الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
389/ 3/ 74 - عن أم سلمة رضي الله عنها "أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم، فقال: "ألا إنما أنا بشرٌ، وإنما يأتين الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق، فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من [النار](1) فليحملها أو يذرها" (2).
الكلام عليه من وجوه:
الأول: في التعريف براويه، وقد سلف في باب الجنابة.
الثاني: في ألفاظه ومعانيه: -الجلبة- بفتح الجيم واللام، وفي رواية في الصحيح "لجبة" بتقديم اللام على الجيم مع فتحها،
(1) في متن عمدة الأحكام (نار).
(2)
البخاري (2458)، ومسلم (1713)، والنسائي (8/ 233)، والترمذي (1339)، وابن ماجه (2317)، ومالك (2/ 719)، وأحمد (6/ 203، 290، 307)، والدارقطني (4/ 239)، والبيهقي (10/ 143، 149)، وابن الجارود (999، 1000)، وابن أبي شيبة (7/ 233)، والبغوي (2506).
وهما لغتان فصيحتان، ومعناها: اختلاط الأصوات، يقال: منه جلّبوا بالتشديد.
و"الخصم" معروف يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، لأنه في الأصل مصدر، ومن العرب من يثنيه ويجمعه، فيقول: خصمان وخصوم.
و"الحجرة" بضم الحاء وسكون الجيم وجمعها حجر وحجرات، وهذه الحجرة هي بيت أم سلمة رضي الله عنها، كما جاء في رواية أخرى في الصحيح "بباب أم سلمة".
و"البشر" الخلق سمي بذلك لظهور بشرته دون ما عداه من الحيوان.
وقوله: "إنما أنا بشر"، معناه التنبيه على حالة البشرية، وأن البشر لا يعلمون من الغيب وبواطن الأمور شيئًا، إلَّا أن يطلعهم الله تعالى على شيء من ذلك، وأنه يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز عليهم، وأنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر، والله يتولى السرائر، فيحكم بالبينة وباليمين ونحو ذلك من أحكام الظاهر مع إمكان كونه في الباطن على خلاف ذلك، ولكنه إنما كلف بالظاهر.
وهذا نحو قوله عليه الصلاة والسلام: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلَّا الله. فإذا قالوها عصموا مني دماءَهم وأموالهم إلَّا بحقها، وحسابهم على الله"، وقوله في حديث المتلاعنين "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن"، ولو شاء الله لأطلعه على باطن أمر الخصمين، فحكم بيقين نفسه من غير حاجة إلى شهادة ويمين، كما أطلعه على مغيبات وصارت في حقه معجزات، ولكن لما أمر الله
تعالى أمته باتباعه والاقتداء بأقواله وأحكامه أجرى له حكمهم في عدم الاطلاع على باطن الأمور. ليكون حكم الأمة في ذلك حكمه، ولهذا قال:"إنما أنا بشر" لأجل خطابه لهم وإلَّا فالغيب لا يعلمه من في السموات والأرض إلَّا الله، ولعله إنما عبر به دون غيره من الألفاظ امتثالًا لقول الله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ، فأجرى الله تعالى أحكامه على الظاهر الذي يستوي فيه هو وغيره، ليصح الاقتداء به، وتطيب نفوس العباد للانقياد للأحكام الظاهرة من غير نظر إلى الباطن.
وهذا الحديث وإن كان ظاهره يقتضي أنه قد يقع منه حكم في الظاهر مخالف للباطن، وقد اتفق الأصوليون على أنه عليه الصلاة والسلام لا يقر على خطأ في الأحكام، فلا مخالفة بينها، لأن مراد الأصوليين ما حكم فيه بالاجتهاد فهل يجوز أن يقع فيه خطأ؟ والأكثرون على الجواز، لكن لا يقر عليه، بل يُعلمه الله تعالى به، ويتداركه.
ومراد الحديث ما حكم فيه بغير اجتهاد كالبينة واليمين، فهذا إذا وقع منه ما يخالف ظاهره باطنه لا يسمى الحكم خطأ، بل هو صحيح بناء على ما استقر به التكليف وهو وجوب الحكم بشاهدين مثلًا، فإن كانا شاهدي زور أو نحو ذلك فالتقصير منهما وممن ساعدهما، وأما الحاكم فلا حيلة له في ذلك، ولا عيب عليه بسببه، بخلاف ما إذا أخطأ في الاجتهاد، فإن هذا الذي حكم به ليس هو حكم الشرع، وإن كان يثاب على اجتهاده ويؤجر، وأبى بعض الشرّاح هذا، وقال: هو معصوم فلا يقع منه حكم بخلاف ما هو عليه
في نفس الأمر، وإنما قال ذلك تحذيرًا وتخويفًا لأمته أن يقع أحد منهم في شيء من ذلك.
