الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
75 - باب الأطعمة
ذكر فيه رحمه الله عثرة أحاديث:
الحديث الأول
393/ 1/ 75 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت [النبي](1) صلى الله عليه وسلم يقول -[وأشار](2) النعمان بأصبعيه إلى أذنيه-: "إن الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات: استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"(3).
(1) في متن العمدة (النبي صلى الله عليه وسلم).
(2)
في المرجع السابق (وأهوى).
(3)
البخاري (52)، ومسلم (1599)، والترمذي (1205)، والنسائي (7/ 241)(8/ 327)، وأبو داود (3329، 3330)، وابن ماجه =
هذا الحديث جمع على عِظم موقعه وكثرة فوائده، وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإِسلام، قال جماعة: هو ثلث الإِسلام، وقال أبو داود: ربعه كما أسلفنا ذلك في الطهارة، وسبب عظم موقعه أنه عليه الصلاة والسلام نبَّه فيه على صلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها وأنه ينبغي [أن يكون حلالًا وأرشد إلى معرفة الحلال والحرام](1) وأنه ينبغي ترك الشبهات، فإنه سبب لحماية دينه
وعرضه، وحذَّر من مواقعة الشبهات، وأوضح بضرب المثل بالحمى، ثم بين أهم الأمور، وهو مراعاة القلب، فإن بصلاحه يصلح باقي الجسد، وبفساده يفسد باقيه، بل لو أمعن الأئمة النظر في هذا الحديث كله من أوله إلى آخره لوجدوه متضمنًا لعلوم الشريعة كلها ظاهرها وباطنها، كما نبه عليه القرطبي (2)، فإنه مشتمل على الحلال، والحرام، والمتشابهات، وما يصلح القلوب، وما يفسدها، وتعلق أعمال الجوارح بها
…
فيستلزم إذن معرفة تفاصيل أحكام الشريعة كلها: أصولها وفروعها.
ثم الكلام عليه من وجوه:
أحدها: هذا إلحديث رواه عن النبي - صلي الله عليه وسلم - غير النعمان، رواه علي بن أبي طالب وابنه الحسن وابن مسعود وجابر بن عبد الله (3)
= (3984)، والبغوي (2031)، والدارمي (2/ 245)، والبيهقي (5/ 264)، وأحمد (4/ 269، 271).
(1)
في ن هـ ساقطة.
(2)
المفهم (4/ 499).
(3)
تاريخ بغداد (9/ 70)، وذكره في كنز العمال (3/ 433).
وابن عمر (1) وابن عباس (2) وعمار بن ياسر (3) أفاده ابن منده الحافظ، وأما أبو عمرو الداني فقال في كلامه على أحاديث قواعد الإِسلام الأربعة:"إنما الأعمال بالنيات"، وهذا الحديث و"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، و"لا يؤمن أحدكم"، وقيل [
…
] (4) حديث "أزهد" لا أعلم رَوَى هذا الحديث عن النبي - صلي الله عليه وسلم - غير النعمان، ولا رواه عنه غير الشعبي، ثم اتفق على روايته عن الشعبي عن النعمان مرفوعًا متصلًا عبد الله بن عون وغيره. هذا كلامه، وقد علمت أنه رواه جماعات غير النعمان فاستفده.
ثانيها: في التعريف براويه، وقد سلف في باب الصفوت، وهذا الحديث فيه التصريح بسماعه من النبي - صلي الله عليه وسلم -، وهو الصواب الذي قاله أهل العراق وجماهير العلماء فإنه عليه الصلاة والسلام مات. وعمره ثمان سنين فكان مميزًا صحيح السماع، ولهذا أكد السماع بإشارته بأصبعيه إلى أُذنيه، [قال القاضي] (5): وخالف أهل المدينة فلم يصححوا سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حكاه يحيى بن معين عنهم. قال النووي (6): وهذه الحكاية ضعيفة أو باطلة، وقال
(1) ذكره في مجمع الزوائد (4/ 76).
(2)
الطبراني في المعجم الكبير (10/ 333)، وذكره في مجمع الزوائد (10/ 296، 297)، وقال: فيه سابق الجزري ولم أعرفه. اهـ.
