الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
78 - باب الأشربة
ذكر فيه رحمه الله ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول
407/ 1/ 78 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر قال على منبر رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "أما بعد، أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة من [العنب] (1) والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر: ما خامر العقل ثلاث، وددت أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - كان عهد إلينا فيهن عهدًا ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا"(2).
(1) في الأصل (العم)، وما أثبت من ن هـ وإحكام الأحكام.
(2)
البخاري (5581)، ومسلم (3032)، والترمذي (1874)، وأبو داود (3669)، والنسائي (8/ 295)، وابن الجارود (852)، والبغوي (3011)، والبيهقي (8/ 288، 289)، وعبد الرزاق (10570، 17051)، وابن أبي شيبة (8/ 105)، والدارقطني (4/ 248، 252).
الكلام عليه من وجوه:
اْحدها: في التعريف براويه، وقد سلف أول الكتاب، وولده سلف في باب الاستطابة، وهذا الحديث ذكره البخاري هنا، ومسلم في آخر صحيحه في التفسير.
الثاني في ألفاظه: "المنبر" سلف الكلام عليه في باب الجمعة. و"أما بعد" سلف الكلام عليه في الخطبة.
وقوله: "أيها الناس" الأصل: يا أيها الناس، فحذف حرف النداء، وهو أحد المواضع التي يجوز فيها حذف حرف النداء، والنعت هنا نعت لا يستغني عنه، وهو أيضًا أحد المواضع التي يلزم فيها النعت وجوبًا.
وقوله: "إنه نزل تحريم الخمر" يريد والله أعلم قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ
…
} (1) الآية، وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ
…
} (2) الآية، والإِجماع قائم الآن على تحريم الخمر العنبي والني وكانت تشرب في أول الإِسلام، لكن هل هو لاستصحاب حكمها في الجاهلية، أم لشرع ورد في إباحتها؟ فيها وجهان: رجح الماوردي (3) الأول ووجه الثاني، قوله تعالى:{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} (4)، أي: ما يسكر، قاله ابن عباس (5) وغيره.
(1) سورة المائدة: آية 90.
(2)
سورة المائدة: آية 91.
(3)
الحاوي الكبير (17/ 265).
(4)
سورة النحل: آية (67).
(5)
تفسير الطبري (8/ 134، 135)، تفسير ابن كثير (2/ 575).
ثم حرمت في آيات: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ} (1)، {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (2)، {إِنَّمَا الْخَمْرُ} (3)، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ} (4)، إلى قوله:{بَطَنَ} .
ووقع التحريم بالأولى (5) عند الحسن البصري وبالثالثة عند الأكثرين، ولما قدم الدارميون من تخمر في ربيع الأول سنة سبع من الهجرة وكانوا عشرة أنفس. هانئ بن حبيب، الفاكة بن النعمان، وجبلة بن مالك، وأبو هند بن برة وأخوه الطيب بن برة، وتميم بن أوس، ونعيم بن أوس، وزيد بن قيس، وعروة بن مالك وأخوه مرة بن مالك. أهدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال عليه الصلاة والسلام:"إن الله قد حرم الخمر"، فسألوه عن بيعها، فقال:"إن الذي حرم شربها حرم بيعها".
وبسبب نزول الآية الأولى من الآيات الأربعة فيما ذكره المفسرون أن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وجماعة من الأنصار ساْلوا رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، وقالوا أفتنا في الخمر والميسر، فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال، فنزلت الآية فتركها قوم للإِثم، وشربها قوم لقوله:{وَمَنَافِعُ} إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعامًا فدعا ناسًا من أصحاب رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، وآتاهم بخمر، فشربوا، وسكروا،
(1) سورة البقرة: آية 219.
(2)
سورة البقرة: آية 43.
(3)
سورة البقرة: الآيتان 90 ، 91.
(4)
سورة الأعراف: آية 33.
(5)
أي بالآية الأولى.
