الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع
124/ 4/ 22 - عن عبد الله [بن](1) عمرو بن العاص، عن [أبي بكر] (2) الصديق رضي الله عنهما أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال:"قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلَّا أنت، فأغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم"(3).
(1) في الأصل ساقطة.
(2)
في ن ب ساقطة.
(3)
البخاري (834) في الآذان، باب: الدعاء قبل السلام (6326) وفي الدعوات، باب: الدعاء في الصلاة (7387، 7388) وفي التوحيد، باب: وكان الله سميعًا بصيرًا، ومسلم (2705) في الذكر، باب: استحباب خفض الصوت في الذكر، والترمذي (3521) الدعوات، باب: دعاء يقال في الصلاة، والنسائي (3/ 53) في السهو، باب: نوع آخر من الدعاء، وابن ماجه (3835) في الدعاء، باب: دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحمد (1/ 4، 7)، وابن حبان (1976)، وابن خزيمة (845)، والسنة للبغوي (694)، وابن أبي شيبة (10/ 269)، وأبو يعلى (31، 32)، والبيهقي في السنن (2/ 154).
الكلام عليه من وجوه:
وهو من أحسن الأدعية، فإن فيه الاعتراف بالذنب الذي هو: كالمانع من الإِنعام، فإن ظلم النفس ذنب، والاعتراف به أقرب إلى
المحو، كما سيأتي.
الوجه الأول: في التعريف بعبد الله بن عمرو وقد سلف في الطهارة.
الثاني: في التعريف بالصديق واسمه عبد الله بن عثمان القرشي التيمي، وقيل: عتيق.
وأمه: أم الخير سلمى (1). أسلم أبواه. روى عنه ولده عبد الرحمن وعائشة، وعمر، وعلي، وخلق، وروي له مائة حديث واثنان وأربعون حديثًا. اتففا منها على ستة وانفرد البخاري بأحد عشر [ومسلم](2) بواحد. وكان أول الناس إسلامًا من الرجال. هاجر
وشهد المشاهد، ومناقبه أفردت بالتصنيف، وترجمته في "تاريخ دمشق" في مجلد ونصف. ولي الخلافة ستة وعشرين شهرًا، ومات
سنة ثلاث عشرة عن ثلاث وستين سنة. ودفن بالحجرة النبوية، وترجمته أبسط من هذا فيما [أفردناه](3) في الكلام على رجال هذا الكتاب فراجعه منه. وفي سنن أبي داود (4) من حديث أبي خالد
(1) في ن ب زيادة (بنت صخر).
(2)
في ن ب د (رمز له م).
(3)
في ن ب د (أفردته).
(4)
أبو داود (12/ 407) في الخلفاء. قال المنذري: في إسناده أبو خالد =
الدالاني عن أبي خالد مولى الجعدة عن أبي هريرة مرفوعًا: "أن أبا بكر أول من يدخل الجنَّة من هذه الأمة".
فائدة: مات والد الصديق في المحرم سنة أربع عشرة وهو ابن سبع وتسعين سنة. [ومات](1) الصديق قبله، فورث منه السدس، ورده على ولد أبي بكر. وذكر أبو قتادة: أن أبا قحافة أول مخضوب في الإِسلام، ولم ينل الخلافة رجل أبوه حي إلَّا اثنان: أبو بكر، والطائع من ولد العباسي، ذكر ذلك كله الحافظ محب الدين الطبري في أحكامه في الكلام على الاستخلاف.
= الدالاني يزيد بن عبد الرحمن، وثقه أبو حاتم الرازي، وقال ابن معين: ليس به بأس. وعن الإِمام أحمد نحوه، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به إذا وافق الثقات، فكيف إذا انفرد عنهم بالمعضلات. قال ابن القيم رحمه الله في التهذيب (7/ 20):"أما إنك يا أبا أبكر لأول من يدخل الجنة من أمتي"، وكلام المنذري عن ابن حبان في أبي خالد الدالاني -إلى قوله- فكيف إذا انفرد بالمعضلات، ثم زاد ابن القيم. وقد روى ابن ماجه في سننه من حديث داود بن عطاء المديني عن أبو صالح بن كيسان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي بن كعب. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول من يصافحه الحق عمر، وأول من يسلم عليه، وأول من يأخذ بيده فيدخله الجنة". وداود بن عطاء هذا ضعيف عندهم.