(3)
ذكره في مجمع الزوائد (4/ 76)(10/ 296)، وقال: وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف.
(4)
في ن هـ زيادة (هو).
(5)
في ن هـ ساقطة. انظر: شرح مسلم (11/ 29).
(6)
المرجع السابق.
أبو عمرو الداني، في الكتاب السالف المشار إليه: الحديث الذي يتداوله أهل المدينة يشهد بسماعه من رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وهو قضية ما نحله أبوه فوعاها وحفظها فدل على سماعه، وقد صرح في هذا الحديث بالسماع، وقيل: إنه كان سمع هذا الحديث وله سبع سنين. قال: ويقال المثل المضروب فيه هو من قول الشعبي.
ثالثها: في ضبط ألفاظه ومعانيه قوله: "إن الحلال بين" معناه أنه بَيِّنٌ في عينه، ووصفه واضحٌ لا يخفى حله كالمأكولات من الفواكه والحبوب والزيت والعسل والسمن واللبن من مأكول اللحم وبيضه وغير ذلك من المطعومات، وكالنظر والمشي والكلام وغير ذلك من التصرفات الحلال التي لا شك فيها، وكالاكتساب بالعقود الصحيحة الواضحة شرعًا وبالتبرعات المأذون فيها شرعًا ونحو ذلك من البين الواضح الذي لا شك في حله.
وقوله: "والحرام بين" معناه أنه بين في عينه ووصفه أيضًا، واضح كالخمر والميتة والخنزير والبول والدم المسفوح. وكذلك الزنا والكذب والغيبة والنميمة والنظر إلى الأجنبية وأشباه ذلك البين الواضح الذي لا شك في حرمته.
وقوله: "وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس" معناه أنها ليست بواضحة الحل ولا الحرمة. فلهذا لا يعرفها كثير من الناس، وأما العلماء فيفرقون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب ونحو ذلك، فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن فيه نص ولا إجماع، اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، فإذا ألحقه به صار حلالًا، وقد يكون دليله غير خال عن الاحتمال
البين، يكون الورع تركه، ويكون داخلًا في قوله:"فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه" وما لم يظهر للمجتهد فيه شيء فهو مشتبه، فهل يؤخذ بحله أو بحرمته أم يتوقف؟ فيه ثلاث مذاهب حكاها القاضي عياض، قال النووي (1): والظاهر أنها [(2)] على الخلاف المعروف في حكم الأشياء قبل ورود الشرع، وفيه أربعة مذاهب، أصحها: أنه لا يحكم بحل ولا حرمة ولا إباحة ولا غيرها، لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلَّا بالشرع.
وثانيها: أن حكمها التحريم.
وثالثها: الإِباحة.
ورابعها: التوقف.
وقوله: "فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعِرضه": معناه أتقاها على الوصف الذي ذكرنا من اقوقف عن الأشياء حتى يعلم حلها وحرمتها، فيعمل بها أو يمسك عنها، فإذا فعل ذلك وإن دينه عن الوقوع في المحذور، وعرضه عن كلام الناس فيه.
والعرض هنا هو النفس، أي: استبرأ لنفسه من أن يلام على ما أتى به، وإنْ كَانَ العرضُ يطلق على أمور أخرى منها الحسب والجسد وفي صفة أهل الجنة:"إنما هو عرق يجري من أعراضهم"(3)، أي: من أجسادهم، وعلى رائحة الجسد أيضًا طيبة
(1) شرح مسلم (11/ 28).
(2)
في شرح مسلم زيادة (مخرجة).
(3)
الحديث ذكره أبو عبيد في غريب الحديث (1/ 154)، وابن الجوزي في غريبه (2/ 83)، والفائق (2/ 409)، والنهاية (3/ 209).
كانت أو خبيثة، كما نصَّ عليه الجوهري (1).