فحضرت صلاة المغرب، فقدموا بعضهم ليصلي بهم فقرأ:"قل يا أيها الكافرون، أعبد ما تعبدون" هكذا إلى آخر السورة بحذف "لا" فأنزل الله الآية الثانية السالفة، فحرمت في أوقات الصلاة، فتركها قوم، وقالوا: لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة. وتركها قوم في أوقات الصلاة، وشربوها في غير حين الصلاة حتى كان الرجل يشرب بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال منه السكر، ويشرب بعد الصبح فيصحوا إذا جاء الظهر. واتخذ غسان بن مالك طعامًا ودعا رجالًا من المسلمين منهم سعد بن أبي وقاص، وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا منه، وشربوا حتى أخذت منهم، ثم إنهم افتخروا عند ذلك، وانتسبوا، وتناشدوا الأشعار، وأنشد سعد قصيدة فيها هجاء الأنصار وفخر لقومه، فأخذ رجل من الأنصار لحي البعير فضرب به رأس سعد فشجع فرضخه.
فانطلق به سعد إلى رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، فشكا إليه الأنصاري، فقال عمر: اللهم بين لنا رأيك في الخمر بيانًا شافيًا. فأنزل الله الآية الثالثة السالفة، وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام. والأحزاب سنة أربع. وقيل: خمس فقال: عمر انتهينا يا رب (1).
قال أنس: حرمت ولم يكن للعرب عيش أعجب منها، وما حرم عليهم شيء أشد منها.
وقال ابن دحية في كتابه "وهج الخمر في تحريم الخمر" كان تحريمها في السنة الثالثة بعد أحد، وفي هذه الآية أعني -الثالثة -
(1) انظر: تفسير الطبري (2/ 362)(4/ 95)(5/ 32).
عشرة أدلة على التحريم منها. وصفها بأنها "رجس من عمل الشيطان"(1) الرجس المحرم بدليل قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} ، إلى قوله:{فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (2).
وضمها إلى الميسر والأنصاب والأزلام (3).
ورجا الفلاح (4): باجتنابها وإرادة الشيطان إيقاع العداوة بين
(1) الرجس فيه أربعة أوجه:
أحدها: السخط.
والثاني: شر.
والثالت: إثم.
والرابع: حرام.
وأصل الرجس: المستقذر، والممنوع منه، فعبر به عن ذلك لكونه ممنوعًا منه.
(2)
سورة الأنعام: آية 145.
(3)
الأنصاب والأزلام فيهما قولان:
أحدهما: أن الأنصاب، الأصنام التي تعبد. و"الأزلام"، قداح من خشب يستقسم بها.
والثاني: أن الأنصاب، حجارة حول الكعبة كانوا يذبحون عليها. و "الأزلام" تسع قداح ذوات أسماء حكاها الكلبي. ويستقمون بها في أمورهم، ويجعلون لكل واحد منها حكمًا.
ثم قال: "فاجتنبوه" يحمل وجهين.
أحدهما: فاجتنبوا الرجس أن تفعلوه.
والثاني: فاجتنبوا الشيطان أن تطيعوه.
(4)
في قوله تعالى: {لعلكم تفلحون} فيه وجهان:
أحدهما: تهتدون، والثاني: تسلمون.
المؤمنين بسببها. وإرادة إيقاع البغضاء بها (1). وصدها عن ذكر الله، وعن الصلاة (2) وكونها من عمل الشيطان (3) وإرادة الشيطان لما يترتب عليها، ومجرده يقتضي تحريمها واستفهام الانتهاء عنها بهل (4)، وهو يقتضي البلاغة في النهي واللطف في طلب النهي، ويتضمن ذلك فضل الباري علينا في جميع الوجوه، وهذا إبلاغ في الوعيد ونهاية في التهديد. فتحريمها الآن معلوم من الدين بالضرورة، ومن أحلها كفر بإجماع.