ومعنى "أبلغ" أكثر بلاغة وإيضاحًا لحجته.
وفي رواية أخرى قال: في الصحيح "ألحن" بدل "أبلغ" ومعناهما، واحد، أي: أفصح وأفطن.
وقوله: "فمن قضيت له بحق مسلم"، هذا التقييد خرج على الغالب، وليس المراد به الاحتراز من الكافر فإن مال الذمي والمعاهد والمرتد في هذا كمال المسلم.
وقوله: "فإنما هي" هذا الضمير يعود إلى القضية أو الحالة هذه، وفي رواية أخرى في الصحيح:"فإنما أقطع له قطعة من النار"، والمعنى من قضيت [له](1) بظاهر يخالف الباطن فهو حرام [يزُل به في](2) النار، وهذا مَثَلٌ يُفهم منه شدة العذاب والتنكيل.
وقوله: "فليحملها أو يذرها" لفظه لفظ الأمر، ومعناه التهديد والوعيد، كقوله تعالى:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (3). وكقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (4)، وليس المراد التخيير بين الفعل والترك، إذ العامل لا يختار الهلاك على النجاة باستمراره على الباطل، بل يختار النجاة بتركه.
(1) زيادة من ن هـ.
(2)
في ن هـ (يؤول به إلى).
(3)
سورة الكهف: آية 29.
(4)
سورة فصلت: آية 40.
الوجه الثالث: في أحكامه:
الأول: أن حكم الحاكم لا يحل الباطل ولا يحل حرامًا. فإذا شهد شاهدا زور للإِنسان بمال فحكم به الحاكم لم يحل للمحكوم له ذلك المال، ولو شهدا عليه بقتل لم يحل للولي قتله مع علمه بكذبهما. وإن شهدا بالزور أنه طلق امرأته لم يحل لمن علم بكذبهما أن يتزوجها بعد حكم القاضي بالطلاق. وهذا قول مالك والشافعي وأحمد وجماهير علماء الإِسلام وفقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين من بعدهم.
وقال أبو حنيفة: يحل حكم القاضي الفروج دون الأموال. وقال يحل نكاح المذكورة، قال صاحب "شرح المختار" للفتوى منهم القضاء بشهادة الزور ينفذ ظاهرًا وباطنًا في العقود والفسوخ كالنكاح والطلاق والبيع [وكذلك] (1) الهبة والإِرث وقالا: لا ينفذ باطنًا يعني محمدًا وأبا يوسف قال: صورته شهد شاهدان [بالزور](2) بنكاح امرأة لرجل فقضى بها القاضي نفذ عنده يعني أبا حنيفة حتى حلَّ للزوج وطؤها خلافًا لهما، ولو شهدا بالزور على رجل أنه طلق امرأته بائنًا فقضى القاضي بالفرقة ثم تزوجها آخر جاز ذلك وعندنا إن جهل الزوج الثاني ذلك حل له وطؤها اتباعًا للظاهر لأنه لا يكلف علم الباطن وإن علم فلا، ولو وطئها الزوج الأول كان زانيًا ويُحَدُّ. وقال محمَّد: يحل له وطؤها [وقال أبو يوسف: لا يحل له وطؤها](3) ، لأن قول
(1) في ن هـ (وكذا).
(2)
في ن هـ ساقطة.
(3)
زيادة من ن هـ.