وقوله: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام" يحتمل أن يكون معناه أن من كثر تعاطيه الشبهات يصادف الحرام وإن لم يتعمده، وقد يأثم بذلك إذا نسب إلى تقصير ويحتمل أن يكون معناه أن من كثر تعاطيه الشبهات اعتاد التساهل وتمرن عليه، فيجسر بفعل شبهة على فعل شبهة أغلظ منها، ثم أخرى أغلظ، وهكذا حتى يقع في الحرام عمدًا، وهذا نحو قول السلف: المعاصي بريد الكفر أي تسوق
إليه، عافانا الله من جميع البلايا. وهذا أورده القرطبي (2) حديثًا مرفوعًا وهو معنى قوله تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .
"ويوشك" بضم الياء وكسر الشين مضارع أو شك، أي: يسرع ويقرب، وهي أحد أفعال المقاربة.
و"يرتع" بفتح التاء مضارع رتع بفتحها أيضًا، وفتحت في المضارع مراعاة لحرف الحلق.
ومعناه أكل الماشية من الشرعي، وأصله إقامتها فيه وتبسيطها في الأ كل، ومنه قوله تعالى:{يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [وذكر أبو سعد السمعاني (3) في ترجمة أبي الغنائم
(1) مختار الصحاح (181، 182)، مادة (ع ر ض).
(2)
المفهم (2864).
(3)
هو عبد الكريم بن محمد بن منصور بن محمَّد تاج الإِسلام أبو سعد التميمي السمعاني المروزي، ولد في شعبان سنة ست وخمسمائة، توفي في غرة ربيع الأول سنة اثنتين وستين وخمسمائة.
ترجمته في آداب اللغة (3/ 68)، ومفتاح السعادة (1/ 211)، وطبقات ابن شهبة (2/ 12).
النرسي (1) الحافظ من "ذيله"(2)، قال: قرأت بخط والدي الإِمام (3) سمعت أبا الغنائم محمَّد بن علي بن ميمون النرسي، يقول في قوله عليه الصلاة والسلام:"ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يجشر (4) -بالشين المعجمة- في قولهم جشر (5) إذا رعى] (6). وقوله: "ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه"
(1) هو محمَّد بن علي بن ميمون الترسي، سمع من الشريف أبي عبد الله بن عبد الرحمن الحسني ومحمد بن إسحاق بن فدويه وغيرهما، روى عنه أبو بكر السمعاني. انظر: اللباب (3/ 306).
(2)
الذيل على تاريخ بغداد، في خمسة عشر مجلدًا، وقبل: في عشر مجلدات، تأليف أبي سعد السمعاني.
(3)
هو محمد بن منصور بن محمَّد تاج الإِسلام أبو بكر والد الإِمام أبي سعد، ولد سنة ست وستين وأربعمائة وتوفي بمرو في صفر سنة عشر وخمسمائة عن ثلاث وأربعين سنة.
ترجمته: البداية والنهاية (12/ 180)، وطبقات الشافعية لابن هداية (72)، وكتاب العبر (4/ 22).
(4)
في الكبرى للنسائي (3/ 239) بالسين المهملة.
(5)
انظر: قال في النهاية (1/ 273) في حديث عثمان: "لا يَغُرَّنَّكم جَشَرُكُم من صلاته". الجشر: قوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى، ويبيتون مكانهم، ولا يأوون إلى البيوت، فربما رأوه سفرًا فقصروا الصلاة، فنهاهم عن ذلك، لأنَّ المقام في المرعى، وإن طال، فليس بسفر. اهـ. الفائق (1/ 215)، وغريب الحديث (3/ 419، 420) ، وفي صحيح ابن حبان (721) بالسين المهملة.
(6)
زيادة من ن هـ، والخبر ذكره في الطبقات الوسطى للشافعية بهامش الكبرى (7/ 11).
هو من باب التشبيه والتمثيل والمعنى: إن الملوك من العرب وغيرهم يكون لكل منهم حمى يحميه عن الناس ويمنعهم من دخوله، فمن دخله منهم أوقع به العقوبة، ومن احتاط لنفسه لا يقارب ذلك الحمى خوفًا من الوقوع في عقوبته، فكذلك لله تعالى حمى وهي محارمه التي حرمها كالقتل والزنا والسرقة والقذف والخمر والكذب والغيبة والنميمة وأكل المال بالباطل وأشباه ذلك من المعاصي، فكل هذا حمى لله تعالى من دخله باعتقاد حله أو غيره استحق العقوبة، ومن قاربه أوشك أن يقع فيه، ومن احتاط لنفسه بعدم المقاربة لشيء من ذلك لم يدخل في شيء من الشبهات، ويسمى هذا العدم عدم الاستدراج، والنفس بطبعها أمارة بالسوء إلَّا من رحمت فيستدرج من المباح إلى المكروه ثم إلى المحرم، فنسأل الله التوفيق والإِعانة على كسرها.
