه وقد أسلفنا الكلام على هذه المادة في الحديث الثاني من باب الذكر عقب الصلاة كما سلف في الباب الإِشارة إليه.
وأما حقيقة العقوق المحرم شرعًا [فقل](2) من ضبطه وضبط الواجب [والمحرم](3) من [الطاعة لها والمحرم](4) من العقوق لهما فيه عسر ورتب العقوق مختلفة، وقد قال الشيخ عز الدين (5) كما حكيناه عنه ثم لم أقف في عقوق الوالدين ولا فيما يختصان به من الحقوق على ضابط أعتمد عليه، فإنه لا يجب طاعتهما في كل ما يأمران به ولا في كل ما ينهيان عنه باتفاق العلماء، أي وإنما طاعتهما تبع لطاعة الشرع، لهذا قال عليه الصلاة والسلام: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، وقال: "إنما الطاعة في المعروف" (6)،
(1) لسان العرب، مادة (علق).
(2)
في ن هـ (قل)، وما أثبت يوافق شرح مسلم.
(3)
زيادة من ن هـ.
(4)
في ن هـ ساقطة.
(5)
القواعد (20).
(6)
هذا وما قبله جزء من حديث علي رضي الله عنه، ولفظه:"أحسنتم لا طاعة لبشر في معصية الله إنما الطاعة في المعروف"، وفي لفظ:"لا طاعة في معصية الله جلّ وعلا".
البخاري (4347)، ومسلم (1074)، والنسائي (7/ 109)، وأبو داود (2625)، وأحمد (1/ 84، 94، 124).
وقد حرم على الولد الجهاد بغير إذنهما (1) لما يشق عليهما من توقع قتله أو قطع عضو من أعضائه، وقد ساوى الولدان الرقيق في النفقة والكسوة والسكن. وقال ابن الصلاح في "فتاويه"(2) العقوق المحرم كل فعل يتأذى به الوالد أو نحوه تأذيًا ليس بالهين مع كونه ليس من الأفعال الواجبة، قال: وربما قيل: طاعة الوالدين واجبة في كل ما ليس بمعصية، ومخالفة أمرهما [في ذلك] (3) عقوق. وقد أوجب كثير من العلماء طاعتهما في الشبهات. قال: وليس قول من قال من علمائنا يجوز له السفر في طلب العلم، وفي التجارة بغير إذنهما مخالفًا لما ذكرته، فإن هذا كلام مطلق، وفيما ذكرته بيان لتقييد ذلك المطلق، ونقل الغزالي عن أكثرُ العلماء وجوب طاعتهما في الشبهات. وقال الطرطوشي (4): إذا نهياهُ عن سنَّة راتبة المرة بعد المرة أطاعهما وإن كان ذلك على الدوام فلا، لما فيه من إماتة الشرائع. وقال الشيخ تقي الدين (5) القشيري: الفقهاء قد ذكروا
(1) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلًا هاجر إلى النبي - صلي الله عليه وسلم - من اليمن قال: "هل لك أحد باليمن؟ "، قال: أبواي. قال: "أذنا لك؟ "، قال: لا، قال:"فأرجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلَّا فبرهما".
أخرجه أبو داود (2530)، والحاكم (2/ 103)، وأحمد (3/ 75، 76)، والبيهقي (9/ 26).
(2)
في الفتاوى (201).
(3)
في المرجع السابق زيادة (كل).
(4)
بر الوالدين (155).
(5)
إحكام الأحكام (4/ 443).
صورة جزئية، وتكلموا فيها منثورة، لا يحصل منها ضابط كلي، فليس يبعد أن يسلك في ذلك ما أشرنا إليه في الكبائر، وهو أن تقاس المصالح في طرف الثبوت بالمصالح التي وجبت لأجلها، والمفاسد في طرف العدم بالمفاسد التي حرمت لأجلها.
الخامسة: أن عقوق الوالدين أكبر الكبائر، ولا شك في عظم مفسدته لعظم حق الوالدين.
السادسة: تحريم الإِشراك بالله تعالى وهو كفر بالإِجماع.
السابعة: انقسام الكبائر إلى كفر وغيره.
الثامنة: الاهتمام بذكر الشيء للتنبيه على وعيه ومنعه.
التاسعة: تحريم شهادة الزور في معناها كل ما كان زورًا من لبس وشبع وتعاطي أمرٍ ليس هو له أهلًا.
العاشرة: التحريض على مجانبة الذنوب.
[الحادية عشرة](1): الشفقة على الكبار من أهل العلم والدين وتمني عدم غضبهم.
(1) في الأصل (الثانية عشرة)، وما أثبت من ن هـ.