وإن صح فلا تعارض بينهما، لأن الأولوية في حق الصديق، مطلقة، والأولوية في حق عمر مقيدة بهذه الأمور في الحديث.
(1)
في ن ب د (وكان موت).
الثالث: تقدم الكلام على لفظ: "اللهم" في الباب الذي بعد كتاب الطهارة.
وقوله: "ظلمت نفسي" أي بملابسة ما يوجب عقوبتها أو بما ينقص حظها.
والظلم في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه ومنه قولهم: "من أشبه أباه فما ظلم" أي لم يضع الشبه في غير موضعه.
ومنه المظلومة: الجلد، وهي الأرض التي لم يأتها المطر في وقته. والظلم في أحكام الشرع على مراتب، أعلاه الشرك، ثم ظلم
المعاصي [وهي](1) على مراتب.
الرابع: النفس تذكر وتؤنث، قال -تعالى-:{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} (2)، وقال -تعالى-:{بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} (3). والنفس قيل هي الروح، والخلاف في ذلك أعني في أن النفس هي الروح أم [لا] (4) حتى قيل: إن فيها ألف قول للعلماء (5). والظاهر أن المراد هنا بالنفس الذات أي ظلمتها [فوضعت](6) المعاصي موضع الطاعات.
(1) في ن ب (وهو).
(2)
سورة الزمر: آية 56.
(3)
سورة الزمر: آية 58.
(4)
في ن ب د زيادة: (شهير).
(5)
انظر: كتاب الروح لابن القيم (217)، ولوامع الأنوار (2/ 28، 45).
(6)
في ن ب (وضعت).
الخامس: [الغفر](1): الستر كما أسلفته في شرح خطبة الكتاب.
السادس: "الذنوب" جمع ذنب، وهو الجرم، مثل فليس وفلوس، فهو [اسم](2)، والمصدر: أذناب، ولا يكاد يستعمل.
السابع: في الحديث دليل على شرعية طلب تعلم العلم من العلماء خصوصًا في الدعوات المتعلقة بالصلوات وإجابة العالم للمتعلم سؤاله خصوصًا إذا كان المسؤول علمًا عمليًا وافتقارًا وتوحيدًا أو تنزيهًا.
الثامن: [فيه دليل](3) على أن الإِنسان لا يعرى من ذنب وتقصير كما قال عليه الصلاة والسلام: "استقيموا، ولن تحصوا"(4). وقال: "كل ابن آدم خطّاء، وخير الخطائين
(1) في الأصل (الغفير)، وما أثبت من ن ب د.
(2)
زيادة من ن ب د.
(3)
في الأصل زيادة (فيه دليل).
(4)
مالك في الموطأ (1/ 34) في الطهارة، باب: جامع الوضوء بلاغًا، والتمهيد (24/ 318)، وابن ماجه (277) في الطهارة، باب: المحافظة على الوضوء، والدارمي من طرق (1/ 168)، والحاكم في المستدرك (1/ 130)، وأحمد في المسند (5/ 280، 282، 276، 277)، والبغوي (1/ 327)، والبيهقي (1/ 457). قال أبو عمرو بن الصلاح: وله طوق صحاح "مساجلة علمية"(ص 17)، والطيالسي (996)، وابن حبان (1037)، والطبراني في الكبير (1444)، والصغير (2/ 88)، وابن أبي شيبة (1/ 5، 6).