و"الحمى" بمعنى المحمى فالمصدر فيه واقع موقع اسم المفعول وتثنية "حميان"، وسمع الكسائي بتثنيته بالواو، وتطلق المحارم على المنهيات قصدًا، وعلى ترك المأمورات [استلزامًا](1) وإطلاقها على الأول أشهر، كما قاله الشيخ تقي الدين (2).
و"المضغة" القطعة من اللحم سميت بذلك لأنها تمضغ في الفم لصغرها، والمراد: تصغير جرم القلب بالنسبة إلى باقي الجسد [مع أن صلاح الجسد](3) وفساده تابعان للقلب كالملك مع الرعية، فهو صغير الجرم عظيم القدر.
(1) في إحكام الأحكام (التزامًا)، وما أثبت من الأصل ون هـ.
(2)
في إحكام الأحكام (4/ 452).
(3)
زيادة من ن هـ ومن شرح مسلم (11/ 29).
واصلحت بفتح العين مضارع يصلح بضمها.
وفسدت بفتح السين مضارع يفسد بضمها، قال القرطبي (1): كذا رويناه، والمعنى: إذا صارت تلك المضغة ذات صلاح أو ذات فساد، قال: وقد يقال صلح وفسد بضم العين فيهما، إذا صار الصلاح أو الفساد هيئة لازمة لها، كما يقال: ظرُف، وشرُف، وقال النووي في (شرحه)(2)، قال أهل اللغة: يقال صلح الشيء وفسَد بفتح اللام والسين وضمها، والفتح أفصح وأشهر.
والقلب (3): في الأصل مصدر: قلبن الشيء، أقلبنه قلبًا: إذا رددته على بدأته، ثم نقل فسمى به هذا العضو الذي هو أشرف أعضاء الحيوان، لسرعة الخواطر فيه، ولترددها عليه:
ما سمي القلب إلَّا من تقلبه. . . فاحذر على القلب من قلب وتحويل
وقد قيل: إن له عينين وأذنين [وهذا إنما يعلمه أهل الكشف](4). وقد عبر عنه بالعقل [نفسه](5)، قال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (6)، أي: عقل، قاله الفراء (7)، وقال تعالى:
(1) المفهم (2865).
(2)
شرح مسلم (11/ 28، 29).
(3)
انظر: المفهم (4/ 494).
(4)
زيادة من ن هـ.
(5)
في الأصل (عنه)، وما أثبت من ن هـ.
(6)
سورة ق: آية 37.
(7)
معاني القرآن (3/ 80).
{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} (1).
الوجه الرابع: في فوائده: وهو أحد الأحاديث العظام، التي عدت من أصول الإِسلام، بل هو أصله كما سلف في أول الكلام:
الفائدة الأولى: الحث على ارتكاب الحلال وعلى اجتناب الحرام، والإِمساك عن الشبهات والاحتياط [للدين](2) والعرض وعدم تعاطي الأمور الموجبة لسوء الظن والوقوع في المحذور.
الثانية. الأخذ بالورع، وهذا الحديث أصل كبير في الأخذ به وترك الشبهات، وللشبهات مثارات، منها: الاشتباه في الدليل الدال على التحليل أو التحريم، وتعارض الأمارات بالحج، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:"لا يعلمهن كثير من الناس"، إشارةً إلى ذلك مع أنه يحتمل أنه لا يعلم عينها وإن علم حكم أصلها في التحليل والتحريم، وهذا أيضًا من مثار الشبهات.