أبي حنيفة أورث شبهة، فيحرم الوطء احتياطًا، ولا ينفذ في معتدة الغير ومنكوحته بالإِجماع؛ لأنه لا يمكنه تقديم النكاح على القضاء. وفي الأجنبية أمكن ذلك فيتقدم تصحيحًا له وقطعًا للمنازعة. وينفذ بيع الأَمَة عنده حتى يحل للمشتري وطؤها، وينفذ في الهبة والإِرث حتى يحل للمشهود له أكل الهبة والميراث. وروي عنه يعني أبا حنيفة: أنه لا ينفذ فيهما لهما قال و [قوله](1) عليه الصلاة والسلام: "إنكم تختصمون" إلى آخره عام فيعم جميع العقود والفسوخ وغير ذلك، فينبغي أن يكون الحكم في الباطن هو عند الله. أما الظاهر فالحكم لازم على ما أنفذه القاضي، قال عليه الصلاة والسلام:"إنما أقضي بالظاهر والله يتولى السرائر". قال: وله، يعني: أباحنيفة ما رُوي أن رجلًا خطب امرأة وهو دونها في الحسب، فأبت أن تتزوجه، فادعى أنه تزوجها. وأقام شاهدين عند عليّ فحكم عليها بالنكاح، فقالت: إني لم أتزوجه وإنهم شهود زور [فزوجني منه](2)، فقال علي: شاهداك زوجاك. وأمضى عليها النكاح، ولأنه قضى بأمر الله تعالى بحجة شرعية، فيما له ولاية الإِنشاء، فيحل إنشاءه تحرزًا عن الحرام. وحديثها صريح في المال، قال: ونحن نقول به فإن قضاء القاضي الأملاك المرسلة، لا ينفذ بشهادة الزور لهذا الحديث، ولقوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (3) ، وروي أنها نزلت فيه، ولأن القاضي لا يملك
(1) زيادة من ن هـ.
(2)
في ن هـ ساقطة.
(3)
سورة النساء: آية 29.
إثبات الملك بدون التثبت؛ فإنه لا يملك دفع مال زيد إلى عمرو. وأما العقود والفسوخ [فإنه يملك إنشاءها](1)؛ فإنه يملك بيع أمَة زيد وغيرها من عمر وحال غيبته وخوف الهلاك للحفظ. وكذلك لو مات ولا وَصِيَّ له، ويملك إنشاء النكاح على الصغير وعلى الصغيرة والفرقة على العنين وغير ذلك، فيثبت أن له ولاية الإِنشاء في العقود والفسوخ، فيحل القضاء إنشاءه احترازًا عن الحرام، ولا يملك ذلك في الأملاك المرسلة بغير إثبات فتعذر جعله إنشاء فبطل. ثم يقول: لو لم تنفذ باطنًا، فلو قضى القاضي بالطلاق [أصبحت](2) حلالًا للزوج الأول باطنًا، والثاني ظاهرًا ولو ابتلي الثاني بمثل ما ابتلي به الأول حلت للثالث أيضًا وهكذا رابع وخامس فتحل للكل في زمن واحد وفيه من الفُحْش ما لا يخفى، ولو قلنا بنفاذه باطنًا لا تحل إلَّا لواحد فلا فحش فيه. هذا آخر كلام هذا الشارح، قال النووي في "شرح مسلم" (3): وقول أبي حنيفة مخالف لهذا الحديث الصحيح ولإِجماع من قبله [(4)] ولقاعدة وَافقَ هو وغيره عليها وهي أن الأَبضاعَ أولى بالاحتياط من الأموال.
وقال القرطبي (5): أيضًا قوله "أن حكم الحاكم، يغير حكم الباطن في الفروج خاصة، حتى يحل فيما إذا شهدا زورًا على رجل
(1) في ن هـ ساقطة.
(2)
في ن هـ (لبقيت).
(3)
شرح مسلم (12/ 6).
(4)
في المرجع السابق زيادة ومخالف.
(5)
المفهم (4/ 158).
بطلاق زوجته، وحكم القاضي بشهادتهما أن يتزوجها غيره ممن يعلم كذبها مما شنع عليه بإعراضه عن هذا الحديث الصحيح الصريح، وبأنه صان الأموال، ولم ير استباحتها بالأحكام الفاسدة في الباطن ولم يَصُن [الفروج عن ذلك](1)[والفروج](2) أحق أن يحتاط لها وتصان.
تذنيب: اتفق أصحابنا على ما حكاه الشيخ تقي الدين (3) على أن القاضي الحنفي إذا قضى بشفعة الجوار للشافعي أخذها في الظاهر واختلفوا في حِلها في الباطن على وجهين، ولا ينقض قضاؤه بها على الأصح عندنا، وعند المالكية لا يحل له الأخذ بها إذا حكم الحنفي له بها، والحديث عام بالنسبة إلى سائر الحقوق، والذي اتفق عليه أصحابنا أن الحجة إذا كانت باطلة في نفس الأمر بحيث لو اطلع عليها القاضي لم يجز له الحكم بها أن ذلك لا يؤثر، وإنما وقع التردد في الأمور الاجتهادية إذا خالف اعتقاد القاضي اعتقاد المحكوم له، كما قلنا في شفعة الجار.