التوابون" (1). ولو كان ثم حالة يعرى عن الظلم والتقصير لما طابق هذا الإِخبار الواقع، ولم يؤمر به، فيؤخذ منه الاعتراف بظلم النفس وتقصيرها في كل حالة، ثم إن التقصير في طلب معالي الأمور والتوسل بطاعة الله وتقواه إلى رفيع الدرجات عند الله -تعالى- لا يبعد أن يصدق عليه اسم الظلم بالنسبة لما يقابله من المبالغة والتشمير في ذلك.
التاسع: قوله: "كثيرًا" هو بالثاء المثلثة في أكثر الروايات وفي بعض روايات مسلم بالباء الموحدة فينبغي أن يجمع بينهما كما قاله
النووي في كتبه (2) للاحتياط على التعبد بلفظه والمحافظة عليه.
العاشرة: قوله: "لا يغفر الذنوب إلَّا أنت" هو إقراره بالوحدانية واستجلاب للمغفرة، كما قال تعالى:"علم أنّ له ربَّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب"(3). وهو كقوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} (4) الآية. فأثنى على المستغفرين
(1) الترمذي (2501) في صفة القيامة، باب: المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه، وابن ماجه (4251) في الزهد، باب: ذكر التوبة، والدارمي (2/ 303) في الرقاق، باب: في التوبة، وأحمد (3/ 198)، والحاكم (4/ 244)، وتعقبه الذهبي بقوله:"علي فيه لين"، وأبو يعلى (2922).
(2)
في الأذكار (55)، والمجموع (3/ 470).
(3)
البخاري (7507) في كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} ، ومسلم (2758) في كتاب التوبة، باب: قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة.
(4)
سورة آل عمران: آية 135.
من ذنوبهم، وفي ضمن ثنائه عليهم بالاستغفار أمر به، فالأمر في الآية بالتلويح، وفي الحديث بالتصريح، لأنه قد قيل: إن كل شيء أثنى الله على فاعله فهو آمر به من جهة المعنى، وكل شيء ذم الله تعالى فاعله فهو ناه عنه من جهة المعنى.
تنبيه: ما أحسن هذا الترتيب، فإنه قدم أولًا اعترافه بالذنب، ثم بالوحدانية، ثم سأل المغفرة بعد ذلك، لأن الاعتراف أقرب إلى العفو، والثناء على السيد بما هو أهله [أوحي](1) لقبول مسألته، وقد جعل تقديم الثناء بين يدي الدعاء: كتقديم هدية الشفيع بين يدي مسألته، فإنه أقرب إلى القبول.
فائدة (2): رجح بعضهم قول القائل: اللهم اغفر لي على قوله:
(1) في ن ب (أرجي).
(2)
قال ابن حجر في الفتح (13/ 472) نقلًا عن النووي في كتاب الأذكار (349)، عن الربيع بن خيثم أنه قال: لا تقل: أستغفر الله وأتوب إليه، فيكون ذنبًا وكذبًا إن لم تفعل، بل قل: اللهم اغفر لي وتب عليّ. قال النووي: هذا حسن. وأما كراهية: استغفر الله وتسميته كذبًا، فلا يوافق عليه، لأن معنى أستغفر الله: أطلب مغفرته، وليس هذا كذبًا، قال: ويكفي في رده حديث ابن مسعود بلفظ، من قال:"أستغفر الله الذي لا إله إلَّا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفرت ذنوب وإن كان قد فر من الزحف". أخرجه أبو داود في الصلاة (1517)، باب: الاستغفار"، والترمذي (3572) في الدعوات، باب: في دعاء الضيف، والحاكم في المستدرك (1/ 511) ووافقه الذهبي.
قلت: هذا في لفظ: أستغفر الله الذي لا إله إلَّا هو الحي القيوم، وأما وأتوب إليه، فهو الذي عنى الربيع رحمه الله أنه كذب، وهو كذلك =
أستغفرك وأتوب إليك. لأنه إذا قال ذلك ولم يكن متصفًا به كان كاذبًا وهو ضعيف في هذا الموضع وأمثاله، بل الأولى امتثال الأمر
الوارد في ذلك.