الثالثة: أنه لا ورع في ترك المباح، لقوله عليه الصلاة والسلام:"الحلال بيِّن والحرام بيِّن"، قال القرافي: وقد اختلف العلماء في أول العصر الذي أدركته: هل يدخل الورع والزهد في المباحات أم لا؟ فادعى ذلك بعضهم ومنعه بعضهم وصنف فيه بعضهم على بعض فقال ابن الأنباري: لا يدخل الورع فيها، لأن الله تعالى ساوى بين طرفي المباح. والورع مندوب إليه راجح أحد الطرفين، والرجحان مع التساوي محال، قال الشيخ تقي
(1) سورة الأعراف: آية 46.
(2)
زيادة من ن هـ.
الدين (1): والجواب عن هذا عندي من وجهين:
أحدهما: أن [المباح قد يطلق على ما لا جرح في فعله، وإن لم يتساو طرفاه، وهذا أعلم من](2) المباح المتساوي الطرفين، فهذا الذي ردد فيه القول، وقال: إما أن يكون مباحًا [أم](3) لا، فإن كان مباحًا فهو مستوي الطرفين يمنعه إذا حملنا المباح على هذا المعنى، فإنه المباح قد صار منطلقًا على ما هو أعم من المتساوي الطرفين، فلا يدل اللفظ على التساوي، إذِ الدَّال على العام لا يَدُلُّ على الخاص بعينه.
والثاني: أنه قد يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته، راجحًا باعتبار أمر خارج فلا يتناقض حينئذٍ الحكمان. قال: وعلى الجملة فلا يخلو هذا الموضع من نظر، فإنه إن لم يكن فعلى هذا المشتبه موجبًا لضررٍ مَا في الآخرة، وإلَّا فيعسر ترجيح تركه، إلَّا أن يقال: إن تركه محصل لثواب أو زيادة درجات وهو على خلاف ما يفهم من أفعال المتورعين، فإنهم يتركون ذلك تحرجًا وتخوفًا، وبه يشعر لفظ الحديث، وقال شهاب الدين [ابن](4) الحميري يدخل الورع فيها، قال: وطريق الجمع بينها أن المباحات لا زهد فيها ولا ورع من حيث هي مباحات، وفيها الزهد والورع من حيث الاكثار منها، فإن الإِكثار منها يخرج إلى كثرة الاكتساب الموقع في الشبهات، وقد
(1) إحكام الأحكام (4/ 449).
(2)
في ن هـ ساقطة، وما أثبت يوافق إحكام الأحكام.
(3)
في المرجع السابق.
(4)
في ن هـ ساقطة.
يقع في المحرمات، وقد يفضي به كثرة المباحات إلى نظر النفس فإن كثرة المكاسب من الخيل والمساكن العالية والمآكل الشهية
والملابس اللينة لا يكاد يسلم صاحبها عن الإِعراض عن مواقف العبودية الذي شمل مستوى الطرفين وغيره وهو أعم من المستوي
الطرفين، فلا دلالة في الأعم على الأخص، فلا تناقض فيه إذن، وهذا هو الجواب الأول الذي أسلفناه عن الشيخ تقي الدين.
الرابعة: في قوله: "فمن اتقى الشبهات" .. إلى آخره دلالة على أنه لا يجب عليه حماية عِرْضِهِ عن الطعن فيه، وقد قال عليه الصلاة والسلام:"أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، كان إذا خرج من بيته قال: إني قد تصدقت بعرضي على الناس"(1).
الخامسة: في قوله: "كالراعي حول الحمى" دلالة لمذهب مالك في سد الذرائع.
السادسة: فيه تعظيم القلب وسببه صدور الأفعال الاختيارية عنه، وما يقوم به من الاعتقادات والعلوم، ورتب الأمر فيه على المضغة، والمراد: المتعلق بها، ولا شك أن صلاح جميع الأعمال باعتبار العلم والاعتقاد بالمفاسد والمصالح، [فتعين حماية مركزها من الفساد وإصلاحه](2).
السابعة: فيه أيضًا [(3)] الحث البليغ على السعي في إصلاح
(1) روي من طريق مهلب بن العلاء عن قتادة، عن أنس وهو ضعيف. أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (63). انظر: إرواه الغليل (2366).
(2)
زيادة من ن هـ.