الثاني (4): إجراء الأحكام على الظاهر، والله يتولى السرائر.
الثالث: إعلام الناس بأنه عليه الصلاة والسلام في الحكم بالظاهر كغيره، وإن كان يفترق منع الغير في اطلاعه على ما يطلعه
(1) في ن هـ (عن ذلك الفروج).
(2)
في ن هـ ساقطة.
(3)
إحكام الأحكام (4/ 435).
(4)
هكذا في المخطوط الثاني، ولعله اكتفى بالتذنيب عن الأول.
الله عليه من الغيوب الباطنة، وذلك في أمور [مخصوصة](1) لا في الأحكام العامة، ومن هنا يتبين افتراء من أعرض عن قاعدة الشرع [وحكم](2) بخاطر القلب وقال الشاهد المتصل بي أعدل من المنفصل عني أسأل الله [سلوك الصواب](3) بما جاءت به السنَّة والكتاب.
الرابع: قد سلف في أول الكتاب [أن الحصر قد يكون](4) عامًّا، وقد يكون خاصًّا، وهذا من الخاص، وهو فيما يتعلق بالحكم بالنسبة إلى الحجج الظاهرة.
الخامس: أن الحاكم لا يحكم إلَّا بالظاهر فيما طريقه الثبوت ببينة أو إقراره ولا يحكم ما يعلمه في الباطن مخالفًا لما ثبت في الظاهر ولا عكسه، نعم لو علم شيئًا بطريقه الشرعي خبرًا يقينًا أو ظنًّا راجحًا أو مشاهدة من غير بينة أو إقراره في حال الدعوى أو قبلها فيه سبعة مذاهب.
أحدها: أنه لا يقضي بعلمه من شيء وبه قال أحمد وإسحاق وأبو عبيد والشعبي، وهو قول للشافعي وشريح، ومشهور مذهب مالك.
الثاني: نعم مطلقًا، وبه قال أبو ثور ومن تبعه، وهو قول للشافعي أيضًا.
الثالث: أنه يقضي به فيما سمعه في قضائه خاصة لا قبله ولا في غيره إذا لم يحضر مجلسه بينة، وفي الأموال خاصة، وبه قال
(1) في الأصل مبتورة الكلمة، وما أثبت من هـ.
(2)
الكلمة مطموسة في الأصل، وما أثبت من ن هـ.
(3)
الكلمة مطموسة في الأصل، ما أثبت من ن هـ.
(4)
الكلمة مطموسة في الأصل، وما أثبت من هـ.
الأوزاعي وجماعة من أصحاب مالك وحكوه عنه.
الرابع: يحكم بما سمعه في مجلس قضائه، وفي غيره لا قبل قضائه، ولا في غير مضرة في الأموال خاصة، وبه قال أبو حنيفة.
الخامس: أنه يقضي بعلمه في الأموال خاصة، سواء سمع ذلك في مجلس قضائه وفي غيره قبل ولايته أو بعدها، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وحكاه القرطبي قولًا عن الشافعي.
السادس: أنه يقضي بعلمه في الأموال والقذف خاصةً ولا يشترط مجلس القضاء، وبه قال بعض المالكية.
السابع: أنه يقضي بعلمه إلَّا في حدود الله تعالى، وهو أصح أقوال الشافعي، ومحل الخوض في [ذلك](1) كتب الخلاف.
الثامن: العمل بالظن وبناء الحكم عليه، حيث قال: فأحسب أنه صادق، وهو أمر إجماعي بالنسبة إلى الحاكم والمفتي.
التاسع: موعظة الإِمام للخصوم، وعليه ترجم البخاري (2) وترجم عليه أيضًا القضاء في قليل المال وكثيره (3)، وترجم عليه ايضًا من أقام البينة بعد اليمين (4)، وقال فيه:"فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا [بقوله] (5) ".
(1) في ن هـ (المسألة).
(2)
الفتح (13/ 157) ح (7169).
(3)
الفتح (13/ 178) ح (7185).
(4)
الفتح (5/ 288) ح (2680).
(5)
في ن هـ (فيه)، وهي خطأ.