ومثله ما نقل عن بعضهم أنه توقف عن قوله في الدعاء في صلاة الجنازة: وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له استصغارًا لنفسه أن
تتأهل للشفاعة ثم رجع عنه امتثالًا للأمر.
= إذا قاله ولم يفعل التوبة كما قال، وفي الاستدلال للرد عليه بحديث ابن مسعود نظر لجواز أن يكون المراد منه ما إذا قالها وفعل شروط التوبة، ويحتمل الربيع أن يكون قصد مجموع اللفظين، لا خصوص أستغفر الله، فيصح كلامه كله، والله أعلم.
قال السفاريني في شرح الثلاثيات (2/ 903): فالاستغفار التام الموجب للمغفرة، هو ما قارن عدم الإِصرار، كما مدح الله أهله، ووعدهم المغفرة. قال بعض العارفين: من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيح توبته، فهو كاذب في استغفاره، فأفضل الاستغفار، ما اقترن به ترك الإِصرار وهو حيئنذ توبة نصوح، وأما إن قال بلسانه: أستغفر الله. وهو غير مقلع بلقبه فهو دعاء مجرد، إن شاء الله أجابه، وإن شاء رده، وربما يكون الإِصرار مانعًا من الإِجابة. وأما من قال: هو توبة الكذابين، فمراده أنه ليس بتوبة كما يعتقده بعض الناس، وهذا حق، فإن التوبة لا تكون مع الإِصرار.
وأما إن قال: أستغفر الله وأتوب إليه، فهذا له حالتان:
إحداهما: أن يكون مصرًّا بقلبه على المعصية، فهذا كاذب في قوله:"أتوب إليه" لأنه غير تائب، فلا يجوز له أن يخبر عن نفسه بأنه تائب، وهو غير تائب.
الثانية: أن يكون مقلعًا عن المعصية بقلبه، وفيه خلاف، والصحيح جوازه.
ومثله أن بعضهم توقف عن أن يجعل ذكره لا إله إلَّا الله خشية من اخترام المنية بين النفي والإِثبات، وجعل ذكره: الله، الله. وكل هذا بعيد والخير كله في اتباع السنة، بل في شرع ذلك للعبد لبشرى بتأهيله له، فللَّه الحمد.
الحادي عشر: قوله: "مغفرة من عندك" المغفرة لا تكون إلَّا من عنده، ففي هذا وجهان:
الأول: أن تكون إشارة إلى التوحيد المذكور: كأنه قال: لا يفعل هذا إلَّا أنت، فافعله أنت.
الثاني: وهو الأحسن كما قال الشيخ تقي الدين (1): أن يكون إشارة إلى طلب مغفرة يتفضل بها من عند الله -تعالى- لا يقتضيها
سبب من العبد من عمل حسن ولا غيره، فهي رحمة من عنده بهذا التفسير ليس [للعبد فيها سبب](2) وهذا تبرأ من الأسباب (3) والإِدلال
(1) إحكام الأحكام (3/ 42).
(2)
في ن د (فيها للعبد سبب).
(3)
قال الصنعاني في حاشيته (3/ 42): مراد الشارح المحقق أنه ليس الطلب للمغفرة للإِدلال بالأعمال لأن الأعمال، غير معلوم قبولها ولا سلامتها عما يعقبها مما يخل بها ويهضم جانب الاعتداد بها. فالمغفرة من عنده فضلًا، فالكل من فضل الله -تعالى-، جعل السبب وربط المسبب به وهداية العبد إليه، كما قال -تعالى-:{وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} ، ولذا قيل:
علقوا الفضل بأسباب التقى
…
ما ترى الأسباب ما الأسباب فيها
ليس إلَّا الفضل فيها سببًا
…
قف هنا إن شئت أو تزداد تيها
بالأعمال والاعتقاد [في كونها موجبة للثواب وجوبًا عقليًّا (1).
وقال ابن الجوزي: المعنى هب ليس المغفرة تفضلًا] (2) وإن لم أكن أهلًا لها بعملي وهو قريب مما قبله أو هو هو.