(3)
في ن هـ زيادة (على).
القلب وحمايته من الفساد، وأن لطيب الكسب أثرًا فيه [كما في ضده](1).
الثامنة: فيه أيضًا كما قاله جماعة أن العقل في القلب لا في الرأس، وهو مذهبنا ومذهب جماهير المتكلمين.
وقال أبو حنيفة: إنه في الدماغ وقد يقال: في الرأس، وحكوا الأول عن الفلاسفة والثاني عن الأطباء.
واحتج القائلون. بأنه في القلب بقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} (2)، وبقوله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (3)، وبهذا الحديث فإنه عليه الصلاة والسلام جعل صلاح الجسد وفساده تابعًا للقلب، مع أن الدماغ من جملة الجسد، فيكون صلاحه وفساده تابعًا للقلب. فعلم أنه ليس محلًا للعقل.
واحتج القائلون: بأنه في الدماغ، بأنه إذا فسد الدماغ فسد العقل، ويكون من فساد الدماغ الصرع في زعمهم، ولا حجة لهم في ذلك، لأن الله تعالى أجرى العادة بفساد العقل عند فساد الدماغ، مع أن العقل ليس فيه، ولا امتناع عن ذلك. قال المازري (4): لا سيما على أصولهم في الاشتراك الذي يذكرونه بين الدماغ والقلب، وهم يجعلون بين رأس المعدة والدماغ اشتراكًا.
(1) في ن هـ ساقطة.
(2)
سورة الحج: آية 46.
(3)
سورة ق: آية 37.
(4)
المعلم (2/ 314).
التاسعة: فيه أيضًا أن العقوبة من حسن الجناية، لأنه كما انتهك محارم الله تعالى المانعة لما وراءها، فكذلك ينتهك محارم جسده بنجرده عن لباس التقوى، الذي هو حمى له من آفات الدنيا وعذاب الآخرة.
العاشرة: فيه أيضًا ضرب الأمثال للمعاني الشرعية العملية، وفائدتها التنبيه بالشاهد على الغائب.
الحادية عشرة: فيه أيضاً التنبيه على عظمة الله تعالى واجتناب محارمه التي مصالحها عائدة علينا فإنه الغني المطلق.
الثانية عشرة: فيه أيضًا أن الأعمال القلبية أفضل من البدنية، وأنها لا تصلح إلَّا بالقلبية.
الثالثة عشرة: أنه لا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر، فيما إذا كان العمل مقيدًا بهما، فإنه قد يختص بأحدهما أحكام دون الآخر، فيما إذا كان العمل مقيدًا بهما، فإنه قد يختص بأحدهما أحكام دون الآخر، وقد يلزم عن أحدهما أعمال بسبب الآخر.
خاتمة: لما ذكر البخاري هذا [الحديث](1) عقبه بأن قال (2): تفسير المشتبهات، وذكر فيه عن حسان بن أبي سنان: ما رأيت شيئًا أهون من الورع، دع ما يريبك [إلى ما لا يريبك](3)، ثم ذكر قصة الأمة السوداء في الرضاع (4) وقصة ابن وليدة
(1) زيادة من ن هـ.
(2)
في البخاري فتح (4/ 291) زيادة: (باب).
(3)
زيادة من ن هـ والمرجع السابق.
(4)
الفتح ح (2052).
زمعة (1)، وحديث عدي بن حاتم الآتي في الصيد (2).
ثم قال: باب (3) ما يتنزه من الشبهات.
وذكر حديث التمرة الساقطة على الفراش (4)، ثم قال: باب من لم ير الوساوس ونحوها من الشبهات (5)، ثم ذكر حديث حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا. وحديث عائشة: يا رسول الله - صلي الله عليه وسلم - إن قومًا يأتوننا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال عليه الصلاة والسلام:"سموا [الله] (6) عليه وكلوه"، فتنبه لذلك.
(1) الفتح ح (2053).
(2)
الفتح ح (2054).
(3)
البخاري، الفتح (4/ 293).
(4)
البخاري رقم (2055).
(5)
البخاري، الفتح (4/ 294).
(6)
زيادة من ن هـ والمرجع السابق.