وقوله: "وهي من خمسة": الظاهر أن هذه الواو عاطفة للجملة على التي قبلها، والمعنى على أنه أخبر أن الخمر يكون لنا من خمسة أشياء، ويجوز أن تكون "واو" الحال والمعنى نزل تحريم الخمر في حال كونها تعمل من خمسة أشياء، فلا يقتصر عليها، بل غيرها مما
(1) وذلك بحضور الشر والتنافر لحدوث السكر وغلبة القمار.
(2)
فيه وجهان:
أحدهما: أن الشيطان يصدكم عنه.
والثاني: أن سكر الخمر يصدكم عن معرفة الله وعن الصلاة. وطلب الغلبة في القمار يشغل عن طاعة الله، وعن الصلاة.
(3)
أي: مما يدعو إليه الشيطان ويأمر به؛ لأنه لا يأمر إلَّا بالمعاصي، ولا ينهى إلَّا عن الطاعات.
(4)
في قوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} فيه وجهان:
أحدهما: منتهون عما نهى عنه من الخمر والميسر، والأنصاب والأزلام، فأخرجه مخرج الاستفهام وعيدًا وتغليظًا.
والثاني: فهل أنتم منتهون عن طاعة الشيطان فيما زينة لكم من ارتكاب هذه المعاصي. اهـ. وما سبق من الحاوي (19/ 274، 274).
في معناها ملحق به، ولهذا قال بعد: والخمر ما خامر العقل، وقال ذلك في خطبته بمشهد من الصحابة وغيرهم، وأقروه ولم ينكروا
عليه، فصار إجماعًا.
وقوله: "والخمر ما خامر العقل"، أي: غطاه، وهو مجاز تشبيه من باب تشبيه المعنى بالمحسوس.
و"العقل" هو آلة التمييز، فلذلك حرّم ما خامره؛ لأن به يزول الإِدراك الذي طلبه الله تعالى من عباده، ليقوموا بحقوقه.
وقوله: "عهد إلينا فيهن عهدًا ننتهي إليه".
إنما رد ذلك لأنه أبعد عن محذور الاجتهاد، وهو الخطأ على تقدير وقوعه، وإن كان مأجورًا عليه أجرًا واحد بخلاف النص، فإنه
إصابة محضة.
وقوله: "الجد" يريد ميراثه، وقد كان للسلف فيه خلاف كثير، ومذهب الصديق أنه كالأب عند عدمه. وقال عمر: قضيت في الجد بسبعين قضية لا ألوي في واحدة منها عن الحق، وكان السلف يحذرون من الخوض في مسائله وفي حديث روي، مرفوعًا، وموقوفًا وهو الصواب "أَجْرَأُكُم على قَسْمِ الجدَّ أجرأكم على النار".
وقوله: "والكلالة" اختلف الناس فيها على خمسة أقوال، ذكرتها في "شرحي لفرائض الوسيط". وذكرت فيه عن الجمهور أنه القريب الوارث الذي ليس باب ولا ابن، وذكرت فيه هناك حديثين صحيحين. وآية الكلالة نزلت على النبي - صلي الله عليه وسلم - وهو في طريق مكة في حجة الوداع، وتسمى آية الصيف.
وقوله: "وأبواب من أبواب الربا"، أي: فإن تفاصيله كثيرة وللاشتباه يقع فيه كثيرًا.
الوجه الثالث: في أحكامه.
الأول: الخطبة على منبر.
الثاني: ذكر "أما بعد" فيها.
الثالث: "التنبيه" بالنداء.
الرابع: ذكر الدليل على المقصود فيها.
الخامس: تحريم الخمر.
السادس: إلحاق ما عداها من المسكر بها، سواء في ذلك نبيذ التمر والزبيب والعسل والحبوب وأنواع ذلك جميعه مما ينبذ. وهذا
مذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير العلماء سلفًا وخلفًا.