الثاني عشر: [قوله: "وارحمني" الرحمة من الله -تعالى- عند المنزهين من الأصوليين عن التشبيه](3)(4)، إما نفس الأفعال التي يوصلها الله -تعالى- من الإِنعام والإِفضال إلى العبد، وأما إرادة إيصال تلك الأفعال إلى العبد، فعلى الأول هي من صفات
الفعل، وعلى الثاني هي من صفات الذات.
تنبيهان:
الأول: المراد بالرحمة هنا زيادة الإِحسان على الغفران دفعًا
(1) قال الصنعاني في حاشيته (3/ 43) على قوله: "وجوبًا عقليًا". أقول: يشير إلى إبطال ما عليه المعتزلة، من وجوب الثواب عقلًا، وليس هذا محلًّا للاستدلال على ذلك، ولا لتعيين الحق بمجرد دعوى ليس عليها دليل بذلك، والأليق بهذا المقام ما حررناه من التبرؤ من الأسباب. انظر: التعليق السابق
…
إلخ.
(2)
زيادة من ن ب د.
(3)
في ن ب ساقطة.
(4)
قوله: "والرحمة من الله عند المنزهين من الأصوليين". قال الصنعاني في حاشيته (3/ 43): أقول: الحق في مثل هذا المقام إبقاء الصفات على حقائقها وظواهرها
…
إلخ. وقد مر بنا مبحث صفة الرحمة وما عليه أهل السنة والجماعة، فارجع إليه، رزقنا الله وإياك علمًا نافعًا وعملًا صالحًا.
للتكرار، فإن نفس المغفرة: رحمة، ولذلك جاءت الرحمة مكان [المغفرة] (1) في قوله -تعالى -:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (2).
الثاني: أخذ من قوله -تعالى-: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (3) الآية. أن الله تعالى أرحم بالعبد من أمه وأبيه. وبيانه أن العادة: أن الإِنسان يوصي على ولده غيره، والله -تعالى- قد أوصى أبانا علينا، وأما أخذ ذلك من قوله -تعالى-:{وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)} فظاهر فإن الوالدين من الراحمين.
الثالث عشر: قوله: "إنك أنت الغفور الرحيم". "إن" هنا للتعليل، و"أنت" يجوز أن تكون توكيدًا للكاف، ويجوز أن تكون فصلًا. والصفتان للمبالغة وقعتا حتمًا للكلام على جهة المقابلة لما قبلها، فالغفور: مقابل لقوله: اغفر لي، والرحيم: مقابل لقوله: وارحمني، وقد وقعت المقابلة هنا للأول بالأول، والثاني بالثاني، وقد تقع على خلاف ذلك مراعاة للقرب فيجعل الأول للأخير وذلك على حسب اختلاف المقاصد وطلب التفنن في الكلام، وهو أن يذكر شيئًا ثم يقصد تخصيصه، فيعيده مع ذلك المخصص [مثل] (4) قوله -تعالى-:{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)} ثم قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} (5)، فبدأ بالأول لتصدره، وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ
(1) في الأصل (الرحمة)، والتصحيح من ن ب د.
(2)
سورة الأعراف: آية 156.
(3)
سورة النساء: آية 11.
(4)
في ن ب د (نحو).
(5)
سورة هود: آيتان 105، 106.
وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} (1) الآية. فبدأ بالثاني قبل الأول ومما يحتاج إليه في علم التفسير مناسبة مقاطع الآي لما قبلها.
الرابع عشر: هذا الحديث يقتضي الأمر بهذا الدعاء في الصلاة من غير تعيين لمحله، ولو فعل فيها حيث لا يكره الدعاء [في أي مكان] (2) جاز. قال الشيخ تقي الدين (3): ولعل الأولى أن يكون في أحد موضعين: إما السجود، وإما بعد التشهد أي الأخير فإنهما الموضعان اللذان أمر فيهما بالدعاء (4). قال عليه الصلاة والسلام:"وأما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء"(5). وقال في
(1) سورة آل عمران: آية 106.
(2)
زيادة من ن ب د.
(3)
إحكام الأحكام (3/ 39).
(4)
قوله: "فإنهما الموضعان اللذان أمرنا فيهما بالدعاء"، أما محلات الدعاء في الصلوات التي ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو فهي سبعة مواضع ذكرها ابن القيم في زاد المعاد (1/ 256) ويجمعها قولًا:
مواضع كانت في الصلاة لأحمد
…
إذا ما دعا قد خصصوها بسبعة
عقيب افتتاح ثم بعد قراءة
…
وحال ركوع واعتدال وسجدة
وبينهما بعد التشهد هذه
…
مواضع تروى عن ثقات بصحة
انظر كلام المصنف في ص (439).
(5)
مسلم (479) في الصلاة، باب: النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، وأبو داود (876) في الصلاة، باب: في الدعاء في الركوع والسجود، والنسائي (2/ 188، 190) في التطبيق، باب: تعظيم الرب في الركوع، والدارمي (1/ 304)، وابن الجارود (203)، والحميدي (489)، والشافعي (1/ 82)، وعبد الرزاق (2839)، وأحمد =
التشهد: "فليتخير من المسألة ما شاء"(1). قال: ولعله يترجح كونه فيما بعد التشهد لظهور العناية بتعليم دعاء مخصوص في هذا
المحل. وقال الفاكهي في هذا الترجيح نظر، والأولى الجمع بينهما في [المحلين](2) المذكورين.
قلت: ويؤيد [هذا](3) ما قاله الشيخ تقي الدين أن البخاري في صحيحه (4) والنسائي (5) والبيهقي (6) وغيرهم من الأئمة احتجوا بهذا الحديث للدعاء في آخر الصلاة. وقال النووي: هو استدلال صحيح، فإن قوله: في صلاتي تعم جميعها، ومن مظان الدعاء في الصلاة هذا الموطن، وكذا قال ابن الجوزي في (كشف المشكل): إن أولى المواضع به بعد التشهد.
قلت: ورجح بعضهم السجود عليه لشرفه عليه وبالإِجماع على ركنتيه بخلافه، فإنه مختلف فيه.
= (1/ 219)، وابن أبي شيبة (1/ 248، 249)، والبغوي (626)، والبيهقي (2/ 110)، وابن حبان (1896)، وأبو عوانة (2/ 171)، وابن خزيمة (548).
(1)
انظر: الحديث الثاني من باب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، التعليق (23، 24، 25).
(2)
في ن د (المجلسين).
(3)
في ن ب د ساقطة.
(4)
البخاري، (149)، باب: الدعاء قبل السلام (834).
(5)
النسائي (3/ 53)، باب: نوع آخر من الدعاء.
(6)
البيهقي (2/ 154)، باب: ما يستحب له أن لا يقصر عنه من الدعاء قبل السلام.
الخامس عشر: فيه دليل على الثناء على الله بما وصف به نفسه.
تنبيهان: نختم بهما الكلام على الحديث الأول. قال صاحب القبس (1): أذن الله -تعالى- في الدعاء لعباده، وعلمه في كتابه وعلى لسان نبيه لأمته، فاجتمع فيه ثلاثة أشياء: العلم بالتوحيد، والعلم باللغة، والنصيحة للأمة، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عن دعائه. وقد احتال (2) الشيطان للناس في هذا المقام، فقيض لهم قوم سوء يخترعون لهم أدعية يشتغلون بها عن الاقتداء بالشارع (3)، وأشر (4) ما في الحال أنهم ينسبونها إلى الأنبياء، فيقولون: دعاء آدم، ودعاء نوح، ودعاء يونس، [فاقتدوا](5) بنبيكم، واشتغلوا بالصحيح مما جاء عنه، ويجوز للعالم بالله أن يدعو بغير المأثور بشرط أن لا يخرج عن التوحيد، والأفضل له التيمن بما صح عنه، والتبرك بألفاظه الفصيحة المباركة.