وقال قوم من أهل البصرة: إنما يحرم عصير العنب ونقيع الزبيب النيء، فأما المطبوخ منهما والنيء والمطبوخ مما سواهما فحلال ما لم يشرب ويسكر. وقال أبو حنيفة: إنما يحرم عصير ثمرات النخل والعنب. قال: فسلاقة العنب يحرم قليلها وكثيرها إلَّا أن يطبخ حتى ينقص ثلثاها. قال: وأما نقيع التمر والزبيب فيحل مطبوخهما وإن مسته النار شيئًا من غير اعتبار لحد، كما اعتبر في سلاقة العنب. قال: والنيء منه حرام، ولكن لا يحد شاربه. هذا كلامه ما لم يشرب ويسكر فإن سكر فهو حرام بالإِجماع.
واحتج الجمهور: بأن الله تعالى نبه على أن علة تحريم الخمر
كونها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذه العلة موجودة في جميع السكرات، فوجب طرد الحكم في جميع محاله، وأورد على هذا بأنه إنما يحصل المعنى في الإِسكار، وهو مجمع على تحريمه.
وأجيب: بأنا أجمعنا على تحريم عصير العنب وإن لم يسكر، وقد علل الله سبحانه تحريمه بما سبق، فإذًا ما سواه في معناه، ووجب طرد الحكم في الجميع، ويكون المحرم الجنس المسكر، وعلل بما يحصل من الجنس في العادة.
قال المازري: وهذا الاستدلال آكد مما يستدل به في هذه المسألة. قال: ولنا في الاستدلال طريق آخر، وهو أن نقول إذا شرب سلاقة الخمر عند اعتصارها، وهي حلوة لم يسكر فهو حلال بالإِجماع، فإن اشتدت وأسكرت. حرمت بالإِجماع، فإن تخمرت
من غير تخليل آدمي حلت، فنظرنا إلى تبدل هذه الأحكام، ويحددها عند تحدد صفات تبدلها، فأشعرنا ذلك بارتباط الأحكام بهذه
الصفة، وقام ذلك مقام التصريح بالنطق، فوجب جعل الجميع سواء في الحكم.
واحتجوا أيضًا من السنة. بهذا الحديث وبحديث عائشة الآتي بعده. وبالحديث الآخر الصحيح: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام"(1)، وغير ذلك من الأحاديث.
(1) من رواية ابن عمر أخرجه مسلم (2003)، وأبو داود (3679)، والترمذي (1186)، والنسائي (8/ 296، 297)، والبيهقي (8/ 288)، والدارقطني (4/ 248)، وأحمد في كتاب الأشربة (26، 102).
قال ابن عبد البر (1): لا خلاف في الأخذ بقوله عليه الصلاة والسلام: "كل مسكر حرام"، واختلفوا في تأويله: هل المراد الجنس والقدر؟
فالجمهور: أنه الجنس قل أو كثر.
وقال: قال أهل العراق، القدر المسكر. ومنطقهم به ضعيف، ورأيهم فيه سخيف.
وقال البزار والنسائي والعقيلي وغيرهم: المروي في هذا الباب عن ابن عباس وعلي وأبي سعيد الخدري وغيرهم من قوله: [حرمت الخمر لعينها والمسكر من غيرها](2) رجاله بين ضعيف ومتروك ومجهول.
السابع: التنبيه على شرف العقل وفضله.
الثامن: رد الإِنسان للخير وعدم الاشتباه والبيان الواضح لعدم وقوع الاختلاف وإرادة الوفاق.
التاسع: إبراز ذلك وإيضاحه للناس.
العاشر: أن المعتبر في الأحكام الشرعية مفاهيم الصحابة ولغاتهم، فإن الكتاب نزل بلغتهم.
(1) التمهيد (1/ 256 ، 257).
(2)
لفظ الحديث من رواية ابن عباس في سنن النسائي الكبرى (3/ 333):
(أ)(حرمت الخمر قليلها وغيرها والسكر من كل شراب).
(ب)(حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب).
(ج)(حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب) لم يذكر ابن الحكم قبلها وكثيرها.
الحادي عشر: قال الخطابي (1) أبيه القياس وإلحاق حكم الشيء بنظيره.
الثاني عشر: قال: فيه دليل أيضًا على جواز إحداث الاسم للشيء من طريق الاشتقاق بعد أن لم يكن.
(1) معالم السنن (5/ 258).