قال القرافي: والأصل في هذا من الكتاب العزيز، قوله -تعالى- حكايته عن نوح:{إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} (6)، وهو دال على أن الأصل في الدعاء التحريم إلَّا ما دل الدليل على جوازه.
(1) القبس (2/ 421).
(2)
في ن ب زيادة (والنصيحة للأمة).
(3)
في القبس (بالنبي صلى الله عليه وسلم).
(4)
في القبس (وأشد).
(5)
في ن ب ساقطة.
(6)
سورة هود: آية 47.
ثانيهما: اختلف شيوخ الصوفية، كما قال صاحب القبس (1): هل الدعاء أفضل أم الذكر المجرد؟ فمنهم من رجح الثاني، لقوله عليه الصلاة والسلام حاكيًا عن الله:"من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"(2)، وقيل في كرم المخلوقين:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني
…
حياؤك إن شيمتك الحيا
وعلمك بالحقوق [فانت](3) قَرْمُ
…
لك الحسب الهذب والسنا
(1) القبس (2/ 412).
(2)
البخاري في كتاب خلق أفعال العباد -رحمنا الله وإياه- (105)، وأخرجه الطبراني من حدث ابن عمر. وقال ابن حجر في الفتح (11/ 134): ومناسبة الترجمة -أي باب الدعاء بعد الصلاة- لهما: أن الذاكر يحصل له ما يحصل للداعي إذا شغله الذكر عن الطلب، كما في حديث ابن عمر رفعه، ثم ساقه. أخرجه الطبراني بسند لين.
وقد ذكر ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في الوابل الصيب (190)، فقال: الفصل الثاني: الذكر أفضل من الدعاء لأن الذكر ثناء على الله عز وجل بجميل أوصافه وآلائه وأسمائه، والدعاء: سؤال العبد حاجته، فأين هذا من هذا؟ ثم ذكر: "من شغله
…
إلخ" ولهذا كان المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله -تعالى- والثناء عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي حاجته، ثم يسأل حاجته، كما ورد في الحديث: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه عز وجل والثناء عيه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بعد بما شاء". رواه أحمد والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. والحاكم. وهكذا دعاء ذي النون عليه السلام، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلَّا فرج الله كربته، لا إله إلَّا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين".
(3)
في ن ب د (وأنت).
كريم لا يغيره صباح
…
عن الخلق الكريم ولا مسا
تنادي الريح مكرمة وجودا
…
إذا ما الضب أحجره الشتا
وأرضك أرض مكرمة تبنها
…
بنو تيم وأنت لها سما
إذا أثنى عليك المرء يومًا
…
كفاه من تعرضه الثنا
وهذا الشعر لأمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان التيمي. فإذا كان الثناء كاف في المخلوقين فما ظنك برب العالمين، ولأن في الدعاء تحكمًا لقوله: اللهم افعل. ومنهم من رجح الأول لقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1)، وفي الصحيح:"هل من داع فأستجيب له"(2). وفي الحديث: "الدعاء مخ العبادة"، وأن الدعاء المأثور، أفضل من الذكر المأثور وأجاب عن الحديث السالف أن معناه أن العبد ليس في كل حاله يدعو، بل هو تارة يدعو، وتارة يذكر. فإذا دعا استجيب له وإذا ذكر أعطاه أكثر ما سأله، فهو الكريم في الحالين، وما أحسن قول الشاعر:
[الله يغضب إن تركت سؤاله
…
وبني آدم حين يسأل يغضب] (3)
وأجاب عن قولهم: إن في الدعاء تحكمًا، بأنه إنما يكون ذلك لو كان أمرًا، وإنما هو طلب وتضرع وإظهار لذل العبودية وعز الربوبية.
(1) سورة غافر: آية 60.
(2)
البخاري فتح (9/ 115)، ومسلم (1/ 75)، ومالك في الموطأ (1/ 214)، وأحمد (2/ 504).
(3)
زيادة من ن ب د.